كان هنري بيلي يعاني مرضا صدريا. فكان يظل يسعل ويسعل حتى يستحيل وجهه النحيل إلى اللون القرمزي، وتمتلئ عيناه الساخرتان السماويتان بالدموع، فيرفع غطاء الموقد، ثم يقف على مبعدة مناسبة منه، ثم يسدد كتلة عظيمة من البلغم مباشرة إلى قلب اللهب، فيسمع هسيس انطفائها. كنا نعجب بأدائه هذا وبقدرته على جعل معدته تقرقر متى شاء ذلك، وبضحكه الذي كان يضج بصوت صفير وقرقرة مرتفع، ويدل على البنية المتهالكة لصدره المريض. أحيانا كان من الصعب معرفة سبب ضحكه، ودائما كان من الممكن أن نكون نحن السبب.
كنا نستطيع شم رائحة الثعالب وسمع ضحك هنري حتى بعد أن نؤمر بالذهاب إلى الفراش، لكن هذه الأمور، التي تذكرنا بعالم القبو الدافئ الآمن ساطع الضوء، تبدأ في التلاشي والاضمحلال طافية فوق هواء الطابق العلوي البارد العطن. كنا نشعر بالخوف في ليالي فصل الشتاء. لم نكن نخاف مما هو في «الخارج» رغم أنه في هذا الوقت من العام كان الجليد يتكدس حول منزلنا فيبدو كحيتان جاثمة، وكانت الريح تزعجنا طوال الليل، آتية من الحقول المدفونة، والمستنقع المتجمد، يصاحبها «كورس» التهديدات والبؤس العتيق «البعبعي» المخيف. كنا نخاف مما هو في «الداخل»، من الغرفة التي ننام فيها . ففي ذلك الوقت لم يكن الطابق العلوي من منزلنا قد اكتمل بناؤه. كانت توجد مدخنة من الطوب ذات جدار واحد، وكانت توجد في منتصف الأرضية حفرة مربعة، يحيط بها سور خشبي، ويبرز منها الدرج إلى الأعلى. وعلى الجانب الآخر من بئر السلم كانت توجد الأشياء المهملة التي لم يعد يستخدمها أحد؛ لفة مشمع من أيام الجندية واقفة على طرفها، عربة أطفال من الخيزران، وسلة من نبات السرخس، وأباريق وأحواض خزفية مشروخة، وصورة لمعركة «بالاكلافا»، كئيبة المنظر للغاية. كنت قد أخبرت ليرد، بمجرد أن صار كبيرا كفاية بحيث يفهم أمورا كهذه، أن ثمة خفافيش وهياكل عظمية تعيش هناك، وكنت كلما هرب رجل من سجن المقاطعة، الذي يبعد عشرين ميلا، أتخيل أنه دخل من النافذة واختبأ خلف لفة المشمع. لكن كانت هناك قواعد للحفاظ على سلامتنا. فحينما يكون النور مضاء نكون بأمان طالما لا نتخطى محيط السجادة البالية التي تغطي مساحة غرفة نومنا، وحينما يكون النور مطفأ لم يكن أي مكان آمنا سوى الفرش نفسها. كنت أضطر لإضاءة المصباح المتدلي فوق طرف فراشي، فأمط جسدي بأقصى قدر ممكن كي أطال السلك.
في الظلام كنا نستلقي فوق فرشنا، أطواف نجاتنا الضيقة، ونثبت أعيننا على الضوء الخافت المنبعث من بئر السلم، ونتغنى بأغان. كان ليرد يغني أغنية «جينجل بيلز»، كان يحب غناءها في أي وقت، سواء وقت «أعياد الميلاد» أو غيره، وكنت أغني أغنية «داني بوي». كنت أحب وقع صوتي، الذي كان ناعما مبتهلا يرتفع في الظلام. في هذا الوقت كنا نستطيع أن نتبين الأشكال السامقة داكنة اللون التي يعلوها الجليد من خلف زجاج النافذة. وحينما كنت آتي على غناء المقطع الذي يقول: «حينما أموت، لأنني سأموت بالضرورة.» تنتابني رعشة ليست ناجمة عن برودة الأغطية وإنما عن شعور الغبطة الذي يكاد يسكت صوتي. «ستركع فوقي وتلقي صلاة العذراء مريم.» ما صلاة العذراء مريم؟ كان اليوم يمر تلو الآخر وأنا أنسى السؤال عما تعنيه الكلمة.
