بسم الله الرحمن الرحيم العدالة لغة: (الاستواء) كما يظهر من محكي المبسوط (1) والسرائر (2) أو: العدالة لغة (الاستقامة) كما عن جامع المقاصد (3) ومجمع الفائدة (4) أو هما معا كما عن الروض (5) والمدارك (6) وكشف اللثام (7).
الأقوال في العدالة شرعا وقد اختلف الأصحاب في بيان ما هو المراد من لفظها الوارد في كلام المتشرعة، بل الشارع على أقوال:
القول الأول في العدالة أحدها: - وهو المشهور بين العلامة ومن تأخر عنه - أنها كيفية نفسانية القول الأول باعثة على ملازمة التقوى، أو: عليها مع المروة، وإن اختلفوا في التعبير عنها بلفظ
पृष्ठ 5
(الكيفية) أو (الحالة) أو (الهيئة) أو (الملكة)، ونسب الأخير في محكي النجيبية إلى العلماء، وفي محكي كنز العرفان (2) إلى الفقهاء، وفي مجمع الفائدة إلى الموافق والمخالف (3)، وفي المدارك: (الهيئة الراسخة) إلى المتأخرين (4)، وفي كلام بعض نسب (الحالة النفسانية) إلى المشهور (5).
وكيف كان، فهي عنده كيفية من الكيفيات باعثة على ملازمة التقوى كما في الإرشاد (6)، أو عليها وعلى ملازمة المروة كما في كلام الأكثر. بل نسبه بعض إلى المشهور (7)، وآخر إلى الفقهاء، وثالث إلى الموافق والمخالف (9).
القول الثاني في العدالة الثاني: أنها عبارة عن مجرد ترك المعاصي أو خصوص الكبائر، وهو الظاهر من محكي السرائر حيث قال: حد العدل هو الذي لا يخل بواجب ولا يرتكب قبيحا (10) وعن محكي الوسيلة (11) حيث ذكر في موضع منه: أن العدالة في الدين الاجتناب عن الكبائر وعن الاصرار على الصغائر.
ومن محكي أبي الصلاح (12) حيث حكي عنه أنه قال: إن العدالة شرط
पृष्ठ 6
في قبول الشهادة، وتثبت حكمها بالبلوغ وكمال العقل والايمان واجتناب القبائح أجمع.
وعن المحدث المجلسي (1) والمحقق السبزواري (2): أن الأشهر في معناها أن لا يكون مرتكبا للكبائر ولا مصرا على الصغائر وظاهر هذا القول أنها عبارة عن الاستقامة الفعلية في أفعاله وتروكه من دون اعتبار لكون ذلك عن ملكة.
القول الثالث في العدالة الثالث: أنها عبارة عن الاستقامة الفعلية لكن عن ملكة، فلا يصدق العدل على من لم يتفق له فعل كبيرة مع عدم الملكة، وهذا المعنى أخص من الأولين، لأن ملكة الاجتناب لا يستلزم الاجتناب، وكذا ترك الكبيرة لا يستلزم الملكة.
وهذا المعنى هو الظاهر من كلام والد الصدوق حيث ذكر في رسالته إلى ولده أنه (3): لا تصل إلا خلف رجلين: أحدهما من تثق بدينه وورعه، والآخر من تتقي سيفه وسوطه (4).
وهو ظاهر ولده (5) وظاهر المفيد في المقنعة، حيث قال: إن العدل من كان معروفا بالدين والورع والكف عن محارم الله، (انتهى) (6). فإن الورع والكف لا يكونان إلا عن كيفية نفسانية، لظهور الفرق بينه وبين مجرد الترك: فتأمل.
وهو الظاهر من محكي النهاية (7)، حيث أنه ذكر بمضمون (8) صحيحة ابن
पृष्ठ 7
أبي يعفور، وكذلك الوسيلة، حيث قال: العدالة تحصل بأربعة أشياء، الورع والأمانة والوثوق والتقوى (1)، ونحوه المحكي عن القاضي، حيث اعتبر فيها الستر والعفاف واجتناب القبائح (2)، فإن الاجتناب خصوصا مع ضم العفاف إليه لا يكون بمجرد الترك. وبمعناه المحكي عن الجامع، حيث أخذ في تعريف العدل الكف والتجنب للكبائر (3).
