صدرت منا غمغمة. لكن جلاديس هيلي قالت بصوت ناعم: «بلى يا آنسة دارلينج!» «حسنا، لماذا لا أراها تلعب أبدا معكن؟ أراها يوميا تقف في الرواق الخلفي، لا تلعب أبدا. هل تعتقدن أنها تبدو سعيدة للغاية بوقوفها هناك؟ هل تعتقدن أنكن ستسعدن للغاية إذا ما تركتن وحيدات هناك؟»
قوبل سؤالها بالصمت. كنا نقف قبالة الآنسة دارلينج، في منتهى الاحترام والهدوء، شاعرات بالضجر من غرابة سؤالها. عندئذ قالت جلاديس: «إن مايرا لا تستطيع الخروج معنا يا آنسة دارلينج؛ لأن عليها أن تعتني بأخيها الصغير!»
ردت الآنسة دارلينج متسائلة: «أوه، حسنا، ينبغي أن تحاولن أن تكن أكثر لطفا معها على أية حال، ألا تعتقدن ذلك؟ ستحاولن أن تكن أكثر لطفا معها، أليس كذلك؟ أعلم أنكن ستفعلن.» يا للآنسة دارلينج المسكينة! سرعان ما اضطربت مناشداتها، وتحولت محاولاتها لإقناعنا إلى ثغاء سخيف واستعطاف مرتبك.
حينما ذهبت همست جلاديس هيلي بصوت خافت: «ستحاولن أن تكن أكثر لطفا، أليس كذلك؟ أعلم أنكن ستفعلن!» ثم مطت شفتها كاشفة عن أسنانها الكبيرة وصاحت في انفعال: «لا آبه إذا كان المطر يهطل أو الجليد يتساقط.» ومضت تكمل بقية المقطع إلى آخره، واختتمته بدورة استعراضية بتنورتها الاسكتلندية الصوفية ذات المربعات. كان والدها السيد هيلي يدير متجرا للأقمشة وملابس السيدات، وكان السبب فيما نالته ابنته من زعامة في صفنا يعزى جزئيا إلى ما ترتديه من تنورات زاهية ذات نقوش مربعة، وقمصان من «الأورجانزا»، وسترات مخملية ذات أزرار نحاسية، ويعزى - إلى جانب ذلك - إلى النضج المبكر لنهديها، وإلى قوة شخصيتها التي تتميز بالصرامة والرقي في الوقت نفسه. بعد ذلك ما لبثنا أن بدأنا جميعا نقلد الآنسة دارلينج.
قبل ذلك لم نكن نعير كثيرا من الانتباه لمايرا. لكن الآن، ظهرت لعبة جديدة، كانت تبدأ بقول: «فلنكن لطيفات مع مايرا!» ثم نبدأ في السير نحوها في مجموعات منظمة من ثلاث أو أربع فتيات ونردد معا على إثر إيماءة ما من إحدانا: «مرحبا مايرا، مرحبا مايرا!» ثم نتبع ذلك بشيء مثل: «بم تغسلين شعرك يا مايرا، إنه جميل ولامع يا ماي-را.» «أوه، إنها تغسله بزيت كبد الحوت، أليس كذلك مايرا؟ إنها تغسله بزيت كبد الحوت، ألا تشمون رائحته؟»
وبصراحة كانت تنبعث من مايرا رائحة ما، لكنها كانت رائحة عفنة تميل إلى الحلاوة كرائحة الفاكهة العطبة. كان هذا هو مصدر رزق عائلتها؛ متجر متواضع للفاكهة. كان والدها يجلس طوال النهار فوق كرسي بلا ظهر بجانب النافذة، مرتديا قميصا مفتوحا يبرز كرشه الضخم وخصلات الشعر الفاحم التي تؤطر سرته، ويلوك فصوصا من الثوم. لكن إذا دخلت المتجر فستجد السيدة سايلا هي التي تقوم على خدمتك، وكانت تبرز في هدوء من بين الستائر المطبوعة المتهدلة التي تغطي خلفية المتجر. كان شعرها جعدا مموجا أسود اللون، وكانت تبتسم وشفتاها مطبقتان تماما وممطوطتان إلى أقصى مدى لهما، وكانت تخبرك بالسعر بصوت مقتضب، وكأنها تتحداك أن تتجرأ وتتحداها، وعندما لا تفعل، تسلمك كيس الفاكهة وعيناها تشيان باستهزاء صريح. •••
