Rasail Al-Sheikh Al-Hamad fi Al-Aqeedah

Muhammad bin Ibrahim Al-Hamad d. Unknown

Rasail Al-Sheikh Al-Hamad fi Al-Aqeedah

رسائل الشيخ الحمد في العقيدة

शैलियों

الإيمان بالله تأليف الشيخ: محمد بن إبراهيم الحمد مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله_صلى الله عليه وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا_. أما بعد: فإن علم العقيدة أشرف العلوم، وأجلها قدرًا، وأهمها على الإطلاق. وأشرف وأجل وأهم ما في هذا العلم مبحث الإيمان بالله_عز وجل_. فالإيمان بالله أصل الأصول، وهو أول ركنٍ من أركان الإيمان الستة كما قال_تعالى_: [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ] (البقرة: ١٧٧) . وكما قال"عندما سأله جبريل_عليه السلام_عن الإيمان: =أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره+ (١) . والإيمان بالله_عز وجل_رأس كل فلاح، وأسُّ كل نجاح، فما أنزلت الكتب، ولا أرسلت الرسل إلا لأجل تقريره وتثبيته في النفوس. وفيما يلي من صفحات سيكون الحديث عن الإيمان بالله وذلك من خلال المباحث التالية: _معنى الإيمان بالله. _ماذا يتضمن الإيمان بالله؟ _الأدلة على وحدانية الله. _ثمرات الإيمان بالله. _ما ضد الإيمان بالله؟ _معنى الإلحاد. _أسباب الإلحاد. _كيف دخل الإلحاد بلاد المسلمين؟ _الآثار المترتبة على الإلحاد. فما كان في ذلك من صواب فذلك من الله وحده، وما كان فيه من زلل فمن نفسي والشيطان. وأخيرًا أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينفع بهذه السطور كاتبها، وناشرها، وقرّاءها؛ إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير. محمد بن إبراهيم الحمد الزلفي: ص. ب: ٤٦٠ www.toislam.net

(١) رواه البخاري في كتاب الإيمان رقم (٥٠)، ومسلم في كتاب الإيمان رقم (٨) . والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

1 / 1

معنى الإيمان بالله للإيمان بالله وتوحيده عدة تعريفات، تتفق في المعنى وربما اختلفت ألفاظها، فمن تلك التعريفات مايلي: ١_هو إفراد الله بما يستحق. ٢_إفراد الله بحقوقه. ٣_=التصديق الجازم من صميم القلب بوجود ذاته_تعالى_الذي لم يسبق بضد، ولم يعقب به، هو الأول فليس قبله شيء، والآخر فليس بعده شيء، والظاهر فليس فوقه شيء، والباطن فليس دونه شيء، حيٌّ قيوم، أحد صمد [لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ] (الإخلاص:٣، ٤) وتوحيده بألوهيته، وربوبيته، وأسمائه وصفاته+ (١) . ٤_=الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه الخالق وحده، المدبر للكون كله، وأنه هو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له، وأن كل معبود سواه فهو باطل، وعبادته باطلة، قال_تعالى_: [ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ] (الحج: ٦٢) . وأنه_سبحانه_متصف بصفات الكمال ونعوت الجلال، منزه عن كل نقص وعيب. * * * ماذا يتضمن الإيمان بالله؟ من خلال ما مضى يتبين أن الإيمان بالله يتضمن أمورًا أربعة: ١_الإيمان بوجود الله. ٢_الإيمان بربوبيته. ٣_الإيمان بأسمائه وصفاته. ٤_الإيمان بألوهيته. * * * الأدلة على وحدانية الله ﷾ ـ الأدلة على وحدانية الله كثيرة جدًا ويكفي منها شهادته_عز وجل_لنفسه حيث قال: [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)] (آل عمران: ١٨) . وصدق من قال: وفي كل شيء له آيةٌ **** تدل على أنه الواحد

(١) أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة للشيخ حافظ الحكمي. تحقيق: مصطفى أبو النصر الشلبي، مكتبة السوادي بجدة، ص٥٠.

1 / 2

فواعجبًا كيف يعصى الإله **** أم كيف يجحده الجاحد ولله في كل تحريكةٍ **** وتسكينه أبدًا شاهد ومن الأدلة على وحدانية الله، وعلى تفرده بالخلق والرزق، وأنه وحده المستحق للعبادة ما يلي: ١_الفطرة. ٢_الشرع. ٣_العقل. ٤_الحس. ٥_الاستدلال بأسماء الله وصفاته. وهذه الأدلة بمجموعها تدل على وجود الله، وتدل على أنواع التوحيد الثلاثة؛ ذلك أن أنواع التوحيد الثلاثة متلازمة، ومن أشرك في واحد منها فهو مشرك في البقية. مثال ذلك من دعا غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، فدعاؤه عبادة صَرَفَهَا لغير الله، وهذا شرك في الألوهية. وهذا الدعاء لغير الله متضمن لاعتقاد الداعي أن المدعو متصرف مع الله، وقادر على قضاء ذلك، وهذا شرك في الربوبية. ثم إنه لم يدعه إلا لاعتقاده أنه يسمعه، وهذا شرك في الأسماء والصفات؛ لاعتقاده أن للمدعو سمعًا محيطًا بجميع المسموعات لا يحجبه قرب ولا بعد. ومن هنا نجد أن الشرك في الألوهية مستلزم الشرك في الربوبية والأسماء والصفات (١) . وفيما يلي تفصيل للأدلة السابقة. * * * ١ـ دلالة الفطرة الفطرة في اللغة هي الخلقة، أما في الشرع فهي الإسلام على القول الراجح كما رجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم (٢) _رحمهما الله تعالى_. =وكل مخلوق قد فطر على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من طرأ على قلبه ما يصرفه+ (٣) . قال النبي": =ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه+. وفي رواية: =إلا على هذه الملة+ وفي رواية =إلا على الملة+ (٤) .

