1 - رسالة في ثقة
पृष्ठ 31
بسم الله الرحمن الرحيم ومنه سبحانه الاستعانة للتتميم وبعد فقد تكثر في الغاية وعلى وجه الكمال لفظة " ثقة " في تراجم الرجال في الرجال (1)، وقد أعجبني رسم رسالة في تشريحها وشرح الحال، ولم يسبقني إليها سابق فيما أعلم من الأبدال، ولا أحسب أن يحوم أحد من بعد حيال هذا الخيال، وكان مدة يتخاطر هذا الخيال بالبال، لكن تمانع عن الإقدام ضيق المجال، إلى أن ساعد في مرافقة التوفيق في الحال فضل من الله المنعم المفضال، وعليه التوكل وبه الاعتصام في عموم الأحوال، إنه لا تخيب لديه الآمال، وأسأله سبحانه إكمال التوفيق بتوفيق الإكمال.
[في معنى الثقة]
فنقول: إن " ثقة " لغة - كما ينصرح من القاموس (2) والمصباح (3) - مصدر " وثق " من باب " ورث " بمعنى الائتمان، أي الاعتماد. ومنه ما يقال: " بك ثقتي " إلا أنه قد كثر استعمالها بمعنى المفعول، كالخلق بمعنى المخلوق.
पृष्ठ 33
وعن السيد السند العلي القول بصيرورتها حقيقة متشرعة في العادل (1). (2) وربما يلوح الميل إليه من الشهيد الثاني في رهن المسالك حيث إنه قال في شرح قول مصنفه: ولو تعذر اقتصر على إقراضه من الثقة غالبا:
والظاهر أن المراد بالثقة في هذا ونظائره العدل؛ لأن ذلك هو المعتبر شرعا، مع احتمال الاكتفاء بالثقة العرفية، فإنها أعم من الشرعية على ما يظهر الآن من عرف الناس (3).
لكن يمكن أن يقال: إن العبارة المذكورة كما تلائم دعوى الحقيقة المتشرعة، كذلك تلائم دعوى الحقيقة الشرعية.
وربما يظهر منه التوقف في رهن الروضة حيث إنه بعد قول مصنفه -: ولو تعذر الرهن هنا، أقرض من ثقة عادل غالبا - قال:
هكذا اتفقت النسخ، والجمع بين الثقة والعدل تأكيد، أو حاول تفسير الثقة بالعدل - لوروده كثيرا في الأخبار (4) وكلام الأصحاب - محتملا (5) لما هو أعم (6).
لكن يمكن أن يقال: إن هذه العبارة لا تنافي دعوى الظهور في العدالة، كما اتفق هذه الدعوى في العبارة المتقدمة من رهن المسالك؛ إذ القول بالاحتمال للمعنى الأعم لا ينافي الظهور في الأخص، أعني العدالة.
لكن نقول: إنه قد صرح في الرعاية: " بأنها مستعملة في أبواب الفقه أعم
पृष्ठ 34
من العدالة " (1).
وتظهر الثمرة في المطالب الفقهية حيثما يذكر تلك اللفظة في الأخبار أو كلمات الفقهاء.
ومن هذا الباب ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل طلق امرأته ثلاثا فبانت منه فأراد مراجعتها فقال: إني أريد مراجعتك فتزوجي زوجا غيري، فقالت: قد تزوجت زوجا غيرك وحللت لك نفسي، أيصدق قولها ويراجعها وكيف يصنع؟
قال: " إذا كانت المرأة ثقة صدقت في قولها " (2).
وعن المسالك: " أن المراد بالثقة من تسكن [النفس] (3) إلى خبرها وإن لم تكن متصفة بالعدالة المعتبرة شرعا " (4).
وعن صاحب المدارك في شرح النافع استظهار ذلك (5).
وعن بعض: أن الثقة هنا بمعنى العدل؛ لظهورها فيه، متأيدا بتصريح المحقق الثاني بأن الأحوط اشتراط الوثاقة بمعنى العدالة (6).
وكذا ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن رجل مات وله بنون وبنات صغار وكبار من غير وصية وله خدم ومماليك، كيف يصنع الورثة بقسمة ذلك؟ قال: " إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله فلا بأس " (7).
