إهداء
السلم هو جثة الحرب
مقتل الحارس
أهل الكهف
البحيرة
الغرباء
خيانة النص
خيانة النص مرة أخرى
الرجل لا يغضب لكنه يتعلم
الجذور «تيري»، «الكا»، وأشياء أخرى
لا، لا، لا
البداية
أزولوما الحرب
إهداء
السلم هو جثة الحرب
مقتل الحارس
أهل الكهف
البحيرة
الغرباء
خيانة النص
خيانة النص مرة أخرى
الرجل لا يغضب لكنه يتعلم
الجذور «تيري»، «الكا»، وأشياء أخرى
لا، لا، لا
البداية
أزولوما الحرب
رماد الماء
رماد الماء
تأليف
عبد العزيز بركة ساكن
إهداء
إلى مريم بنت أبو جبرين
أمي
عبده بركة
السلم هو جثة الحرب
لا شيء، لا شيء.
لا شيء غير هياكل الأشجار المحترقة.
أشجار الحبحب، المهوقني، المانجو، والتك العملاقة.
لا شيء غير هياكل من الفحم والرماد.
أما القشدة، الأناناسات، البابايات، غيرها من الشجيرات الهشة التي تنمو على جوانب التلال الخصيبة الممتدة ما بين الدغل الأوسط والشرقي عبر قرى «لالا». «شاري». «فترا».
وكهوف «الكا» المتفرقة فيما وراء بحيرة التماسيح، قبيلة «الكا» المرعبة تمتد خلفها سلسلة جبلية وعرة، يقولون إنها أم البحيرات، تحتضنها منذ أن خلق الله رجلا أسود جميلا وسيدة سوداء ورمى بهما من السماء في أفريقيا على قمة شجرة جوغان، هذه الشجيرات الهشة لا وجود لأشباح هياكلها؛ لأن النيران التهمتها تماما، النيران التي يطفئها المطر ثم تشعلها قذائف الراجمات، قنابل الأنتينوف البرميلية والشحنات النووية الصغيرة محدودة الأثر التي تمت صناعتها لتفعيل الحروب التقليدية في رقعة من الأرض محدودة عشرة أعوام على التوالي، الأرض سوداء ليس نتيجة خصوبة أو أن الله خلق لها طينا في بشرة الإنسان، لكن لأنها محترقة، أيضا تتناثر عليها بين مكان وآخر شظايا المقذوفات المدفعية الهاون/الراجمات/الدوشكا/م. د.
فوارغ فوارغ فوارغ.
جثث الآلات العسكرية الثقيلة، إطاراتها، هياكلها، خوذات العسكر، البنادق المهشمة، الألغام الفاسدة، وهي طفلات غير شرعيات لألغام لئيمة صامدة تنتظر تحت الأرض: تسبح بحمد الله، عسى الله أن يرزقها عثرة، هياكل عظمية.
هياكل عظمية يا حبيبتي.
هياكل عظمية.
قطط مشوية.
قردة مشوية.
صقور مشوية.
أرانب مشوية.
أسد، كلب، قط ، ولد، ولد، ولد، نساء مشويات ينمن قرب جنائز الآلة.
أشجار مشوية.
أحذية، أحذية عليها بقايا أرجل بترتها الألغام.
أحذية تدوس على أزرار دبابات هالكة.
أحذية هالكة، أحذية عسكر يا حبيبتي.
عسكر، أموات، أموات.
مقابر جماعية، هاونات معطوبة.
جندي محترق نصفه الأعلى، نصفه الأسفل في الخندق، سحلية لا رأس لها، سحليتان، خوذ حديدية بداخلها رءوس، حراب ودروع من جلد وحيد القرن.
نمل شديد السواد منكمش على نفسه، الأرض سوداء.
يدل على وجود القرية الأواني الفخارية التي دائما ما يحملها البشر البائدون مهمة أن تعلن عنهم في الزمن القادم، زمن ليس بزمانهم، يدل عليها الأطفال المقليون المشويون المتناثرون بين هنا وهنالك، تدل عليهم بقايا كهوف.
تدل عليها قرب الماء المشوية.
تدل عليها الأغنام والأبقار المشوية.
تدل عليها الدجاجات وهي ريش الآن منثور. يدل عليها طفل على صدر أمه، هيكلان يتحاضنان تحت هيكل شجرة ويتساقط الرماد منها عليهما.
سلاما.
سلاما.
كلما عبثت بها ريح لم تمت، هل تموت الريح؟ ثم، ثم.
عند منتصف الوادي على بعد مسيرة أيام قليلة من مدينة نيلو الحدودية يوجد حطام لمبنى، شيد من الحجارة والمواد المحلية الأخرى، يبدو أنه المبنى الوحيد بالوادي شيد بالحجارة، المبنى المهدم، لكنه علامة تدل على أثر إنسان. واضح أيضا أنه اتخذ في وقت ما حامية مؤقتة للجيش، فبقايا موتهم تدل عليهم، تشير إلى حياتهم السابقة.
خنادق، فوارغ القذائف، صفائح الأطعمة الجاهزة؛ بعضها فارغ، بعضها محترق بما فيه، هياكل عظمية، خوذات الحديد بها جماجم ناضجة، بقايا سترات عسكرية، جسد مشنوق على شجرة مانجو وهي على شيء من الخضرة، أوراقها مشوهة وبليدة تنمو على أشكال مرعبة.
الجثة المشنوقة.
جسد جاف تماما لم تمسسه حتى الأطيار الجارحة أو الديدان، لشاب في مقتبل العمر لم تنبت له لحية بعد ولا شوارب، كان عاريا، على عنقه تتدلى تميمة كبيرة بين نابين لنمر أبيض كالبرد، شعره مرسل، أشقر. أيضا بسهولة يمكن التأكد من أن له عينا واحدة فقط، الأخرى مفقوءة. إذا جاز - وهذا مستحيل بالطبع - لأحد أبناء القرية أن يصحو من موته أو يأتي من حيث ادخره الله ورأى هذه الجثة، لصاح في ألم قائلا: إنه بانارودنا.
إنه دائما أسوأ الناس حظا.
كانت الريح تدور في المكان وتصر صريرا مرعبا، تعبث برماد الأشياء، تعمي أعين الموتى الفارغة، أعين الدبابات المحترقة، أعينها السرية جدا، لا أثر للحياة في الأرض؛ لا إنسان، لا حيوان، لكنك يا حبيبي إذا تطلعت إلى السماء بعينيك الحلوتين لرأيت من وقت لآخر أسرابا من النسور الصلعاء تدور في حلقات، فاردة أجنحتها تحملها تيارات الهواء حيثما شاءت. هنالك أيضا أسراب الطيور المهاجرة تعبر المكان متجهة نحو الجنوب أو الشرق، نحو الغرب، إنها لا تهبط إطلاقا. أما في الليل، الليل يا حبيبتي زهرة تعشقينها، دائما الليل يا حبيبتي قنديل، الليل نعاس لذيذ وقبلة، أما في الليل بعد أن يختفي آخر شعاع خصه الله بالشمس، وهو خير الخاصين، عندها يا حبيبتي ...
عندها يحيا الموتى.
يتمطون.
تطقطق عظامهم الجافة العطشى موقظة البنادق والآلات الحربية المعطوبة، فيرعون الألغام، يبنون الحواجز الترابية والأسلاك الشائكة، يطلقون قذائف الهاون والراجمات في الهواء فيحيلون الليل الساكن الساكت الشجي، ليلك الجميل، ليل عينيك السنجابيتين، فيحيلون ليلك جمرة كبيرة مستعرة، يقتلون بعضهم البعض، ينشدون ممجدين الظلام والكلاب الضالة، لاعنين مثقاب الداعرات بمنهاتن ومومباي ومدينة ود مدني وتسني، حتى إذا بزغ الفجر بلياليه العشر عادوا إلى موتهم، ماتوا فيه موتا أشد سكوتا وسكونا من موتهم الأول.
فوق الأرض بقليل، دون السماء إلى أعلى الهضبة توجد البحيرة، حليقة من العشب والشجيرات التي تحيط بها في زمان ما قبل.
ماء البحيرة غاية الصفاء، يمكن رؤية قاعها بكل سهولة ويسر، لكن الموت، الموت، الموت لمن شرب من مائها؛ لأن شيطانا كيميائيا ينام فيها منتشرا بين مسام مائها.
المطر يهطل بين الحين والحين ليسقي الأرض التي لا ترتوي، يغسل الأشجار، الآليات، والجثث من الرماد والغبرة العالقة بها، يداعب الموتى مضيئا إياهم بالبرق، هي لعبة يسميها الأطفال فيما قبل: غمضت لبدت ...
تنبت نباتات غريبة لا عهد للوادي بها، تجري الخويرات بماء أسود ثقيل لتصب في النهر البعيد في البلاد المجاورة، تخنق الأسماك، يصاب المواطنون بالإسهال الذي يعالج بالموت.
يا حبيبتي، الموت البارد حيث لا دم فيه هو ثمن السلام الدائم.
مقتل الحارس
الوقت منتصف النهار، هو مرهق، عطشان، جوعان، يمضي إلى الأمام، لن يشرب، لو قليلا من الماء؛ لأن التجربة علمته أن شرب الماء على الجوع يصيبه بالتواء في أمعائه، حدث له ذلك عدة مرات.
الماء موجود في الأمكنة حوله، ولو أن المطر قل هطوله في الأيام الثلاثة الأخيرة، برك الماء لم تجف، الخويرات الصغيرة ما زالت تحتضن بعضا من الماء، تجري الخويرات عند هطول المطر تجاه بحيرة التماسيح، وهي بحيرة صغيرة غير موضحة في الأطلس لا يعرفها الجغرافيون، لكن الخريطة التفصيلية للمنطقة المقفولة التي سرقها من دار الوثائق القومية تبين البحيرة، تعطي أدق التفاصيل عنها؛ عمقها، مساحتها، العدد التقريبي للتماسيح التي تسكنها، أصلها، فصلها. التماسيح هي ما يميز هذه البحيرة عن غيرها، التماسيح الأكثر شراسة في القارة كلها، آكلة لحوم البشر، تسببت هذه التماسيح قبل عشرين عاما في إبادة قرية بأكملها حينما زحفت في جماعات جائعة نحو القرية تختطف الأطفال، والنساء، والشباب أيضا، تسعة وتسعون تمساحا.
كان هذا سببا ذكرته الحكومة المركزية في الشرق في تعليلها لنقل مائة قرية من الدغل الشمالي والأوسط تخوم المدن الحضرية في الشرق. لو أن الهدف الأساسي من الترحيل بالتأكيد لم تقله الحكومة وتتهم كل من يشير إليه بالتحريض وإثارة الفتن وموالاة الدول المعادية بل الخيانة العظمى، كان سبب الترحيل يتمحور حول مسح الدغليين، تضييع هويتهم الثقافية والعرقية ودمجهم في ثقافة الأغلبية الحاكمة في الشرق، بل كما يؤكد بعض الدغليين الذين نالوا قدرا من الثقافة تجنيدهم لحماية ثقافة الشرقيين وتبنيها والدفاع عنها ومحاربة ثقافتهم الخاصة، بدعوى أنها ثقافة وثنية قديمة بائدة، ما برم بجيل غير صنم شيده الشيطان على شط النهر العجوز، غير أن كثيرا من القبائل قاومت الترحيل واعتصمت بالدغل والأحراش.
يحمل على ظهره سريره الجوال، ناموسيته وبعض الملابس، بعض الأطعمة المعلبة والمجففة، زودته به أمه ، أمه التومة، اسمها قبل التهجير أنجو دورنا، هاجرت وهي صغيرة مع أسرتها من أواسط الدغل الأوسط، الآن تنكر أصولها، جدتها كما هو مؤكد لكبار المهجرين من قبيلة الكا، يحمل ضمن أمتعته كاميرا كوداك حديثة، غالية الثمن، لديها قدرة على التقاط صور الأشياء وتسجيل أصواتها من على بعد سحيق، تستطيع العمل في كل الظروف؛ تحت الماء، عند العاصفة، تحت درجة حرارة عالية، عند درجة رطوبة عالية، بالليل، بالنهار، تعمل وحدها ببرمجة بسيطة سهلة.
تستطيع أيضا.
كانت خفيفة الوزن صغيرة الحجم، إذا أضيف إلى الحمل سلاحه الشخصي وهو مسدس صغير ماركة النجمة، سيزن الحمل ثلاثين كيلو جراما فقط، أي نصف وزنه هو بالتمام، حدد هذا الوزن سابقا بصورة علمية مدروسة، أخذت في الاعتبار المسافة، نوعية التربة، وعورة المسالك، حالة الطقس.
فوق ذلك كله وزنه الشخصي واعتبارات الضرورة.
هو رجل شجاع ثري جدا من أسرة متجذرة في المال، متجذرة في الترحال والمغامرة، يكفي أن جده الأكبر تيه تيه أكله دب في أحراش التبت، كيف؟!
لا أحد ...
كان يمشي متوغلا في أحراش الغابة، عبر تربتها الصخرية الحمراء على أشواك السنت، النخيل المتسلق، أشواك الأيفوربيا المتوحشة، حذاؤه الكولمان الجيد سيقيه لدغات الثعابين السامة والعناكب والقراد وأيضا السحالي؛ ذات الحذاء الذي سيخوض به برك الماء الراكدة، حقول الطين الحمراء، سيجد نفسه في مواجهة أرض فضاء شاسعة، ذلك لأول مرة منذ أن أطلق ساقيه للمسافة. عندما تسلق ضفة الخور الترابية العالية، رأى على البعد مبنى تحيط به أشجار عالية خضراء، جلس على حجر، أخذ يتفحص تفاصيل الخريطة، هي تشمل أدق خصائص المكان؛ علاماته، قناطير التراب، ضفة الخور العالية، وقف عليها قبل قليل، وجد المبنى، كتب في تفسيره: مستر ومسز جيني، البدائيان.
عندما أدار صفحة التفسيرات التفصيلية وجد كليمات تشير إلى تاريخ تشييد المبنى، مواد بنائه، عن ميول جيني البدائية، أصلهما أمريكا، إنهما عالمان خطيران في السلاح الحديث، اختفيا في ظروف غامضة، هنالك أقاويل غير مؤكدة بل خيالية عن أحفادهما، ولو أن الشروحات بدأت غريبة ومثيرة للأسئلة وروح المغامرة، إلا أنه لم يقف عندها كثيرا فهو شخص عملي ولا هدف له الآن غير استكمال الجزء العملي من رسالة الدكتوراه التي سيقدمها بعد شهرين للمجلس العلمي، بعد ذلك بشهرين ستناقش الرسالة إذا قبلت. سيتحقق حلم عمره، يصبح محاضرا في الحياة البرية، كما أنه لا يميل إلى ما يسميه بسخافات الخواجات، بدائية، مشاعية، وجودية، وأشياء أخرى يجد نفسه مدفوعا لقراءتها دون لذة، بل ويستطيع أن يقول لصديقه الصادق الكدراوي: إنني لا أفهم فيها شيئا.
عندما أدرك بوابة المبنى المصنوعة من قنايات البامبو، أنزل ما بظهره من حمل على كومة من المحاريب، تمطى، تفحص المكان بعين سائلة؛ الباب القديم الغارق في بركة من الوحل، المكان شائخ ومهجور هجرانا تاما، صامت كلوحة رديئة، كجثة، لا أثر لإنسان.
تمتم بتعويذتين قصيرتين تفيدان في دخول الأماكن المهجورة المعزولة التي كثيرا ما يسكنها الجن والشياطين وخلافهم من العفاريت، تبسمل، تلا بصوت مسموع أسماء أهل الكهف: مكسيما.
ثمليخا.
مرطونس.
نينوس.
ساريوليس.
ذو نواس.
فليستطيونس، هو الراعي والراعي «واعي».
قمطير أو حمران أو ريان هو كلبهم.
ثم توكل على الله، والله خير من يتوكل عليه. دفع الباب، لكن الباب انهار انهيارا تاما متكوما على بركة من الطين مصدرا هديرا مفزعا، ما جعله يقفز مبتعدا عن رشاش الماء وشظايا البنيان المهدود، لكنه لم يستطع الدخول، جثة الباب أصبحت عقبة تمنعه الولوج؛ لأن شجرة شوكية عملاقة نمت خلف الباب مباشرة مغطية مساحة شاسعة من الأرض، كانت شبه زاحفة، لم ير مثلها في حياته من قبل. المبنى يتوسط سياجا ضخما من أعمدة التك والمهوقني، تتعارض عليها عيدان القنا والبامبو مكونة مربعات صغيرة «تتشعبط» عليها المتسلقات الاستوائية دائمة الخضرة، ذات أزهار جذابة، أوراق كثيفة عريضة تعتم السياج فلا يمكن رؤية ما بالداخل.
