राक्सत ज़िलाल साइदा

रिहाब सलाह दीन d. 1450 AH
88

राक्सत ज़िलाल साइदा

رقصة الظلال السعيدة

शैलियों

وعندما يهبط الليل، كثيرا ما نجلس في الخارج على سلالم الشرفة، نشرب الجين وندخن بشراهة كي نهزم الناموس ونرجئ وقت الذهاب إلى النوم إلى ساعة متأخرة. الجو حار، والمساء يستغرق طويلا حتى ينبلج الصبح، والمنزل القرميدي المرتفع، الذي يظل باردا إلى حد ما حتى منتصف ما بعد الظهيرة، يبقي حرارة النهار حبيسة فترة طويلة بعد حلول الظلام. كانت هذه هي الحال دائما؛ وأتذكر أنا ومادي كيف كنا نجر مرتبتنا إلى الشرفة في الدور السفلي، حيث نستلقي ونعد النجوم التي تتهاوى ونحاول أن نظل مستيقظتين حتى طلوع الفجر. لكننا لم نفعل قط؛ لأن النعاس كان يغلبنا كل ليلة في الوقت الذي ينسم فيه تيار هواء بارد قادم من ناحية النهر، حاملا رائحة البوص ورائحة الطين الأسود في قاع النهر. في العاشرة والنصف تمر حافلة عبر المدينة، لا تبطئ كثيرا، نراها مارة عند طرف شارعنا. إنها الحافلة نفسها التي كنت أستقلها عند عودتي من الكلية إلى المنزل. وأتذكر وأنا أدخل جوبيلي في إحدى الليالي الحارة، رؤية الأرض عارية حول الجذور الضخمة للأشجار، ونافورة الشرب محاطة ببريكات ماء صغيرة في الشارع الرئيسي، ولافتات صعبة القراءة مكتوب عليها بالأضواء الزرقاء والحمراء والبرتقالية «بلياردو ومقهى»، شاعرة وأنا أتبين هذه اللافتات بإحساس غريب من القمع والتحرر، وأنا أستبدل بعالم المدرسة الترويحي كله - عالم الأصدقاء، وفيما بعد، عالم الحب - العالم المظلم لمحنة لا تنتهي، عالم المنزل. لا بد أن مادي التي كانت تقطع نفس الرحلة منذ أربع سنوات راودها هذا الشعور أيضا؛ أود أن أسألها: هل يمكن لأطفال في مرحلة نشأتهم، مثلما كنا، أن يفقدوا القدرة على أن يصدقوا وجود - أن يألفوا - أي واقع مستقر وعادي؟ لكنني لا أسألها، فنحن لا نتحدث عن أي شيء من هذا. لا سلوى هنا! هكذا قالت مادي بصوتها المبتهج الرفيع بطابع اللهجة العامية التي كنت نسيتها، لن تكئب إحدانا الأخرى. وهذا ما فعلناه.

ذات ليلة أخذتني مادي إلى حفلة عند البحيرة، التي تبعد نحو ثلاثين ميلا إلى الغرب من هنا. كانت الحفلة مقامة في كوخ استأجرته امرأتان من جوبيلي لهذا الأسبوع. معظم النساء هناك بدا أنهن أرامل أو عزبات أو منفصلات أو مطلقات؛ أما الرجال فكان أغلبهم شبانا غير متزوجين، من كانوا من جوبيلي من بينهم كانوا صغار السن إلى درجة أنهم ذكروني بفتيان الصفوف الأولى. كان هناك رجلان أو ثلاثة أكبر سنا، من دون زوجاتهم. أما النساء فمن المستغرب أنهن كن يذكرنني بنساء كنت أعرفهن في طفولتي، مع أنني بطبيعة الحال لم أكن أرى قط شخصيات هؤلاء النساء في الحفلات، لم أكن أرى إلا عملهن في المتاجر والمكاتب، وفي كثير من الأحيان، في مدارس الأحد في جوبيلي. كن يختلفن عن النساء المتزوجات في كونهن أكثر دراية بوضعهن في الدنيا، وأنشط وأذكى وأغلظ قليلا (مع أنني أكن لهن جميعا الاحترام عدا واحدة أو اثنتين). كن يرتدين ملابس لا شك في أناقتها وإن كانت وقورة، وكثيرا ما كانت تهف وترف فوق كورسيهاتهن المطاطية المشدودة بإحكام، ويضعن العطور، قدرا كبيرا منها، على أزهارهن الصناعية. وكانت صديقات مادي متمدينات إلى حد كبير، فقد كن يستخدمن على شعورهن غسول اللون النحاسي، ويصبغن جفونهن باللون السماوي، ويتمتعن بقدرة عاتية على ألا يسكرن من احتساء الشراب.