ذات صبيحة شتوية، وبينما كنت أرتقي الربوة التي تقبع فوقها المدرسة في وقت مبكر للغاية، عرض علي أحد الجيران أن يقلني إلى داخل البلدة، التي كنت أسكن في مزرعة تبعد عنها نصف ميل تقريبا. لم يكن يفترض أن أذهب إلى مدرسة البلدة على الإطلاق، وإنما إلى مدرسة ريفية مجاورة يرتادها عدد من التلاميذ لا يتجاوز أصابع اليدين ومعلمة مصابة بشيء من الخبل إثر بلوغها سن اليأس. لكن أمي - التي كانت امرأة طموحة - أقنعت أولي الأمر في البلدة بقبولي شرط أن يدفع والدي مصروفات دراسية إضافية، فالتحقت بمدرسة البلدة. كنت التلميذة الوحيدة التي تحمل معها علبة غداء وتأكل شطائر زبدة الفول السوداني في حجرة إيداع الملابس الخالية ذات الجدران العالية واللون الخردلي، والوحيدة التي كانت تضطر لارتداء حذاء مطاطي ذي رقبة في فصل الربيع، حينما تكون الطرق موحلة. كنت أشعر أنني أواجه خطرا ما جراء ذلك، لكنني لم أستطع أن أدرك تحديدا ما هو.
رأيت مايرا وجيمي وقد سبقاني على الربوة، كانا دائما يذهبان إلى المدرسة في وقت مبكر للغاية، إلى حد أنهما كانا في بعض الأحيان يضطران للوقوف خارج المدرسة في انتظار أن يفتح لهما البواب. كانا يمشيان على مهل، وكانت مايرا تلتفت نصف التفاتة من آن إلى آخر. كنت في كثير من الأحيان أتباطأ بتلك الطريقة آملة أن تلحق بي أي فتاة مهمة فأمشي بصحبتها، لكن لم أجرؤ يوما على التوقف والانتظار. في هذه اللحظة خطر لي أن مايرا ربما تفعل الشيء نفسه معي. لم أدر ما ينبغي لي فعله. لم أكن لأتحمل أن تراني الفتيات وأنا أمشي بصحبتها، ولم أكن راغبة في ذلك أيضا، لكن من ناحية أخرى، لم تكن نفسي منيعة أمام هذا الالتماس الذي تشي به التفاتاتها الآملة الذليلة. وكأن دورا ما كان يصاغ لي لم يكن بوسعي أن أحجم عن أدائه. فقد غمرتني دفعة ممتعة من الرغبة في عمل الخير نابعة من إحساسي بذاتي، وقبل أن أفكر فيما أنا مقدمة على فعله صحت: «مايرا! مرحى، مايرا، تمهلي، معي بعض الفشار المغطى بالكراميل!» وأسرعت الخطو بينما توقفت هي عن السير.
انتظرت مايرا لكنها لم تنظر إلي، كانت في انتظاري ولكن بنفس الطريقة المنطوية المتحفظة التي كانت تقابلنا بها دائما. ربما كانت تظن أنني سأحتال عليها، ربما كانت تتوقع أن أركض بجانبها وألقي بعلبة الفشار خاوية في وجهها! فتحت العلبة ومددت بها يدي إليها. أخذت القليل. توارى جيمي وراءها ولم يأخذ أي شيء من العلبة حين قدمتها له.
قلت في نبرة متفهمة مطمئنة: «إنه خجول. هذا حال كثير من الأولاد الصغار، لكنه سيكبر ويتخلص من خجله هذا ولا شك.»
अज्ञात पृष्ठ