تمشى قليلا لصق السياج محاولا تفحص ما بالداخل؛ المحريبات وعشيبات الحسكنيت وما يسميه قوم الدغل الأوسط بالماجا، هي عشبة لها أشواك تنطلق كالسهام نحو الفريسة أو كل شيء يمس الماج، لكنه رغم هجوم الماج والحسكنيتات وأشواك النخيل المتسلق استطاع أن يميز الصخور الحمراء التي بني منها المبنى القديم المشحون بأسرار أزمنة تليدة ذات شيخوخة بائلة، تحيط به أشجار المانجو والموز في فنائه، هنا وهناك ترى بعض نباتات الأناناس ...
هو لا يعرف شيئا عن مستر ومسز جين البدائيين، ولا يعرف شيئا عميقا عن البدائية غير أنها مرحلة تتعلق بأجدادنا القدماء كما تعلم من معلم التاريخ في المرحلة الابتدائية، غير أنه شيء ليس من اهتماماته، لكنه لم يتردد ثانية في الولوج داخل المكان عندما وجد معبرا صغيرا يمكنه من الدخول إذا حمى رأسه وظهره، استخدم كفتيه في الحبو، فعل، هربت بعض الأرانب البيضاء والسحالي من قرب رجليه، قردان من على شجرة مانجو يرقبانه بحذر واستغراب، لم يرهما، دار حول المبنى دورات عدة، كانت نوافذه الكبيرة مغلقة لا منفذ للداخل غير أبواب موصدة. حسب تقديري يحتوي المبنى على ما بين ثلاث إلى أربع حجرات ومطبخ، بالإضافة إلى قاعة كبيرة في الوسط وحجرات أخرى صغيرة متداخلة في ذات المبنى الأساسي، توجد بناية خارجية عرف أنها تمثل مرحاضا، جذب باب المرحاض للخارج، صر صريرا بائسا، دون أن يقرأ إحدى التعويذات السبع التي تفيد في دخول الأماكن المغلقة المهجورة، دون أن ينادي بأسماء أهل الكهف أو يذكر مرطونس، يا صاحب البقية!
بينما هو في شأن أن يقول بسم الله، إذا به يسمع شيئا، قبل أن يتبين مصدر الصوت سمع الفحيح، قفز للخلف بحركة رياضية مشهرا بندقيته الصغيرة، مصوبا إياها نحو ظلام المرحاض، لم يسمع شيئا، عندما استدار للرحيل خرجت، كانت حية شديدة الضخامة، جلدها يتوهج مع أشعة الشمس المتسربة بين أفرع الأشجار، كأنها خيط سميك من الحرير مسقي بزيت نقي أسود، طولها يفوق المترين، لم ير مثلها في حياته، كانت جميلة مرعبة، سيطلق النار إذا حاولت مهاجمته أو مالت نحوه، هو لن يبادر، دارت الحية السوداء الجميلة المرعبة حول نفسها دورة واحدة ثم تكومت، سكنت عدا مؤخرة ذيلها، أخذت تبصبص كذيل كلب فخور بسيده. انسحب من المكان بسرعة معيدا بندقيته إلى جرابها في حزامه الجلدي ، هو رجل شجاع عقلاني حينما يكون داخل المدينة، لا يؤمن بالتعاويذ والتمائم، يسميها شعوذة، دجلا وتخلفا. في الجهة الجنوبية توجد شجرة فيكس إلستكا، أوراقها غزيرة، سميكة جميلة، لا يوجد شيء تحت الشجرة، مرت سحلية صغيرة صفراء منزعجة أمامه، اختبأت تحت أجمة من العشب، ثعبان صغير يتسلق شجرة قشطة، قفقفة صقر تأتي إلى مسمعه من بعيد، الساعة تشير إلى الثالثة بعد الظهر، الشمس دافئة نسبة لارتفاع درجة الرطوبة. نصب سريره الجوال بعيد المبنى؛ لأن أسراب البعوض أخذت تحلق في كتلة كبيرة حوله، نصب أيضا ناموسيته، أشعل النار في كومة من الأعشاب في أرض فضاء قربه حتى لا تحترق الغابة، قام بقطع بعض الأخشاب والشوك، صنع منها سياجا صغيرا حول سريره، اعتاد أن يفعل ذلك كل ليلة منذ الثالثة أو الرابعة بعد الظهر. أخرج خريطته، أخذ يدرسها بدقة متناهية كأنه يراها لأول مرة، تقول الخريطة إن هذا المكان يبعد عن أقرب قرية حضرية مسيرة 15 يوما مشيا على الأقدام دون توقف، أي حوالي 54 ميلا، وتوجد بعض القبائل البدائية في مساحة ليست بالبعيدة لكنها غير محددة بدقة، يمكن الوصول إليها بسهولة أكثر من الدول المجاورة، حيث لا تبعد عنها أكثر من عشرة أميال. يبعد هذا المكان عن بحيرة التماسيح حوالي الخمسين ميلا عن طرق شائكة جبلية؛ لأن البحيرة تقع بين منخفضين، ثلاثة جبال تحيط بها من جهة الشرق، الجنوب، والغرب.
المدخل الوحيد للبحيرة عبر النهر ينبع منها، أو عبر مسلك الخويرات الصغيرة تصب فيها، هذا هو المسلك الأكثر أمنا. بنهر البحيرة توجد أيضا بعض التماسيح الخطيرة، كل الإقليم يقع في المنطقة الاستوائية دائمة الخضرة، دائمة الأمطار، كثيفة الأشجار، يوجد بها كل ما خلق الله من حيوان خصيصا للمناخ الاستوائي، تندر الأفيال والأسود وغيرها من الوحوش ذات الأجسام الضخمة، القلة الموجودة منها تعيش في الأماكن حيث تقل الأشجار، أي الأماكن الكاشفة عن الأرض، بها من الطيور الطنان، طوقان، براكيت، مفو، الطاؤوس، بوقير، الوروار، عشرات من الأطيار الجميلة والنسور وأطيار لا يعرف لها اسما، لكنه يخاف البوم؛ يعرف ما يحدث غدا، يعرف الشر المتربص بالإنسان.
البوم لا يصرخ عبثا، البوم يصرخ ليقول.
وبمنطقة الدغل توجد بعض التجمعات البشرية التي قاومت التهجير الحكومي خلال الخمسين سنة الماضية، ودخلت الحكومة في حروبات عرقية قصيرة حسمتها الأمم المتحدة بأن يهاجر من يريد الهجرة طائعا ويترك بغابته من شاء طائعا، هددت دولة لها قوة عسكرية تستحق احترام الجميع بأنها ستتدخل إذا واصلت الحكومة الشرقية سياسة التهجير بالقوة، أعلنت الحكومة المركزية في الشرق ما أسمته سياسة المنطقة المقفولة، من يدخلها غير داعية أو من دون تصريح أو تفويض حكومي يعرض نفسه للسجن أو الجلد أو الاثنين معا، لكن من دخل هذا الدغل المحرم يعرف الجميع أن له عقوبة واحدة؛ أن يختفي للأبد إذا قبضت عليه الحكومة المركزية بالشرق. كان سلطان تيه يعرف ذلك جيدا، لكن سلطان تيه بالذات لا تشك السلطة في عدم ولائه ولو أنه من جذر دغلي بحت، إلا أنه لا يعترف بما يدعى - سريا - بالقومية الدغلية أو ما تسميه الحكومة بالدغليين، هو ملكي أكثر من الملك؛ لذا حصل على تصريح موقع من رأس السلطة مباشرة.
سلطان تيه شاب كثير الترحال، كان يقوم برحلاته بصحبة صديقه الصادق الكدراوي، عبر البلاد الكبيرة شرقا وغربا بالقطار، بالسيارة، ركبا الحمير والعجلات، واحتال عليهما لصوص، وواجها النهب المسلح في الجنوب والغرب. كان الصادق الكدراوي هذا - كما يؤكد سلطان تيه نفسه - «عيني التي ترى، وأذني التي تسمع، وعقلي الذي يحلل»، لكن يعترف سلطان تيه أن الصادق الكدراوي هو «دليلي إلى عالم المرأة الغامض، هو شخص ليس بالإمكان الاستغناء عنه»، تخلف الصادق الكدراوي في هذه الرحلة نتيجة لإصابته بداء التهاب المفاصل المؤلم. كانا من أسرتين غنيتين، كانا منعمين، وكان الصادق الكدراوي ذا حظوة لدى النساء وطارحا نفسه كمشروع للحب والعلاقات البناتية، مشروع - كما يقول الصادق - قومي، أقسم بينه وبين نفسه أن يعاشر من كل قبيلة في البلاد الكبيرة امرأة، أضعف الإيمان قبلة عميقة، إنها دعوة من أجل توحيد البلاد عاطفيا، بلاد بها عجز الدين والمنطق والثقافة والعرق، فلنجرب المرأة.
لا يحبان السياسة ولا يحبان التحدث في الجنس، القبيلة والعرق، المال، الفقر، الدين، إنهما مواطنان في البلاد الكبيرة، حسبهما ذلك.
وضع على النار مزيدا من الأشواك وحطب السنت الخضراء عل دخانها يطرد البعوض والحشرات الصغيرة الطائرة.
توضأ بماء المطر ثم شرع يصلي العصر، ثم أخرج مسبحته وأخذ يردد بعض أسماء الله الحسنى، اعتاد أن يتلو بعض الأوراد التي أخذها عن أبيه الذي يتبع طريقة صوفية لها طقسها الخاص والعميق، الآن منذ أن بدأ رحلته نحو بحيرة التماسيح استعاض عن الأوراد بتعاويذ تفيد في تجنب الأرواح الشريرة، في المدينة كان يكفر بها، وبعد أن حوط نفسه آمنا شرور الأشرار أدار مؤشر الراديو الصغير إلى ال
BBC
الإذاعة الوحيدة التي يصدق أخبارها ويثق فيما تقوله من خبر ويراسلها أيضا.
مثل كل ليلة قضاها بهذا الدغل كانت الذئاب تحوم حوله وهي تقفقف، ومسدسه ماركة النجمة دائما معد لإطلاق النار، لكنه لم يستخدمه إلى الآن، هو شخص حسن الحظ لم يهاجمه إلى الآن حيوان مفترس، نعم، يقل بالغاب الجاموس - هي حيوانات عدوانية بطبعها - لكن الذئب، لكن كلب، السبع، اللبوءة؟!
هل لدعوات أمه الطيبة التومة شأن؟ وإلا ما سبب سكون حية المرحاض السوداء التي بإمكانها فعل ما تشاء؟! حلق عليه وطواطان، ضحك في ذات نفسه، كان طفلا في سن المراهقة يصحبه عدد من أصدقاء الطفولة المراهقين يحملون مسحوق لحم الوطواط، مخلوطا برماد ذيل السحلية وهم يختبئون خلف نباتات العشرة على ضفة خور المقابر الكبير حيث يقضي الناس حاجاتهم، وكانوا ينتظرون نفيسة الجميلة بنت الأستاذ القادمة حديثا من المدينة الكبيرة، ستأتي في صحبة والدتها لقضاء الحاجة، سيضع الأطفال المراهقون خليط الوطواط والسحلية على بول نفيسة الجميلة حتى لا تستطيع نفيسة الجميلة النوم ما لم يضاجعها أكثر الصبية حظا، ولسخرية القدر جاءت أخته الرضية وتبولت بمكان لم يره منها هو، كانت جميلة، دائما ما يحلم صديقه حماد بمعانقتها. كان حماد في موقع ليس بالبعيد عنها، عندما قضت حاجتها وغادرت انزلق حماد من تحت العشرة وصب مسحوق السحلية والوطواط على موقع بولها، ثم لما تأكد من أنها اختفت عن الأنظار ذهب إلى مكمن صديقه، همس في أذنه: «كانت نفيسة هنالك، وسكبت مسحوقا على بولها، هيا لنعد. هل سأكون محظوظا الليلة؟»
وكان سلطان تيه يعرف نفسه بأنه الأكثر حظا بين أصدقائه؛ «وسأفوز الليلة أنا بنفيسة ابنة الأستاذ». عندما التقوا صبيحة اليوم الثاني، بادر سلطان تيه رفاقه في فخر: «جاءتني نفيسة في منتصف الليل بعد أن نام كل من في المنزل، وصحبتني إلى منزلها حيث تنام وحدها بالبرندة ووالداها ينامان بالعوضة، إنها وإني وإنها و... و...»
فضحك عليه الأطفال المراهقون ضحكا أثار شكوكه، ولم يعرف مكيدة حماد إلا بعد أعوام كثيرة على الحادثة.
يبدو لسلطان تيه خلف ظلال النار بعيدا خلف شجرة صغيرة خيال شخص، وقبل أن تتأكد الرؤية اختفى الخيال؛ «هل هي أشباح الليل؟ أو لربما دب النعاس في عيني»، لكن عندما تناهى لمسمعه عواء ذئاب في ناحية اختفاء الشبح أمعن النظر، فتراءى لناظريه ما يشبه ومضة برق خاطفة؛ قدح زناد، أو إشعال عود ثقاب، لكنه يعرف على الأقل خمسة أنواع من الحشرات تضيء أثناء طيرانها، كلها توجد بالدغل. عواء الذئب يصبح أكثر إفزاعا، هل اصطادت فريسة ما أم أنها تحوم حول أشخاص/بشر كان بعضهم قربه قبل قليل؟
هو رجل شجاع، طوال هذه الأيام التي قضاها عابرا الدغل لم يصادف أن قابل أحدا غير رجل واحد، قابله قبل يومين، رجل عار كالشيطان، مشعر، طويل القامة، تصادفا ذات صباح عند خور كثيفة أعشابه في طول الإنسان، ويبدو أن الرجل كان يعد شركا بدائيا لاصطياد حيوان صغير، بينما هو يفعل إذا بسلطان تيه يخرج إليه من بين الأعشاب، فزع الاثنان، هرب سلطان تيه ناحية، هرب الرجل ناحية تاركا وراءه شركا مصنوعا من صوف ذنب الزراف. بينما سلطان تيه يهرب بعيدا لم يلاحظ أن امرأة جميلة كأنها من قبيلة «الكا» كانت هي الأخرى تعد شركا في موضع ليس بعيدا عن شرك الرجل، وأنها لم تهرب بل كانت تنظر إلى سلطان تيه وهو يهرب وعلى ظهره حمله في برود تام ودون أدنى اكتراث وكأنها ترى هذا المشهد للمرة المليون.
وفقا للخريطة لا توجد قرية قريبة من هذا الموقع، قرية «لالا» تقع على بعد يومين ونصف اليوم في اتجاه الغرب، من أين أتى الرجل الغريب؟! كانت الذئاب تعوي، قفل الراديو ولو أن البرنامج كان سيثير انتباهه في الحالات العادية، فهو متابع جيد للبرامج العلمية، دار حول سريره عدة دورات دون سابق تفكير أخذ يردد تعويذة سرية تفيده في تحويط المكان، تبدأ ب «إيلاف قريش»، تنتهي:
أصبحنا بالحديد.
أمسينا بالحديد، أمسينا بالحديد.
ما نفع إلا ربنا الشديد.
كان شجاعا ذكيا، كان عقلانيا في تفسيره للظواهر الغريبة أو التي تبدو غريبة والمخافات.
تتجمع بعض السحابات فتخفي النجوم الكثيرة جدا، النجوم التي تساوي عدد نجوم المدينة مضروبا في عدد نباتات الدغل، هل خلقت هذه الأنجم من أجل الغابة فقط، نجمة من أجل كل صفقة؟
لديه خوف فطري من المطر؛ لأن المطر لا يفرق بين الصالح والطالح.
لأن المطر يهبط على الجميع.
لأن المطر يعمق غربته ووحدته.
لأن المطر ثلاث مخافات:
مخافة من فوق: الماء.
مخافة من تحت: السيل.
مخافة من حيث لا يحتسب: الصاعقة.
إذا جاء المطر سيدخل إلى البيت المهجور؛ الأفعى.
وما يمنع البيت من أن يكون مسكونا بالجن؟ من يدري؟
خلط بين تعويذتين لا يستحب الخلط بينهما، أخذ تعويذاته السرية، حسيس النار، خلف صمت الراديو الصغير خليط التعويذتين، دخل ناموسيته، أدار الراديو مرة أخرى، كان شجاعا.
لا يدري كيف قفزت حادثة وفاة والده إلى رأسه بالذات، حادث السير المشئوم، كانت رأسه سحقت تماما على الأسفلت، هو - سلطان - والسائق نجوا من الموت، وكان والده سينجو لولا أن قفز من العربة في اللحظة التي انحرفت فيها سيارة نقل ثقيلة نحو عربته الصغيرة التي كانت بصدد أن تتخطى عربة النقل، هو نفسه - سلطان - لو كان قرب الباب لما تردد لحظة في القفز، كل حمولة الشاحنة مرت على رأس والده الأشيب ذي الصلعة، الملآنة بالفكاهة والحكاوي، الملآنة بأسرار الصوفية وكلام الله؛ «كان أبي رجلا مرحا متدينا».