(١) انظر أعلام السنة المنشورة، ص٧٧، السؤال رقم ٧٣. (٢) انظر شفاء العليل لابن القيم، ص٥٧٢_ ٥٧٥، وانظر درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية ٨/٣٧١. (٣) نبذة في العقيدة الإسلامية، للشيح محمد بن عثيمين، ص١١. (٤) رواه البخاري ٢/٩٧، ومسلم ٤/٢٠٤٧ برقم (١٢٥٨) .

1 / 3

وفي حديث عياض بن حمار÷يقول _تعالى_ في الحديث القدسي: =وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم+ (١) . قال ابن القيم×=وذكروا عن عكرمة، ومجاهد، والحسن، وإبراهيم، والضحاك، وقتادة في قوله_عز وجل_: [فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا] (الروم: ٣٠) قالوا: (فطرة الله) دين الإسلام (لا تبديل لخلق الله) قالوا: لدين الله+ (٢) . ثم إن الإنسان مفطور على اللجوء إلى ربه_تبارك وتعالى_عند الشدائد، فإذا ما وقع الإنسان_أي إنسان_حتى الكافر الملحد_في شدة، أو أحدق به خطر_فإن الخيالات والأوهام تتطاير من ذهنه، ويبقى ما فطر عليه ليصيح بأعلى صوته، ومن قرارة نفسه، وعميق قلبه، مناديًا ربه؛ ليفرج كربته وهمه، ويلجأ إليه وحده دون سواه (٣) . وصدق الله_تعالى_إذ يقول: [فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ] (العنكبوت: ٦٥) . وليس المراد بأنه يولد على الفطرة أنه يولد عالمًا بأمور الإسلام؛ فالله_سبحانه وتعالى_يقول: [وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا] (النحل:٧٨) . وليس المراد_أيضًا_أنه يولد ساذجًا لا يعرف شركًا ولا توحيدًا؛ لأن الرسول"قال: =إلا ويولد على الملة+ وفي رواية: =على هذه الملة+. بل المراد أن كل مولود يولد على محبته لفاطره، وإقراره له بربوبيته، وادعائه له بالعبودية، فلو خُلِّي وعدمَ المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية، والأشربة، فيشتهي اللبن الذي يناسبه ويغذيه (٤) .

(١) مسلم ٤/٢١٩٧ برقم (٢٨٦٥) . (٢) شفاء العليل، ص ٥٧٢_٥٧٣، وانظر درء تعارض العقل والنقل ٨/٣٧٦. (٣) مستفاد من مذكرة للشيخ عبد الله الجاسر. (٤) انظر شفاء العليل لابن القيم، ص٥٧٨_٥٧٩.

1 / 4

ولذلك قال": =فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه+ ولم يقل يسلمانه؛ لأنه باقٍ على الأصل، فاعتناق غير الإسلام يعد خروجًا عن الأصل والقاعدةِ بأسباب خارجة. * * * ٢ - دلالة الشرع أما دلالة الشرع فواضحة معلومة؛ فما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب يدل دلالة قاطعة على وحدانية الله، فالكتب السماوية كلها تنطق بذلك، وما جاءت به من الأحكام المتضمنة لمصالح العباد في دنياهم وأخراهم؛ كالصلاة، والزكاة، والحج، وغيرها، وما جاءت به من الأخبار الكونية، والمغيبات التي شهد الواقع بصدقها_كل ذلك يدل على أنها من ربٍّ حكيمٍ عليمٍ مستحقٍ للعبادة وحده لا شريك له (١) . * * * ٣ - دلالة العقل أما دلالة العقل على وحدانية الله فلأن المخلوقاتِ جميعَها لابد لها من مُوجِد وخالق؛ إذ لا يمكن أن توجِد نفسَها بنفسِها، ولا يمكن أن توجَدَ صدفة؛ فهذه المخلوقات لا يمكن أن تُوجِد نفسها بنفسها؛ لأن الشيء لا يخلق نفسه؛ لأنه قبل وجوده معدوم، فكيف يكون خالقًا؟ كذلك لا يمكن أن توجد صدفة؛ لأن كل حادث لابد له من مُحدِثٍ، ولأن وجودها على هذا النظام المتسق البديع المتآلف، والارتباط الملتحم بين الأسباب والمسببات وبين الكائنات بعضها مع بعض_يمنع منعًا باتًا أن يكون وجودُها صدفةً (٢) . أضف إلى ذلك ما تجده من افتقار المخلوق الشديد؛ فالافتقار وصف ذاتي للمخلوق ملازم له؛ مما يدل على أنه لابد من وجود خالق، كامل، غني عما سواه، وهو رب العالمين. وقد ذكر الله _سبحانه وتعالى_ هذا الدليل العقلي والبرهان القاطع في سورة الطور، حيث قال: [أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ] (الطور: ٣٥) . يعني أنهم لم يُخلقوا من غير خالقٍ، ولا هم الذين خلقوا أنفسهم، فتعين أن يكون خالقهم هو الله_تبارك وتعالى_ (٣) .

(١) انظر نبذة في العقيدة الإسلامية، ص١١_١٢. (٢) انظر الرياض الناضرة لابن سعدي ص١٩٤، ونبذة في العقيدة الإسلامية، ص١١_ ١٥. (٣) مرجع سابق.