كنت أرى أن مادي لا تبدو واحدة منهن، بجسدها الضئيل وشعرها الداكن الذي ما زالت تصففه دون عناية، ووجهها الذي صار نحيلا ومشدودا من دون أن يفقد تماما نظرة الفتاة التي تعلوه والتي تشي بالصفاقة والزهو. لكنها ما زالت تتكلم بالخنة الفجة للهجة المحلية، التي كنا في الماضي نسخر منها. وكانت رابطة الجأش وهي تعربد وتشرب. فقد بدا لي أنها لا تدخر جهدا كي تبدو واحدة من هؤلاء الأشخاص وأنها قد تنجح في ذلك سريعا. بدا لي أيضا أنها كانت تود أن أراها تنجح، أراها تتنكر لتلك الخيلاء السرية المبهجة الرهيبة بحق، التي كانت فينا حينما كنا طفلتين معا، وكنا نمني نفسينا، بطبيعة الحال، بأمور أكبر بكثير من جوبيلي.

أثناء اللعبة التي تضع فيها كل واحدة من النساء قطعة من الملابس - يبدأ الأمر بفردة حذاء من باب الاحتشام والتأدب - في سلة، ثم يأتي كل الرجال ويتنافسون في محاولة ملاءمة كل قطعة على صاحبتها الأصلية، خرجت للخارج ومكثت في السيارة، حيث شعرت بوحشة لزوجي وأصدقائي، واستمعت إلى أصوات الجذل الصادرة من الحفل وإلى الأمواج وهي تتهاوى على الشاطئ، ثم غلبني النعاس. جاءت مادي بعد ذلك بفترة طويلة جدا وقالت: «بحق السماء!» ثم ضحكت وقالت بعبث سيدة في فيلم سينمائي إنجليزي: «ألا تروق لك هذه الفعاليات؟» ضحكنا نحن الاثنتان، وشعرت برغبة في الاعتذار، وبشيء من الاعتلال لأنني شربت ولم أثمل. «قد لا تكون لهم قدرة تذكر على خوض حوار فكري لكن قلوبهم بيضاء، كما يقول المثل.» لم أجادل في هذا، وقطعنا رحلة العودة من إنفرهورون إلى جوبيلي بسرعة ثمانين ميلا في الساعة. ومنذ ذلك الحين لم نذهب إلى أي حفل آخر.