جاء وحده ذئب ضخم عجوز يدور حول النار على بعد أمتار قليلة عن مركزها، كان يرقبه عبر مسام غزل الناموسية، يعرف أن الذئب يعجز عن مهاجمته واختراق سياج الشوك الذي حصر به نفسه، لكنه متيقن من مقدرة هذا الذئب العجوز على القفز فوق سياج الشوك والسقوط عليه مباشرة، تمزيقه ثم أكله، كل شيء ممكن، الذئب العجوز يحفر بقوائمه الخلفية خنادق صغيرة وهو يقف مستديرا حول النار. بينما كان يغادر المنزل ليؤسس الخطوة الأولى لرحلته دعت له أمه التومة بأن يحيطه الله برعايته ويعيده سالما غانما ويقيه شر «الكا» آكلة لحوم البشر، بالتأكيد كانت في غيبوبة عن أصلها من جهة جدتها، لولا بعض الحياء لأوصته بألا يقترب من أية امرأة خاصة إذا صادفها في الغابة متهيئة للمواقعة، هكذا يصطاد «الكا» فرائسهم، إذا واقعتها التصقت بها، إذا التصقت بها بظفرها ثقبتك في عدة مواضع، قطعت شريانك والنهاية. كانت لا تريده أن يذهب إلى بحيرة التماسيح؛ لأنها تعلم أنه سيذهب طالما أراد ذلك، لم تقف في طريقه كي لا تصيبه لعنة عقها، هي لعنة عجلها الله في الدنيا قبل الممات؛ لعنتان.
لم يكن في ذهن أمه أبدا هذا الذئب العجوز.
دار دورتين سريعتين حول سياج الشوك ثم اختفى، فجأة عاد مندفعا نحو السياج الشوكي مقذوفا في اتجاه سلطان تيه، في تلك اللحظة أطلق سلطان رصاصة أخطأت الذئب العجوز الجائع، ألحقه رصاصة أخرى.
عوى الذئب عواء حزينا.
سقط على بعد أمتار قلائل من سرير سلطان، ثم أطلق على صدره رصاصتين أخريين.
أهل الكهف
لا يدري متى خلد للنوم، عندما استيقظ كانت الشمس على هامات الأشجار، ولأنه ينام في موقع فضاء أصابته أشعة الشمس من اتجاهات عدة، قربه على بعد ثلاثة أمتار ترقد جثة الذئب، قذرة متضخمة وعنيدة، حوله خارج السياج كانوا جميعهم على ما يبدو ذكورا، يحيطون خصورهم بقلائد من الخرز وأنياب الحيوانات المتوحشة ويخفون ما بين السرة وما فوق الركبة بقليل، بجلود أو أردية من النباتات، من أعناقهم تتدلى التمائم، يقفون حول السياج حاملين حرابا لها مقابض طويلة من القنا، البعض يحمل سهاما، البعض يحمل فئوسا وأسلحة بدائية، ينتعلون جلودا سميكة، ربما كانت مصنوعة من جلد فرس البحر أو الجاموس، سود مثله، غير أن قامتهم عالية بعض الشيء وأجسامهم نحيفة متناسقة تشع قوة ورشاقة كأنهم نمر، تقاطيع وجوههم وسيمة قاسية حادة، بدا من الواضح لديه أنهم محاربون من قبيلة بدائية تقيم بمقام ليس ببعيد، سمعوا إطلاق الرصاص أو رأوا لهب النار بالليل، يستطيع أن يؤكد لنفسه أنهم ليسوا أكلة لحوم البشر؛ «الكا» تقيم بعيدا جدا عن هذا الموضع حسب وعيه بجغرافية المكان السكانية، ربما كانوا من قبيلة «لالا».
لكن السؤال الساخن الآن هو: ماذا سيفعلون بي؟ هل سيرمونه بالحراب إذا خرج من ناموسيته ظنا منهم أنه سيبادرهم بالهجوم؟ هل أبدأ أنا بإطلاق النار؟ رصاصتان في الهواء ترعبهم فيهربون فزعا، ثم أهرب أنا بدوري أم أنتظر لأرى رد فعلهم؟ لا، لا، يكون ردي متأخرا بعد فوات الأوان، تريث يا سلطان تيه، تريث، أترى ما سيكون تصرف الصادق الكدراوي إذا كان في ورطتي؟ أإذا كنا معا؟ لا بد أنه سيختلق فعلا يجعلهم يرمون أسلحتهم ويعانقوننا واحدا واحدا، ومن ثم يأخذوننا إلى مساكنهم ويؤمنون لنا الطعام والشراب، ثم يكرموننا بأجمل فتاتين في القرية كعادة كثير من القبائل البدائية في كرمها للضيف. لكن أين الصادق الكدراوي؟ أطلق الرصاص في الهواء، انتظر ... تريث، لا تفعل شيئا، إن كثيرا من القبائل البدائية لها طبع مسالم، أطلق، لا تنطلق، كانوا صامتين كأنهم يستنبطون ما يدور في ذهنه.
بعيدا عن ذهن سلطان تيه كان الصباح جميلا ومشرقا، طيور زرقاء ذات مناقير حمراء ترك على أغصان شوكة، تغرد نغما خفيفا حلوا ثم تطير فجأة نحو الغرب، من بعيد يأتي نشيد المغني؛ طائر صغير الحجم له ذيل طويل، به لونان، في الغالب الأزرق والأبيض، كان نشيده الحلو يعمق براءة الصباح، يزيده بهاء.
سلطان تعلم التفاؤل بسماع المغني منذ أول صباح عانقه بالدغل ولو أنه لم يره غير مرة واحدة نسبة لاختبائه بين أوراق الأشجار العريضة، بعيدا عن وعيه المشوش بالمأساة إيقاع الطبل الآتي من عمق المسافة جميل أيضا، يحتاج لكي يتبول، يعلو صوت الطبل، يقترب، كلما دنا أكثر اتضح صوت الجوقة التي تتبع الإيقاع والنشيد، بأسرع مما توقع ظهرت طلائعهم بين الأشجار الغزيرة.
عندما دخلوا الأرض الفضاء عدهم واحدا واحدا من داخل ناموسيته، كانوا عشرين شخصا من بينهم امرأة جميلة سوداء، تلبس رداء جيد الصنع من الجينز، صدرها عار، عليه ثديان نزقان، تتدلى ما بينهما تميمة كبيرة الحجم من العاج، من بينهم رجل أبيض البشرة يلبس مثلهم، أشقر، عيناه خضراوان كقط، في الحق كانت له عين واحدة، الأخرى مفقوءة، يبدو كما خيل لسلطان تيه أن هذا الأبيض حواري، الحواري كما يعرفه سلطان تيه ليس من الجن بل هو مولود نتيجة طفرة وراثية من أب وأم أسودين، الطفرة هي نتيجة تفاعلات كيميائية أو فيزيائية في الجينات، وهذا بالضبط ما تعلمه من أستاذ الأحياء بالثانوي، لكن قفزت في وعيه مسألة مستر ومسز جيني، يكون هذا من مخلفاتهما؟
انفجر الصمت بوصول القادمين، أخذ الجميع في شرب شيء أتى به القادمون في قرب كبيرة من الجلد وأوعية من القرع والفخار، كانت رائحة المشروب ذكية أثارت فيه شهية الشرب، شهية الشرب كشهية الموت، تبدأ بأكلان في القلب، لا تنتهي إلا بنهاية الجسد.
لا يأبهون به كأنه لم يكن، هو يهتم بكل تفاصيل فعلهم؛ خصلات الأشقر المجنونة، أسنة رماحهم، أطيارهم الراكة على شوكة، ذئبهم أو ذئبه لا فرق، طبلهم الذي صمت ونام على شجرة عرديب طفلة، سمائهم الزرقاء ذات السحيبات البيض الخفيفات، هو نفسه أسيرهم القابع تحت ناموسيته يرغب الموقف ويؤسس لفعل إما أن ينجيه، أو أن يميته، أو أن يخوزقه، والعياذ بالله من الخازوق! لوقوعه في مسافة ما بين النجاة والموت.
وقفت الجماعة لشخص قادم احتراما، ظهر من بين الأعشاب يمتطي حمارا وحشيا أليفا، يلبس رداء ثقيلا حول خصره، تتدلى على جانبي الحمار وعلى صدره تمائم وعقود ، على كتفه فراء ناعم يغطي كثيرا من صدره، من الواضح أن القادم ذو شأن، كان كبيرا في العمر، بدا عليه التعب والإرهاق، برفقة جماعة راجلة وحامرة أيضا. جلس الجميع في دائرة في أحد طرفيها القادم الكهل.
وبعد مداولات طالت برطانة لا يفهم سلطان تيه منها شيئا، أزاح المحاربون الشبان الأشواك، قام نفر منهم بجر جثة الذئب إلى حيث الطبل القابع الساكن الساكت تحت العرديبة الطفلة، حدث ذلك برفق شديد، أدى الجمع صلاة صامتة في شكل رقص حزين، أتبعته نقرات خفيفة على الطبل أداها الأبيض الأشقر الأعور، مخلفات آل جيني، أو كما يظن. يبدو أنني قتلت شيئا مهما، شيئا مقدسا.
تورطت يا سلطان تيه.
أين الصادق الكدراوي؟
هل سيقتلونني كما قتلت؟
هل يربطونني لأبناء الذئب ينتقمون مني؟
هل؟ هل؟
أخذ بعض المحاربين يسلخون الذئب، بينما اتجه الرجل الشيخ نحوه، معهم الفتاة الناهد الجميلة، بعض المحاربين وقفوا حوله في حلقة، كان رجلا شجاعا سلطان تيه، وهو يرتعد من الخوف في انتظار المصير المجهول، لا وقت لديه لقراءة التعاويذ أو ذكر أسماء أهل الكهف وكلبهم. بينما هو في شتاته إذا بصوت الفتاة يأتيه بكل وضوح:
Who is there?
بلغة إنجليزية سليمة دون أية لكنة كأنما هي لغتها الأم، أحس بطمأنينة بالغة كأنما قفز من حضن الغول إلى حضن أمه مباشرة، دون مقدمات أزاح الناموسية ببطء، أطل بوجهه نحو الجمع الذين كانت دهشتهم أكبر لتبينهم أنه ليس إلا رجلا أسود مثلهم، وجهه كوجوههم، كل شيء فيه فيهم إلا أسلوب لباسه الذي رأوه من قبل عند مسز ومستر جيني في أيامهم الأولى ورأوه بين حين وآخر يلبسه الصيادون، ورآه من يذهب منهم للمدينة حيث يلبسه الشرقيون، يلبسه الحكوميون الذين كثيرا ما اصطدموا بهم، يلبسه العسكر الحكوميون، رأوا فيه شخصا عاديا، ربما كان صيادا ضل طريقه.
من أنت؟
Who are you?
قال إنه باحث أكاديمي في طريقه إلى بحيرة التماسيح لأنه يعد رسالة مهمة عن التماسيح، ضحكت الفتاة فجأة ضحكا أثار غيظه، ضحكا أثار فضول أصحابها، ارتفعت أصواتهم احتجاجا لعدم الفهم، وأنهم يريدون ترجمة فورية لما يقال، نظرت نحو الشيخ المنتظر تفسير ما يضحك، رطنت، وما إن خلصت من القول حتى اندلق الجميع في وحل الضحك، ثم تحدث الكواكيرو، وهو الشيخ بلغة «لالا»، قالت المترجمة لسلطان تيه: «يقول الكواكيرو إنك صائد تماسيح، وإنك صائد ماهر وقتلك للحارس دليل.» أكد سلطان تيه أنه دارس أكاديمي، استمات في برهنة ذلك لأنه يعلم أن الدغليين لا يحبون اثنين: سلطات الشرق، والصيادين.
طلب منهم فحص متعلقاته، طلب منه الكواكيرو أن يعطيهم السلاح الذي قتل به الحارس، أمن المسدس بهدوء وأعطاه للفتاة، ناولته بدورها للكواكيرو، قلبه يمنة ويسرة، بكل حرفية أخرج خزانة الرصاص، ثم أعطى المسدس والخزانة لأحد المحاربين، وضعه في سلة من السعف، قاموا بفحص معداته بدقة متناهية، فحصوا كفتي يديه وكتفه، وجدوا علب طعام محفوظة، وجدوا كتبا بها تماسيح مصورة، كاميرا، فأس صغيرة، مدية صغيرة، أقلام، لم يجدوا أنيابا نادرة أو عاجا أو جلد حيوان نفيس، أو مصل حية.
ولكنك قتلت الحارس.
أتدري ما عقوبة ذلك إذا كنت صيادا؟
لكنك طالب علم.
نحن نقدر لك ذلك، ولو أنك تدرس شيئا تافها لا فائدة منه، ترجو شيئا تسكنه خمسون روحا شريرة.
لكنك قتلت الحارس.
نعرف أنه لولا قتلك له لقتلك، أنت تدافع عن نفسك نعرف ذلك.
لكن هذا لا يسقط عنك عقوبة قتل الحارس، فأنت قتلت الحارس.
عقوبة ذلك في العادة أن تحل روحه فيك، وأن يحل جسده فيك.
أما روحه فإنها في اللحظة التي قتلته فيها دخلتك.
أما جسده، نقوم بحبسك أعلى الجبل إلى أن تأكل آخر قطعة منه، عندها سيحل جسده فيك، حينها سنطلق سراحك مذءوبا.
أولا: سارت مجموعة المحاربين الشبان يحملون شرائح لحم الذئب على عصي طويلة من البامبو، كل اثنين يحملان قناة واحدة طويلة، تتدلى على جوانبها شرائح اللحم تقطر دهنا، كان حيوانا شحما، تبعه حامل الإيقاع، الرجل الأبيض ذو العين الواحدة القطية والخصلات الشقراء، يقرع الطبل بإيقاع حزين ممل خفيض. ثم سلطان تيه على ظهره حاجياته كلها، خلفه مجموعة من المحاربين الشبان يحملون حرابهم وعصيهم، يغنون لحنا حزينا موقعا بطبل الرجل الأشقر الأعور، أصواتهم تعلو فجأة حتى تصبح الهتاف ثم تنخفض فجأة لتصير الهمس.
همسا عميقا.
وفي حركة أخرى تتدرج أصواتهم ما بين الهمس والهتاف، تتنقل من الأول للأخير بكل سلاسة وحرفية، ثقافتهم في مجال الغناء والموسيقى أحلى وإلا وجد اسما مناسبا لما يقومون بأدائه، أما الآن فهو يسمي ذلك «هارموني» أو يسميه تماهيا، لو استطاع أن يمتع نفسه بذلك دون تعارف لتمكن من طرد كثير من السؤالات السوداء.
كيف تتحدث هذه الصبية المتخلفة اللغة الإنجليزية وكأنها لغتها الأم؟ لكن عندما هدأت أعصابه قليلا اطمأن قلبه، عاد وربط ذلك بمستر ومسز جيني.
ما هو مصيري؟ أنت في ورطة، هل سأخرج سالما من هذه الورطة؟
ما بين القرية والغابة أرض تخلو من الأشجار الضخمة، لكنها مغطاة تماما بالأعشاب الناعمة ذات الأشواك الدقيقة، بعض المهوقنيات والتك في أعمار صغيرة. بدت له القرية من على البعد قبابا صغيرة مصنوعة من مادة بنية، شكلت لها خلفية طبيعية في هضبة عالية خضراء عليها الأشجار زاهية الخضرة تحرسها، وكما هو موضح في الخريطة يوجد منبع مائي صغير أعلى الهضبة، ها هو الجبل يفوق تصوره، في الحق لم تكن لديه تصورات سابقة عن المكان، كل تصوره كان ينصب على بحيرة التماسيح، موقعها بين الجبال، شكلها، مائها، تماسيحها، رمال التماسيح البيضاء الباردة تحتها يرقد بيضها، كاميرته تسجل حركة التماسيح وعلاقتها الأسرية والجنسية والغذائية، الآن وجد نفسه في موقف يجبره على إجلال جمال المكان وإحساس تفاصيل عظمتها، كلما اقترب أكثر من القرية تميزت الألوان الحجرية الزاهية التي طليت بها الكهوف. ثم جاء أطفال القرية كأنهم النعام بسوقهم الغبشاء وأعينهم النجلاء، رءوسهم عليها قنابيرهم، ليسوا كما رأى من أطفال، كانوا هادئين طيبين، لاحظ ذلك عندما اقتربوا من موكب المحاربين، جلسوا على جانبي السبيل على العشب احتراما لموكب الكبار، ولو أنهم شحنوا بالفضول، كانوا يحملقون في لحم الذئب وقاتله بعيون سئولة وحب استطلاع يكبته الأدب والطقس، هكذا تراصوا إلى مدخل القرية، النسوة الجميلات حزانى يجلسن على قارعة الطريق أيديهن على رءوسهن، أنغام الإيقاع القطي الحزين، يبكين، يصدرن مواء عميقا جعله يحس حقيقة الجرم الذي ارتكبه، ثم يعلو صراخهن ونقعهن عندما يمر أمامهن موكب لحم الحارس المقتول، دن، دم دم، دم، دن، دم دم، دن ...
كان الرجل الأبيض ذو العين القطية جميلا يدق الطبل.
حزينا جدا ...