1 / 5

ولهذا لما سمع جبير بن مطعم÷رسول الله"يقرأ سورة الطور فبلغ قوله_تعالى_: [أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ] الآية وكان يومئذٍ مشركًا_قال: =كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي+. رواه البخاري مُفَرَّقًا (١) . ولهذا نجد أن الله_سبحانه وتعالى_يحث كثيرًا في كتابه على التعقل والتبصر؛ ولا أدل على ذلك من كثرة الآيات التي تُخْتَمُ بمثل قوله: [أّفّلا تّعًقٌلٍونّ] [لّعّلَّكٍمً تّعًقٌلٍون]؛ لأن الإنسان إذا تفكر تذكر، وعرف الحق، وإذا تذكر خاف واتقى وانقاد. ولهذا نجد أن العقلاء الجادين الباحثين عن الحق_يصلون إليه، ويوفقون له، وليس أدل على ذلك من حال العقلاء في الجاهلية أمثال قُس بن ساعدة الإيادي، وزيد بن عمرو بن نفيل والد سعيد بن زيد وعم عمر بن الخطاب÷فنحن نجد في ثنايا كلامهما الإقرار بوحدانية الله_عز وجل_مع أنهما يعيشان في مجتمع يعج بالجهل والشرك. يقول قس في خطبته المشهورة التي ألقاها في سوق عكاظ: =أيها الناس اسمعوا وعوا، من عاش مات ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آتٍ، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تُزهر، وبحار تزْخَر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة، وأنهار مجراة، إن في السماء لخبرًا وإن في الأرض لعبرًا، ما بال الناس يذهبون فلا يرجعون؟ أرضوا في المقام فأقاموا؟ أم تركوا فناموا؟ يقسم قُسٌّ بالله قسمًا لا إثم فيه أن لله دينًا هو أرضى له وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه، إنكم لتأتون من الأمر منكرًا، ثم أنشأ يقول: في الذاهبين الأوليـ **** ـن من القرون بصائر لما رأيت مواردًا **** للقوم ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها **** يمضي الأكابر والأصاغر لا يرجع الماضي إلـ **** ـي ولا من الباقين غابر أيقنت أني لا محا **** له حيث صار القوم صائر ويقول زيد بن عمرو في شعره المشهور: وأسلمت وجهي لمن أسلمت **** له الأرض تحمل عذبا زلالا

(١) انظر صحيح البخاري، كتاب التفسير، ٦/٤٩_٥٠.

1 / 6

دحاها فلما استوت شدَّها **** جميعا وأرسى عليها الجبالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت **** له المزن تحمل عذبا زلالا إذا هي سيقت إلى بلدةٍ **** أطاعت فصبت عليها سجالا ويقول: أربًا واحدًا أم ألف رب **** أدين إن تقسمت الأمور هجرت اللات والعزى جميعًا **** كذلك يفعل الجلد الصبور بل إن كثيرًا من كبار المفكرين الغربيين اهتدوا إلى الحق بسبب إجالتِهم أفكارَهم وبحثهم عن الحق. ومن نظر في كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) _وقد كتبه ثلاثون من علماء الطبيعة والفلك ممن انتهت إليهم الرياسة في هذه الأمور_ومثله كتاب (كريسي موريسون) رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك (الإنسان لا يقوم وحده) وترجم إلى العربية تحت عنوان (العلم يدعو إلى الإيمان) _يدرك أن العالِمَ الحقيقيَّ لا يكون إلا مؤمنًا، وأن العاميَّ لا يكون إلا مؤمنًا، وأن الإلحاد والكفر لا يكون إلا من أنصاف العلماء وأرباع العلماء؛ ممن تعلم قليلًا من العلم، وخسر بذلك الفطرة المؤمنة، ولم يصل إلى العلم الذي يدعو إلى الإيمان (١) . وبهذا يتبين لنا أن العقل يدل على وحدانية الله_عز وجل_. أما إذا أنكر العقل ذلك فإن الخلل في العقل نفسه، وصدق من قال: إذا ادعى عقلك إنكاره **** فأنكر العقل ودعواه ومن هنا يتبين لنا بطلان قول من قال: إن هذا الكون نشأ بالصدفة، أو أن الطبيعة هي الخالق.

(١) مستفاد من مذكرة للشيخ: د. ناصر القفاري، وانظر كتاب الله يتجلى في عصر العلم، تأليف نخبة من العلماء الأمريكيين بمناسبة السنة الدولية لطبيعيات الأرض، أشرف على تحريره: جون كلوفرمونسيما، ترجمة د. الدمرداش عبد المجيد سرحان، راجعه وعلق عليه. د. محمد جمال الدين الفندي. وانظر كتاب العلم يدعو للإيمان، تأليف: كريسي موريسون، ترجمة محمد صالح الفلكي، والكتابان من منشورات دار القلم، بيروت.

1 / 7

إن هذه الدعاوى ليست إلا مكابرةً وعنادًا لما هو متقرر بالمعقول والمنقول، فمن قال: إن هذا الكون نشأ عن طريق الصدفة يقال له: كيف نشأ هذا الكون الفسيح العظيم المتسق المتناسق عن طريق الصدفة؟ ! وخذ هذا المثال الذي نقله وحيد الدين خان عن العالم الأمريكي (كريسي موريسون) يبين فيه استحالة القول بوجود الكون مصادفة قال: =لو تناولت عشرة دراهم وكتبت عليها الأعداد من واحد إلى عشرة، ثم رميتها في جيبك وخلطتها جيدًا، ثم حاولت أن تخرج من الواحد إلى العشرة بالترتيب العددي، بحيث تلقي كل درهم في جيبك بعد تناوله مرة أخرى، فبإمكانك أن تتناول الدرهم المكتوب عليه واحد في المحاولة الأولى هي واحد في المائة وإمكان أن تخرج الدراهم (١_٢_٣_٤) بالترتيب هو واحد في عشرة آلاف، حتى أن الإمكان في أن تنجح في تناول الدراهم من (١_١٠) بالترتيب واحدٌ في بلايين من المحاولات+ (١) . وعلى ذلك فكم يستغرق بناء هذا الكون لو نشأ بالمصادفة والاتفاق؟ إن حساب ذلك بالطريقة نفسها يجعل هذا الاحتمال خيالًا يصعب حسابه فضلًا عن تصوره. إن ما في هذا الكون يحكي أنه إيجاد موجد حكيم عليم خبير، لكن الإنسان ظلوم جهول [قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ] (عبس: ١٧_١٩) (٢) . أما القول بأن الطبيعة هي الخالق فتلك فرية عظيمة لا دليل عليها، وتهافتها واضح بيِّن لا يحتاج إلى أي رد بل إن تصور ذلك كافٍ في الرد على أصحابه (٣) .