قولان آخران في معنى العدالة ثم إنه ربما يذكر في معنى العدالة قولان آخران:
أحدهما: الاسلام وعدم ظهور الفسق، وهو المحكي عن ابن الجنيد (4)، والمفيد في كتاب الأشراف (5)، والشيخ في الخلاف مدعيا عليه الاجماع (6).
والثاني: حسن الظاهر، نسب إلى جماعة بل أكثر القدماء.
ولا ريب أنهما ليسا قولين في العدالة، وإنما هما طريقان للعدالة، ذهب إلى كل منهما جماعة ولذا ذكر جماعة من الأصحاب - كالشهيد في الذكرى (7) والدروس (8)، والمحقق الثاني في الجعفرية (9)، وغيرهما (10) - هذين القولين في عنوان ما به تعرف العدالة. مع أن عبارة ابن الجنيد المحكي عنه (أن كل المسلمين على العدالة إلا أن يظهر خلافها) (11) لا يدل إلا على وجوب الحكم بعد التهم. وأوضح
पृष्ठ 8
منه كلام الشيخ في الخلاف، حيث أنه لم يذكر إلا عدم وجوب البحث عن عدالة الشهود إذا عرف إسلامهم (1)، ثم احتج بإجماع الفرقة وأخبارهم، وأن الأصل في المسلم العدالة، والفسق طار عليه، يحتاج إلى دليل (2).
نعم: عبارة الشيخ في المبسوط ظاهرة في هذا المعنى، فإنه قال: إن العدالة في اللغة: أن يكون الانسان متعادل الأحوال متساويا، وأما في الشريعة: فهو من كان عدلا في دينه عدلا في مروته، عدلا في أحكامه، فالعدل في الدين: أن يكون مسلما لا يعرف منه شئ من أسباب الفسق، وفي المروة: أن يكون مجتنبا للأمور التي تسقط المروة،.. إلى آخر ما ذكر. (انتهى موضع الحاجة) (3).
لكن الظاهر أنه أراد كفاية عدم معرفة الفسق منه في ثبوت العدالة، لا أنه نفسها، ولذا فسر العدالة في المروة بنفس الاجتناب، لا بعدم العلم بالارتكاب.
هذا كله، مع أنه لا يعقل كون عدم ظهور الفسق أو حسن الظاهر نفس العدالة، لأن ذلك يقتضي كون العدالة ن الأمور التي يكون وجودها الواقعي عين وجودها الذهني، وهذا لا يجامع كون ضده - أعني الفسق - أمرا واقعيا لا دخل للذهن فيه. وحينئذ فمن كان في علم الله تعالى مرتكبا للكبائر مع عدم ظهور ذلك لأحد، يلزم أن يكون عادلا في الواقع وفاسقا في الواقع [وكذا لو فرض أنه لا ذهن ولا ذاهن (4) يلزم أن لا يتحقق العدالة في الواقع] (5) لأن المفروض أن وجودها الواقعي عين وجودها الذهني. وأما بطلان اللازم (6) فغني
पृष्ठ 9
عن البيان. وكذا لو اطلع على أن شخصا كان في الزمان السابق مع اتصافه بحسن الظاهر لكل أحد مصرا على الكبائر يقال: كان فاسقا ولم يطلع، ولا يقال:
كان عادلا فصار فاسقا عند اطلاعنا.
فتبين - من جميع ما ذكرنا - أن هذين القولين لا يعقل أن يراد بهما بيان العدالة الواقعية، ولا دليل للقائل بهما يفي بذلك، ولا دلالة في عبارتهما المحكية عنها، ولا فهم ذلك من كلامهما من يعتنى به مثل الشهيد والمحقق الثاني وابن فهد وغيرهم.
رجوع القول الأول إلى الثالث ثم الظاهر رجوع القول الأولى إلى الثالث، أعني اعتبار الاجتناب مع الملكة، لاتفاقهم وصراحة مستندهم كالنصوص والفتاوى على أنه تزول بارتكاب الكبيرة العدالة بنفسها ويحدث الفسق الذي هو ضدها، وحينئذ فإما أن يبقى الملكة أم لا، فإن بقيت ثبت اعتبار الاجتناب الفعلي في العدالة، فإن ارتفعت ثبت ملازمة الملكة للاجتناب الفعلي.