طاف الموكب الحزين كثيرا أزقات القرية، نهرته كلابها، هربت من بين أرجل المتكوكبين، دجاجاتها البرية المستأنسة وهي «تكيك»، إلى أن توقف أخيرا أمام دار ذات فناء متسع، دخل اللاحمون بذئبهم، دخل هو، كان شجاعا وهو يحس برعدة الخوف تصعقه في عمق السؤال، ذات السؤال الجبان؛ بئس المصير! أنت في ورطة.
ماذا سيفعلون بي؟
أين الصادق الكدراوي؟
وبدخوله واللاحمين في الدار ذات الفناء المتسع، تفرق المحاربون، تفرقت النائحات يتبعن صغارهن النعام، أصواتهن تختفي تدريجيا، تتلاشى تماما.
وسط فناء الدار توجد مظلة كبيرة من البامبو مسقوفة بحصير ناعم بدقة وأناقة ذكرته بالكنيسة التي في أحد أحياء المهجرين في الشرق، توجد بالمظلة مقاعد خشبية مصنوعة من حطب العرديب والمهوقني، بعض الشيوخ يجلسون بالمكان، طلبوا منه إنزال ما بظهره، أن يجلس على أحد المقاعد الخشبية، أن يشرب ما قدم إليه، أن يستمع للقول المترجم بواسطة الناهد، أن يرد، أن يقال إليه أخيرا: اتبع هذين المحاربين إلى كهفك، هنالك أعلى الهضبة.
يخرج وعلى ظهره حاجياته، لمح ما يشبه عربة جيب في مظلة من البامبو عند ركن بعيد بالدار، من جاء بعربة كهذه هنا؟ ماذا يفعل هؤلاء البدائيون بها؟ لا تشغل نفسك بأمور جانبية يا سلطان، الأهم كهفك، ذئبك، سجنك، بحثك، طعامك، فليكن الجيب أو فلتكن طائرة نفاثة، لا تشغل نفسك، لا، لا ...
الناهد ذات الصدر العاري بارعة جدا في التحدث باللغة الإنجليزية، ذات مهارات ترجمانية عالية، كانت تستخدم اصطلاحات لا يعرفها هو القارئ المواظب على اللغة الإنجليزية، وكثيرا ما كان يردد: آسف، آسف.
تعيد صياغة السؤال بلغة أسهل، كلمات أبسط، ولو أنها كانت لا تدري أية لغة هي الأسهل وأيها ... المهم كانت تقوم باستعمال مترادفات تسهل علي معرفة السؤال بالتالي الإجابة. هي جميلة، جامحة، رشيقة، ينقصها فقط شخص كالصادق الكدراوي ليقيس مدى تماشي مؤهلها الجمالي الظاهر مع ... الإمتاعية، أو كما يسميها الكدراوي: إيقاعها السري ما دون السري.
سوداء، ربما كانت أكثر سوادا منه، بشرتها ناعمة ملساء ذات لمعان خفيف ساحر كأنها مدهونة بزيت سحري، جميلة في زيها البسيط المكون من رداء الجينز الأزرق الباهت والخرزات الملونة، قالت له وهما يسيران خلف المحاربين: أنت ستبقى بالكهف دون حراسة، يجب عليك ألا تحاول الهرب؛ لأن القبيلة تحيط بالجبل بيوتها، لأن الذئاب تحيط بالقبيلة، لأن برم بجيل يحيط بالذئاب. أنت بغير سلاحك فمن ينجيك؟ لعنة الحارس تطاردك دائما، طالما لم تكن أنت جسده؛ لأن روحه تريد أن تستقر في جسده هو، بالذات جسدك أنت.
أنا لا أفهم شيئا ...
قالت الحسناء ذات الجينز الباهت: عليك أن تأكل كل قطعة من لحمه يؤتى إليك بها، عليك أن تفترش جلد الذئب لحافا لك، عليك أن تحتفظ برأسه معلقة على باب كهفك، عليك أن تلبس نابيه قلادة، عليك ثم عليك ...
كان تعبا مرهقا من جراء المشوار الطويل والحمل والخوف من مفاعيل المشروب في جسده، فلم يقل شيئا ...
فقط يريد أن ينام.
لا أكثر ...
يريد أن ينام، آه! همم، م، م م ...
يقع الكهف في قمة الهضبة، كهفا كبيرا، حفر في صخر ضخم، لا يستطيع سلطان تيه أن يتخيل مجرد تخيل كيف حفر هذا الكهف، من الذي حفره، لماذا، في الحق الدغليون أنفسهم لا يعرفون تاريخا أو حدثا أو شخصا يؤرخ لهذا الكهف، لكنهم يعرفون كيف يستخدمونه. غمره إحساس أولي بأن هذا الكهف هو مسكن ما يعرفهم بأهل الكهف، لو أنه مدرك في وعي حقيقي أن أهل الكهف كانوا على بعد آلاف الأميال من هذا الموقع، على مدن ترقد، نحو البحر الأبيض المتوسط. في قمة الهضبة أرض مسطحة متسعة تمتد على مدى ما يبصر، بها غابات وجبيلات، مجار مائية، حيوانات، عين أو بحيرة، قرأها في الخريطة، وما لم يعلم ...
ليس لديه ما يقوله لها، لا شيء، فقط يريد نوما هادئا عميقا، عندما أستيقظ فليطعمونني عظام الذئب لا أبالي.
كان شجاعا وهو يحس بفراغ الكهف يسري في قلبه، كالأكلان البارد المرعب، كما لو أن حية انزلقت على ظهره وهو عار، كان يخاف في شجاعة منقطعة النظير رهبة الفراغ.
في هذا الركن كما ترى كومة من الحطب الجاف، بإمكانك استخدامها للتدفئة وطرد البعوض والذبابة الرملية وذبابة النوم، توجد بكثرة في هذه البلدة، تحتاج النار للإضاءة، يقول الجد برمبجيل: الضوء رجل شجاع، حارس أمين، وامرأة لا تكذب.
لا يريد أن يعرف من هم «لالا»، لا يريد أن يعرف من هو جدهم برمبجيل ...
لا يريد أن يعرف من هو الضوء، يريد فقط أن يبقى أحد المحاربين بجانبه.
سنعود الآن تاركين لك مدية ورمحا وعصاة، تحتاج بين الحين والآخر للدفاع عن نفسك من يدري، لا ... لن يقرب الحارس كهفك هذا أبدا؛ لأنه لا يوجد في قمة هذا الجبل غير الأرانب والثعابين وبعض الغزلان ...
هل تريد شيئا؟
كان الكهف كبيرا خاليا، يحس الآن بصداع حاد، في حاجة للذهاب للمرحاض، هنا كل مكان لا يراك فيه أحد مرحاض، أينما اختليت بنفسك أنت في مرحاض.
بسم الله ...
تبول ...
سوف آتيك أيضا غدا، تحتاج شيئا؟ على كل سيداول المحاربون على مدك بالماء، الطعام وما تريد، الشمس تغيب الآن، خلفها شفق في لون الدم أو البرتقال، وفقا للحالة النفسية للمشاهد ونبض قلبه، يود لو استطاع أن يجعل الشمس لا تغيب، أن تبقى جمرة مشتعلة، نور يضيء به ظلمات الخوف، تبعد عنه مسافات، كلما غامت الرؤية أحس بوحدة أحجر، أحس أكثر بفراغ الكهف.
ليال طويلة قضاها في ظلمات الدغل محيطا نفسه بالتعاويذ، العصي والصلاة، تحوم حوله المخافات، لأول مرة في حياته يحس الخوف.
إذن، هل كنت أستمد شجاعتي من المسدس، أخذ المسدس أخذت الشجاعة؟ أم أن فراغ الكهف هو الذي أشعل قصاصات الخوف فيه، أو ...؟ ثم صلى صلاة المغرب، قرأ جهرا كلمات من حزب الأمان كان قد حفظها عن أبيه عرضا ، ونتيجة لتكراره لها ليلة تلو ليلة، مخافة تلو مخافة، ما أكثر المخافات! ما كان يهتم بقراءة والده اهتماما فعليا، يرى فيها شيئا مكرورا مملا، الآن أمام جلال الفراغ الأمر يختلف، من بين أوراد والده يعشق صلاة النقطة، يعشق لغتها الصوفية الشفيفة، لكنه لا يحفظ منها أية كلمة ...
ولو أنه يحس موسيقى روح لغتها تحلق الآن، تملأ الكهف غناء صامتا ...
ولو أنه يتلمسه الآن بنبض قلبه.
لماذا لم يصبح شخصا متصوفا بصورة جادة قاطعة كوالده؟
النار كانت شهية دافئة، هدأ، شاء أن يرتب أفكاره بصورة منتظمة، عندما يقضي مدة سجنه سيذهب مباشرة إلى بحيرة التماسيح، كم من الوقت سيقضيه هناك؟
يريد أن يعود للمدينة الآن.
وطواط يزعجه ضوء النار يخرج مندفعا نحو الخارج. لم يستطع سلطان تيه أن يتبين أن رائحة جسده أصبحت سيئة ولا تطاق، ربما لأن رائحته توحدت برائحة الكهف، برائحة الذئب، لحمه المجفف، رائحة الخوف ...
قالت له نفسه: هنا وضع أهل الكهف رءوسهم المتعبة قبل أن يخطوا نحو نومتهم الطويلة، لا بد أن كلبهم كان آخر النائمين، لا بد أنه نبح كثيرا قبل أن ينام، لا بد أنه أكل عدة أرانب كبيرة في طريقه إلى النوم، لا بد أنه تذكر كلبة حاول أن يلتصق بها، كلبة سيلتصق بها غدا، كلبة أخرى وكلبة، لا بد أنه قبل أن يرقد واضعا رأسه بين قائمتيه الأماميتين محنيا إياه جهة اليسار قليلا وفوق عينيه تحوم ذبابتان ...
ماذا لو كانت رنا الآن معه؟
نعم، رنا الصبية بنت الجيران التي كان يحبها في سرية. قضم قطعة حلوى خطفها طفل مستغفلا والدته، يقضمها في توحش مصموت، بين الراكوبة وباب الشارع، في سرية ابتلع لعابه الحلو، في سرية مسح شفتيه وجانبي فمه وهو عائد إلى موقع مخطوفته، في سرية انطباع لون الحلوى الأحمر القاني على لسانه كشاهد خبيث على الاختطاف. ما كان الأمر يحتاج لكل هذه السرية لأنه لا يوجد من يغضبه حب سلطان تيه لرنا، ورنا ذاتها كانت ستسعد كثيرا إذا عرفت أنه يحبها، وما كانت ستبخل عليه بما شاء من تواصل، والأبعد من ذلك، هذا شيء لن يعلمه، سوف لا يخطر بباله إلى الآن أنها لا تمانع أن تعطيه نفسها.
هكذا بكل بساطة.
إذا وفر على نفسه الليالي التي قضاها مؤرقا يرسم نهديها وردفيها وبسمتها في فراغات حجرته، يرسم صوتها ثم يستدعيها لتنام قربه إلى أن يؤذن الصبح، فيغتسل شاويا نفسه بالماء البارد.
لوفرت على نفسك عذابات الاستمناء.
إذا كانت تنقصه الخبرة، الكنز الذي تهديه المغامرة والتجربة والوقت للإنسان يمتلكه صديقه الصادق الكدراوي ...
لا لم يكن خجولا، بل هو جريء، لكنه لا يعرف كيف، متى يستخدم جرأته، فيم ومع من؟ إذ إن مشكلته الحقيقية هي مشكلة إيقاع.
كروانان يتناديان يفرق بين نداءيهما نداء بوم أجش، البوم نذير شؤم، الكروان فأل خير، سيصلي صلاة العشاء ...
كيف هرب عنه النوم والتعب؟ في المكان الذي هيأه لصلاة المغرب صلى العشاء. في الحق لم يكن منتبها تماما لما يقرأ ويفعل في صلاته، كان منشغلا بشكل تام عن الله، هو الآن يقوم بأداء حركات اعتاد عليها، باله منشغل بمشاكل الوحدة والخوف.
كان عواء الذئب يأتي من بعيد، من كل اتجاهات الظلام الستة.
البحيرة
في إيقاع بطيء كانت تدور عقارب انتظاره، ثقيلة باردة مذءوبة بشواء الحارس، عفن جلده المدبوغ، كانوا لا يطعمونه سوى مرق الذئب.
شواء الذئب.
دهن الذئب.
لحافه فراء الذئب.
مذبته ذيل الذئب.
عندما يستيقظ ناظرا لضوء الفجر عبر باب الكهف الكبير المنغلق بأغصان شوكية، يرى وجه الذئب المحنط المعلق على بوابة الكهف محملقا بعينين مفرغتين من الداخل نحوه، نحو أهل الكهف الذين استيقظوا في وقت سابق وذابوا في المكان.
كل شيء، الذئب.
بين حين وآخر تزوره الفتاة المترجمة تسأله ما إذا كان يريد شيئا، ثم تنصحه بأن يأكل كل ما يؤتى إليه به من أشياء ذئبية؛ لأن هذا يعجل بإطلاق سراحه، وأن لحم الذئب مفيد لجسد الإنسان، وأنه يجعل القلب أكثر ثباتا، الأقدام أكثر قوة، العينين أكثر رؤية. لم تقل له إنه محرم أكله على قبائل الدغل كلها.
لأنه جدهم في الروح.
بدأ يلاحظ أن وزنه أخذ في الزيادة بصورة واضحة، أرجع ذلك لعدم ممارسته الرياضة، وأن الطعام شديد الدسم، وأن الذئب كان شحما جدا، أرجع ذلك للطمأنينة النسبية، حسها بعد قضاء أسبوع كامل بالكهف واعتياده على المكان.
إذ قال لنفسه: سأقوم باستكشاف المكان وإلا أصبحت فيلا آدميا، دعني أمشي هنا وهنالك، لماذا لا أبحث عن العين المائية؟ ربما رفهت عن نفسي بدهشة الاكتشاف، ولم لا؟
لبس نعله الواقي الثقيل «الكولمان»، مضى تاركا الشمس خلف ظهره نحو مغرب الشمس؛ لأنه إذا فشل في الوصول إلى العين غربا اتجه شرقا، ثم بقية اتجاهات الدنيا الكثيرة، لديه من الزمن ما يكفي للدوران حول الجبل كله ألف مرة، لديه من الزمن ما يكفي لأكل ذئب كبير عجوز قذر.
كان يحاول أن يضع علامة على طريقه يهتدي بها عند العودة على الأشجار، كأن يكسر فرعا كبيرا، أو يربط منديلا، أو يلاحظ تميز صخرة ... إلى آخر ما صنعه من لغة ترشده سبيل العودة، كان يرسم المكان في ذاكرته، ينحت علاماته في ذاكرة المكان.
الحيوانات التي تلتقيه في الطريق هي الأرانب، فئران الجبل كبيرة الحجم، الصبرات، السناجب، الثعالب، هي لا تمثل له مخافات فعلية، بل إنه حاول أن يصطاد أرنبا كبيرا أبيض الفراء، فشل في ذلك.
في الحق كان هو المخافة، فزاعة الأرانب والفئران المسكينة، هل لأن رائحة الذئب تفوح من جلده؟ هل لأن روح الذئب؟ هل لأنه ...؟
تأكد أنه يمشي نحو العين عندما شاهد أمامه على بعد ميل واحة تجمع أشجارا ذات خضرة متميزة وقامات أعلى مما يجاورها من أشجار، وكلما اقترب من المكان وافته الريح ببرودة الماء ورائحته، عطن أوراق وفريعات متعفنة بفعل ماء المد.
يشق الأعشاب الكثيفة الخضراء قافزا هنا وهنالك، متخطيا عشبة شوكية وقنفذا صغيرا أو نتوءات صخرية، فإذا به يجد نفسه في مواجهة عين ماء ساحرة، لكنه لم يقترب كثيرا من موضع الماء؛ لأنه يعرف أن التماسيح التي تعيش في هذه الأنحاء غالبا ما تكون شرسة وشرهة ذات شهية منقطعة النظير للحوم البشر، جلس تحت شجرة وارفة لا يدري ما فصيلتها أو اسمها، لكنه شاهد منها كثيرا في هذه الأنحاء، لها ثمار زرقاء صغيرة مرمية تحتها كثيرة، بعضها يابس منكمش على ذاته كحبات النبق، بعضها لا يزال رطبا، أخذ واحدة، تذوقها، كانت حامضة، حامضة جدا، رماها بعيدا في عشب المحريب. البحيرة هادئة، سطحها منبسط مصقول كالمرآة، عندما تهب عليه نسيمات هادئات يتموج في بطء وانتظام مكونا أمواجا طفيفة لا تكاد تلاحظ كموجات خصلة حورية مسدلة على ظهرها، كان يترقب بين لحظة وأخرى أن تطل أنف تمساح مهشمة صقل السطح أو يخرج تمساح بكامله من الماء زاحفا نحو رمال الشاطئ، الرمال البيضاء الشهية التي لها لمعان حلو وهي تعكس ضوء الشمس المنسرق إليها عبر أغصان وأوراق الأشجار العالية الخضراء، كانت تفصله عن البحيرة عدة شجيرات ظليلة كثيفة الأوراق وهي لا تمنعه من مراقبة البحيرة لكنها تحميه من أن ينتبه لوجوده من جهة البحيرة، إذ بإمكان التماسيح الخروج ما شاءت والرقاد واللعب على الشاطئ الرملي أيضا دون أن يزعجها وجوده. كان يعرف أن التماسيح تفضل الشواطئ الرملية لأنها ستضع بيضها فيها وتظل تراقبه وتحميه إلى أن يفقس ولو أن هذا الفصل ليس بفصل التبييض، إلا أنها تخرج للبحث عن فريسة ما على الشاطئ. يظن أنه لو دقق النظر على سطح الماء سيتمكن من رؤية أنف التمساح، كان يعلم كباحث في الحياة البرية أن الوقت الذي يقضيه التمساح خارج الماء أكثر بكثير من الزمن الذي يقضيه بداخل الماء إذا كان مترقبا يقظا لكل بادرة تشير إلى أن هناك فكا مفترسا.