(١) انظر العقيدة في الله، للشيخ عمر الأشقر، ص٧٤_٧٥. (٢) انظر العقيدة في الله ص٧٤_٧٥. (٣) انظر تفصيل ذلك في المرجع السابق، ص٧٤_٩٨، وانظر إلى كتاب: العلم يتبرأ من نظرية دارون، لزياد أبو غنيمة.

1 / 8

ومن تلك الدعاوي نظرية (دارون) التي حاول أصحابها أن يعللوا بها وجود الأحياء، وتزعم هذه النظرية أن أصل الإنسان حيوان صغير نشأ من الماء، ثم أخذت البيئة تفرض عليه من التغييرات في تكوينه، مما أدى إلى نشوء صفات جديدة في هذا الكائن، وأخذت هذه الصفات المكتسبة تورَّث في الأبناء حتى تحولت مجموع هذه الصفات الصغيرة الناشئة من البيئة عبر ملايين السنين إلى نشوء صفات كثيرة راقية جعلت ذلك المخلوق البدائي مخلوقًا أرقى، واستمر ذلك النشوء للصفات بفعل البيئة والارتقاء في المخلوقات حتى وصل إلى هذه المخلوقات التي انتهت بالإنسان. هذا هو ملخص تلك النظرية، وعوارها وزيفها واضح بيِّن (١) . وقد ثبت بطلانها حتى عند أهلها، ومما يقال في ذلك، أنه على فرض صحتها فمن الذي أنشأ ذلك الحيوان الصغير؟ ومن الذي جعله يتطور حتى وصل إلى ما وصل إليه؟ ! * * * ٤ - دلالة الحس فالحس يدل بوضوح على وجود الله ووحدانيته_سبحانه وتعالى_والأدلة الحسية على ذلك كثيرة جدًَّا، ومنها: أ_إجابة الدعوات: ويعني بها إجابة دعوات الملهوفين والمكروبين وغيرهم، ممن يدعون الله _سبحانه وتعالى_ فيستجاب لهم، ويحصل لهم مقصودهم. والأمثلة على ذلك لا تحصى ولا تحصر، سواء كان ذلك في حق الأنبياء_عليهم السلام_أم في حق غيرهم. ومن ذلك ما قاله الله_سبحانه وتعالى_عن نوح_عليه السلام_: [فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ] (القمر: ١٠_١٢) .

(١) انظر العقيدة في الله ص٧٩_٩٢ ففيه تفصيل الرد على تلك الدعوى، وانظر العلم يتبرأ من نظرية دارون.

1 / 9

وما قَصَّهُ الله_سبحانه_عن يونس_عليه السلام_: [فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ] (الأنبياء: ٨٧) فاستجاب دعاءه، ونجاه من بطن الحوت. وقال عن أيوب_عليه السلام_: [وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (٤٢) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ] (ص:٤١_٤٣) . وفي صحيح البخاري عن أنس÷قال: =إن أعرابيًَّا دخل يوم الجمعة والنبي"يخطب فقال: يا رسول الله هلك المال، وجاع العيال، فادع لنا، فرفع النبي"يديه، فدعا، فثار السحاب كأمثال الجبال، فلم ينزل عن منبره_حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته. وفي الجمعة الثانية قام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله تهدم البناء، وغرق المال؛ فادع الله لنا، فرفع يديه وقال: اللهم حوالينا ولا علينا، فما يشير إلى ناحية إلا انفرجت+ (١) . وما زالت إجابة الداعين أمرًا مشهودًا إلى هذا اليوم لمن أتى بشرائط الإجابة، وكثيرًا ما نسمع أن الناس ذهبوا للاستسقاء وقبل أن يخرجوا من المسجد إذا هم يمطرون. فإجابة الدعاء دليل قاطع على وحدانية الله_عز وجل_. ب_صدق الرسل_عليهم السلام_: وهذا دليل حسي واضح، فالرسل_عليهم السلام_هم أكمل البشر، قد بلَّغوا عن الله رسالاته، وقد اصطفاهم الله، واختارهم من بين الخلق، وأيَّدهم بالآيات البينات، ونصرهم، وجعل الغلبة لهم، والدولة على أعدائهم.

(١) انظر البخاري (١٠٣٣) .