فمراد الأولين من (الملكة الباعثة على الاجتناب) الباعثة فعلا، لا ما من شأنها أن تبعث ولو تخلف عنها البعث لغلبه الهوى وتسويل الشيطان، ويوضحه توصيف (الملكة) في كلام بعضهم بل في مقعد الاتفاق ب (المانعة عن ارتكاب الكبيرة) فإن المتبادر: المنع الفعلي بغير اشكال.
تعريف الشهيد (ره) للعدالة وأوضح منه تعريفها - الشهيد في باب الزكاة من نكت الإرشاد -: بأنها هيئة راسخة تبعث على ملازمة التقوى بحيث لا يقع منها الكبيرة ولا الاصرار على الصغيرة (1) بناء على أن الحيثية بيان لقوله: (تبعث) لا قيد توضيحي للملازمة.
نعم: يبقى الكلام في أن العدالة هل هي الملكة الموجبة للاجتناب أو
पृष्ठ 10
الاجتناب عن ملكة، أو كلاهما حتى يكون عبارة عن الاستقامة الظاهرة في الأفعال، والباطنة في الأحوال؟ وهذا لا يترتب عليه كثير فائدة، إنما المهم بيان مستند هذا القول، وعدم كون العدالة هي مجرد الاستقامة الظاهرية ولو من دون ملكة - كما هو ظاهر من عرفت - (1) حتى يكون من علم منه هذه الصفة عادلا وإن لم يكن فيه ملكتها.
ويدل عليه - مضافا إلى الأصل (2) والاتفاق المنقول المعتضد بالشهرة المحققة، بل عدم الخلاف، بناء على أنه لا يبعد إرجاع كلام الحلي (3) إلى المشهور كما لا يخفى، وإلى ما دل على اعتبار الوثوق بدين إمام الجماعة وورعه، مع أن الوثوق لا يحصل بمجرد تركه المعاصي في جميع ما مضى من عمره، ما لم يعلم أو يظن فيه ملكة الترك، واعتبار المأمونية والعفة والصيانة والصلاح وغيرها مما اعتبر في الأخبار من الصفات النفسانية في الشاهد، مع الاجماع على عدم اعتبارها زيادة على العدالة فيه وفي الإمام - صحيحة ابن أبي يعفور، حيث سأل أبا عبد الله عليه السلام وقال: (بم يعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال: أن يعرفوه بالستر والعفاف وكف البطن والفرج واليد واللسان، وتعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار.. إلى آخر الحديث) (4).
पृष्ठ 11
ما يستفاد من صحيحة ابن أبي يعفور فإن الستر والعفاف والكف قد وقع مجموعها المشتمل على الصفة النفسانية معرفا للعدالة، فلا يجوز أن يكون أخص منها، بل لا بد من مساواته، وقد يكون أعم إذا كان من المعرفات الجعلية، كما جعل عليه السلام في هذه الصحيحة الدليل على هذه الأمور كون الشخص ساترا لعيوبه.
ودعوى أن ظاهر السؤال وقوعه عن الأمارة المعرفة للعدالة بعد معرفة مفهومها تفصيلا، والصفات المذكورة ليست أمارة بل - هي على هذا القول - عينها، فيدور الأمر بين حمل السؤال على وقوعه عن المعرف المنطقي لمفهومها بعد العلم إجمالا - وهو خلاف ظاهر السؤال -، وبين خلاف ظاهر آخر، وهو حمل الصفات المذكورة على مجرد ملكاتها، فتكون ملكاتها معرفة وطريقا للعدالة، وحينئذ فلا تصح أن يراد بها إلا نفس اجتناب الكبائر المسبب عن ملكة العفاف والكف، وهو القول الثاني مدفوعة، أولا: ببعد إرادة مجرد الملكة من الصفات المذكورة، بخلاف إرادة المعرف المنطقي الشارح لمفهوم العدالة، فإنه غير بعيد، خصوصا بملاحظة أن طريقية ملكة ترك المعاصي لتركها ليست أمرا مجهولا عند العقلاء محتاجا إلى السؤال، وخصوصا بملاحظة قوله فيما بعد: (والدليل على ذلك كله أن يكون
पृष्ठ 12
ساترا لعيوبه.. الخ) فإنه على ما ذكر يكون أمارة على أمارة، فيكون ذكر الأمارة الأولى - أعني الملكة - خالية عن الفائدة مستغنى عنها بذكر أمارتها، إذ لا حاجة غالبا إلى ذكر أمارة تذكر لها أمارة أخرى، بخلاف ما لو جعل الصفات المذكورة عين العدالة، فإن المناسب بل اللازم أن يذكر لها طريق أظهر وأوضح للناظر في أحوال الناس.