عندما أطل وجهها بين شجيرات الشاطئ الخيمية وأعشاب المحريب العطري، وسط مهرجات الفراشات والعصافير التي أخذت تهرب في كل صوب وجهة، عبر خشخشة أوراق الأشجار المتساقطة على الأرض، عبر خياله المشحون يترقب ظهور تمساح بين حين وآخر، عبر عصارة الذئب تسري في شريانه في صمت وخبث ...
أطل وجهها.
وجهها الأبيض المسقي بوردية خفيفة هي سريان دم الشمس عبر شعيراتها الدموية الرقيقة ، ثم اندفعت كلها خارجة من بين الأشجار، كأنها جنة حقيقية، مثلما في خياله منذ الطفولة الأولى وقصص كامل كيلاني وأحاجي جدته عن الجنة التي تسكن شاطئ النهر، إذن هي جنة بكل ما يشاء لها من توصيف وتخيل، كان شعرها الأشقر مسدلا على كتفيها وظهرها هابطا إلى ما دون عجيزتها قليلا، فارعة القوام بجسد مهر، جسد نزق مشاغب، صدرها عار، نهداها منتصبان مكتنزان منفعلان كأنهما نسران يهمان بالطيران لكن تمسك بهما شباك الصياد، فلا هما يستسلمان ولا هما ينفكان، كانت تلبس رداء من القصب الناعم يبدأ من وسطها وينتهي ما دون الركبة ليفسح المجال لصراخ الفخذين الجنينين الثائرين ...
بالتأكيد هو رجل شجاع، لكنه كان في طريقه للانسحاب من تحت الشجرة وحمل خطاه في خفة والهروب بعيدا لولا أن ظهرت خلفها من بين الأشجار الفتاة المترجمة.
فلوباندو.
كانتا جميلتين ورشيقتين، تحيطان خصريهما بفساتين من القصب، رآها ذات مرة تلبسها فرقة شعبية في مسرح المدينة، الآن لا يحتاج الأمر عنده ولو للقليل من إعمال الفكر والتحرر، ياااا! إنها أخت الأبيض المتوحش، مخلفات مستر ومسز جين، يا لهذا الجمال الضائع في الأحراش، في صدأ الرطوبة النتنة والتخلف وردة العفن!
ولولا أن خذلته مخيلته لضعف تعاني منه لقال شعرا، أو شيئا قريبا من الشعر، خلعتا أقصابهما وقلائدهما، أضحتا عاريتين كتمثالين من البرونز والعاج، الحق أنه لأول مرة في حياته يرى امرأة بالغة عارية تماما، لأول مرة تصعقه قشعريرة كهرباء، الجسد الأنثوي، يحس بفوضوية تامة، بألوهية الموسيقى المنبعثة في تفاصيل التفاصيل، حيث يفرض عليها الجسد ربوبيته وشيطانيته أيضا.
الجسد.
نشيد إنشاد الإنسان.
والجسد.
قرآن الروح.
هكذا كان يعرفه صديقه الصادق الكدراوي، العارف بالمرأة، كان يستحلي التعبير لصوفيته لكنه لم يفهمه سوى في هذا الآن بالذات، ذات لحظة الصقع.
ذات لحظة الإنشاد العظيم.
الموسيقى تهب كالعاصفة، مثل درويش ثمل يدور به خمر الإيقاع، يصبح دوارة.
لا تستريح.
موسيقى.
موسيقى.
لا تستريح.
الجوقة عباقرة، ألحانهم عطر، أوتارهم سبائب الجنيات وعصب عشاقهن ...
تتسرب الموسيقى عبر مسام جسده متحولة إلى راح، لا يسكر لكنه يذهب بالعقل، كانت لغة الجسد معقدة عصية وموسيقاه صقع.
امرأتان عاريتان.
امرأتان عاريتان.
سيحاول أن يؤكد لنفسه حقيقة الرؤية، الفتاة المترجمة أخت الأبيض المتوحش.
تلك هي بطونهن.
تلك هي أفخاذهن.
تلك هي أردافهن.
تلك هي الجزر السوداء.
شعورهن السرية.
امرأتان.
حقيقيتان.
عاريتان على شط البحيرة.
كانتا تضحكان وهما تتحدثان باهتمام بالغ على الرمال الشهية البيضاء. رقدت الفتاة المترجمة على ظهرها موسدة رأسها قطعة خشب صغيرة، كان جسدها يشع عظمة وموسيقى. جلست الفتاة البيضاء ذات الخصلة الساحرة، تفحصت عانة صديقتها جيدا وهي تترنم بلحن ساعدت رطوبة البحيرة في نقله إلى مسمعه بصورة حسنة، كان لحنا رائعا. عندما فرغت اضطجعت هي أيضا على ظهرها، على الرمل الأبيض الشهي، أخذت الفتاة المترجمة تعمل في عانتها ...
يراقب الأمر بعينين جاحظتين، أذنين مفتوحتين، وصمت موقوت، صرخ في ذاته: أنت موعود يا سلطان تيه بليال حمراء، موعود بأجساد بكر!
يا حبذا إذا كان معي الصادق الكدراوي!
لكنا في هذه اللحظة ملتصقين بهما كقرادات البقر.
مر ليس ببعيد عنه ثعبان ضخم، انزلق نحو البحيرة، سحليتان تتخاصبان قرب رجله، قرد صغير تسلق الشجرة التي يجلس تحتها الآن، لكنه لا يلاحظ شيئا. ثم قفزتا في لحظة واحدة بحركة رياضية ومن على ساق مهوقني مرمري على الشاطئ، قفزتا في الماء، تطاير الماء في الهواء كأنه ذعر مفاجئ بهما، هكذا تحول سطح البحيرة من هدوء ساكن إلى أمواج دائرية كبيرة، رشاش ماء، ضجيج، ضرب أكف وأقدام، الفتاتان الجنيتان كانتا أمهر مما رأى من سباحين، مثل دلفينين مسحورين تلعبان في الماء بكرة ويبدو أنها ثمرة لشجرة ما، ثم غطستا في الماء معا.
ثم خرجتا معا، ثم غطستا، ثم خرجتا.
جلستا على رمل الشاطئ تستجمعان أنفاسهما قبل أن تشرعان في غناء بهيج، قبل أن تلتقطان بعض العصي الناشفة من تحت الأشجار، ترصانها على عودين كبيرين تمكنتا بعد جهد من جرهما إلى الماء، أبقتا نهايتهما على الرمال، ثم أخذت الفتاة المترجمة اثنتين من العصي، أخذت تطرق بهما على بقية العصي المرصوصة، على العودين الكبيرين المنطرحين على الرمل والماء.
في هذا الحين فقط أحس بخطورة المسألة حين سماعه لهذا الإيقاع المجنون، وقبل أن يفيق إذا بالفتاة البيضاء ترقص، في البدء كانت تتحرك في هدوء، تثني وسطها مع الإبقاء على الرجلين ثابتتين على الرمال، الاحتفاظ بالصدر ساكنا. في الحق بهذه الرقصة البسيطة المعقدة أثارت فيه غرائز أقل ما يمكن أن توصف به أنها غرائز جنسية ...
الدليل العملي على ذلك انتعاظ مفعاله بلذة مصحوبة بحرقان طفيف. قبل أن يفيق انتقلت الراقصة البيضاء إلى مرحلة أخرى، مرحلة أكثر عمقا ومأساة، حينما أخذت عنقها ناحية اليسار قليلا، اندلق شعرها الأشقر على نهدها الأيسر ذي الحلمة الكبيرة الصفراء في ذات اللحظة التي ارتعشت فيها قدمها اليمنى في انفعال، ترتكز على مقدمة أناملها محركة الجانب الأعلى من فخذها مع حركة إيقاعية للصدر كله، استمرت على هذا الحال ثواني معدودات، أو خيل إليه ذلك، ثم عادت، حركت الوسط فقط، فقط، ثم خلطت بين الحركات؛ الوسط، الفخذ، الصدر، وعلى حين غرة غيرت الفتاة المترجمة الإيقاع؛ أسرع، أخف، أرقص، أمتع، أصوف.
يا إلهي!
يا مالك الملك!
كان يمسك بيديه درويشان، يدوران به في مدار حلزوني عكس اتجاه دوران الأرض والقمر والشمس، عكس انطلاق المجرة كلها في فلكها غير المتناهي.
كانت جلابيبهم المتسعة الرقيعة الصفراء الحمراء البيضاء السوداء الخضراء تزأر وهي تعض الريح هنا وهناك، ومن السماء مباشرة حيث يصعد نشيد الدرويشين تسقط أناشيد هي عصارة أنوثة كل بنيات الدنيا، السابقات، الحاضرات، الآتيات بمشيئة الله.
يدور الجسد الشهي المنقوط من السماء.
لماذا؟
لم يكن يدور من قبل، إن هذا الجسد لم يخلق إلا للرقص، كيف طوعت هذه الوحشية البيضاء كل مادة الحياة؟! حركة كل عضلة فيها تؤدي استعراضا إنسانيا راقصا بعمق متفرد، كل عضلة فيها كانت تنشئ فهما بهيميا ينفي ذاته، يتعالى على كل شيء ...
الروح، البحيرة، الشبق، الديمومة، ينفي نفسه المتعالي عليها. كل عضلة مهرجان وثورة/عشرات النساء يؤدين أوبرا الأبدية.
يدور به الدرويشان، يمزقان نياط مدينته، يسحرانه عينا وأذنا .
كيف طوعت هذه الوحشية الروح في تموجات عضلات جسدها عبر إيقاع البنت المترجمة المسحور؟! كيف استنطقت عصارة السر من علياء البنيان؟!
لا، لا.
لماذا لم يعرف أن روح الجامد الساكن المنقاد هي ثورة الجسد؟
لماذا لا يؤمن؟
يدور به الدرويشان.
لماذا لا تؤمن؟
ترقص.
ترقص.
ترقص.
يدور به الدرويشان، تذوب الروح.
ترقص.
ترقص.
ترقص.
تذوب الروح وتصبح الجسد.
ترقص، ترقص، ترقص، ترقص.
ثم غاب عن الوعي، أنامه ملكان، أيقظه ملكان، نظر به نحو البحيرة الساكنة شيطان الحاضر الآن.
واأسفاه!
أين ذهبتا؟ كم سنة نمت؟ •••
بالكهف عاوده الإحساس بالضياع، بالوحدة، بالخوف، بالحزن.
مكسيما.
تمليخا.
مرطونس.
نينوس، ساريولس.
فليستطيونس.
قمطير، حمران، أو ريان.
ماذا لو كانوا قربي الآن، نائمين هنا؟ ماذا لو أتت الفتاة البيضاء رقصت على إيقاع شخيرهم المنغم بشهيق قمطير، هلوسة فليستطيونس وهو يرى في المنام أن ذئبا يتحرش بأغنامه؟
هل كانوا سينقلبون قليلا جهة اليسار إذا هي حنت رأسها قليلا جهة الشرق، اندلقت خصلاتها الشقراء على نهديها؟ وهل إذا انتهرت عضلة واحدة بردفها وأرقصتها بإيقاع خفيف مموسق، بزفير ثمليخا ذلك الحاطب التعب المرهق الذي استراح، أو شاء له أن ...؟
أكل لحم الذئب المشوي شواء رديئا على عجل، وشرب قليلا من جعة الأناناس قبل أن يأخذ كاميرته وملحقاتها، يغلق الكهف بغصن من الشوك كبير، يتجه بخطى عجلة نحو البحيرة، سأقوم بتصويرهما هذه المرة، يجب على الصادق أن يرى مثل هذا الرقص الذي لا يشبه الرقص.
في دخيلة نفسه كان يعرف أن الصادق سيهتم أيضا بساقي الفتاتين العاريتين، سيهتم بسوقهن، سيهتم بالرقص، سيهتم بسوقهن. كمن في مخبئه قرب البحيرة، نصب كاميرا كوداك صوب موقع أداء الرقصة السابقة، مرن نفسه بتصوير البحيرة، انحناءات الأغصان بتأثير ريح خفيفة ناعمة، تهب من جهة الجنوب الغربي، صور سربا من أطيار ذات أرياش جميلة، ألوان زاهية كانت تحلق على سطح البحيرة الممتد أميالا في أفق ينتهي بأشجار عالية بعيدة. ثم قرر أن يحتفظ بطاقة بطاريته الجافة لتسجيل رقص البنتين، لربما سترقص اليوم الفتاة المترجمة، ستحضران حالا بين لحظة وأخرى، لقد حضرتا بالأمس في نفس هذا الوقت إلى ذات البحيرة.
ستحضران حالا، سترقصان حالا بذات النشاط.
تلهى بالأشياء حوله، ينتظرهما، لكن الزمن سيمضي ممثلا في عقارب ساعته، واستدارت الشمس نحو الغرب وهو لا يحس بذلك، أو كان يخدع نفسه ويسقطها في فخاخ استراتيجية عميقة بتكتيك عسكري كان يصدر لهما الأوامر؛ ستحضران حالا.
حان حضورهما واستسلم لإرهاب العاطفة وتخدير المخ، الموقع بالأمل في الحضور الفوري، الرقص الفوري، العري الفوري، العري العظيم المقدس.
كمدمن في انتظار جرعة مخدر تأخرت، كحبلى على فراش الولادة في انتظار الطلق، كان كلا يدري.
في تلك اللحظات تكثفت حاجات العمر كله في أمل واحد لا غير، ضاق الكون بما فيه، انكمش، متمثلا في عضلة تنتفض على إيقاع بنت، عضلة في ردف جنية، غناء الأطيار، ألحان المغنين كلهم، موسيقى الطبيعة، نغمة من فيه صبية البحيرة.
لحظة هي المدد عند الصوفي.
شاءت ألا تكون.
عندما وعى غروب الشمس نتيجة لاحتجاب الرؤية، أصدر أمرا ميدانيا حازما لنفسه: سيطلع القمر وسيحضران حالا.
نعم، ليعلو القمر قبة السماء بعض الشيء، نعم، لا بأس، ليصعد قليلا.
يوميا كان يشهد شروق الشمس على شط البحيرة، يشهد غروبها على الشط الآخر، ينتظر بتلهف ميئوس مدم طلوع القمر، ثم يعود لأهل الكهف يشاركهم الغياب.
الليلة قمرية.
مضاء الدغل كله، مظلم الأمل في غرف ذاته، مشتى الحزن، القمر يضيء كل شيء إلا الحزن، إنه يزفته ويطينه.
يستطيع من أمام كهفه أن يرى بنايات القرية، النار المضرمة بالكهف تستعر معها فراغات الكهف، وحدته.
كان يستمع إلى راديو فرنسا الدولي، في الحق لم يكن منتبها لما يذيعه الراديو، أيضا لم يكن منتبها لما يدور خارج الكهف؛ لأنه إذا كان منتبها لسمع صوت البنت المترجمة تنادي:
You Man. You Man .
حركت الشوك المنسد به باب الكهف، حينها صاح مذعورا: من هناك؟ من هناك إنس أم جان؟!
هب واقفا على رجليه، بيد مرتجفة أمسك فأسا قريبة منه، قالت الفتاة المترجمة تزيح الغصن الشوكي تماما عن الباب: أنا فلوباندو، الفتاة المترجمة، ناديتك من الخارج ولم تسمع.
كانت تتحدث بهدوء وطلاقة، بلغة إنجليزية راقية، بأعصاب باردة كأنف كلب.
بادرها: هل أنت وحدك؟ - نعم وحدي.
في الحق لا يدري لم سألها هذا السؤال، لكن للسؤال جذورا متأصلة في عمق مأساته، من تظن كان يجب أن يكون في صحبتها، أم أنك تريدها وحدها؟ جلست على أرض الكهف بأدب، ضامة فخذيها، متخذة من ساقها اليسرى مسندا، قدم لها سريره الجوال كي تجلس عليه، لكنها رفضته قائلة إنها تفضل الأرض لأنها تعودت على ذلك، ثم أضافت: الأرض لا تؤذي أحدا.
إنها أمنا جميعا، وهكذا أيضا كان يؤمن مستر جين ومسز جين. - نعم، عرفته إنه البدائي. نعم، كنت تقيمين معهما في المنزل، أليس كذلك؟ - نعم، ليس بالصعب أن تتنبه إلى ذلك. - نعم.