1 / 10

فالإنسان إزاء الأنبياء لا يملك إلا أن يقطع بصدقهم؛ إذ إن دعوى النبوة أعظم الدعاوى، ولا يدعيها إلا أصدق الناس أو أكذبهم، فالأنبياء هم أصدق الناس على الإطلاق؛ فظهور المعجزات على أيديهم، وتأييد الله لهم، وخذلانه لأعدائهم، وما جبلوا عليه من كريم الخلال، وحميد الخصال، كل ذلك يدل على صدقهم، وبالتالي نعلم أنهم مبعوثون من عند الله، وأنه_سبحانه_حق، وعبادته حق. جـ_ دلالة الأنفس: لقد صور الله الإنسان على أحسن صورة، وخَلَقَهُ في أحسن تقويم؛ كما قال_سبحانه وتعالى_[وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ] (التغابن: ٣) . وكما قال_عز وجل_[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] (التين: ٤) . ولو أن الإنسان أمعن النظر في نفسه وما فيها من عجائب صنع الله، ونظر ظاهره وما فيه من كمال خلقه، وأنه متميز عن سائر الحيوانات_لأدرك أن وراء ذلك ربًا خالقًا حكيمًا في خلقه، ولعلم أن هذا الخالق هو المنفرد بتدبير الإنسان وتصريفه. يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي×في تقرير هذا المعنى عند قوله_تعالى_: [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا] (الشمس: ٧): =وعلى كلٍّ فالنفس آيةٌ كبيرة من آيات الله التي يحق الإقسام بها؛ فإنها في غاية اللطف، والخفة، سريعة التنقل، والحركة، والتغير، والتأثر، والانفعالات النفسية من الهمة، والإرادة، والقصد، والحب. وهي التي لولاها لكان البدن مجرد تمثالٍ لا فائدة فيه، وتسويتُها على ما هي عليه آيةٌ من آيات الله العظيمة. والمقصود أن نفس الإنسان من أعظم الأدلة على وجود الله وحده، ومن ثم تفرده بالعبادة+. د_ هداية المخلوقات: وهذا مشهد من مشاهد الحس الدالة على وحدانية الله_عز وجل_فلقد هدى الله الحيوان: ناطقه وبهيمه، وطيره ودوابه، وفصيحه وأعجمه إلى ما فيه صلاحُ معاشه وحاله. ويدخل تحت قوله_تعالى_: [رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى] (طه:٥٠) .

1 / 11

تلك الآية التي رد بها موسى_عليه السلام_على فرعون_يدخل تحتها من العجائب والغرائب ما لا يحصيه إلا الله_عز وجل_. فَمَن الذي هدى الإنسان ساعة ولادته إلى التقام ثدي أمه؟ ومن الذي أودع فيه معرفة عملية الرضاع؟ تلك العملية الشاقة التي تتطلب انقباضات متوالية من عضلات الوجه، واللسان، والعنق، وحركات متواصلة للفك الأسفل، والتنفس مع الأنف، كل ذلك يتم بهداية تامة وبدون سبق علم أو تجربة، فمن الذي ألهمه ذلك؟ إنه [رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (٥٠)] . ثم إن هدايته بعد أن يكبر إلى السعي في مصالحه من الضرب في الأرض، والسير فيها، كل ذلك من الهداية التامة العامة للمخلوقات. أما هداية الطير، والوحش، والدواب_فحدث ولا حرج، فلقد هداها الله إلى الأفعال العجيبة التي يعجز عنها الإنسان. وقد ذكر العلامة ابن القيم×في كتابه (شفاء العليل) أمورًا عجيبة من هذا القبيل، فقد تحدث عن هداية النحل بما يأخذ بالألباب، ويزيد إيمانًا برب الأرباب (١) . حيث تحدث عن اتخاذها اليعسوبَ أميرًا، وعن طريقة ولادتها، ورعيها، ودقة تنظيمها، وتوزيعها المهام على فرق شتى، فمنها فرقة تلزم الملك ولا تفارقه، ومنها فرقة تهيِّيء الشمع وتصنعه، وفرقة تكنس الخلايا وتنظفها من الأوساخ والجيف والزبل. وإذا رأت النحل بينها نحلةً مهينةً بطالةً قطَّعَتْها، وقتلتها؛ حتى لا تفسد عليهن بقيةَ العمال، وتُعْديهِنَّ ببطالتها ومهانتها.

(١) انظر شفاء العليل، ص١٤٤_١٦٤.

1 / 12

ثم تحدث×عن طريقة بنائها البيوت، فقال: ثم يأخذن في ابتناء البيوت على خطوط متساوية، كأنها سككٌ ومحالٌّ، وتبني بيوتها مسدسةً متساويةَ الأضلاع، كأنها قرأت كتاب =إقليدس+ حتى عرفت أوفق الأشكال لبيوتها؛ لأن المطلوب من بناء الدُّور هو الوثاقة والسعة، والشكل المسدس دون سائر الأشكال إذا انضمت بعض أشكاله إلى بعض صار شكلًا مستديرًا كاستدارة الرحى، ولا يبقى فيه فروج ولا خلل، ويشد بعضه بعضًا حتى يصير طبقًا واحدًا محكمًا، لا يدخل بين بيوته رؤوس الإبر، فتبارك الذي ألهمها أن تبني بيوتها هذا البناءَ المحكمَ+. ثم تحدث عن طريقة خروجها للمرعى، وادخارها للكسب ثم قال: =وفي النحل كرامٌ لها سعيٌ وهمةٌ، واجتهادٌ، وفيها لئامٌ كسالى قليلةُ النفع مؤثرةٌ للبطالة؛ فالكرام دائمًا تطردها وتنفيها عن الخلية+. وفي ختام حديثه عنها قال: =ولما كانت النحل من أنفع الحيوانات وأبركها، قد خُصت من وحي الرب_تعالى_وهدايته بما لم يَشْرَكْها فيه غيرُها، وكان الخارج من بطونها مادة الشفاء من الأسقام والنور الذي يضيء في الظلام بمنزلة الهداة من الأنام_كان أكثر الحيوان أعداءها، وكان أعداؤها من أقل الحيوانات منفعة وبركة، وهذه سنة الله في خلقه وهو العزيز الحكيم+. ثم تحدث_أيضًا_عن هداية النمل (١) قائلًا: =وهدايتها من أعجب شيءٍ؛ فإن النملةَ الصغيرةَ تخرج من بيتها وتطلب قُوْتَها، وإن بعدت عليها الطريق، فإذا ظفرت به حملته، وساقته في طرق معوجة بعيدةٍ ذاتِ صعودٍ وهبوطٍ في غاية التوعر، حتى تصلَ إلى بيوتها فتخزن فيها أقواتها وقت الإمكان، فإذا خزنتها عمدت إلى ما ينبت منها ففلقته فلقتين؛ لئلا ينبت، فإن كان ينبت مع فَلْقِهِ باثنتين فَلَقَتْه بأربع، فإذا أصابه بلل، وخافت عليه العفن والفساد انتظرت به يومًا ذا شمس، فخرجت به فنشرته على أبواب بيوتها، ثم أعادته إليها. ولا تتغذى منه نملة مما جمعه غيرها.

