فلو كان منه الخير إذ كان شره
عتيدا لقلنا إن خيرا مع الشر
ولو كان إذ لا خير لا شر عنده
صبرنا وقلنا لا يريش ولا يبري
ولكنه شر ولا خير عنده
وليس على شر إذا دام من صبر
وبغضي له - شهد الله - حيا وميتا، أوجبه أخذه محاريب الكعبة الذهب والفضة، وضربها دنانير ودراهم، وسماها الكعبية وأنهب العرب الرملة، وخرب بغداد وكم دم سفك وحريم انتهك، وحرة أرمل وصبي أيتم، وأنا معتذر إلى الشيخ الجليل من تقريظه مع تقريظي فيه؛ لأنه قد شاع فضله في جميع البشر، وصار غرة على جبهة الشمس والقمر، خلد ذلك في بدائع الأخبار، وكتب بسواد الليل على بياض النهار، وأنا في مكاتبة حضرته بمنظوم ومنثور، كمن أمد النار بالشرر، وأهدى الضوء إلى القمر، وصب في البحر جرعة، وأعار سير الفلك سرعة، إذ كان لا يحل النقص بواديه، ولا يطور السهو بناديه.
ولقد سمعت من رسائله عقائل لفظ إن نعتها فقد عبتها، وإن وصفتها فما أنصفتها، وأطربتني - يشهد الله - إطراب السماع، وبالله لو صدرت عن صدر من خزانته وكتبه حوله يقلب طرفه في هذا ويرجع إلى هذا؛ فإن القلم لسان اليد، وهو أحد البلاغتين؛ لكان ذلك عجيبا صعبا شديدا، ووالله لقد رأيت علماء منهم ابن خالويه، إذا قرئت عليهم الكتب، ولا سيما الكبار رجعوا إلى أصولهم، كالمقابلين يتحفظون من سهو وتصحيف وغلط، والعجب العجيب والنادر الغريب حفظه - أدام الله تأييده - لأسماء الرجال والمنثور، كحفظ غيره من الأذكياء المبرزين المنظوم، وهذا سهل بالقول صعب بالفعل، من سمعه طمع فيه، ومن رامه امتنعت عليه معانيه ومبانيه.
حدثني أبو علي الصقلي بدمشق قال: كنت في مجلس ابن خالويه، إذ وردت عليه من سيف الدولة مسائل تتعلق باللغة؛ فاضطرب لها ودخل خزانته وأخرج كتب اللغة وفرقها على أصحابه يفتشونها ليجيب عنها وتركته، وذهبت إلى أبي الطيب اللغوي وهو جالس، وقد وردت عليه تلك المسائل بعينها وبيده قلم الحمرة، فأجاب به ولم يغيره قدرة على الجواب.
وقال أبو الطيب: قرأت على أبي عمر الفصيح إصلاح المنطق حفظا. وقال لي أبو عمر: كنت أعلق اللغة عن ثعلب على خزف، وأجلس على دجلة أحفظها وأرمي بها وأنا تعبت، وحفظت نصف عمري ونسيت نصفه؛ وذاك أني درست ببغداد وخرجت عنها، وأنا طري الحفظ ومضيت إلى مصر، فأمرجت نفسي في الأغراض البهيمية والأعراض المؤثمية، وأردت - بزعمي وخديعة الطبع المليم - أن أذيقها حلاوة العيش، كما صبرت في طلب العلم والأدب، ونسيت أن العلم غذاء النفس الشريفة وصيقل الأفهام اللطيفة، وكنت أكتب خمسين ورقة في اليوم وأدرس مائتين، فصرت الآن أكتب ورقة واحدة، وتحكني عيناي حكا مؤلما، وأدرس خمس أوراق وتكل، ثم دفعت إلى أوقات ليس فيها من يرغب في علم ولا أدب، بل في فضة وذهب، فلو كنت إياسا صرت باقلا وأضع كتابا عن يميني وأطلبه عن شمالي، وأريد - مع ضعفي - أرتاد لنفسي معاشا بظهر غير ظهير بل كسير عقير، وصلب غير صليب إن جلست، فهو كالدمل، وإن مشيت فجملتي دماميل، ومعي بقية نزرة يسيرة من جملة كثيرة، لو وجدت ثقة أعطيته إياها ليعود علي بما أرفه به جسمي من الحركة، وقلبي من الشغل وأنا أجد من أدفعها إليه، وبقي أن يردها إلي.
अज्ञात पृष्ठ