قالت أمي: لكن الجهل، أو السذاجة إن شئت، ليس شيئا طيبا على الدوام كما يعتقد الناس، ولست واثقة من أنه قد يكون مأمون العواقب لفتاة مثلك. ثم أكدت وجهة نظرها، كعادتها، باقتباس اتسم بتفاخر ساذج وطابع عتيق. لم أبد أية ردة فعل، مدركة تماما كيف أن أثر ذلك لا بد وأنه كان بالغا على السيد بيريمان.
لا بد أن الأمسية التي جالست فيها أطفال آل بيريمان كانت في شهر إبريل. كنت أمر بقصة حب طيلة العام، أو على الأقل منذ الأسبوع الأول من شهر سبتمبر، عندما ابتسم لي فتى يدعى مارتن كولينجوود ابتسامة إعجاب متفاجئة، تنم عن رضى مبالغ فيه على نحو ينذر بسوء، وذلك أثناء الاجتماع المدرسي. لم أعرف قط ما فاجأه، لم أكن بغير مظهري العادي؛ كنت أرتدي قميصا قديما، وتصفيفة شعري المموجة الثابتة كانت سيئة للغاية. بعد بضعة أسابيع من ذلك خرجت معه للمرة الأولى، وقبلني في الجانب المظلم من الشرفة الأمامية، يتعين علي قول إنه قبلني في فمي، أنا واثقة من أن هذه كانت المرة الأولى التي يقبلني فيها أحدهم بمثل هذه الطريقة المؤثرة على الإطلاق، وأعلم أيضا أنني لم أغسل وجهي تلك الليلة أو في صباح اليوم التالي، كي أحافظ على آثار تلك القبلات كما هي. (أظهرت أكثر السخافات إيلاما في سير هذه العلاقة برمتها، كما سترى.) بعد شهرين، وبعد بضع مراحل غرامية قطعناها، هجرني؛ فقد وقع في غرام الفتاة التي لعبت دور البطولة معه في مسرحية عيد الميلاد «كبرياء وتحامل».
قلت إنني لن أشارك في الإعداد لتلك المسرحية، وأتيت بفتاة أخرى لوضع مساحيق التجميل بدلا مني، ومع ذلك ذهبت لمشاهدة المسرحية بالطبع، وجلست في الصف الأمامي مع صديقتي جويس، التي كانت تشد على يدي عندما ينتابني الألم والبهجة لرؤية السيد دارسي في بنطاله الأبيض الضيق، والصديري الحريري، وسالفتيه الطويلتين. كانت رؤية مارتن يؤدي دور السيد دارسي ما أثر في بالتأكيد؛ فجميع الفتيات تحب السيد دارسي على أية حال، كما أضفى الدور على مارتن غرورا ورونقا ذكوريا في عيني، الأمر الذي جعل من المستحيل تذكر أنه ليس سوى فتى في السنة النهائية من المدرسة الثانوية، وسيم إلى حد مقبول، متوسط الذكاء (وله سمعة تشوبها بعض الشوائب، بسبب تفضيله لنادي الدراما والفرقة الموسيقية العسكرية للمبتدئين)، تصادف أنه أول فتى، أول فتى حسن المظهر حقيقة، يظهر اهتماما بي. في الفصل الأخير يحظى بفرصة لعناق إليزابيث (ماري بيشوب، ذات البشرة الباهتة والقوام الدميم، ولكن لها عينين كبيرتين نابضتين بالحياة)، وخلال ذلك اللقاء الواقعي غرست أظافري بمرارة في راحة جويس التي كانت ممسكة بيدي.