(١) انظر شفاء العليل، ص١٤٧_١٥١.

1 / 13

ويكفي في هداية النمل ما قاله الله_سبحانه_في القرآن عن النملة التي سمع سليمان كلامها وخطابها لأصحابها بقولها [يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ] (النمل: ١٨) . فاستفتحت خطابها بالنداء الذي يسمعه مَنْ خاطبته، ثم بالاسم المبهم، ثم أتبعته بما يثبته من اسم الجنس؛ إرادة للعموم، ثم أمرتهم أن يدخلوا مساكنهم فيتحصنوا من العسكر، ثم أخبرت عن سبب الدخول؛ خشية أن تصيبهم معرةُ الجيش، فيحطمهم سليمان وجنوده، ثم اعتذرت عن نبي الله وجنوده بأنهم لا يشعرون بذلك. والنمل من أحرص الحيوان، ويضرب بحرصه المثل، ولها صدق الشم، وبعد الهمة، وشدة الحرص، والجرأة على محاولة نقل ما هو أضعاف أضعاف وزنها. وليس للنمل قائد ورئيس يدبرها كما يكون للنحل، إلا أن لها رائدًا يطلب الرزق، فإذا أوقف عليه أخبر أصحابه، فيخرجن مجتمعاتٍ، وكل نملة تجتهد في صلاح العامة منها غير مختلسة من الحب شيئًا لنفسها دون صواحبها. وهذا الهدهد من أهدى الحيوان، وأبصره بمواضع الماء تحت الأرض، ولا يراه غيره. ومن هدايته ما قصه الله عنه في كتابه؛ مما قاله الهدهد لسليمان_عليه السلام_وقد فقده، وتوعده، فلما جاءه بادره بالعذر قبل أن ينذره سليمان بالعقوبة، وخاطبه خطابًا هَيَّجه به على الإصغاء إليه والقبول منه فقال: [أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ] وفي ضمن هذا أني أتيتك بأمر قد عرفْتُهُ بحيث أُحطتُ به، وهو خبر عظيم له شأن؛ فلذلك قال: [وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ] (النمل: ٢٢) . والنبأ هو الخبر الذي شأن، والنفوس متطلعة إلى معرفته، ثم وصفه بأنه نبأ يقين لاشك فيه ولا ريب، فهذه مقدمة بين يدي إخباره لنبي الله بذلك النبأ اسْتَفْرَغَتْ قَلْبَ المُخبَر لتلقي الخبر، وأوْجَبَتْ له التشوقَ إلى سماعه ومعرفته، وهذا نوع من براعة الاستهلال، وخطاب التهييج.

1 / 14

ثم أخبر بباقي القصة عن بلقيس وقومها، وبين بطلان ما هم عليه من عبادة الشمس. وهذا الحمام من أعجب الحيوان هدايةً، قال الشافعي: أعقل الطير. وبُرُدُ الحمامِ هي التي تحمل الرسائل والكتب، وربما زادت قيمة الطير منها على قيمة المملوك والعبد؛ فإن الغرض الذي يحصل به لا يحصل بمملوك ولا بحيوان غيره. وهداية الحمام على قدر التعليم والتوطين، وهو موصوف باليمن والإلف للناس، ويحب الناس ويحبونه، ويألف المكان، ويثبت على العهد والوفاء لصاحبه، وإن أساء إليه، ويعود إليه مسافات بعيدة، وربما صُدَّ فترك وطنه عشرَ حججٍ وهو ثابت على الوفاء حتى إذا وجد فرصة واستطاعةً عاد إليه. أما طريقة سِفاده وجمعه عِشَّه، واعتنائه ببيضه وصغاره_فهي من أعجب العجب، وقد ذكر ابن القيم في كتابه (شفاء العليل) أوجه شبه كثيرة بين الإنسان والحمام. ومن عجيب هداية الديك الشاب أنه إذا أُلْقِيَ له حبٌّ لم يأكلْه، حتى إذا هرم وشاخ أكله من غير تفريق، كما قال المدائني: إن إياس بن معاوية مر بديك ينقر حبًَّا ولا يفرقه فقال ينبغي أن يكون هرمًا؛ فإن الديك الشاب يفرق الحب؛ ليجتمع الدجاج فتصيب منه، والهرم قد فنيت رغبته فليس له همة إلا نفسه. ومن عجيب أمر الثعلب أن ذئبًا أكل أولاده وكان للذئب أولاد، وهناك زبية، فعمد الثعلب وألقى نفسه فيها، وحفر فيها سردابًا يخرج منه، ثم عمد إلى أولاد الذئب، فقتلهم وجلس ناحية ينتظر الذئب، فلما أقبل وعرف أنها فِعْلَتُه هرب قُدَّامه وهو يتبعه فألقى نفسه في الزبية، ثم خرج من السرداب، فألقى الذئب نفسه وراءه، فلم يجده ولم يطق الخروج، فقتله أهل الناحية. ومن عجيب أمره أنه رأى رجلًا ومعه دجاجتان، فاختفى له، وخطف إحداهما، وفَرَّ ثم أعمل فكره في أخذ الثانية، فتراءى لصاحبها من بعيد، وفي فمه ما يشبه الطائر، وأطمعه في استعادتها بأن تركه وفر، فظن الرجل أنها الدجاجة، فأسرع نحوها، فخالفه الثعلب إلى أختها فأخذها وذهب.