في الحق هي تحب الثرثرة عندما يكون المثرثر فيه آل جين، وهو أيضا يحب أن يعرف عنها الكثير لكنه يحب أن يبدأ الكلام بالمقلوب؛ ليس بالآباء ولكن بالنسل، الحفيدة. - هل البنت البيضاء هي ابنتهما؟ - سنيلا؟ أين رأيتها؟ إنها سنيلا.
صمت - حسبما خيل له - لوقت قصير جدا، لكنه في الحق صمت لوقت طويل جدا، شرد فيه بكليته الواعية إلى حركة مفصل الركبة المتزامن مع اهتزاز طفيف للنهدين وحنية الرأس جهة اليسار. - سنيلا، سنيلا! - أنت تهذي، هل تعاني من مرض ما؟ - لا شيء على الإطلاق. - إذن لا تجلسين على السرير. - بالأرض هوام. - الأرض لا تؤذي، الأرض لا تؤذي.
كانت تحدثه عن مسز ومستر جين البدائيين بشهية غنائية وبرؤية بسيطة صادقة ببصيرة كلب/طفل.
في البدء كانا ملكين هبطا في غفلة عن العادي إلى الأرض، جاءا من حيث لا يدري أحد، كنا أطفالا تقتلنا الدهشة ونحن نرى لونهما الأبيض، لبسهما وألوانه الزاهية التي كانت تفعل فينا فعل السحر، عيونهما الخضراء تشبه عشب الخريف، عربتهما، كل شيء، كل شيء. لكن ما كان يثير القرية ويفتح شهية الكواكيرو شخصيا هو الأمل المتمثل فيما يمكن أن يحدثه هذان الشخصان من تطور.
لا بد أنهما سينشئان بيتا للتعليم.
لا بد أنهما سينشئان بيتا للعلاج .
لا بد أنهما سيعلمان الدغليين طرقا جديدة لكسب العيش والحياة الأفضل.
لا بد أنهما سيصبحان رسولين للحضارة والتقدم اللذين ينعم بهما بلدهما.
هكذا فعل البيض في الشرق، هؤلاء البرص أصحاب العيون الخضراء يفعلون المستحيل، إنهم سحرة لا يبارون. لكن يعلم أهل القرية أيضا أن الأبيضين يبدأان ببناء بيت لعبادة الرب المثلث، ثم جند لحماية البيت أو يتاجران بالرقيق.
في ذلك الحين سنحرقهما.
الدغليون لا يعرفون أحدا يتوجهون إليه بأدعيتهم ويطلبونه ساعة المخافة ويحمونه في سريرتهم غير برم بجيل. - اسمي سلطان تيه.
فلوباندو، فلوباندو، أين سنيلا الآن؟ - إنها في القرية الآن، اليوم ليلة الاحتفال ب «وز»، كما تعلم هو الحارس لجد القبيلة. - وهذا ما جئت لأجله، من أجل سنيلا، لا من أجل ليلة «وز». - آه، نعم، اختلط علي الأمر. - إذن هل سأذهب معك لمشاهدة الاحتفال؟ - للأسف لا، لا يحضر الاحتفال الغرباء إلا أصيبوا بالعمى لأن «وز» سيرى.
إلا أصيبوا بالخرس لأن «وز» سيتحدث.
أما أنت بالذات، ردودا داما، ملعون.
ما لم تذئب.
ما لم تأكل كل لحم الحارس.
ما لم تتخذ فراءه لك فراشا دائما، ما لم يسكن روحك، ما لم تكنه، تكنه، تكنه، تكنه. - إذن ماذا تودين القول لي؟ - يجب عليك أن تنام هذه الليلة خارج الكهف، طالما كان القمر يمشي في السماء يظل الجد «وز» يرى دغله مكشوفا، وسوف يراك لأن عينه القمر.
حاول أن يتلقى الخبر بشكل جاد وألا يسخر منه لأن السخرية تغضب فلوباندو، وغضب فلوباندو يعني غضب السلف الحارس «وز»، هذا يعني غضب القبيلة، هذا يقود إلى عدم رضاء الحراب والفئوس عنه.
قبل أن تنهض جامعة جسدها من على الأرض سألته: هل تريد شيئا؟
قال بصورة جادة وبصدق: نعم، فقط لو ترقصين قليلا، بعضا من الرقصة التي أدتها سنيلا على شاطئ البحيرة الأسبوع الماضي ولا شيء أكثر.
الغرباء
عرفنا ذلك في وقت مبكر من صبيحة اليوم الرابع عشر. قالت له فلوباندو، تتكئ بظهرها على جذع دليبة عملاقة بعيدا عن الكهف: أخبرنا بشأنهما المحاربون الذين كتموا الأمر كما يجب عليهم أن يفعلوا عندما يكون الأمر مهما وخطيرا، لأسبوعين كاملين كانوا يرقبون سلوك الغرباء، أصحاب الحمار الكبير، البرص. عندما جاء البناءون أخذوا في تشييد البيت الكبير، كان المحاربون أيضا هناك خلف الأشجار في جحر الذئاب والحلاليف، على قمم الدليب والتبلدي الحبب يراقبون في صمت، ينقلون ملحوظاتهم في إشارات صغيرة إلى بعضهم البعض، اجتمع مجلس المحاربين مرارا وتكرارا متباحثا في شأن الغرباء؛ هل نجبرهم على مغادرة الأرض؟ هل نسمح لهم بالبقاء؟ هل نقتلهم؟ هل نسجنهم بالكهف إلى أن نستبين مقصدهم؟
لكن الكواكيرو ومعظم نوابه يرون أن قدوم الأبرص إلى أرضهم لا يعني دائما الصيد، الكنائس، الرقيق، الحروب، ربما يعني حياة جديدة متحضرة كالتي في الشرق، أليست من صنع الأبرص المصانع، المواصلات الحديثة، المزارع الكبيرة، الآلة الحربية، الطعام، الشراب، اللباس؟ أليس كل ذلك من صنع الرجل الأبيض في الشرق؟ مضى عهد الاستعمار ولا عودة، ومضى قبله الاتجار بالرقيق ولا عودة، مضت عهود مشابهة كالعهدين، عهود كثيرة متباينة. نعم، ورثنا من تلك العهود الحذر والخوف، لكن ما يميزنا نحن في قبيلة «لالا»، ولو أننا لا نزال في وحل التخلف/الفقر/العوز، إلا أننا نسعى بكل جد أن نصبح قبيلة ذات شأن ولو مقارنة مع قبائل الدغل الأوسط والشمالي، لن نكون كذلك إلا عن طريق العلم والمعرفة، بدا ذلك واضحا عندما ابتعثت القبيلة عشرة من أبنائها للشرق لاكتساب المهارات العلمية/الحديثة، أنفقت عليهم من ذهبها الكثير، لكن هل عاد الأبناء؟ هل تخلت القبيلة عن مشروعها الحضري؟ لكن هذه هي فرصة أخرى، قدم الأبرصان إلى ديارنا، أتصبح ضربة الحظ التاريخية؟
بعد مداولات كثيرة قرر مجلس الكواكيرو إمهال الأبرصين زمنا قبل الحكم عليهما قمرين كاملين. وعلق بندو مندو، أحد المحاربين، صاحب كلمة مقدرة: علينا أن نتفاءل، إذا كانوا غير ما نشاء - كانوا قتلة - قتلناهم.
في اليوم الرابع عشر عند الفجر أعلمنا بوجود أبرصين بشرق أرض «لالا»، بين خور السلاحف ووادي الأناناس، وانطلقنا نحوهما أطفالا ونساء وبعض المحاربين الذين ربما كانوا ينشدون الفتيات وهن ينشدن فتيانهن. كنت في السابعة من عمري وتبقى لي من سن الحماية عامان، لذا كان من يشغلني الأبرصين ولا شيء آخر، ولا يشغلني الشبان.
ظللت أجري بكل ما لدي من قوة، أقفز فوق الأعشاب الشوكية الصغيرة، أعثر بالحجارة وجذوع الأشجار، كان علي أن أرى الأبرصين قبل أن يختفيا فجأة؛ يطيران في السماء، أو يغطسان في الأرض، كان علي أن أراهما قبل رفاقي جميعهم لأشير إليهم انظروا.
عندما أشرفنا على خور السلاحف سمعنا نباح آلتهم، فزعنا في بادئ الأمر وتجافلنا كسرب الغزلان الذي فوجئ بالنمر، تجافلنا في كل صوب وجهة أيضا بعدما يتجمع السرب بعد مخافة، تجمعنا ضحكنا على بعضنا، تشجعنا ببعضنا ومضينا نحو البرص، سأكون صريحا وواضحا مع فلوباندو. قال لنفسه أيضا: أقول لها أنا أحب سنيلا البرصاء. وعندما استمعت لمقاله لم تندهش ولم يبد على وجهها أي انطباع يستطيع قراءته، عيناها عاديتان باردتان. عندما تفوهت قالت: كل الناس يشفقون عليها مثلك!
قال في انفعال ظاهر: لا، ليس شفقة، ولكني أحبها.
وصرخ هاتفا:
I Love Her! .
قالت ببرودة وهدوء: نعم كلنا نحبها، جميع القرية، وليس لها ذنب أن تصبح برصاء.
عرف بينه وبين نفسه أن الإشكالية هي إشكالية لغة وتواصل، ربما تعني كلمة حب عند فلوباندو الشفقة لا أكثر، هي ذات الإشكالية التي واجهت آل جين في الماضي عندما شاءت مسز جين أن تعلم فلوباندو اللغة الإنجليزية وشاءت أن تتعلم لغة «لالا»، كانت كلمة حب
LOVE
ليس لها ما يقابلها في لغة «لالا» غير كلمتين؛ الأولى: ممارسة الجنس «تر»، الثانية: الشفقة «نوشك»، فضلت مسز جين أن تختار المعنى الأخير لتقابل به كلمة حب «ميبظ»، وكانت كلمة «لالا» المقابلة هي «نوشك». إذن ما كان بإمكان سلطان تيه أن يجعل فلوباندو تفهم مقصده إلا إذا قال لها: أريد أن أضاجع سنيلا.
لكن هل يريد سلطان تيه حقا أن يفعل ذلك، ولو أن حبه لها يقود إلى ذلك؟ ألا يحتاج الأمر لشيء من التكتيك والدبلوماسية؟ بائس متشائم، يغسل على حجر بالشاطئ ملابسه الداخلية، كان محبطا، لا يدري كم مضى عليه وهو بالكهف، لا يدري كم تبقى له من سجن ولحم ذئب، تفوح منه رائحة الذئب، من جلده، من أنفاسه، عرقه وصنان إبطيه، بوله. توقفت فلوباندو عن زيارته، لا يدري سببا لذلك، كانت تؤنس وحدته بحديثها الذي لا ينقطع عن مستر ومسز جين، عن تاريخ الدغل، حروبه القديمة، أساطيره، نشأة سكانه، روابط الدم بينهم، قبائل الدغل الأخرى، خصومتها مع سكان الدغل الشرقي المتحضر، عن برم بجيل.
أهلي كثيرا ما يرسلونني مع المتسوقين إلى المدن المجاورة كمترجمة، سافرت كذلك إلى كل دول الجوار على حمير الوحش لتسويق الذهب أو شراء بعض الأبقار أو جلب البترول لعربة الجيب. إذن هل سافرت فلوباندو في رحلة طويلة إلى مكان ما؟
حتما ستأتي وإن طالت وحدتي.
هكذا أصدر قرارا نهائيا لنفسه بالأمل، وتخيل مجرد تخيل أنها عادت ومعها الجميلة، جنة روحه، سنيلا، كأجمل ما تكون، بشرتها تشع نورا، نورا أزرق، فمها يرتجف في انفعال وهي تقول له: أنا هي سنيلا، هل تريدني؟ إذن أنا بين يديك، أمرك يا سيدي! - أريدك، أريدك أن ترقصي. - هذا أقل ما يمكن فعله من أجلك، لكن أين البحيرة؟ الرمل؟ أين أطيار الكرووو كروووو؟ أين عيد مابندوتييرا؟
ثم ضحكت وتلاشت، إنها خدعتني ...
لاحظ سلطان تيه أنه ليس بالبحيرة أسماك، ماؤها نقي صاف تتغلغل بينها خيوط الصابون الرمادية مكونة جزيرة صغيرة من التلوث الكيميائي الذي يبدو غريبا. ليس من اهتماماته الفعلية صحة البيئة، ولو أن الدراسة التي يجب أن ينال بواسطتها شهادة الدكتوراه تدعمها منظمة السلام الأخضر العالمية، لكنه باحث أكاديمي ذكي فحسب، ليس له انتباهات لغير آلية العمل الأكاديمي، ليست روحه، يعرف في قرارة نفسه أنه كالكمبيوتر، يعمل بصمت/جدية وإتقان، لكن بغير عاطفة، يستعجب لذلك!
أخذ ينشر ملابسه على أشواك الأشجار والأحجار على الشاطئ، رائحة الذئب تزكم أنفه، سيبقى اليوم بطوله في الماء، سيدلك جسده بالرمل والطين والصابون.
لكن أنفاسه رائحة الذئب.
ويل لمن يقتل الذئب! وويل لمن يأكل الذئب! وويلات لمن أكله الذئب!
تخيل سنيلا تقول له: سأحبك كثيرا لأنك الآن ذئب مقدس، آه يا ذئبي المسكين الأكثر قدسية! ...
صعد جذع شجرة ضخما ملقى على الشاطئ، قفز نحو الماء الساكن الهادئ، تشظى الماء مندفعا في كل الاتجاهات قبل أن يبتلعه لثوان ثم يلفظه للسطح فيسبح متوغلا في عرض البحيرة، كان العالم حوله ساكنا، الصوت الوحيد هو طجطجة كفيه على سطح الماء ودفدفة رجليه دافعة الماء للخلف، إلى الأمام.
ماذا لو جاءتا الآن فجأة، سبحتا قربي كما تسبح الجنيات في أنهار الأحاجي القمرية؟! أنت لا تعرف شيئا عن مستر ومسز جين.
أنا أعرف كل شيء عنهما، أريدك أنت أن تعرف ما أعرف، وأنت فقط تهتم بسنيلا تلك البرصاء، لكن في هذا الدغل ما هو أهم منها.
أول ذلك مسز ومستر جين.
أول ذلك الكواكيرو.
أول ذلك «لالا»، «فترا»، «سارا»، «شاري».
أول ذلك الدغل نفسه.
أصبحت حكاية الأبرصين هما يوميا لنا، عندما رأيناها أول مرة كانت بيضاء وشاحبة كأنها حجر طباشير، ليست بها قطرة دم، جسدها صغير هزيل، ولو أن عمري لم يتجاوز الثامنة إلا أنني كنت أفوقها حجما وعافية، كنا نسمعها تسعل بين الفينة والأخرى، عندما تخرج إلينا نهرب نحن بدورنا نحتمي بالقش والشجيرات، كانت تبتسم لنا تلك الابتسامة الهزيلة التي عرفت بها فيما بعد. ذات خروج أشارت لنا أن نقترب منها، فرطن لنا الكبار محذرين أن نفعل، لكنها كانت تصر على ذلك، أحسست في عمق نفسي أنها كانت تطلبني أنا بالذات، لم لا أذهب إليها؟ إنها تحتاجني، فلم لا؟ وأمام دهشة الجميع تقدمت نحوها.
تدور، تندوم، تررم!
لكني ذهبت، في الحق لا أدري هل هي التي أتت إلي أم أنا التي ذهبت إليها، المهم وجدت نفسي في حضنها، كان حضنها دافئا مثله مثل حضن أمي، إذا تهامسنا به في شأن رائحتها، محض افتراء، ليست بجسدها رائحة الثعبان، ولا حتى شمام عرق الكلب، بل العكس كانت تفوح منها رائحة الياسمين البري بعد هطول أوائل أمطار الشتاء، فقط كلامها يشبه نباح السمع مرة، وأخرى يبدو كأنه زقزقة الطيور، وهو نتاج لعدم معرفة البرص للكلام مثلنا. أجلستني قربها، كنت ثقيلة على رجليها الهشتين، بأناملها البيضاء الناعمة تتخلل شعري، أسمع خشخشة شعري الجاف محتدما بأظافرها، يبدو أنها تستلذ فك انكماشاته، كلمتني كلاما فهمته ولو أنني لا أعرف رطانتها، كانت تقول لي: ابقي معنا في هذا المنزل.
قلت لها: سأبقى.
لم أعد للمنزل، في ذلك الحين كانت بأسرتنا مشاكل خطيرة أساسها انشغال أبي وانسحاره بواسطة تيري زوجته العجيبة التي تسببت في اختفائه إلى الآن، أمي مشغولة أيضا بشأن تيري وأبي، المهم في الأمر أن لا أحد يهتم بأحد في المنزل.