مثلت تلك الليلة البداية لشهور من البؤس الحقيقي، الذي ألحقته بنفسي بطريقة أو بأخرى. لماذا ننجذب إلى الإشارة إلى هذا الضرب من الأمور باستخفاف وتهكم بل وبدهشة، لدى اكتشاف أن المرء مثقل بتلك المشاعر السخيفة في الماضي غير المسئول عنه؟ هذا ما ننزع إلى فعله عند الحديث عن الحب؛ أما حب المراهقة، فبالطبع الأمر حتمي غالبا؛ ستظن أننا كنا نجلس في فترات ما بعد الظهيرة المثيرة للضجر، نسلي أنفسنا بتلك الذكريات المثيرة من الألم. لكن لا يشعرني بالسعادة حقيقة - بل والأسوأ، لا يدهشني فعلا - أن أتذكر تلك الأشياء الحمقاء والحزينة والمخجلة إلى حد ما التي فعلتها، والتي يفعلها من يقع في الحب دوما. تسكعت حول الأماكن التي ربما يوجد بها، ثم تظاهرت بعدم رؤيته، وفي محادثاتي اقتربت عدة مرات بطرق غير مباشرة على نحو سخيف من ذكر اسمه عرضا، مستمتعة بما يصاحب ذلك من لذة مريرة. رأيته في أحلام اليقظة مرات لا حصر لها، في واقع الأمر إذا أردت التعبير عن المسألة حسابيا، فربما أمضيت من الساعات الطوال في التفكير في مارتن كولينجوود عشرة أمثال الوقت الذي أمضيته معه على الإطلاق. أجل، أمضيتها أتحرق شوقا إليه وأذرف الدموع من أجله. هيمنت فكرة وجوده على فكري بضراوة، وبعد برهة، رغما عني. فإذا كنت بالغت بشدة في مشاعري في البداية، فقد أتى الوقت الذي سأشعر بسعادة الفرار من تلك المشاعر، فقد أضحت أحلام اليقظة المبتذلة محزنة ولم تعد حتى تواسيني بصفة مؤقتة. وفيما أحل المسائل الرياضية كنت أعذب نفسي - بصورة روتينية تماما وأنا مغلوبة على أمري - بذكرى مارتن بتفاصيلها وهو يقبل عنقي. كانت لدي ذكرى تفصيلية عن «كل شيء». ذات ليلة اجتاحتني رغبة ملحة لابتلاع كافة أقراص الأسبرين الموجودة بخزينة الحمام، لكنني توقفت بعد أن ابتلعت ستة أقراص. •••
لاحظت أمي أن ثمة خطبا ما وأعطتني بعض أقراص الحديد. قالت: «هل أنت واثقة أن كل شيء على ما يرام بالمدرسة؟» المدرسة! وعندما أطلعتها بشأن انفصالي أنا ومارتن، كل ما قالته كان: «حسنا، هذا أفضل كثيرا. لم أر مطلقا فتى مفتونا بنفسه هكذا.» قلت متجهمة: «إن مارتن يملك من الغرور ما يكفي لإغراق سفينة حربية.» ثم صعدت إلى أعلى وأخذت أبكي.
كانت الليلة التي ذهبت فيها إلى آل بيريمان ليلة سبت. عملت كجليسة أطفال لديهم مرات كثيرة ليالي السبت لأنهما أحبا التنزه بالسيارة إلى بايلي فيل - وهي بلدة أكبر كثيرا ونابضة بالحياة أكثر، تبعد ما يقرب من عشرين ميلا - وربما تناولا العشاء وشاهدا عرضا فنيا. عاش آل بيريمان في بلدتنا منذ عامين أو ثلاثة أعوام فقط؛ أحضر السيد بيريمان للعمل كمدير وحدة بمصنع الأبواب الجديد، ومكث هو وأسرته، باختيارهم على حد اعتقادي، وعاشوا غرباء على المجتمع؛ أغلب أصدقائهما كانوا أزواجا صغار السن مثلهما، ولدوا في أماكن أخرى، وعاشوا في منازل على طراز منازل المزارع فوق تلة خارج البلدة حيث اعتدنا الذهاب للتزلج. في ليلة السبت تلك كانا قد دعوا زوجين آخرين لاحتساء الشراب قبل أن يتوجهوا معا إلى بايلي فيل لحضور افتتاح نادي عشاء جديد، كانوا جميعا مبتهجين إلى حد ما. جلست أنا في المطبخ وتظاهرت بأنني أستذكر دروس اللاتينية. في الليلة الماضية كان «حفل الربيع الراقص» بالمدرسة الثانوية. لم أذهب إلى الحفل، بما أن الفتى الوحيد الذي طلب مرافقتي كان ميلارد كرومبتون، والذي طلب كذلك من الكثير من الفتيات مرافقته، حتى إننا شككنا في أنه يتقرب إلى فتيات الصف بأكمله بترتيب الحروف الأبجدية. أقيم الحفل الراقص في أرموريز، والذي كان لا يبعد سوى نصف شارع عن منزلنا، استطعت رؤية الأولاد وهم يرتدون البذلات الداكنة، والفتيات يرتدين ثياب المناسبات الطويلة الفاتحة اللون تحت المعاطف، وهم يمرون برزانة أسفل مصابيح الشارع، ويتجنبون آخر ندف الثلج. بل إنني تمكنت من سماع الموسيقى ولم أنس حتى هذا اليوم أنهم عزفوا أغنية «راقصة الباليه»، وكذلك - أغنية قلبي المتألم - «قارب بطيء إلى الصين». هاتفتني جويس هذا الصباح وأخبرتني بطريقتها السرية (كما لو كنا نتحدث عن داء مستعص أعاني منه) أن إم كيه كان بالفعل برفقة إم بي بالحفل، وكانت ترتدي ثوب مناسبات لا بد وأنه مصنوع من مفرش مائدة أحدهم بلونه الأصفر الباهت، وكان متهدلا عليها ليس إلا.