पृष्ठ 35
وتظهر الثمرة في استفادة العدالة من تلك اللفظة في توثيقات شيخنا المفيد في الإرشاد كما ذكر في حق جماعة (1)، بل قد عقد السيد السند النجفي في أواخر رجاله (2) عنوانا لرجال الإرشاد، وضبط فيه كل من أتى شيخنا المفيد فيه بكلام، توثيقا كان أو غيره.
إلا أن يقال: إن توثيق شيخنا المفيد قد يكون على وجه الإضافة نحو: فلان من ثقات الكاظم (عليه السلام) مثلا. والإضافة فيه مظهرة عن إرادة المعنى اللغوي (ولو بناء على ثبوت الحقيقة المتشرعة في الوثاقة) (3) كما هو المتعارف في العرف حيث يقال: " فلان من ثقات فلان " والغرض الوثاقة بالمعنى اللغوي بلا شبهة.
نعم، تظهر الثمرة لو كان التوثيق في الإرشاد بقول مطلق؛ أي كان بلفظة " ثقة " كما هو المتداول في كلمات أرباب الرجال، والمقصود بالبحث عنه في المقام.
لكن يمكن القول بأن توثيق الإرشاد في حكم توثيق أهل الرجال، بناء على دلالة التوثيق في كلمات أرباب الرجال على العدالة من باب حذف المتعلق، بل على جميع المشارب الآتية في بعض التذييلات في استفادة العدالة من لفظة " ثقة " في كلمات أرباب الرجال. فلا تكون توثيقات الإرشاد مورد ظهور الثمرة في تطور الحقيقة المتشرعة في باب الوثاقة في العدالة.
وقد تأمل بعض - نقلا - في دلالة توثيقات الإرشاد على العدالة، وسيأتي مزيد الكلام.
وتظهر الثمرة (4) أيضا في توثيقات الرواة، كما في توثيق هشام المشرقي من
पृष्ठ 36
حمدويه (1)، (2) لكن تفصيل الحال موكول إلى ما يأتي في بعض التذييلات، وإنما الإشكال في كلمات أرباب الرجال حيث إن الأصحاب يكتفون بها في تصحيح الخبر ويعملون به، حتى أن من لا يعمل بالحسن والموثق والقوي يجعل الخبر صحيحا بتوسط تلك اللفظة ويسكن إليه، بل من يعتبر ذكر السبب في التعديل يكتفي بها في العمل بالخبر، ومن يعتبر تزكية العدلين يقنع بالتوثيق من عدل واحد في إطلاق الصحيح، ويقنع بالتوثيق في عدلين في العمل بالخبر، فاتفاقهم منعقد في البين، فلابد من كون من ذكرت في ترجمته عدلا ضابطا إماميا.
وربما يتوهم استقرار الاصطلاح من أرباب الرجال على ذلك، أعني العدل الضابط الإمامي، بل اشتهر هذا التوهم في لسان العلماء والمحصلين في هذه الأعصار، إلا أنه صرح بعض بعدم التصريح بالاصطلاح من أحد من أرباب الرجال (3)، وربما حكي عن ثلة دخول العدالة والضبط في مفهومها (4).
والظاهر أن الغرض كونها مصطلحة في الأمرين.
وعن شيخنا البهائي في بداية مشرقه التصريح بكونها مصطلحة في الأمرين.
وليس بشيء؛ لأنه قال:
إنهم يريدون بقولهم: " فلان ثقة " أنه عدل ضابط؛ لأن لفظة " الثقة " من الوثوق، ولا وثوق بمن يتساوى سهوه وذكره، وهذا هو السر في عدولهم عن قولهم: " عدل " إلى قولهم: " ثقة " (5).
ولا خفاء في أن مقتضاه تعيين المقصود ب " ثقة " من باب الاجتهاد في المعنى اللغوي.
पृष्ठ 37
ودعوى كون المقصود ب " ثقة " هو المعنى اللغوي، فهو يخالف ما نسب إليه من وجهي: كونه من باب الاجتهاد لا الإخبار، وكونه في المعنى اللغوي لا الاصطلاحي.