نعم، كانت والدتي تصنع الطعام بصورة منتظمة، تطعمنا جميعا، أنا وندى ونيرو وأبي وزوجته تيري، لكن يتم ذلك تحت عاصفة من الشجار المستمر واللعنات، تحت عاصفة من التهديد والوعيد، وأنها سوف لا تصنع الطعام وسوف لا تصنع الجعة، وسوف لا تجلب الماء من البئر، سوف لا تحتطب مع الحاطبات، وسوف تذهب لوالدها تاركة أبينا، ولترضعكم تيري من ثديها الكبير جميعكم، ولترضع نفسها أيضا، وهكذا تفعل التيرا.
أمي تهتم بإدارة الشجار اليومي أكثر من الاهتمام بنا، رغم ذلك عندما أخبرها العائدون إلى القرية بأنني بقيت مع البرص في بيتهم ذي السقف المسطح ذعرت، جرت نحو قطية أبي وأخذت تضرب على باب الخشب بكل قوتها طالبة من أبي أن يعيدني للمنزل، لكنها كانت تعرف مثل القرية كلها إذا اختلى أبي بها جامعها، إذا جامعها يستحيل عليه الفكاك منها، يقولون إنها مثل الكلبة لها ما تقبض به شيء الرجل إلى ما تشاء، وهكذا تفعل نساء قبيلة الكا. حملت أمي حربتها، جاءت إلى بيت البرص، أخذت تدور حول المنزل إلى ما بعد منتصف الليل، حيث عرفت ذلك من خلال صوت الليل قرب النافذة، عندما خرج مستر جين وجدها تقف بعيدا متكئة على حربتها، سلط عليها ضوءا قويا من بطارية متحركة، هربت في عمق الدغل.
مثلي مثل كل أطفال القرية عارية حافية، ليست بجسدي غير قلادة من الخرز حول خصري وتميمة معلقة على عنقي مدلاة على صدري لتحميني من الأرواح الشريرة، لا أدري هل كان جسدي نظيفا أم تفوح منه رائحة نتنة، لم أذهب للاستحمام في البحيرة منذ أسبوع مضى.
أدخلتني مسز جين الحمام، ولأول مرة أرى الماء يهبط من السقف كالمطر، كان دافئا لذيذا، لكني افتقدت فيه انطلاقة البحيرة واللعب الذي عادة يصاحب الاستحمام، عطرتني بعطر له رائحة مسك الغزال، كانت سعيدة جدا ومثلها زوجها؛ يتحدثان، يضحكان، يقولان لي كلمات ما كنت أفهم منها شيئا غير أنني كنت أرد دائما بابتسامة تدل على أنني: أبادلكم شعورا جميلا جدا.
ألبستني فستانا جميلا أبيض اللون، ناصع البياض، هذا أول شيء ألبسه في حياتي بعد بطن أمي، كنت أحس به يضغط على جسدي، ولو أنه كان فضفاضا إلا أنه لا يحتمل، غريب مدهش في آن واحد، حاولت نزعه والتخلص منه، لكنهما أجبراني على إبقائه بجسدي، كان يخزني كأنما به أشواك التين، وخز حلو مدهش، عندما أتخيل كيف سيصيح أهلي عندما يرونني في هذا الملبس الذي ليس بإمكان طفلات الكواكيرو نفسه، كيف ستهتف أمي.
بتاتا، تلو، تلو وا.
وهي تضرب كفا بكف.
لا أدري متى نمت.
غير أني عندما استيقظت في الصباح الباكر وجدت نفسي على لحاف ناعم لم أر مثله في حياتي، إنه لا يشبه لحاف أوراق الموز الذي نلتحف، وهو أيضا أنعم من لحاف الريش الذي صنعه أبي لزوجته الجديدة تيري.
استيقظت على خجخجة أهلي.
باندو.
باندو.
باندو شواتينق.
كانت فلوباندو تحكي له عن الأحداث التي مضى عليها قرابة العقدين كأنها حدثت بالأمس، بصوتها سخونة الطهو، وبأنفاسها أبخرته، وفي مخيلتها الأحداث تنضج الآن، قالت له يريدها أن تتحدث عن سنيلا، برصائي الفاتنة، سنيلا، قالت: القرية كلها كانت هنالك، المحاربون يمتشقون آلياتهم، الكواكيرو على ظهر حمار وحشه القوي، هنالك أعيان كثر، آباء، أمهات، أطفال، كلاب وأطيار.
هل أنت على قيد الحياة؟
عندما أخذت مسز جين في خلع ملابسي الجميلة البيضاء التي بدت ناصعة ومبتهجة في ذلك الصباح، حزنت وأحسست بموت الدهشة باردا في، قاومت، فعلا بدأت في الصراخ لولا أنها أسعفتني بثوب آخر جديد، أجمل ثوب في الدنيا كلها مرسومة عليه ورود، به ألوان جميلة متنوعة، عليه أيضا عصافير ذات أرياش زاهية رقيقة، وبه شجر وسماء وبه سحر غريب، عرفت فيما بعد أن مستر جين قضى ليله كله في حياكته وإعداده من أجلي. حينما خرجت وأنا في ذلك الثوب إلى قومي وعشيرتي، مسز جين ترتدي طبقه، حتى صرخت العشيرة كلها بنفس واحد: نبتاتا، تلو تلو، يا سيد الغابة!
تعجبا، دهشة، انفعالا، بدلا من البحث عن بقايا عظامي وترتيب الأمر والأخذ بثأري من آل جين، ها هم يشتعلون فخرا واعتزازا، ها هي أمي تجري نحوي بعد أن ألقت بالفأس على الأرض، تضمني على صدرها وهي تشم ثيابي وتضحك في ابتهاج، تتمتم: وآآآآآنا برم بجيل وآ آنا سيسي.
محوطة إياي من العين الساحرة، القلب الحاسد، النفس الحارق، سادة الظلام، من دون أية اتفاق سابق أو تفكير أسماني أهلي منذ ذلك اليوم «فلوباندو»، حيث كان اسمي «باندو»، يعني المطر، وهو اسم جدتي التي ولدت ذات خريف تاريخي، ولو أن ميلادي أنا في سنة عادية بل جافة بعض الشيء، إلا أن جدتي جاءت في النوم لأبي وطلبت منه أن أسمى عليها «باندو»، وبإضافة كلمة «فلو» هذه أصبح اسمي ما يمكن ترجمته ب «زهور المطر الكثيرة».
سلم علي يدا بيد كل أطفال القرية، أصدقاء العري القديم، ضمتني إلى صدورهن الأمهات والجدات، حياني باحترام وإعجاب المحاربون الأكارم، أجلسني على بغلته الكواكيرو، همس في أذني: تعلمي ابنتي كلامهم، في كلام البرص سر تقدمهم، تعلمي كلامهم يا فلوباندو.
وهم يودعون قالت لي امرأة صديقة لأمي عجوز: إذا أحسست أنهم بصدد أن يأكلوك فما عليك إلا الهرب، إنهم طيبون، إنهم طيبون.
خيانة النص
الساعة تشير إلى التاسعة صباحا، يمكنه الآن في ضوء النهار أن يرى الخربشة التي على جدران الكهف، قال في نفسه: ربما طالت أظافرهم واستوحشت وهم يتقلبون على مرقدهم، يمدون أناملهم فيخدشون الحائط الحجري دون وعي وهم نائمون. لكن عندما تمعن الرسم جيدا تمكن من ملاحظة اسم دقيق أنيق متوازن فنيا في مهارة فائقة؛ إنه كلبهم.
فإذا كان سلطان تيه في حالة نفسية جيدة أو طبيعية، لاستطاع بنظرة مركزة فاحصة أن يرى أن هنالك ستة رسوم أخرى على جدران الكهف، ستة رجال نائمون، هل خربش كل واحد منهم رسمه على الحائط؟ بالتأكيد قبل أن يذهب الفتية اليهود في نومهم الآمن تحدثوا قليلا عن الوضع السياسي في أورشليم، لا بد أن مكسيما أكد لهم - كما رأى في الحلم في الليلة السابقة - أن أنتيخوس الذي يحب دائما أن يسميه نابيفانيس الإغريقي الوثني عابد الحجر، سيكون مصيره مصير حكام بابل وآشور وفراعنة مصر الذين سبوا وعذبوا جدودهم مئات السنين، الفناء هو مصير الروم، وتلا من التوراة: سوف تحطمين يا بابل.
سعيد هو الرجل الذي يفعل بك ما فعلت بنا.
الذي يحمل أطفالك ويضرب بهم الصخرة.
أما فليستطيونس الراعي، كان مشغولا بصبية راعية التقى بها عرضا على ضفاف نهر كيشون بينما هي تقود أغنامها متوجهة إلى جبل كارمل، هو من جبل كارمل، يود عبور النهر، حافية تلتف بثوب من الكتان، خشن من البرد، وجهها الخمري حلو وجاف، به عينان أجمل ما رأى، أو هكذا خيل له، عندما استوقفها لاحظ ذلك، لاحظ أيضا أنها لا تحمل عصاة كعادة الرعاة، سألها: أين تذهبين؟
قالت: إلى السفح. - لماذا أنت وحدك؟
قالت: معي الرب.
قال: أين هو؟
أشارت إلى شجرة بعيدة بإبهامها.
قال لها: منذ صغري وأنا أبحث عن الرب، أريد أن أراه، هذه أول فرصة تتاح لي، هيا نذهب إليه.
قالت: فلنذهب.
لكن لمن تترك أغنامك؟ سيأكلها الذئب.
أما أنا فهو في طريقي.
قال: طالما كان الرب ليس ببعيد فليشمل بحمايته أغنامي أنا أيضا. - ولكن ربما تضرع الذئب إلى الله.
قال: لا بأس، إني أريد أن أرى الرب، لكن لا بد من تضحية.
ومضيا نحو الشجرة، سارا لنصف الساعة لم يدركاها، سارا لمسيرة يوم كامل ولم يدركاها، قضيا الليل مشيا، عند الفجر كانت ليست ببعيدة عنهما، فسارا للظهر ولم يدركاها. حينها أدرك سرا غامضا ، نظر خلفه، لدهشته أن أغنامه ليست ببعيدة عنهما، يستطيع أن يسمع ثغاءها، نظر إلى عمق عيني الفتاة الصغيرة، نظر بعمق، قالت له: قبلني ...!
قبلها.
عاد إلى أغنامه. كلما التفت إلى الخلف كان يراها تلوح إليه بيدها مودعة، ظل على هذا الحال يوما كاملا، ثم يومين، ثم نصف اليوم، إلى أن غادر وادي كيشون، عندما حكى لمرطونيوس صديقه صائد الأسماك هذه الحكاية سرا، همس مرطونيوس في أذنه: قل لي، هل مسستها يا فليستطيونس، هل مسستها؟
قال محتارا: ماذا تعني «مسستها»؟
قال مرطونيوس بشكل واضح: هل ضاجعتها؟
قال وبفمه جفاف وطعم ملح: لا، لم أفعل، فقط كما قلت لك قبلتها، طلبت مني ذلك بنفسها. - إنها بطلبها منك أن تقبلها زوجتك نفسها.
ثم أضاف بحسرة مرة: كان بإمكانك أن تصبح أبا لنبي ينقذ بني إسرائيل من الرومان ويحقق أحلامهم، يا لك من تعيس!
وأخذ يبكي بكاء مرا!
ومنذ ذلك اليوم أقسم فليستطيونس أنه إذا حدث وصادف أية فتاة أو أية امرأة وحدها في المرعى أو النهر، أو ... أقسم على أنه لن يدعها تذهب ما لم يضاجعها، حتى ولو يؤدي الأمر إلى المجازفة بحياته.
وكم تردد على وادي كيشون وجبل كارمل وأودية أخرى مقدسة وجبال، وزار حتى الوادي المقدس بسيناء! لكنه لم يجد الفتاة ولا الشجرة، كلما رأى شجرة خيل إليه أنها شجرة الرب، مشى نحوها، عندما يدركها يدرك أنها ليست الشجرة.
كان سلطان تيه يحاول أن يرسم تمساحا ليخلده في الكهف، وقبل أن يحار في كيفية الحصول على الإزميل أو كيف يرسمه لأنه لا يعرف شيئا عن النحت، إذا به يسمع وقع أقدام قرب باب الكهف، قبل أن يسأل من القادم هتف سؤال بذهنه: كيف تمكن فتية الكهف من الوصول إلى هنا، وبينهم وبين هذا الكهف بلاد وبحار وتعب؟ لكنه استطاع أن يقول لنفسه: إنهم بينوا مجرد بيان. •••
أنا فلوباندو ومعي سنيلا، هل تأذن لنا بالدخول؟
في لمح البصر نسي كل شيء عن قمطير، فليستطيونس، مرطونيوس، الكهف، نسي كل شيء وهتف في لهفة : سنيلا!
ثم أحس أنه فضح نفسه أكثر مما يجب فأضاف بهدوء: سنيلا وفلوباندو، تفضلا، ادخلا، أهلا ...
كانت سنيلا الجميلة جميلة!
كانت فلوباندو الجميلة قبيحة!
وكان هو سعيدا بحزن عميق، سعادة لا يحدها عمق الحزن، هذه هي الفتاة التي حلم بها كثيرا في كهفه، هي الآن أبعد ما تكون عنه، وسيفقدها الآن ذاته. حاولت فلوباندو أن تعرفه بها أو تعرفها به وهي تعلم أنها تعرفه، فهو أشهر من في القرية كلها؛ الغريب الآتي من الشرق، قاتل الذئب. هو يعرفها، يعرف كل عضلة أدت رقصة البحيرة، كانت كفها خشنة بعض الشيء، لاحظ ذات الملمس في كف فلوباندو.
حينما خاطبها بلغة أمها الإنجليزية كانت تنظر إليه في بله وغباء، إلى أن أنقذت فلوباندو الموقف قائلة: إنها لا تعرف غير لغة «اللالا» بلهجة الدغل الأوسط والشمالي فقط ...
قال مندهشا: أليست هي ابنة الجين؟
نعم، نعم.
لكن الأمر يحتاج لشروحات كثيرة؛ لأنه عندما تخلى مستر ومسز جين عن لغتهما واعتنقا لغة ودين القبيلة، فرضا ذات اللغة على سنيلا وبانارودونادو اللذين ولدا في قمة سقوط الجين.
سقوط؟!
نعم، هكذا سمى قوم «لالا» الحالة التي وصل إليها آل جين، عادا إلى قرون كثيرة إلى الوراء، كان الأجدر بهما أن يقودا القبيلة إلى عصر جديد، فقط لو أنشأ بيتا للتعليم وآخر للعلاج، أو شجعا الكواكيرو مجرد تشجيع لمواصلة برامجه في إرسال أبناء القبيلة للتعلم في أنحاء الدنيا الكثيرة، خيبا أمل القبيلة فيهما.
كان يعرف أن فلوباندو ستسهب في الحديث عن آل جين، يريد أن يعرف عنهما الكثير، لكن الآن يريد سنيلا، فقط سنيلا.
وكأنما سنيلا قرأت ما في ذاته حينما سألت فلوباندو: عن ماذا تتحدثان؟
قبل أن تجيب فلوباندو سأل هو فلوباندو: ماذا قالت لك سنيلا؟ - سألتني عن ماذا نتحدث. - قولي لها: إنه يقول إنك جميلة، جميلة، جميلة، مثل، مثل شجرة الباباي، جميلة مثل القمر، أو أي شيء تعرفه هي بأنه جميل.
قالت فلوباندو باستياء: ولكنها برصاء، ألم تلحظ ذلك؟ - أنا أعرف، أعرف أنها جميلة، وما عليك إلا أن تقولي لها ذلك، جميلة مثل أجمل شيء عندكم ... - كلب الصيد مثلا؟
قال مندهشا: كلب! - ألا تريد أن تقول إنها جميلة؟ - لا بأس، قولي لها ما تشائين؛ كلبة صيد، ذئب براري، حمار وحشي، أيا كان.
كانت سنيلا تتابع الحوار بانتباه عميق واهتمام حقيقي، وبعد أن رطنت لها فلوباندو بكلمات قليلات حنت رأسها، ثم قطرت دمعة حارة على خدها الناعم الحلو، ثم بنظرة بها بؤس العالم كله رمقته: كاب بوقو واوا! - ماذا قالت؟ أخبريني يا فلوباندو ماذا قالت، إنها قالت شيئا.
قالت فلوباندو بهدوء: تقول: إنك رجل طيب.
قال منفعلا: إذن تظنني أجاملها، فقط مجاملة.
خيانة النص مرة أخرى
قالت بهدوء: هذا هو الواقع، إنك لست أكثر من رجل طيب القلب.
قال منفعلا: لا، ليس هو الواقع، لقد قلت لك من قبل إنني أحبها، ولكن للأسف أنت لا تفهمين، وأنا لا أعرف لغتكم الرديئة العاجزة عن التعبير عن المشاعر الإنسانية، عن الحب، ألا تعرفون الحب؟! أغرب قوم أواجههم في حياتي، البوم يعرف الحب، التماسيح، كل مخلوقات الله! كان غاضبا منفعلا، استطاعت سنيلا أن تعرف ذلك من نبرة صوته، تعبير وجهه، حركة يديه، نظراته المسلطة على وجه فلوباندو الهادئ الجميل المتوحش، المرسومة عليه ابتسامة خبيثة. قالت سنيلا: ماذا يقول؟
هتف في بؤس: ماذا تقول؟ عن ماذا سألتك؟
إنها تقول شيئا.