عندما خرج آل بيريمان وأصدقاؤهم، دخلت أنا إلى حجرة المعيشة وقرأت مجلة. كنت يائسة على نحو قاتل. كانت الحجرة الفسيحة خافتة الإضاءة، بألوانها الخضراء والبنية كأوراق الشجر، خلفية بسيطة لتطور المشاعر، وكأنك ستصعد إلى خشبة المسرح مثلا. في المنزل كانت المشاعر على ما يرام، لكن بدا دائما أنها تدفن تحت أكوام الملابس التي بحاجة إلى رتق، إضافة إلى الكي، وترتيب أحجيات الصور وجمع الصخور مع الأطفال. كان المنزل من النوع الذي يحتك فيه الأفراد دائما أحدهم بالآخر عند الدرج، ويستمعون إلى مباريات الهوكي وحلقات سوبرمان في المذياع.
نهضت من مكاني ووجدت نسخة من «رقصة الموت» خاصة بآل بيريمان، فوضعتها على مشغل الموسيقى وأطفأت ضوء حجرة المعيشة. كانت الستائر مسدلة جزئيا. لمع ضوء من الشارع على نحو مائل على زجاج النافذة، مشكلا مستطيلا ذهبيا رفيعا خافت اللون، تتحرك داخله ظلال الأغصان العارية التي أدركتها رياح الربيع العليلة القوية. كانت ليلة متوسطة العتمة حين تذوب آخر الثلوج. منذ عام مضى كانت كل هذه الأشياء - الموسيقى، والرياح والظلمة، وظلال الأغصان - تمدني بسعادة هائلة، لكنها لا تفعل ذلك الآن، بل تستدعي داخلي أفكارا مألوفة مللت منها، وشخصية على نحو مهين، فيتملكني اليأس، وأدخل إلى المطبخ وأقرر أن أثمل.
كلا، لم يكن الأمر كذلك. دخلت إلى المطبخ لأبحث عن مشروب الكولا أو شيء من هذا القبيل في الثلاجة، لأجد هناك فوق مقدمة الطاولة ثلاث زجاجات طويلة جميلة، جميعها ممتلئة إلى نصفها تقريبا بمشروب أصفر، لكن حتى بعد أن نظرت إليها ورفعتها لاستشعار وزنها لم أكن قد قررت أن أثمل بعد؛ وهنا قررت أن أحتسي شرابا.
في تلك اللحظة ظهر جهلي، سذاجتي الكارثية. صحيح أنني رأيت آل بيريمان وأصدقاءهم يحتسون الخمر كما أحتسي أنا المشروبات الغازية، لكنني لم أطبق هذا السلوك على نفسي، بل نظرت إلى المشروبات الكحولية باعتبارها شيئا يشرب في أوقات المحن، ويوكل إليه الوصول إلى نتائج متهورة، بطريقة أو بأخرى. وما كان موقفي ليكون أقل عفوية حتى لو كنت الحورية الصغيرة التي تحتسي الإكسير الشفاف الذي أعطته إياها الساحرة. وبعد نظرة إلى وجهي العازم بالنافذة السوداء أعلى الحوض، صببت القليل من الويسكي من كل زجاجة (أعتقد الآن أن الزجاجات كانت تحوي نوعين من ويسكي الجاودار ونوعا من الويسكي الاسكتلندي باهظ الثمن) حتى امتلأت كأسي، ولما لم أر في حياتي أحدا يصب الخمر، لم تكن لدي فكرة أن الناس في العادة يخففون الشراب بالماء أو الصودا وغير ذلك، وقد رأيت الكئوس التي يحملها ضيوف آل بيريمان ممتلئة تقريبا عندما كنت أمر بحجرة المعيشة.
अज्ञात पृष्ठ