وبوجه آخر: صدر عبارته وإن كان ظاهرا في تطرق الاصطلاح لكن استدلاله على الدلالة على الضبط يقتضي عدم تطرق الاصطلاح حيث إن مرجعه إلى إناطة صدق الوثاقة لغة بالضبط، وهذا ينافي تطرق الاصطلاح، فلا أقل من توهين دلالة الصدر على تطرق الاصطلاح، إذ لو كانت الدلالة (1) بواسطة إناطة صدق المعنى اللغوي، فلا مجال لكون الدلالة عليه من باب تطرق الاصطلاح، فظهور الصدر في تطرق الاصطلاح موهون بمنافاة الاستدلال في الذيل مع التطرق.
ومقتضى كلام الشهد الثاني في الدراية كون تلك اللفظة - أعني " ثقة " - مصطلحة في العادل (2).
وقد ذكر العلامة البهبهاني أن الروية المتعارفة المسلمة أنه إذا قال مثل النجاشي: " ثقة " ولم يتعرض لفساد المذهب، الحكم بكون الراوي عدلا إماميا؛ إما لاستقرار سيرة الإماميين من أهل الرجال على التعرض لفساد المذهب دون حسنه، أو لأن الظاهر التشيع والظاهر من الشيعة حسن العقيدة، أو لأنهم وجدوا أنهم اصطلحوا ذلك في الإمامي وإن أطلقوا على غيره مع القرينة، أو لأن المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل، ومقتضاه عدم ثبوت الاصطلاح (3).
[لفظ " ثقة " في اصطلاح أرباب الرجال]
أقول: إنه لم يأت أحد من أرباب الرجال بذكر تطرق الاصطلاح في " ثقة " في
पृष्ठ 38
عدل ضابط إمامي (1)، أو عدل ويبعد كمال البعد ثبوت الاصطلاح من أرباب الرجال مع عدم تصريح به من أحد، كيف! وكل منهم يذكر في اول كتابه ما اصطلح عليه، بل كل مصنف ومؤلف في كل فن يذكر في أول كتابه ما اصطلح عليه، بل دعوى التطرق الاصطلاح في المقام من باب التخرص على الغيب، ومع هذا لو كان " ثقة " مصطلحة في عدل ضابط إمامي أو عدل ضابط، يلزم استعمال اللفظ في معنى متعدد في استعمال واحد، وهو غير واقع بعد الجواز حتى في الاصطلاحات، فالبناء عليه بناء على ما يكون المظنون بظن متاخم (2) للعلم عدمه.
ومع هذا قد وقع " ثقة " في كلمات الرواة سؤالا وجوابا، ولم يقل أحد بتطرق الاصطلاح في لسانهم، والظاهر اتحاد المفاد، فالظاهر الاستعمال في المعنى اللغوي.
ومع هذا وقع " ثقة " في كلام غير الإمامي كابن عقدة، وابن فضال، وابن نمير، وابن حجر، والذهبي. والظاهر وحدة المفاد ، فالظاهر الاستعمال في المعنى اللغوي.
إلا أن يقال: إن اصطلاح العامة متحد في العدالة مع الخاصة كما يأتي، فيتأتى اتحاد المفاد مع ثبوت الاصطلاح.
لكن نقول: إن هذا المقال لا يجري في كلام ابن عقدة وابن فضال؛ لكون الأول زيديا، وكون الثاني فطحيا.
पृष्ठ 39
ومع هذا، الاستقراء الكامل في كلمات أرباب الرجال - كما يأتي - يفيد الظن المتاخم للعلم، بل العلم بكون المقصود بالوثاقة في " ثقة " هو المعنى اللغوي، أعني الاعتماد، ولم يقل أحد بدلالة " ثقة " على الإمامية، أو الضبط بالانفراد أو الاجتماع.
[أخذ الضبط في " ثقة "]
نعم، قال السيد الداماد في الرواشح: " أما الضبط، وهو كون الراوي متحفظا مستيقظا غير مغفل ولا ساه ولا شاك في حالتي التحمل والأداء فمتضمن في الثقة " (1).
لكن الظاهر أن المعنى الذي ذكره للضبط خارج عن (2) المعنيين المذكورين للضبط، ومع هذا يأتي في كل من الضبط والإمامية والعدالة ما يدل على عدم دلالة " ثقة " عليه، ومقتضاه عدم تجدد الاصطلاح.