لكننا لا نكون وحدنا دائما حين نجلس على السلم؛ ففي كثير من الأحيان ينضم إلينا رجل يدعى فريد باول. كان موجودا في الحفل، جالسا في الخلفية في استرخاء يحاول أن يتذكر صاحب كل كأس من كئوس الشراب، بينما يقف بالقرب من سور الشرفة المتهالك. كان قد نشأ في جوبيلي مثلنا لكنني لا أتذكره، ربما لأنه ارتاد المدرسة قبلنا ببضع سنوات ثم ذهب بعد ذلك إلى الحرب. فاجأتني مادي بدعوته إلى العشاء في أول ليلة وصلت فيها هنا، وبقضائه الأمسية معنا، وأمسيات عديدة بعد ذلك، جاعلة هذا الغريب شاهدا على طفولتنا، أو على نسخة طفولتنا المحفوظة في أمان في حكي النوادر، في شيء يشبه السيلوفان الفكري. كم كانت الخيالات التي نسجناها حول صورتينا الواهيتين ونحن طفلتين رائعة، إلى حد أنهما ظهرتا مرحتين وتغيرتا تغيرا جعلهما صورتين أخريين لا نعرفهما. إننا ماهرتان في سرد القصص معا. فريد باول يقول: «لديكما ذكريات رائعة أيتها الفتاتان» ويجلس يراقبنا بإعجاب وبشيء آخر - تحفظ واضطراب واستهجان - كالذي يبدو على وجوه الأشخاص المتروين الهادئين وهم يشاهدون المهازل المثيرة للممثلين الكوميديين.

الآن وأنا أفكر في فريد باول، أعترف بأن ردة فعلي إزاء هذا - هذا «الوضع»، كما أسميه - كانت أكثر تقليدية بكثير مما توقعت، بل كانت حمقاء. أنا لا أدري حتى ما هو الوضع في الواقع. أعلم أنه متزوج؛ فمادي أخبرتني بذلك في الأمسية الأولى، بطريقة من تريد إخباري بالأمر وحسب. لكن زوجته عليلة، ومادي تقول إنه يأخذها إلى البحيرة في الصيف، وإنه بار بها للغاية. أنا لا أدري إن كان عشيقا لمادي، وهي لن تخبرني أبدا. لكن لماذا ينبغي أن يعنيني هذا الأمر؟ إن مادي تعدت سن الثلاثين منذ زمن. لكنني لا أكف عن التفكير في الطريقة التي يجلس بها على سلالمنا ويداه منبسطتان فوق ركبتيه الممدودتين، ووجهه الهادئ الممتلئ متجه باستغراق شبه تام ناحية مادي وهي تتحدث. إن له نظرة رجولية محببة توحي بأنه مستمتع لكنه غير مهتم. تغيظه مادي مازحة، فتخبره بأنه بدين جدا، أو أنه لن يدخن سيجارته، أو تقحمه في جدالات لطيفة ذات طبيعة خاصة تحتدم بينهما، ولا معنى لها ولا نهاية. وهو لا يمانع في ذلك. (وهذا ما يخيفني، أعلم الأمر الآن: هو لا يمانع، «وهي محتاجة لذلك».) حين تكون مادي ثملة قليلا تقول بنبرات تهكمية تحمل ما يشبه التبرير إنه صديقها الحقيقي الوحيد. وتقول عنه إنه يفهمها ولا أحد غيره قادر على ذلك. ليس لدي رد على هذا.

ثم أبدأ أتساءل ثانية: هل هو «وحده» صديقها؟ لقد نسيت قيودا معينة مفروضة على الحياة في جوبيلي - وهذا واقع حقيقي بصرف النظر عما تقوله روايات الجيب عن الحياة في المدن الصغيرة - ونسيت أيضا كيف يمكن أن تزدهر في ظل هذه القيود صداقات محترمة قوية، لا يقال صراحة أبدا إنها جنسية، بل وتتغذى على هذه القيود أيضا، إلى حد أن العلاقات من هذا النوع تستحوذ في نهاية المطاف على نصف حياة المرء. أكأبتني هذه الفكرة كثيرا (العلاقات التي لا تكلل بالزواج قد تخيب أمل من ليسوا طرفا فيها أكثر من أي شخص آخر) لدرجة أنني وجدت نفسي أتمنى أن يكونا في حالة حب حقيقي. •••