الاحتمالات الثلاث في قوله عليه السلام (تعرف) ويؤيد ما ذكرنا أنه لا معنى محصل حينئذ لقوله عليه السلام - بعد الصفات المذكورة -: (وتعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار) لأن الضمير في (تعرف) إما راجع إلى العدالة بأن يكون معرفا مستقلا، وإما راجع إلى الشخص بأن يكون من تتمة المعرف الأول، وإما أن يكون راجعا إلى الستر وما عطف عليه، ليكون معرفا للمعرف، وقوله عليه السلام: (والدليل على ذلك..
الخ) (1) معرفا ثالثا، وهو أبعد الاحتمالات.
وعلى أي تقدير فلا يجوز أن يكون أمارة على العدالة، لأنه على هذا القول نفس العدالة.
والحاصل: أن الأمور الثلاثة المذكورة من قبيل المعرف المنطقي للعدالة، لا المعرف الشرعي في اصطلاح الأصوليين.
بيان المراد من الستر الوارد في الصحيحة ثم إن المراد بالستر هنا غير المراد به في قوله عليه السلام فيما بعد: (والدلالة على ذلك كله أن يكون ساترا لعيوبه)، وإلا لم يعقل أن يكون أحدهما طريقا للآخر، بل المراد بالستر هنا ما يرادف الحياء والعفاف، قال في الصحاح: رجل ستير، أي عفيف، وجارية ستيرة (2) فكأن المراد بالستر هنا -: الاستحياء من الله، وبالستر - فيما بعد -: الاستحياء من الناس. ولذا ذكر القاضي: أن العدالة
पृष्ठ 13
تثبت بالستر والعفاف واجتناب القبائح أجمع (1).
أظهر الاحتمالات في كلمة (تعرف) بقي الكلام في بيان الأظهر من الاحتمالات الثلاث المتقدمة في قوله عليه السلام: (وتعرف باجتناب الكبائر.. الخ) وأن الاجتناب هل هي تتمة للمعرف أو معرف له، أو للمعرف - بالفتح -؟ لكن الثاني في غاية البعد سواء حمل المعرف على المنطقي أو على الشرعي.
[أما على الأول] (2) فلعدم كون الأمور المذكورة أمورا عرفية متساوية في البيان لمفهوم الاجتناب، فلا يحسن جعله طريقا إليها، أو شارحا لمفاهيمها.
والثالث أيضا بعيد، بناء على المعرف المنطقي والشرعي، لأنه إن أريد ب (اجتناب الكبائر) الاجتناب عن ملكة، فليس أمرا مغايرا للمعرف الأول، فذكره كالتكرار، وإن أريد نفس الاجتناب، ولولا عن ملكة، فلا معنى لجعله معرفا منطقيا بعد شرح مفهوم العدالة أولا بما يتضمن اعتبار الملكة في الاجتناب.
والحاصل: إن جعله معرفا منطقيا فاسد، لأنه إما أن يراد من المعرفين كليهما معنى واحد وإما أن يراد من كل منهما معنى، وعلى الأول يلزم التكرار، وعلى الثاني يلزم تغاير الشارحين لمفهوم واحد.
وكذا لا يجوز جعله معرفا شرعيا، لأن حاصله يرجع إلى جعل نفس الاجتناب طريقا إلى كونه على ملكة، وهذا بعيد لوجهين:
أحدهما: أن معرفة الاجتناب عن جميع الكبائر ليس بأسهل من معرفة الملكة، بل معرفة الملكة أسهل من معرفة الاجتناب، فلا يناسب جعله معرفا لها.