[الضبط المعدود من شرائط حجية الخبر الواحد]
وبعد ذلك أقول (3): إن الضبط المعدود من شرائط حجية خبر الواحد يكون المقصود به - كما ينصرح من جماعة (4) - أن يكون الراوي ذكره (5) غالبا على نسيانه،
पृष्ठ 40
أي لا يكون كثير النسيان، كما هو - أعني غلبة الذكر وعدم كثرة النسيان - حال أكثر أفراد نوع الإنسان.
وإليه يرجع التفسير ب " أن لا يكون سهوه غالبا على ذكره ولا مساويا له " كما جرى عليه شيخنا البهائي في مشرقه (1)، فالمرجع إلى غلبة بقاء المحفوظ (2) في الخاطر، أي حدا معتدا به في قبال الزوال بسرعة بعد التمكن من الحفظ، فليس الغرض البقاء مدة العمر، كيف! وما لا يبقى مدة العمر أغلب مما يبقى.
ويرشد إلى ذلك - أعني ما ذكر في معنى الضبط - تفسير الضبط من السيد السند المحسن الكاظمي بقوة الحفظ بأن يحفظ ما سمعه غالبا، ولا يزول ما حفظه بسرعة (3).
إلا أن علة اشتراط الضبط بالمعنى المذكور تقتضي اشتراط غلبة التمكن من الحفظ بالأولوية أو بالالتزام. ولعله الأظهر. ونظيره أن عد التوحيد من أصول الدين يقتضي كون الإقرار بالألوهية من أصول الدين بالالتزام.
والظاهر أن اشتراط خصوص غلبة الذكر من جهة كمال ندرة عدم التمكن من الحفظ أو عدم وقوعه.
पृष्ठ 41
[معنى الضبط لغة]
وعلى أي حال فالمعنى المذكور من باب اصطلاح أهل الأصول، بل أهل الدراية والرجال كما قيل، وإلا فالضبط قد فسره في المجمع بالحفظ البليغ والحزم - بالمهملة والمعجمة - وعد من الأخير ما يقال: رجل ضابط. قال: ضبط الشئ ضبطا: حفظه حفظا بليغا، والضبط: الحزم، ومنه رجل ضابط، أي حازم (1).
والمقصود بالضبط - على الأخير - هو الإتقان في الأمور. واستعمال الضبط فيه معروف ومتعارف في العرف.
وفسره في الصحاح والقاموس بالحفظ بالحزم، وفسر الحزم بضبط الأمر والأخذ فيه بالثقة (2).
وما صنعه في المجمع أوجه؛ إذ لا يتحصل للحفظ بالحزم معنى غير الحفظ البليغ، واستعمال الضبط في مجرد الإتقان معروف ومتعارف في العرف، كما سمعت.
إلا أن يقال: إن الاستعمال في الإتقان من باب المجاز، وما ذكره في الصحاح والقاموس هو المعنى الحقيقي، والمجاز أولى من الاشتراك، فما ذكره في الصحاح والقاموس أولى مما ذكره في المجمع إن كان المقصود بما ذكره الاشتراك لا مجرد الاستعمال، وإلا فلا منافاة بين ما ذكره في الصحاح والقاموس وما ذكره في المجمع.
لكنه مدفوع بأن الصحاح والقاموس لا يقتصران في شرح الألفاظ على المعاني الحقيقية، بل يذكران كل ما استعمل فيه، فمقتضى اقتصارهما في معنى الضبط على الحفظ البليغ هو عدم الاستعمال في مجرد الإتقان ولو مجازا، فيتأتى
पृष्ठ 42
التنافي بين مقالة المجمع ومقالة الصحاح والقاموس، بل دعوى الاستعمال في مجرد الإتقان من صاحب المجمع أقوى؛ قضية تقدم الإثبات على النفي.
والحاصل أن مقالة المجمع ومقالة الصحاح والقاموس متفقتان على الوضع للحفظ البليغ.
وأما " الحزم " فإن كان الغرض من مقالة المجمع الاشتراك، فتقدم مقالة الصحاح والقاموس؛ لتقدم المجاز على الاشتراك. وإن كان الغرض مجرد الاستعمال، فتقدم مقالة الصحاح والقاموس؛ لتقدم الإثبات على النفي.
ويمكن أن يقال: إن " بالحزم " في كلام الصحاح سهو، وكان الغرض أن يقول:
" والحزم " وتبع القاموس للصحاح ، فترجع مقالة الصحاح والقاموس إلى مقالة المجمع.
