والأمة يبذلون في خدمته الجمل والتفاصيل، ويصنعون له ما يريد من النزه، ويعملون ما شاءوا من تماثيل، والأسارى قد جعلوا بين يديه مقرنين في الأصفاد، يشاهدون مدينة ماثلت إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلد وهو - خلد الله سلطانه - يسير الهوينا، وينظر بين حبره هذا المحفل، ويقبل، وأسراؤه بين يديه كالليث أقبل للفريسة ينقل، وهم يشكرون حلمه على السلامة من ريب المنون والأفواه تنطق بشكر الله إذ الأغلل في أعنقهم والسلسل يسحبون. وقد بهتوا لما رأوه من نعم الله التي تنوعت له - خلد الله ملكه - حتى أتت كل نعمة في وقتها، وعظمت في عيونهم آيات الله سبحانه، ولسان الأقدار يتلو وما نزيهم من اية إلاهي أكبر من أختها. فلما نظروا بالأمس في إنجاد الملائكة للعساكر المنصورة آية كبري، شاهدوا اليوم من سعادة هذا الملك الذي بنت له الأقدار بين السماء والأرض مدينة فقالوا: هذه آية أخرى. واستقلوا ما مروا به من المدائن والأمصار، وغدوا وعيونهم في جنة وقلوبهم في نار، واستصغروا ملكهم المخذول وملكه، وقالوا: غير عجيب لمن أقدم على هذا الملك أن يبدد جمعه، ويفرط سلكه، وتحققوا أنه من أوتي هذا السعد لا يؤخر - إن شاء الله - إمساك كبيرهم وهلكه. ونودوا: أن شاطروه في السلاسل والقيود، والسيف يقول: ليس الأمر لمن يسمى - خديعة - محمودا، محمود. ووصل مولانا السلطان تربة والده السلطان الشهيد - قدس الله روحه - وأمراؤه قد بذلوا في محبته نفائس النفوس، وجزيل الأموال، وأخاير الذخائر، وركبوا بالأمس للمناضلة عن دولته في سبيل الله، وقد بلغت القلوب الحناجر. وترجلوا اليوم في خدمته تعظيما لشعائر سلطنته، وطلعوا في سماء المعالي كالنجوم الزواهر، وصعد - خلد الله ملكه - تربة والده، رضي الله عنه، وأنوار النصر على أعطاف مجده لائحة، ودخلها فلولا خرق العوائد لنهض من ضريحه وصافحه، وشكر مساعيه التي اتصلت بها أعماله، وكيف لا، وهي أعمال صالحة. وقص مولانا السلطان - خلد الله ملكه - عند قبره المبارك من غزوته أحسن القصص، وأسهم من بركة جهاده أوفر الحصص. فلو استطاع - رحمه الله - أن ينطق لقال: هذا الولد البار، والملك الذي خلفني وزاد في نصرة الإسلام وكسر التتار، ولو تمكن - رضي الله عنه - لأخبره بما وجده من ثواب الجهاد في جنات وعيون، وبشره بما أعده الله لمن فقد من المجاهدين في هذه الغزاة المبرورة بين يديه، وتلا عليه: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله آموتا بل أحياء عند ربهم يرزقون. ولأثنى على أمرائه الذين فعلوا من المصابرة والمحافظة ما أوجبه حسن التهذيب منه - رحمه الله - وجميل التربية، وشكر عزائمهم التي ما ناداها أهل مملكة الكشف خطب إلا أجابوهم بمواقع التلبية، واعتد بطاعتهم للميت والحي، وموالاتهم التي ذاعت في كل ناد وحي، والقراء حول ضريحه يتلون آيات الله التي كان - رضي الله عنه - بها عاملا، ولم يزل ربع تقواه بها آهلا، فشمل مولانا السلطان - خلد الله ملكه - الأنام بالصدقات المتوفرة، وسمح من الذهب والفضة بالقناطير المقنطرة، وازدحمت الأماني على سيبه، كما ازدحمت الأعادي على سيفه، فكان كما قيل:
قداح زند المجد لا تنفك من
نار الوغى إلا إلى نار القرى
وركب من التربة الشريفة والرعايا يدعون بدوام دولته التي أضحت قواعد الأمن بها متينة، ويرتعون بالمدينة في لهو ولعب وزينة.
وسار جواده بين حلي وحلل، فاستوقف الأبصار، في مسلك حفت به غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار.
وعاد إلى قلعته ظافرا عود الحلى إلى العاطل، وغدت ربوعه الموحشة لبعده بقربه أواهل، وطلعها في أيمن طالع لا يحتاج معه إلى اختبار ولارصد، وحلت شمس ملكه في برجها، وكيف لا، وهو في برج الأسد، فالله تعالي يمتع الدنيا بملك حمي شاما ومصرا، وأذاق التتار بعزائمه مصائب تتري].
وإني لأرجو أن أسطر من مناقب هذه الدولة الشريفة الناصرية ما يكون لهذا المبتدا خبرا، وأن أرقم من سيرته وفتوحاته ما يسر حديثه إذا سري. مع أنا - بحمد الله - قد رأينا في أيامه من عموم الأمن، وشمول المن، ما أراح للمؤمنين قلوبا وأتعب للأعادي فكرا، وذكرنا عند نزول مواهب نصر الله عليه، وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا.
[وحسبنا الله ونعم الوكيل.]
[قال شهاب الدين النويري:
ولما صنف المولى علاء الدين هذه الغزاة، وعرضت على المسامع الشريفة السلطانية شمله الإنعام والتشريف السلطاني، ووفر حظه من ذلك، وقد سمعت هذه الغزوة من لفظه، ونقلتها من خطه، وقد أتي فيما أورده بالواقعة المشاهده، ووقي بقوله: إن الغائب إذا وقف على خبره يكون كمن شاهده.
وقد وقف أيضا على جملة مما صنفه الفضلاء في خبر هذه الغزاة، وهذا الذي أورده أتمها وأكملها وأكثرها استيعابا للواقعة من ابتدائها إلى انتهائها.
فلذلك اقتصرت على إيرادها دون ما سواه.]
पृष्ठ 58