पृष्ठ 14
الثاني: أنه جعل الدليل على ذلك كله أن يكون ساترا لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته، فستر العيوب عن الناس قد جعل طريقا ظاهريا، ومن المعلوم أن جعل الاجتناب الواقعي طريقا مستدرك بعد جعل عدم العلم بالارتكاب طريقا، بل اللازم جعله طريقا من أول الأمر، لأن جعل الأخص طريقا بعد جعل الأعم مستدرك، وهذا كما يقال: إن أمارة العدالة عند الجهل بها الايمان الواقعي، وعلامة الايمان الواقعي عند الجهل به:
الاسلام، فإن جعل الايمان الواقعي (1) طريقا، مستغنى عنه، بل لازم قوله عليه السلام: (حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك) أنه لا يجوز التوصل بالأمارة الأولى وهو الاجتناب الواقعي، لأنه يتوقف على الفحص عن أحواله.
فثبت من جميع ذلك أن أظهر الاحتمالات المتقدمة هو كونه تتمة للمعرف، بأن يجعل المراد بكف البطن والفرج واليد واللسان، كفها عن المعاصي المتبادر من معصية البطن: أكل الحرام، ومن معصية الفرج: الزنا، ومن معصية اليد: ظلم الناس، ومن اللسان: الغيبة والكذب، فيكون ذكره بعد ذكر الكف من قبيل التعميم بعد التخصيص، وعقيب الستر والعفاف من قبيل ذكر الأفعال بعد الصفات النفسانية الموجبة لها.
ويحتمل أيضا أن يراد بالستر: الاستحياء المطلق، وبالعفاف: التعفف عن مطلق المعاصي، وبالكف (الكف) (2) عن مطلق الذنوب، ويكون ذكر الجوارح الأربع لكونها أغلب ما تعصي من بين الجوارح] (3).
पृष्ठ 15
وحينئذ فيكون قوله: (وتعرف باجتناب الكبائر) من قبيل التخصيص بعد التعميم والتقييد بعد الاطلاق، تنبيها على أن ترك مطلق المعاصي غير معتبر في العدالة.
पृष्ठ 16
[اعتبار المروة في مفهوم العدالة] ثم المشهور بين من تأخر عن العلامة: اعتبار المروة في مفهوم العدالة، حيث عرفوها بأنها هيئة راسخة تبعث على ملازمة التقوى والمروة، وهو الذي يلوح من عبارة المبسوط، حيث ذكر أن العدالة في اللغة: أن يكون الانسان متعادل الأحوال متساويا، وفي الشريعة: من كان عدلا في دينه، عدلا في مروته، عدلا في أحكامه (1) (انتهى)، بناء على أن المراد بالعدالة في الدين والمروة والأحكام: الاستقامة فيها.
من يعتبر المروة في العدالة وأما كلام غير الشيخ ممن تقدم على العلامة ، فلا دلالة فيه، بل ولا إشعار على ذلك.
نعم: ذكره ابن الجنيد في شرائط قبول الشهادة (2)، وكذا ابن حمزة في موضع من الوسيلة (3)، بل كلامه الأخير المتقدم في صدر المسألة (4)، - ككلامي
पृष्ठ 17
المفيد والحلي المتقدم ذكرهما (1) - دال على عدم اعتبارها.
وأما الصدوقان فهما وإن لم يفسرا العدالة، إلا أن كلامهما المتقدم (2) من أنه (لا يصلى إلا خلف رجلين [أحدهما من تثق بدينه وورعه وأمانته، والآخر من تتقي سيفه وسوطه] (3)) ظاهر في عدم اعتبار المروة في العدالة، بناء على أن اعتبار العدالة في الإمام متفق عليه.