لكن نقول: إنه على هذا لا ترجع مقالة الصحاح والقاموس إلى مقالة المجمع؛ لعدم اعتبار البليغ في مقالتهما، واعتباره في مقالته، إلا أن يقال: إن المقصود بالحفظ بالحزم في مقالة الصحاح والقاموس هو الحفظ البليغ، فترجع مقالة الصحاح والقاموس إلى مقالة المجمع.
ويمكن أن يقال: إن " الحزم " في عبارة المجمع معطوف على " البليغ " وهو سهو، وكان الغرض أن يقول: " وبالحزم " فالمرجع في مقالة المجمع إلى مقالة الصحاح والقاموس.
لكن نقول: إن الظاهر كون العطف على " الحفظ " واحتمال العطف على " البليغ " خلاف الظاهر.
وبعد يمكن أن يقال: إنه يمكن إرجاع " الضبط " في جميع موارد استعماله إلى " الحفظ البليغ " والمقصود به الصيانة التامة، لا حبس الشيء في الخاطر، فما ذكره في الصحاح والقاموس أوجه مما ذكره في المجمع لو كان " الحزم " في مقالة المجمع معطوفا على " البليغ " من باب العطف التفسيري، لا معطوفا على
पृष्ठ 43
" الحفظ ". وكأن المقصود بالحزم في كلام صاحب الصحاح والقاموس هو " الحفظ البليغ ".
[تعميم معنى الضبط]
ومن العجيب ما قيل من أن ضبط الراوي كما يكون شرطا في حجية الرواية، فكذا ضبط مطلق الناقل في النقليات التي يكون خبر الواحد حجة فيها، كاللغات بالمعنى الأعم والرجال ونقل الإجماعات وغيرها؛ لأن المناط فيها الظن، وهو لا يحصل بدونه، ويكفي مؤونة ضبط النقلة في غير الروايات بالإخبار وضيق المجال عن الاختبار (1) أصالة الضبط في البشر حتى يثبت خلافه، بل كما أن الضبط بنفسه شرط في الحجية، فكذلك الأضبطية من جملة المرجحات بلا كلام، وقد صرح به بعضهم (2).
والوجه في ذلك: أن المدار في المرجحات على أقوائية الظن في أحد الجانبين، فكما أن عدم الضبط مؤثر في فقده، فضعفه مؤثر في ضعفه، فيقوى الجانب الآخر. وهذا أيضا يجري في جميع الفنون النقلية المشار إلى بعضها آنفا.
وطريق معرفة الأضبطية في الجميع إما الإخبار أو الاختبار، ومن أعظم معداتها صرف ريعان العمر في فن وشأن، بخلاف تفريقه على الفنون والشؤون، فإن الإنسان يشغله شأن عن شأن ، ومن هنا نحكم بتقديم الكليني بل الصدوق على الشيخ في الحديث، والنجاشي عليه في الرجال، والصحاح على القاموس في اللغة، وبعض الفقهاء على بعض في نقل الإجماعات. ومع الشك فنحكم بالتساوي؛ لأن الزيادة تحتاج إلى دليل، ولا أصل هنا يقتضيها، بل الأمر بالعكس.
نعم، ربما نحكم بكون أحد الخبرين أتقن ضبطا من الآخر مع قطع النظر
पृष्ठ 44
عن المخبرين نظرا إلى مدلولهما بأن يشتمل أحدهما على الزيادة؛ لأن السهو غالبا في السقط لا الزيادة.
ومن هذا الباب أن يدعي أحد اللغويين الوضع للأعم، والآخر الوضع للأخص، فإن ادعاء النفي أقرب إلى الاشتباه؛ حيث إن المقصود بالضبط في المقام هو المعنى المصطلح، أعني غلبة الذكر كما سمعت.
والمقصود بالضبط في مثل اللغة بالمعنى الأعم والرجال ونقل الإجماع - مما يكون المدار فيه على الاجتهاد والفحص - هو المعنى اللغوي أو العرفي، أعني الإتقان الموجب للاطمئنان. والمدار في الضبط في ذلك على بعد الاشتباه، ولا مجال لاشتراط عدم غلبة النسيان فيه؛ لابتنائه على الاجتهاد دون السماع، كما أن المقصود بالضبط في الأضبطية - في ترجيح بعض الناقلين على بعض في الفنون النقلية التي يكون المدار فيها على الاجتهاد والفحص كاللغات بالمعنى الأعم والرجال - هو المعنى اللغوي أو العرفي أيضا، فالمقصود بالأضبطية هو زيادة الإتقان الموجب للاطمئنان، فالمدار على أبعدية الاشتباه في الاجتهاد.