إيقاع الحياة في جوبيلي موسمي بإيقاع ثابت؛ فالوفيات تحدث في الشتاء، والزيجات تعقد في الصيف. لكن ثمة سبب وجيه لهذا، هو أن الأشتية طويلة وحافلة بالعناء، ومن ثم، قد لا يقوى الضعفاء والمسنون دائما على اجتيازها. فالشتاء الماضي كان كارثيا، على نحو يمكن توقع حدوثه كل عشر سنوات أو اثنتي عشرة سنة؛ كان من الممكن أن ترى كيف كانت أرصفة الشوارع مكسرة، كما لو كانت المدينة قد خرجت لتوها من قصف مدفعي على هامش حرب. في هذه الأوقات، يتعامل الناس مع الموت في خضم صعوبات بالغة؛ ثم يأتي في الصيف وقت للتفكير في الأمر، والحديث عنه. فأنا أرى الناس يستوقفونني في الشارع للحديث عن أمي. سمعت منهم عن جنازتها؛ نوع الزهور التي حظيت بها وحالة الطقس في ذلك اليوم. والآن وقد ماتت، لم أعد أشعر حين يقولون كلمة «أمك» أنهم يتعمدون توجيه ضربة ماكرة لكبريائي. كنت من قبل أشعر بهذا، حين أسمع هذه الكلمة كنت أشعر أن كياني كله، ذلك الصرح الفتي الزائف، يتداعى وينهار.

الآن أسمعهم يتحدثون عنها، بلطف ولياقة، فأدرك أنها صارت من ممتلكات المدينة وعجائبها، من أساطيرها الموجزة. وقد حققت هذا رغما عنا، لأننا كنا نحاول، بفجاجة وبدهاء، أن نبقيها في المنزل، بعيدا عن تلك السمعة المحزنة؛ لا لصالحها، بل لصالحنا، فنحن اللتان كانتا تعانيان من مثل هذا الخزي العظيم من منظر مقلتيها اللتين كانتا تنقلبان لأعلى في محجريهما نتيجة شلل مؤقت في عضلات العين، ومن وقع صوتها المتثاقل، الذي كانت وظيفتنا أن نترجم للغرباء منطوقاته المحرجة. كانت التأثيرات التي يحدثها مرضها غريبة بدرجة جعلتنا نشعر أننا نضج بالاعتذار (مع أننا كنا نحتفظ بصلابتنا وتحفظنا) كأننا ضمن أحد العروض البالغة الرداءة التي تقام في الشوارع أثناء الكرنفالات. كل هذا قضى على كبريائنا؛ تخلصنا من حدة حنقنا من خلال رسم صور كاريكاتورية جامحة كانت إحدانا تعدها للأخرى (لا، ليست صورا كاريكاتورية، إنما محاكاة، لأنها كانت نفسها صورة كاريكاتورية). كان ينبغي لنا أن نتركها لرعاية أهل المدينة، كانت ستلقى معاملة أفضل.

إنهم لا يتحدثون عن مادي وسهرها على رعاية أمي طوال عشر سنوات إلا بأقل القليل، ربما رغبة منهم في الحفاظ على مشاعري، غير ناسين أنني أنا التي رحلت، وها هما طفلاي أمارة على ذلك، بينما مادي وحيدة ولا شيء لديها الآن سوى ذلك المنزل الكئيب. لكنني لا أعتقد ذلك، ففي جوبيلي لا تراعى المشاعر بهذه الطريقة. فهم يسألونني مباشرة عن السبب وراء عدم مجيئي المدينة لحضور الجنازة. أنا مسرورة أن العاصفة الثلجية العنيفة التي تسببت في وقف حركة الطيران في ذلك الأسبوع وفرت لي عذرا لعدم الحضور، لأنني لا أدري ما إذا كنت سأحضر هذه الجنازة على أية حال، بعد أن كتبت إلي مادي رسالة ملتهبة المشاعر تحثني فيها على أن أظل بعيدة. راودني شعور قوي بأن من حقها أن تنفرد بهذه المناسبة، إذا شاءت ذلك، بعد مرور كل هذه الفترة.

अज्ञात पृष्ठ