نعم، قد أخذ القاضي (الستر) و (العفاف) في العدالة (4) بناء على ما سيأتي (5) من أنه لا يبعد استظهار اعتبار المروة من هذين اللفظين. وذكر في الجامع أن العدل الذي يقبل شهادته، هو البالغ العاقل المسلم العفيف الفعلي المجتنب عن القبائح الساتر لنفسه (6) فإن جعلنا الموصول (7) صفة تقييدية كانت العفة - التي عرفت إمكان استظهار المروة منها - مأخوذة في عدالة الشاهد دون عدالة الإمام ومستحق الزكاة، وإلا كانت مأخوذة في مطلق العدالة.
وممن لا يعتبر المروة في العدالة المحقق في الشرائع (9)، وتبعه العلامة في الإرشاد (10) وولده في موضع من الإيضاح (11).
पृष्ठ 18
وعرف الشهيد - في نكت الإرشاد - العدالة في كلام من اعتبرها في مستحق الزكاة بأنها (هيئة تبعث على ملازمة التقوى) (1) وظاهره أن العدالة تطلق في الاصطلاح على ما لا يؤخذ فيه المروة.
دعوى الشهرة على عدم اعتبار المروة والحاصل: أنه لو ادعى المتتبع أن المشهور بين من تقدم على العلامة عدم اعتبار المروة في العدالة - خصوصا المعتبرة في غير الشاهد - لم يستبعد ذلك منه.
لما عرفت من كلمات من عدا الشيخ، وأما الشيخ فالعدالة المذكورة في كلامه لا ينطبق على ما ذكره المتأخرون، لأنه أخذ في الاسلام والبلوغ والعقل، وهذا ليس معتبرا عند المتأخرين، وإن كان العادل عندهم من أفراد البالغ العاقل المسلم، لكن الاسلام والكمال ليسا جزءا للعدالة عندهم، ولذا يذكرون البلوغ والعقل والاسلام على حدة. فالظاهر أنه أراد بالعدالة صفة جامعة للشرائط العامة لقبول الشهادة، وكيف كان : فالمتبع هو الدليل.
وينبغي الجزم بعدم اعتبارها (2) في العدالة المعتبرة في الإمام، وأن المعتبر فيه العدالة و (3) الاستقامة في الدين، لأن الدليل على اعتبار العدالة في الإمام، إما الاجماعات المنقولة وإما الروايات:
عدم دلالة الاجماعات - على العدالة - على اعتبار المروة أما الاجماعات المنقولة (4) فلا ريب في أنها ظاهرة في العدالة في الدين المقابلة للفسق الذي هو الخروج عن طاعة الله، مع أن الخلاف في أخذ المروة في العدالة يوجب حمل العدالة في كلام مدعي الاجماع على العدالة في الدين،
पृष्ठ 19
ويؤيده أنه لو كان المراد العدالة المطلقة التي تقدم تفسيرها من المبسوط (1) لم يحتج إلى اعتبار البلوغ والعقل في الإمام مستقلا.
ودعوى: أن دعوى الاجماع إنما وقعت من المتأخرين الذين أخذوا المروة في العدالة، وكلام مدعي الاجماع يحمل على ما اللفظ ظاهر فيه عنده.
مدفوعة - بعد تسليم ما ذكر كلية - بأن الاجماع إذا فرض دعواه على العدالة المأخوذة فيها المروة فهي موهونة بمصير جل القدماء - كما عرفت - على خلافه.
عدم دلالة الروايات على اعتبار المروة وإن كان المستند الروايات فنقول: إنها بين ما دل على اعتبار العدالة، والظاهر منها هي الاستقامة في الدين، لأنها الاستقامة المطلقة في نظر الشارع، فإن التحقيق أن العدالة في كلام الشارع وأهل الشرع يراد بها: الاستقامة، لكن الاستقامة المطلقة في نظر الشارع هو الاستقامة على جادة الشرع وعدم الميل عنها، وإن قلنا بأنها منقولة من الأعم إلى الأخص، لكن نقول: إن المتبادر منها الاستقامة من جهة الدين، لا من جهة العادات الملحوظة عند الناس حسنا أو قبيحا.
التمسك بصحيحة ابن أبي يعفور لاعتبار المروة وغاية ما يمكن أن يستدل لاعتبارها في الدالة المستعملة في كلام الشارع: صحيحة ابن أبي يعفور، ومحل الدلالة يمكن أن يكون فقرات منها:
الأولى: قوله: (بأن يعرفوه بالستر) على أن يكون المراد منه ستر العيوب الشرعية والعرفية.