وترجيح الكليني على الشيخ - وإن كان للسماع مداخلة في فن الحديث - ليس من جهة غلبة نسيان الشيخ بالإضافة إلى الكليني، بل من جهة زياد الاطمئنان إلى الكليني بالإضافة إلى الشيخ، فالمقصود بالضبط في الأضبطية هنا هو المعنى اللغوي أو العرفي أيضا، أعني الإتقان، فالمقصود بالأضبطية هو الزيادة في المعنى المشار إليه للمعنى المصطلح عليه المقصود في المقام، فالاشتباه إنما حصل من جهة عدم الفرق بين المعنى اللغوي والمعنى المصطلح عليه عند الأصوليين في باب حجية خبر الواحد.
وكيف كان، فالمقصود بالضبط فيما نحن فيه هو المعنى المقصود به في اشتراطه في حجية خبر الواحد، أعني غلبة الذكر. ولا خفاء في أن الغالب من الناس هو الضابط، بل عدم الضبط بالمعنى المذكور من الأمراض النادرة.
पृष्ठ 45
[الضبط غير داخل في معنى " ثقة "]
فنقول: إن الظاهر - بل بلا إشكال - أن الضبط عند أهل الرجال موكول ومحال إلى الغلبة، والضبط هو الأصل، وليس داخلا في معنى اللفظ، أعني " ثقة ".
ويرشد إلى ذلك التعرض بسوء الحفظ في بعض التراجم نادرا، كما في ترجمة محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى (1)، وسماك (2) بن حرب (3)، وفي ترجمة أبي بكر بن عياش: أنه لما كبر ساء حفظه (4)؛ أن بناء الأصحاب على صحة خبر من ذكر " ثقة " في ترجمته ليس في إحراز الضبط على استفادته من هذه اللفظة، بل على الحمل على الغالب (5).
ويرشد إليه بناؤهم على صحة الخبر لو كان التوثيق بغير " ثقة " نحو " عدل " كما في ترجمة معاوية بن حكيم (6)، أو " العدل " كما في ترجمة أحمد بن محمد الصائغ (7).
وقال النجاشي في ترجمة عبيد الله بن زياد: " وكان أبو القاسم بن سهل الواسطي العدل " (8) انتهى.
وفي بعض أخبار العيون في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الأخبار في التوحيد
पृष्ठ 46
توصيف الحسين بن محمد الأشناني بالعدل (1)؛ لعدم اتفاق دعوى تطرق الاصطلاح في العدل بدخول الضبط في مفهومه. وعلى ذلك المنوال الحال في سائر ألفاظ التوثيق بناء على دلالتها على التوثيق.
ويرشد إليه أيضا بناؤهم على عد الخبر موثقا لو كان من ذكر في ترجمته " ثقة سيء المذهب " مثلا؛ لعدم اتفاق دعوى دخول الضبط فيه من أحد؛ إذا (2) ما ادعي الاصطلاح فيه إنما هو " ثقة " في باب الإمامي.
وكذا بناؤهم على حسن الخبر لو كان الراوي ممدوحا؛ لعدم دخول الضبط في مدلول (3) ألفاظ المدح بلا كلام من أحد، (وكذا بناء المتأخرين ممن خمس الأقسام بالقوي على قوة الخبر لو كان الراوي سيء المذهب ومذكورا بالمدح؛ لعدم دخول الضبط في مداليل ألفاظ المدح بلا كلام من أحد) (4) كما سمعت.