كان ليرد ينتقل من الغناء إلى النوم مباشرة. كنت أستطيع سماع تردد أنفاسه الطويلة المطمئنة العالية. وفيما تبقى لي من وقت، هو الأكثر خصوصية وربما الأفضل في يومي كله، كنت أحكم شد الأغطية فوق جسدي وأشرع في رواية إحدى القصص التي كنت أرويها لنفسي من ليلة إلى أخرى. كانت قصصا عني حينما أكبر، أكبر أكثر قليلا، تقع أحداثها في عالم يدور حولي بالأساس، لكنه عالم يمنحني فرصا أظهر فيها الشجاعة والجرأة والتضحية بالنفس، وهي فرص لم أكن أنالها في عالمي الحقيقي قط. في هذه القصص أنقذت حياة أشخاص من مبنى مفخخ بالقنابل (لخيبة أملي كانت الحرب الحقيقية قد اشتعلت بعيدا جدا عن بلدتي «جوبيلي»)، وأطلقت الرصاص على ذئبين مسعورين هاجما فناء المدرسة (كان المدرسون منكمشين ذعرا من خلفي)، وامتطيت في شجاعة جوادا بديعا سرت به عبر الشارع الرئيسي في «جوبيلي»، كي أتلقى شكر سكان البلدة على عمل بطولي سوف أنجزه (لم يحدث أن قاد أحد جوادا هناك سوى الملك بيلي في المسيرة الاحتفالية بيوم «البرتقاليين»). كانت هذه القصص دائما ما تتضمن امتطاء أحصنة وإطلاق رصاص، رغم أنني لم أمتط جوادا من قبل سوى مرتين - ومن دون سرج لأننا لم نكن نملك واحدا - وفي المرة الثانية انزلقت وسقطت تحت أرجل الحصان، الذي خطا فوقي برفق. أما إطلاق الرصاص فكنت أتدرب عليه في الحقيقة، لكنني لم أكن أستطيع أن أصيب أي هدف بعد، ولا حتى علب الصفيح فوق أعمدة السياج. •••
كانت الثعالب الحية تسكن عالما من صنع أبي، محاطا بسياج مرتفع، كبلدة من العصور الوسطى، له بوابة توصد بقفل عند حلول الليل، تتراص في شوارع هذه البلدة أقفاص محكمة ضخمة، لكل منها باب حقيقي يتسع لمرور رجل، ومنحدر خشبي بطول أسلاك القفص، كي يتسنى للثعالب أن تتقافز وتجري صعودا وهبوطا عليه، ووجار - شيء يشبه دولاب الملابس ومزود بفتحات تهوية - تلجأ إليه عند نومها وفي الشتاء وتحمي فيه صغارها. كانت توجد أطباق للطعام والسقاية مثبتة إلى أسلاك القفص على نحو يتيح إفراغها وتنظيفها من خارج القفص. كانت الأطباق مصنوعة من الصفيح القديم، وكانت المنحدرات الخشبية والأوجرة مصنوعة من فضلات الخشب القديم وسقط المتاع. كان كل شيء مرتبا ومنظما بإحكام؛ كان أبي يبدع دون كلل، وكان أفضل كتاب في العالم بالنسبة له هو كتاب «روبنسون كروزو». كان قد أعد برميلا من الصفيح وتحايل بحيث نجح في تركيبه على عربة يدوية، كي يستخدم في جلب الماء إلى الأقفاص. كانت هذه وظيفتي في الصيف حيث تحتاج الثعالب لأن تشرب مرتين يوميا. فكنت أملأ البرميل عند الطلمبة مرتين، بين الساعة التاسعة والعاشرة صباحا ثم مرة أخرى بعد العشاء، ثم أدفعه عبر فناء الحظيرة إلى الأقفاص حيث كنت أركن العربة وأملأ وعاء السقاية الذي أستخدمه أنا، وأمضي عبر الشوارع الفاصلة بين الأقفاص. كان ليرد يأتي هو الآخر، حاملا وعاءه الصغير ذا اللونين الأخضر والقشدي مملوءا عن آخره، يصطدم بساقيه فتنسكب دفقات من الماء فوق حذائه القماشي. أما أنا، فكان معي وعاء السقاية الفعلي، الذي يستخدمه أبي، ولو أنني لم أكن أستطيع ملأه إلا بمقدار ثلاثة أرباعه فقط.