الثانية: قوله عليه السلام: (وكف البطن والفرج واليد واللسان) بناء على أن منافيات المروة غالبا من شهوات الجوارح.
الثالثة: قوله عليه السلام: (والدال على ذلك كله أن يكون ساترا
पृष्ठ 20
لعيوبه... الخ).
وقد تمسك بكل واحد من هذه الفقرات بعض ممن (1) عاصرناهم.
الجواب عن صحيحة ابن أبي يعفور وفي الكل نظر، أما الفقرة الأولى: فلما عرفت سابقا من المراد بالستر ليس هو الستر الفعلي، وإنما يراد به صفة مرادفة للعفاف - كما سمعت من الصحاح (2) -، كيف وقد جعل ستر العيوب بعد ذلك دليلا على العدالة، فليزم اتحاد الدليل والمدلول. مضافا إلى أن المتبادر من الستر: تعلقه بالعيوب الشرعية دون العرفية، فلا يفيد حذف المعلق العموم.
وبهذا يجاب عن الفقرة الثانية، فإن الظاهر من كف الجوارح الأربع:
كفها عن معاصيها، لا مطلق ما تشتهيها.
وأما الفقرة الثالثة، ففيها أولا: أن المتبادر من (العيوب) هي ما تقدم في الفقرة السابقة مما أخذ تركها في مفهوم العدالة، لا مطلق النقائص في الكبائر والصغائر والمكروهات المنافية للمروة، وإلا لزم تخصيص الأكثر، إذ الكبائر ومنافيات المروة في جنب غيرهما - الذي لا يعتبر في العدالة تركها ولا في طريقها سترها - كالقطرة في جنب البحر. فلا بعد من حمله على المعهود المتقدم في الفقرات السابقة، فكأن الإمام عليه السلام لما عرف العدالة بملكة الكف والتعفف عن الكبائر جعل سترها عند المعاشرة والمخالطة طريقا إليها.
وثانيا أن غاية ما يدل عليه هذه الفقرة كون ستر منافيات المروة من تتمة طريق العدالة، لا مأخوذة في نفسها. فيكون فيه دلالة على أن عدم ستر منافيات المروة وظهورها عند المعاشرة والمخالطة لا يوجب الحكم ظاهرا بعدالة الرجل التي تقدم معناها في الفقرات السابقة. ولا يلزم من هذا أنا لو اطلعنا على
पृष्ठ 21
ذلك المعنى بحيث لا يحتاج إلى الطريق الشرعي وعلمنا منه صدور منافيات المروة لم نحكم بعدالته، لأن الوصول إلى ذي الطريق يغني عن الطريق.
ففي الرواية دلالة على التفصيل الذي ذكره بعض متأخري المتأخرين، من أنه لو كشف فعل منافي المروة عن قلة المبالاة في الدين، بحيث لا يوثق معه بالتحرز عن الكبائر والاصرار على الصغائر كان معتبرا وإلا فلا.
وهذا التفصيل غير بعيد، لكنه في الحقيقة ليس تفصيلا في مسألة اعتبار المروة في نفس العدالة - بل قول بنفيه مطلقا -، إلا أنه يوجب الوهن في حسن الظاهر الذي هو طريق إليها.
توجيه دلالة الرواية على اعتبار المروة ثم إن الذي يخطر بالبال أنه إن كان ولا بد من فهم اعتبار المروة من الصحيحة - بناء على أن المذكور فيه حد لها، لا بد من أن يكون مطردا، فترك التعرض لاعتبار ما يعتبر مخل بطردها - فالأنسب أن يقال: إن ذلك إنما يستفاد من لفظي (الستر) و (العفاف) الراجعين إلى معنى واحد، كما عرفت من قول الصحاح: (رجل.. الخ) (1) فيكون المراد بالستر ما عد - في الحديث المشهور المذكور في أصول الكافي في باب جنود العقل والجهل - مقابلا للتبرج (2) المفسر في كلام بعض محققي شراح أصول الكافي بالتظاهر بما يقبح ويستهجن في الشرع أو العرف (3).