وربما استدل الفاضل الخواجوئي على ذلك بأن حبيب بن المعلى الخثعمي قد وثقه النجاشي بقوله: " ثقة ثقة " وهو غير ضابط (5)؛ حيث إنه كثير السهو كما اعترف به نفسه على ما رواه في الفقيه في باب ما يصلى فيه وما لا يصلى فيه من الثياب وجميع الأنواع أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: إني رجل كثير السهو، فما أحفظ صلاتي إلا بخاتمي أحوله من مكان إلى مكان؟ فقال: " لا بأس " (6) بناء على أن السائل هو الخثعمي بشاهدة ما ذكره في المشيخة بقوله: وما كان فيه عن حبيب بن المعلى فقد رويته عن أبي (رضي الله عنه)، عن سعد بن عبد الله، عن محمد بن
पृष्ठ 47
الوليد الخزاز، عن حماد بن عثمان، عن حبيب بن المعلى الخثعمي (1).
وفيه: أنه لعل الظاهر كون المقصود بكثرة السهو هو كثرة السهو في خصوص الصلاة، وكثرة السهو في الصلاة لا تستلزم كثرة السهو في غيرها، كيف والوسواس في الصلاة أمر شائع، ولا يتعدي الوسواس فيها إلى غيرها. مع أنه يمكن أن يكون التوثيق المزبور مبنيا على عدم الاطلاع على الحديث المذكور، وإلا لذكر في ترجمته؛ لتسلم اشتراط الضبط في اعتبار الخبر ولو لم يكن الضبط داخلا في مدلول التوثيق، بل هذا يرشد إلى كون الغرض من كثرة السهو هو كثرة السهو في الصلاة بناء على بعد عدم اطلاع النجاشي على كثرة سهو حبيب لو كان الغرض من كثرة السهو في الحديث هو عموم كثرة السهو.
[طريق معرفة ضبط الراوي]
وبما سمعت يظهر ضعف ما قيل من أنه يعرف ضبط الراوي بأن يعتبر روايته برواية الثقات المعروفين بالضبط والإتقان، فإن وافقهم في رواياته غالبا - ولو من حيث المعنى بحيث لا يخالفها أو تكون المخالفة نادرة - عرف حينئذ كونه ظابطا ثبتا، وإن وجد بعد اعتبار رواياته برواياتهم كثير المخالفة، عرف اختلاف (2) حاله بالضبط، ولم يحتج بحديثه.
وهذا الشرط إنما يفتقر إليه فيمن يروي الأحاديث من حفظ أو يخرجها بغير الطرق المذكورة في المصنفات، وأما رواية الأصول المشهورة فلا يعتبر فيها ذلك (3).
فإنك خبير بأنه مبني على الاشتباه بين المعنيين للضبط - أعني المعنى
पृष्ठ 48
المقصود به في اشتراطه في حجية خبر الواحد ، والمعنى الآخر المعروف المتعارف، بل هو المعنى الموضوع له - بحمل الضبط المشروط في حجية خبر الواحد على المعنى المعروف، لكن المقالة السابقة مبنية على حمل الضبط المشروط في حجية خبر الواحد على معناه المصطلح؛ لتصريحها بكون المقصود غلبة الذكر، والاشتباه بين هذا المعنى والمعنى الآخر المعروف.
وبما سمعت يظهر أيضا ضعف ما قيل في باب حبيب بن مظاهر الأسدي (1) من أنه ذكره العلامة في القسم الأول (2) أي رجال الصحيح، وفي الحاوي في القسم الثاني (3) أي رجال الحسن، وهو الأوفق؛ لأن الرجل وإن كان في أعلى درجة من الزهد والورع والعبادة والتوفيق والسعادة إلا أن الضبط في الحديث أمر آخر يحتاج إلى الثبوت، نظير ما ذكر بعض علماء الرجال في حق الصدوق - المجمع على عدالته - من أن توقف بعض في اعتبار روايته لعله لعدم ثبوت ضبطه، فإن الشروط في اعتبار الخبر يكفي فيه أصالة الضبط، ولا حاجة فيه إلى الثبوت، وغيره لا يكون شرطا حتى يحتاج إلى الثبوت. فالأمر مبني أيضا على الاشتباه في الضبط بين المعنيين المتقدمين.
والظاهر أن هذه المقالة مبنية على حمل الضبط - المشروط في حجية خبر الواحد - على المعنى المعروف.
पृष्ठ 49
ولو قيل: إنه لا بأس بكون المقصود بالضبط في معنى " ثقة " غير الضبط المشترط في حجية خبر الواحد، أعني الإتقان، وهذا يحتاج إلى الثبوت.