1 / 15

ومن هداية الحمار_وهو من أبلد الحيوان_أن الرجل يسير به، ويأتي به إلى منزله في البعد في ليلة مظلمة، فيعرف المنزل، فإذا خُلِّي جاء إليه. ثم إنه يُفرِّق بين الصوت الذي يُسْتَوْقَفُ به، وبين الصوت الذي يُحث به على السير. ومن عجيب أمر الفأرة أنها إذا شربت من الزيت الذي في أعلى الجرة فَنَقَصَ، وعَزَّ عليها الوصولُ إليه_ذهبت وحملت في أفواهها ماءً وَصَبَّتْهُ في الجرة؛ حتى يرتفع الزيت فتشربه. وكثير من العقلاء يتعلم من الحيوانات البهم أمورًا تنفعه في معاشه وأخلاقه، وصناعته، وحربه، وحزمه، وصبره. وهداية الحيوان فوق هداية أكثر الناس، قال_تعالى_: [أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا] (الفرقان: ٤٤) . قال أبو جعفر الباقر: =والله ما اقتصر على تشبيههم بالأنعام حتى جعلهم أضل سبيلًا منها+. قيل لرجل: مَنْ علمك البكور في حوائجك أول النهار لا تخل به؟. قال: مَنْ علم الطير تغدو خماصًا كل بكرة في طلب أقواتها على قربها وبعدها لا تسأم ذلك، ولا تخاف ما يعرض لها في الجو والأرض. وقيل لآخر: مَنْ عَلَّمك السكونَ، والتحفظ، والتماوت حتى تظفر بإربك، فإذا ظفرت به وثبت وثوب الأسد على فريسته؟. فقال: الذي علم الهرة أن ترصد جحر الفأرة فلا تتحرك، ولا تتلوى، ولا تختلج، حتى كأنها ميتة، حتى إذا برزت الفأرة وَثَبَتْ عليها كالأسد. وقيل لآخر: مَنْ عَلَّمك حسن الإيثار والبذل والسماحة؟. قال: مَنْ علم الديك يصادف الحبة في الأرض وهو يحتاج إليها ولا يأكلها، بل يستدعي الدجاج، ويطلبهن طلبًا حثيثًا حتى تجيء الواحدةُ منهن، فتلقطها وهو مسرور بذلك طيب النفس به، وإذا وضع له الحب الكثير فَرَّقه ها هنا وها هنا وإن لم يكن له دجاج؛ لأن طبعه قد ألف البذل والجود؛ فهو يرى أنه من اللؤم أن يستبد وحده بالطعام.

1 / 16

ومَنْ علَّم الأسد إذا مشى وخاف أن يُقْتَفَى أثره ويُطلب؟ عَفَّى مِشْيَته بذنبه؟!. ومن ألهم كرام الأسود وأشرافها أن لا تأكل إلا من فريستها، وإذا مر بفريسة غيره لم يدن منها ولو جهده الجوع؟ !. ومن علم الأنثى من الفيلة إذا دنا وَقْتُ ولادتها أن تأتي إلى الماء، فتلدَ فيه؛ لأنها دون الحيوانات لا تلد إلا قائمة؛ لأن أوصالها على خلاف أوصال الحيوان، وهي عالية، فتخاف أن تسقطه على الأرض فينصدع، أو ينشق، فتأتي ماء وسطًا تضعه فيه يكون كالفراش اللين والوطاء الناعم؟ !. ومَنْ علم الذباب إذا سقط في مائع أن يتقي بالجناح الذي فيه الداء دون الآخر؟!. ومَنْ علم الذئب إذا نام أن يجعل النوم نُوَبًا بين عينيه، فينام بإحداهما حتى إذا نعست الأخرى نام بها، وفتح النائمة حتى قيل فيه: ينام بإحدى مقلتيه ويتقي **** بأخرى المنايا فهو يقظان نائم وهذا باب واسع جدًَّا، ويكفي فيه قوله_سبحانه وتعالى_: [وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ] (الأنعام: ٣٨) . قال مجاهد: =أمم أمثالكم+ أصناف مصنفة تُعْرف بأسمائها. وقال الزجاج: =أمم أمثالكم+ في أنها تبعث، وقال ابن قتيبة: =أمم أمثالكم+ في طلب الغذاء وابتغاء الرزق وتَوَقِّي المهالك، وقال سفيان بن عيينة: ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من البهائم؛ فمنهم من يهتصر اهتصار الأسد، ومنهم يعدو كعدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يتطوس كفعل الطاووس، ومنهم من يشبه الخنازير التي لو ألقي إليها الطعام الطيب لعافته، فإذا قام الرجل من رجيعه ولغت فيه؛ فلذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمةً لم يحفظ منها واحدة وإن أخطأ رجلٌ تروّاه وحفظه.