كانت للثعالب أسماء، تطبع على لوحة من الصفيح تعلق بجانب أبواب الأقفاص. لم تكن تمنح أسماءها تلك وهي حديثة الولادة، وإنما بعد أن تفلت من موسم السلخ في عامها الأول فتلحق بثعالب سلالة التربية. كانت الثعالب التي يختار أبي أسماءها تحمل أسماء مثل «برينس» و«بوب» و«والي» و«بيتي». والثعالب التي أختار أنا أسماءها تحمل أسماء مثل «ستار» أو «ترك» أو «مورين» أو «ديانا». ثمة ثعلبة أسماها ليرد «مود» تيمنا باسم فتاة كانت تعمل لدينا حينما كان صغيرا، وثعلب أسماه «هارولد» على اسم صبي في المدرسة، وآخر أسماه «مكسيكو» ولم يذكر سبب ذلك.
لم تكن تسمية الثعالب تحيلها إلى حيوانات أليفة، أو أي شيء من هذا القبيل؛ إذ لم يكن أحد يدخل إلى الأقفاص قط سوى والدي، الذي أصيب بتسمم في الدم مرتين جراء ما ناله من عضاتها. أما أنا فكنت أراها حين أجلب لها الماء تجوس جيئة وذهابا على طول الدروب التي صنعتها داخل الأقفاص، ولا تصدر ضباحا إلا نادرا - كانت تدخر ذلك لليل، حينما تشكل جوقة تجمعها نوبة اهتياج - لكنها كانت دائما تراقبني، بأعينها المتوقدة، الصافية صفاء الذهب، فوق وجوهها الحاقدة المدببة. كانت جميلة بأرجلها الرقيقة وذيولها الأرستقراطية الأنيقة، وفروها الفضي البراق المنتثر فوق أسافل ظهورها الغامقة - سبب وصفها بالفضية - لكن جمالها كان يتجلى على نحو خاص في أعينها الذهبية ووجوهها المسحوبة بحدة متقنة والتي توحي بعداء صرف.
إلى جانب حمل الماء، كنت أساعد والدي عندما يجز العشب الطويل، ويحش نبتات الزربيح الأبيض والمسك المكسيكي المزهرة، التي كانت تنمو بين الأقفاص. كان هو يحش بالمنجل وأنا أجمع ما يحشه في أكوام. ثم يأخذ مذراة وينشر العشب المقصوص لتوه فوق أسقف الأقفاص، كي تكون الثعالب في جو ألطف ويحمي معاطفها الطبيعية التي كانت تستحيل إلى اللون البني من كثرة التعرض للشمس. لم يكن أبي يتحدث إلي إلا في شيء يتعلق بالشغل الذي نقوم به. وهو في هذا يختلف كل الاختلاف عن أمي التي كانت - حين تشعر بالابتهاج - تتحدث إلي عن كل شيء - اسم الكلب الذي اقتنته حينما كانت فتاة صغيرة، أسماء الفتيان الذين خرجت بصحبتهم حينما كانت صبية يافعة، وأشكال فساتين معينة كانت لديها - لكن لم يكن يسعها أن تتصور إلام وصل حال كل هذه الأشياء. في المقابل، كانت كل أفكار أبي وقصصه خصوصية، وكنت أستحي منه فلا أطرح عليه أية أسئلة. مع ذلك، كنت أعمل تحت ناظريه عن طيب خاطر، شاعرة بالفخر. حدث ذات مرة أن جاء بائع علف إلى الأقفاص كي يتحدث إلى والدي، وسمعت والدي يقول: «أود أن أعرفك بعاملي الجديد.» استدرت وجعلت أجمع العشب في همة، ووجهي يتورد سرورا.
قال البائع: «لا بد أنك تمزح، اعتقدت أنها مجرد فتاة.»
بعد أن قمنا بجز العشب، بدا فجأة أن السنة قد مر منها وقت طويل. كنت أسير فوق بقايا العشب في وقت مبكر من المساء، بينما السماء مخضبة بالحمرة وسكون الخريف يعم الأرجاء. وحينما انتهيت من دفع وعاء المياه إلى خارج البوابة وسكرتها بالقفل، كان الظلام على وشك أن يخيم. في إحدى الليالي في هذا التوقيت، رأيت أمي وأبي واقفين يجمعهما حديث عند الممر الترابي القصير الذي كنا ندعوه الممشى، أمام الحظيرة. كان والدي عائدا لتوه من المجزر، مرتديا مريلته الفظة المخضبة بالدماء، يحمل في يده ملء دلو من قطع اللحم.
अज्ञात पृष्ठ