قلت: إنه لا دليل على اشتراط غير ما اشترط في حجية خبر الواحد في الأصول، فيكفي أصالة الضبط بمعنى الإتقان، ولا حاجة إلى ثبوت الضبط بمعنى الإتقان، فلا حاجة إلى إفادة ثبوت الإتقان بلفظة " ثقة ".
[الضبط في اصطلاح الأصوليين وأرباب الدراية]
وبعد ما مر أقول: إن الظاهر اختلاف المقصود بالضبط - المشروط به حجية خبر الواحد - في الأصول والدراية؛ إذ الضبط - المشروط به حجية خبر الواحد - في الدراية فسر بكون الراوي متيقظا غير مغفل إن حدث من حفظه، ضابطا لكتابه حافظا له من الغلط والتصحيف والتحريف إن حدث منه، عارفا بما يختل به المعنى إن روى بالمعنى.
وذكر أنه يعرف ضبط الراوي بأن يعتبر روايته برواية الثقات المعروفين بالضبط والإتقان، فإن وافقهم في رواياته غالبا - ولو من حيث المعنى بحيث لا يخالفها أو تكون المخالفة نادرة - عرف كونه ضابطا ثبتا، وإن وجد بعد اعتبار رواياته برواياتهم كثير المخالفة لهم عرف عدم ضبطه.
وهذا - أعني جعل المعيار في تشخيص ضبط الراوي على اعتبار رواياته بروايات الثقات المعروفين - يرشد إلى الاختلاف؛ حيث إن الضبط - بمعنى غلبة الذكر - لا حاجة فيه إلى التشخيص والثبوت، بل يكفي فيه الأصل، كما صرح به بعض، كما مر.
فنقول: إن المقصود بالضبط في كلام أرباب الدراية إنما هو الإتقان الموجب للاطمئنان، وهو أمر يحتاج إلى الثبوت، وهو فوق الضبط باصطلاح الأصوليين، كيف وغالب الناس من باب الضابط باصطلاح الأصوليين، بخلاف اصطلاح أرباب
पृष्ठ 50
الدراية حتى أنه احتمل أن يكون عدم توثيق الصدوق بواسطة عدم ثبوت ضبطه.
لكن نقول: إن مجرد غلبة الذكر - التي يكفي في إحرازها الأصل، أعني الضبط باصطلاح أهل الأصول - يكفي في الظن بالصدق والصدور بناء على حجية مطلق الظن، أو حجية الظنون الخاصة.
وأما الضبط بمعنى الإتقان - أعني الضبط باصطلاح أهل الدراية - فإنما نحتاج إليه لو اعتبر الاطمئنان وغلبة الظن بالصدور. ولا دلالة في لفظة " ثقة " على الضبط باصطلاح أهل الدراية أيضا بعد اشتراطه بشهادة بناء الفقهاء على صحة الخبر لو كان التوثيق بغير " ثقة " وكذا على كون الخبر موثقا أو حسنا أو قويا مع عدم دخول الضبط بالاصطلاح المذكور في غير " ثقة " في باب الإمامي من ألفاظ تعديل الإمامي أو غير الإمامي وألفاظ المدح.
لكن نقول: إنه لو بني على دخول الضبط في مدلول " ثقة " فالضبط باصطلاح أرباب الدراية أقرب بالدخول؛ لكون مؤانسة أهل الرجال مع الدراية أزيد بمراتب شتى من مؤانستهم مع الأصول.
وبعد يمكن القول بانصراف " ثقة " إلى الضابط - سواء كان المقصود به الوثاقة بالمعنى اللغوي، أو العدالة بالمعنى المصطلح - من باب انصراف المطلق إلى الفرد الشائع، فيستفاد الضبط من نفس اللفظ لا الخارج، إلا أنه إنما يتم في الضبط باصطلاح الأصوليين، دون الضبط باصطلاح أرباب الدراية بناء على اختلاف الاصطلاح.
بل يمكن القول بإناطة صدق " ثقة " بالضبط بناء على كون المقصود به الوثاقة بالمعنى اللغوي، بل هذا المقال مقتضى ما سبق من المشرق (1)، إلا أنه إنما يتم أيضا في الضبط باصطلاح الأصوليين؛ لعدم الوثوق بإخبار كثير السهو.
وأما الضبط باصطلاح أرباب الدراية بناء على اختلاف الاصطلاح فهو إنما
पृष्ठ 51