1 / 17

وهذا كله من أدل الدلائل على الخالق لها_سبحانه وتعالى_وعلى إتقان صنعه، وعجيب تدبيره، ولطيف حكمته؛ فإن فيما أودعها من غرائب المعارف، وغوامض الحيل، وحسن التدبير، والتَّأتي لما تريده_ما يستنطق الأفواه بالتسبيح، ويملأ القلوب من معرفته، ومعرفة حكمته، وقدرته، وما يعلم به كل عاقل أنه لم يخلق عبثًا، ولم يترك سدىً، وأن له حكمةً باهرةً، وآيةً ظاهرة، وبرهانًا قاطعًا، يدل على أنه رب كلِّ شيءٍ ومليكُه، وأنه المنفرد بكل كمالٍ دون خلقهِ، وأنه على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم (١) . هـ - دلالة الآفاق: ومن آياته الدالة على وحدانيتة دلالة الآفاق التي يراها كل أحدٍ؛ العالم والجاهل، المؤمن والكافر، فلو تأمل الإنسان بعين البصيرة والتدبر والتفكر_لأدرك عظمة مَنْ أنشأها، ولَدَعاه ذلك إلى عبادته وحده لا شريك له. قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي×عند قوله تعالى: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] (فصلت:٥٣): =وقد فعل_تعالى_فإنه أرى عباده من الآيات ما به تبين أنه الحق، ولكن الله هو الموفق للإيمان من شاء، الخاذل لمن يشاء+ (٢) . وقال×في موطن آخر_أيضًا_: =كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات، وتغلغل فكره في بدائع الكائنات_علم أنها خلقت للحق بالحق، وأنها صحائف آيات، وكتب براهين، ودلالات على جميع ما أخبر به عن نفسه ووحدانيته، وما أخبرت به الرسل عن اليوم الآخر، وأنها مدبرات، مسخرات، ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومصرفها، فتعرف أن العالَم العلويَّ والسفلي كلَّهم إليه مفتقرون، وإليه صامدون، وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات، فلا إله إلا هو ولا رب سواه+ (٣) .

(١) انظر شفاء العليل، ص١٤٧_١٦٤. (٢) الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده ص٧٢_٧٣. (٣) الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده ص٧٢_٧٣.

1 / 18

وقال رحمه في موطن آخر: =فهذا خبره_تعالى_عن أمور مُسْتَقْبَلَةٍ أنه يُري عباده من الآيات والبراهين في الآفاق وفي الأنفس ما يدلهم على أن القرآن حق، والرسول حق، وما جاء به هو الحق+ (١) . وفي كل عصر من العصور يُطلع الله عباده على أمور عظيمة في هذا الكون الفسيح. وفي العصور المتأخرة ظهر العديد من الاكتشافات والمخترعات والحقائق العلمية، ولا يزال الباحثون يكتشفون في كل يوم سرًا من أسرار هذا الكون العظيم، مما جعلهم يقفون حائرين واجمين معترفين بالتقصير والعجز، وأن هناك عوالمَ أخرى مجهولةً، وأخرى لم تكتشف بعد. وخلاصة القول في هذا أن كل ما في الآفاق يدل دلالة قاطعة على وجود مدبر حكيم، رب عليم، مستحق للعبادة، ولكن: إذا لم يكن للمرء عينٌ صحيحةٌ **** فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر و_عبودية الكائنات (٢): فالله_سبحانه_قد خلق جميع الكائنات؛ إنسها، وجنها، وملائكها، وحيوانها، وجمادها، ونباتها، وغيرها من الكائنات_لعبادته_سبحانه_وفطرها على توحيده، والاعتراف بألوهيته، والإقرار بفقرها وحاجتها وخضوعها وصمودِها له_جل وعلا_. فكل هذه الكائنات تقوم بعبادة الله_عز وجل_ولا يُخِلُّ بذلك إلا الإنسان المعاند الزائغ عن شرع الله_سبحانه وتعالى_المخالف لنظام هذا الكون المحكم البديع؛ الذي ما قام إلا على عبودية الله. هذا وتختلف العبوديات من مخلوق إلى مخلوق. فمن تلك العبوديات: عبودية الإنس، فهي أشرفها وأفضلها. وأشرف ما فيها عبوديةُ الأنبياء لربهم، وقيامهم بالدعوة والجهاد وغير ذلك، ثم عبودية أتباعهم وأتباع أتباعهم. ومن ذلك: عبودية الملائكة، والجن وهذا ليس بمستغرب. أما الغريب حقًَّا فهو عبودية الجمادات والحيوانات، التي يعتقد كثير من الناس أنها لا تعقل ولا تدرك، وليس لها أيُّ عبودية لله.

(١) الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده ص٧٢_٧٣. (٢) انظر عبودية الكائنات لرب العالمين، للشيخ فريد التوني، دار الضياء، ص٢٣٤، و٢٤٥.

1 / 19

إن هذا الكون الواسع بما فيه من الكائنات كلّه يخضع لخالقه وبارئه، ويؤدي عبودية له_سبحانه وتعالى_فلقد ثبت لهذه الكائنات في الكتاب والسنة طاعاتٌ كثيرةٌ كالسجود، والتسبيح، والصلاة، والاستغفار، والإسلام، والإشفاق، وغيرها. فعن سجود هذه الكائنات يقول الله_عز وجل_: [أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ] (الحج: ١٨) . وليس بالضرورة أن يكون هذا السجود مثل سجود الآدميين من المسلمين؛ فسجود كلِّ أحدٍ بحسبه. وأما عن تسبيح الكائنات فذلك كما في قوله_تعالى_: [تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا] (الإسراء: ٤٤) . فالكائنات كلها تسبح خالقها تسبيحًا لا نفقهه نحن البشر، وعدم معرفتنا به ليس دليلًا على نفيه؛ فلقد خص الله بعض خلقه بالاطلاع على تسبيح بعض الكائنات، وأفهمه تسبيحها كداود_عليه السلام_. أما صلاتُها فقد قال الله_تعالى_: [أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ] (النور: ٤١) . فكلها يصلي، ويسبح لله، وليس بالضرورة أن نفهم ذلك. أما عن استغفارها ففي حديث أبي الدرداء÷قال: سمعت رسول الله"يقول: =وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء+ (١) .

(١) ابن ماجه، ١/٨١ برقم (٢٢٣)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع ٢/١٠٧٩ رقم (٦٢٩٧) .

1 / 20