ولا ريب أن منافيات المروة مما يستهجن في العرف، فهي منافية للستر والعفاف بذلك المعنى.
وقد ذكر بعضهم في عدالة القوة الشهوية - المسماة بالعفة - أن ما يحصل
पृष्ठ 22
من عد تعديلها: عدم المروة وظاهره أن المروة لازمة للعفاف.
حكم تكرار منافيات المروة ثم إن المروة - على القول باعتبارها في الدالة - مثل التقوى المراد بها عندهم: اجتناب الكبائر والاصرار على الصغائر، ففعل منافيها يوجب زوال العدالة بمجرده من غير حاجة إلى تكراره (1) كارتكاب الكبيرة لأنه لازم تفسيرهم للعدالة بالملكة المانعة عن (2) مجانبة (3) الكبائر ومنافيات المروة والباعثة على ملازمة التقوى والمروة، وقد عرفت أن المراد بالبعث أو المنع: الفعلي، لا الشأني.
نعم: ربما يكون بعض الأفعال لا ينافي المروة بمجرده، ولذا قيدوا منافيات (4) الأكل في الأسواق بصورة غلبة وقوع ذلك منه، وأنه لا يقدح وقوعه نادرا، أو لضرورة، أو من السوقي. فمعناه - بقرينة عطف الضرورة والسوقي - أنه لا ينافي المروة، لا أنه مع منافاته المروة لا يوجب زوال العدالة بمجرده.
مخالفة المروة لا توجب الفسق نعم: فرق بين التقوى والمروة، وهو أن مخالفة التقوى يوجب الفسق، بخلاف مخالفة المروة، فإنها توجب زوال العدالة دون الفسق. ففاقد المروة إذا كانت فيه ملكة اجتناب الكبائر، واسطة بين العادل والفاسق.
ومن جميع ما ذكرنا يظهر ما في كلام بعض سادة مشايخنا (5)، حيث إنه بعد ما أثبت اعتبار المروة بالفقرة الثالثة المتقدمة من الصحيحة، قال: بقي الكلام في أن منافيات المروة هل توجب الفسق بمجردها كالكبائر؟ أو بشرط الاصرار أو الاكثار كالصغائر. أو تفصيل بين مثل تقبيل الزوجة في المحاضر وبين مثل
पृष्ठ 23
الأكل في الأسواق؟ وهذا هو المختار. ثم استشهد بكلام جماعة ممن قيد الأكل في السوق بالغلبة أو الدوام.
ويمكن تأويل أول كلامه بأن المراد من الفسق: مجرد عدم العدالة، دون الفسق المتكرر في كلام الشارع والمتشرعة، لكنه بعيد.
وأبعد منه: توجيه كلامه فيما ذكره من الوجوه الثلاثة في زوال العدالة بمنافيات المروة، بأن المراد ما ينافيها بحسب الأعم من المرة (1) والاكثار، ومعناه أن ما ينافي المروة بجنسه هل يزيل العدالة بمجرده أو بشرط الاكثار؟ وهو كما ترى!.
التعريف المختار للعدالة ثم إنه قد تلخص مما ذكرنا من أول المسألة إلى هنا أن الأقوى - الذي عليه معظم القدماء والمتأخرين -: هو كون العدالة عبارة عن صفة نفسانية توجب التقوى والمروة أو التقوى فقط - على ما قويناه -.
وعرفت (2) أيضا أن القول بأنها عبارة عن (الاسلام وعدم ظهور الفسق) غير ظاهر من كلام أحد من علمائنا وإن كان ربما نسب إلى بعضهم (3)، كما عرفت، وعرفت ما فيه (4).
ليست العدالة بمعنى (عدم ظهور الفسق) أو (حسن الظاهر) قولا لأحد وكذلك القول بأنها عبارة عن (حسن الظاهر) غير مصرح به في كلام أحد من علمائنا، وإن نسبه بعض متأخري المتأخرين إلى كثير، بل إلى الكل (5).
وكيف كان: فالمتبع هو الدليل وإن لم يذهب إليه إلا قليل، وقد عرفت الأدلة.
पृष्ठ 24