قالت فلوباندو بهدوء وحشي بارد: إنها تقول يجب أن نعود إلى البيت.
سألت سنيلا في وداعة: ماذا يقول الرجل؟
قالت لسنيلا عبر رطانة شائكة: يقول إنه تعب ويريد أن يأخذ قسطا من الراحة!
قالت سنيلا وفي فمها ابتسامة غريبة: دعيه يرتاح، سنأتي إليه عند المساء، أحس أنه رجل مختلف بعض الشيء، ولو أنني ما كنت أظنه سيصرفنا هكذا، فلنذهب الآن.
وذهبتا.
أحس سلطان تيه بينه وبين نفسه أن هنالك خيانة ما، حدث ما حدث وهم وقوف عند باب الكهف في سرعة البرق، وهما تمضيان بعيدا تذوبان في الغابة كأنهما الحلم يهرب، كأنهما كابوس لذيذ يذوب في الأعشاب تدريجيا تمتصه الغابة، صباح غريب حقا.
وعندما عاد إلى أهل الكهف فكر في أن ينحت ولو عضلة واحدة من فخذ سنيلا، ليخلدها كما خلد حمران، لكن فجأة هاجمه سؤال: لماذا لم يكن هنالك خطأ في الترجمة متعمد؟ هل تحبني فلوباندو وتريدني لنفسها؟ هل تغير فلوباندو من سنيلا؟ وتذكر أن فلوباندو قالت له ذات مرة في معرض حديثها عن آل جين وغرائبهم أن مستر جين استحلم لها الشيطان، أكد لها أنها لن تتزوج إلا شخصا غريبا، هل أنا هو الشخص الغريب؟ لا، أنا سأتزوج سنيلا، شاءت فلوباندو أم أبت، هذه المتوحشة الجميلة سنيلا خلقها الله من أجلي، وما القدر الذي أتى بي إلى هنا إلا تدبير من الله. •••
جاءه الحارسون بلحم مجفف مذءوب وماء، أتوه بمشروب له رائحة ذكية ورغوة ناصعة البياض، دنبا، شراب الأناناس. عندما حل المساء هتفت أطيار السقد معلنة مضي الربع الأول من الليل، سمع وقع أقدام.
كانت النار دافئة وشهية وهي تمتص رطوبة المكان، هتف: سنيلا ...
وعلى ضوء الأحطاب الحلو رأى طيفها، أحس بخيبة أمل، لكنه تذكر قول الصادق الكدراوي صديقه: الفحل ما عواف. سأمتع بها نفسي، إنها تحبك يا سلطان، ألقت التحية ثم جلست على الأرض وأخذت في الحديث مباشرة: لا تظن أنني جئت لأعتذر، ولا لكي أعترف، لا أتأسف على ما ترجمته خطأ لكليكما، جئت لأقول لك: لا تظن أنني أريدك لنفسي، أرغبك، فأنت لا تصلح لأية سيدة من قبيلة «لالا»؛ لأن أهم سمة تميز الرجل عن المرأة لا توجد فيك، وهي الشجاعة، وعرفت بالجبن منذ الليلة الأولى التي وجدناك فيها، فأنت لم تقاوم الأسر أبدا ولا حتى بالهرب، إذن أنت أجبن من الفأر قبل أن تؤخذ آخر أنفاسه يبدي مقاومة ولو بالرفس، لكنك استسلمت مثل جثة، لذا سخر منك القوم وأطعموك لحم الذئب كله، أي حكم عليك بعقوبة القتل الخطأ زائد الجبن، فهل بعد ذلك ترغب فتاة من «لالا» الزواج من جثة؟! لأن الجثة وحدها تستسلم بهدوء!
يا لكبرياء الجهلاء المتخلفين! كبرياء عمارات الطين!
وجئت لأقول لك إنني ترجمت خطأ لأنني أريد أن أحفظها بعيدا عنك؛ لأنها هي الأخرى لا أحد سيتزوجها، هي برصا وهو السبب ذاته الذي أعادني إليك الآن، فقبل غروب الشمس بقليل حيث تعود الأفكار للرءوس اقتنعت بأنك خير لها، فبدلا من أن تظل عذراء بقية حياتها بغير زوج لم لا تكون لك؟
رغم الإهانة التي ألحقتها به فلوباندو فإنه سر في ذاته لكون سنيلا عذراء، كاد أن يستحلف فلوباندو لتؤكد له ذلك لولا أنه خاف أن تتهمه بالعته والجنون، بالإضافة إلى الجبن وعدم الرجولة الموصوف بهما أصلا.
وجئت لأقول لك أيضا: لماذا لا تهرب الآن؟ ليس هنالك حرس يقف عند باب الكهف، لا أحد يراقبك من بين الأعشاب، فهل تهرب؟
عندما صمتت قليلا قال في هدوء: أنت غضبانة مني غضبا لا مبرر له.
قالت وهي تستعدل جلستها: أنت لا تعرف المبرر لكني أعرف، وسأقول لك بصريح العبارة: أنت جاسوس. - جاسوس ...!
هتف مندهشا.
نعم، لقد شاهدك كثير من المحاربين وأنت تحمل شيئا تنظر به نحو القرية، ورآك بعضهم تنصب شيئا على شاطئ البحيرة مرات كثيرة، واليوم أيضا، ولقد أخذني المحاربون إلى حيث كنت تفعل فعلتك وشاهدتك بأم عيني، وعندما استفسرني الكواكيرو عما تفعل قلت له كذبا إنك تترقب حركة الأطيار، وربما كنت تنظر تمساحا لا وجود له، فلا تماسيح أو أسماك بالبحيرة، لكني أعرف أنك تتجسس أو تتصل بالشرقيين.
قال مستهترا: ماذا أقول للشرقيين؟ هل أقول لهم إن أطياركم كثيرة وغريبة، وإن القرود تكثر على أشجار المانجو؟
قالت بخطورة: أنت تعرف ما تقول لهم.
لقد حدثني أحدهم، وهو نبو ولد مندو، مندو المحارب القدير، وكان أحد الشبان الذين أرسلهم الكواكيرو إلى الشرق للتعلم، التقيته بالمدينة العام الماضي، حدثني بأنكم تستعدون للمرحلة الأخيرة لتصفيتنا عرقيا، إذا صح ذلك ألا يبدو أن هنالك ما يساوي شعر الرأس عددا مما يمكن إرساله إلى الشرق؛ عددنا، عدد أطفالنا، أطيارنا، حيواناتنا، عاداتنا وتقاليدنا، لغتنا، محاربينا، كيف نحارب، ماذا نأكل ونشرب، كيف نسكن، أين ننام، ماذا نغني، كيف نرقص، كيف نغني، أليس كل هذا يسهل إبادتنا من على وجه الأرض؟
الآن، أحس سلطان تيه أن الأمر حقيقة خطير، وأنه يودي بحياته، نهض مرتبكا وأخرج كاميرا الفيديو، أخرج ما لديه من أفلام طالبا منها أن تأخذها للمدينة لفحصها، وأن تحتفظ بها الآن في نزل الكواكيرو نفسه، ثم أخرج لها الراديو والأطعمة المحلية، علب الأطعمة الفارغة وكل شيء من شأنه أن يلهب مخيلة القروي المهووس بالتفسير التآمري للظواهر. - هذه كل أشيائي، تفحصيها جيدا، وإذا أردت شيئا منها لفحصه في أي مكان خذيه، وحتى كتب التماسيح، خذي ملابسي، خذي كل ما تشائين.
قالت وأحست بشيء من تأنيب الضمير: أعرف أن هذه كاميرا فيديو، فلقد كانت لجين مثلها والآن مع الكواكيرو، وهذا راديو، وهذه علب أطعمة فارغة، وهذا ... لكن ماذا تفعل بكاميرا الفيديو؟ - سأصور بها التماسيح مسجلا حياتها اليومية العادية، إن ذلك جزء مهم في الدراسة. - ولكن ليس بالبحيرة تماسيح، وأنت تنصب كاميرتك هنالك.
قال وقد أحس بأنه حوصر: ما كنت أعلم هذه الحقيقة، لقد عرفتها مؤخرا.
سألته بصورة مفاجئة: هل يعدون العدة لإبادتنا؟
قال وهو يرمي ببعض الأشواك على النار وقد أحس بطمأنينة نسبية: أنا لا أفهم في السياسة، شخص أكاديمي، باحث، مثلي مثل الكمبيوتر، صدقيني أنا لست أكثر من آلة.
قالت وكأنها لم تسمع كلمة مما قال: إنهم يمتلكون أسلحة فتاكة كتلك التي تخصص فيها مستر ومسز جين، أسلحة بإمكانها إبادة الدغل بأكمله فيما بين ثانية إلى عشر دقائق، إنهم يقولون ذلك.
قال مندهشا: هل تخصص مستر ومسز جين في الأسلحة؟ - لقد كانا عالمين في السلاح. - عالمين! من قال ذلك؟ - لقد استمعت للمحادثة التي جرت بينه وبين الرجال الذين جاءوا بالطائرة، حدثنا عنهم أنا وطفليه كثيرا من قبل، سوف يأتي إلى هنا أناس لهم بشرتنا يركبون طائرة أو عربة أو على أرجلهم، حينها عليكم الهروب والاختباء الفوري بين الأعشاب، إنهم أشرار.
قال: أنا لا أفهم شيئا، أرجوك أن تشرحي لي ذلك.
قالت وكأنها لم تسمع ما قال، وكأنها في حلم: ماذا فعلنا لكي نقتل ؟! هل لأننا رفضنا الذهاب إلى قرى الحكومة النموذجية بضواحي مدينة تول؟ هل لأن لنا دينا غير دينهم؟ هل لأن لنا ربا غير ربهم؟
قال مندهشا: قلت لك أنا لا أفهم في السياسة شيئا، ولكن الشيء المتأكد منه تماما أن ربكم هو ربنا ذاته، فالله واحد مهما تغير اسمه وتعددت صفاته ودياناته ورسله. - إذن لماذا سيبيدوننا؟ قال وهو يحاول أن يخرج من حلقة النار: أقول لك لا أعرف شيئا في السياسة.
خبريني عن سنيلا؟
قالت وهي تقف على رجليها: لن أقول لك شيئا.
يكفي ما عرفته عن مستر ومسز جين، هل دراسة جين تدخل ضمن خطة الإبادة؟
أنا ذاهبة الآن، هل تحتاج لمزيد من لحم الذئب؟
قال وبكل جدية وهو يمسك بيدها الدافئة الخشنة بعض الشيء: أريدك أنت. - أنا؟ وماذا تفعل بي؟
قال بشجاعة فائقة لا يدري من أين واتته: أريدك أن تقضي الليلة معي، هنا بالكهف ...
قالت وهي تسحب يدها: هل تخاف من شيء؟ أترعبك الغابة؟
قال وقد أحس بجفاف فمه فجأة: أريدك لأمر آخر ...
قالت ببرودة: ما هو؟
حاول أن يمسك بكفها مرة أخرى إلا أنها تجنبت يده المعروقة، قالت وفي فمها ابتسامة ماكرة: اقنع رأسي أولا، كل شيء يبدأ من الرأس.
وخرجت، كان يسمع وقع قدميها الحافيتين وهي ترتطم بالأعشاب والحجارة، ثم أخذت تختفي تدريجيا إلى أن تلاشت، احتقر نفسه في صمت، احتقر نفسه. فجأة سمع ضحكة تخرج من عمق الكهف، ضحكة عميقة عريقة، التفت خلفه لم ير شيئا، وقبل أن يفيق من دهشته سمع صوت مرطونس يخاطبه: أنت لا تفهم في النساء، وهذا خير لك، أنت لا تفهم في الحرب، وهذا خير لك، أنت تحتاج لامرأة، وهذا خير لك.
ثم ضحك مرطونس، ثم تلاشت ضحكته، ثم صمت الكهف. النار كانت في حاجة لمزيد من الحطب الجاف. •••
الآن فقط فكر في الهرب، ولا يبدو هل لأن فلوباندو وصفته بالجبن؟ لا يدري! هل لأن الهرب أيضا يعتبر شجاعة؟ لكنه عندما تذكر سنيلا عرف أنه لن يهرب الآن على الأقل إلى أن يقنع سنيلا بالذهاب معه إلى الشرق المتحضر، نعم، كل شيء يبدأ بالرأس، سيقنعها، هنالك يعرف الناس كم هي جميلة ورائعة! وكم هي ساحرة! ويعاد لإنسانيتها الاعتبار اللائق، أجمل سيدة شقراء متوحشة في العالم، وحينها ستصبح يا سلطان تيه موضوع حسد جيلك. نعم، ستحجبك أمك، ولو، ماذا يقول عنك الصادق الكدراوي؛ أنت قليل الحيلة أمام النساء؟
انظر بماذا جئت من الدغل.
ابنة الجن ذاته، حورية ...
الآن لا يهمه أن يعرف عن صراع القبيلة مع آل جين، ولا يهمه لماذا أراد الجني العودة إلى مئات السنين ما قبل التاريخ، قرونا إلى الوراء، لا يهمه حلم القبيلة بعصر مشرق متحضر كما هو خارج الدغل مع شرط واحد: الاحتفاظ بلغتهم وعاداتهم، دياناتهم وأسمائهم أيضا، ماذا يفعلون بلغتهم، أسمائهم، وعاداتهم، ماذا تفيدهم؟
لا يهمه هل عاد الأبناء الذين أرسلهم الكواكيرو لنيل المعرفة في الشرق والعالم المتحضر.
بم عادوا.
لم لم يعودوا.
أين هم الآن.
ماذا يفعلون.
ولم يعودون.
ولأن سلطان تيه ليست له اهتمامات حقيقية بكل ذلك، ما يؤرقه شيء واحد: بعد أن خاصم فلوباندو كيف يستطيع أن يقول لسنيلا أحبك؟
كيف يقول لها: اهربي معي إلى الشرق، هنالك لا أحد يقول لك برصا، هنالك سينصبونك آلهة جمال متوحشة، سينشرون صورك بالصفحات الأولى في جرائد الصباح، صورتك ستحتل أغلفة المجلات الأكثر مبيعا، ستتحدثين في الراديو والتلفاز، ستصبحين نجمة سينمائية، سيغنون من أجل عينيك الخضراوين، أجمل من ذلك كله سأغيظ بك الصادق الكدراوي.
هل سيشاهد العالم كله رقصتك؟
لم ينم نوما مريحا في تلك الليلة، ولو أنه عندما استيقظ فجأة على نداء مكسيما: النار، النار يا سلطان.
النار، النار، يا سلطان.
عندها نهض فزعا.
كانت النار تزحف في لب جوز الهند في بطء وهدوء، لا أحد بالكهف، هو يعرف أصوات أهل الكهف كلهم ويميزها، قرأ آية الكرسي بصمت غير مرقد رأسه، وبمجرد أن غفا قليلا حتى سمع صراخ ثمليخا تبعه نباح الكلب: المجوس، المجوس، المجوس ...
بلسان ثمليخا تأتأة، الليل هادئ كوجه طفل نائم، والقمر قوس ضئيل في نهاية السماء عند الغرب، تمشى قليلا بين الأعشاب، نظر بعيدا نحو القرية حيث يرقد الناس وينامون.
نظر في الاتجاه الآخر، كان يعرف أن هنالك يقع وادي الأناناس والكهوف التي رحل إليها آل جين في أيامهم الأخيرة بالدغل، ولقد وعدته فلوباندو في السابق بزيارته، هو الآن خائف مخافة لا يدري كنهها لكنه يعرف مكانها، إنه الكهف، كهف الذئب، كهف أهل الكهف، ما معنى صراخهم: النار، المجوس؟!
قرر أن يذهب نحو منازل آل جين جنوب الوادي لأنه لا يستطيع أن ينام، ولا يستطيع البقاء بالكهف؛ إنه مسكون، وهذا أمر لا شك فيه. أخذ من حقيبته شمعة وعلبة كبريت، حمل مصباحه الذي يعمل بالبطاريات الجافة، كانت بطاريات ضعيفة بعض الشيء لكنه سيستخدمها عند الضرورة فقط، ولن ينسى أن يحمل فأسه، كلما أحس بمخافة قرأ آية الكرسي أو تبسمل بصوت خفيض، فالبسملة لا يضير معها شيء.
وقع حذائه الكولمان القوي على الصخر والأعشاب يفزع نعاس الليلة القمرية، فتهرع الفئران والأرانب مبتعدة أو تهس الثعابين مستطلعة بمد أعناقها ... تساءل: هل يخاف الثعابين؛ فهي سامة وقد تؤدي لدغتها إلى الوفاة في الحال؟ الوادي تحته يمتص الظلمة فيكونها، ضوء القمر يفترس ما تيسر من ظلام. سلطان يمشي في الطريق الصحيح نحو الكهف، هنالك طريق قديمة كان يتخذها آل جين، لم تقل له ماذا كانوا يفعلون بالكهف، لربما هي نفسها لا تدري. الطريق كما هي واضحة بالنهار لم تكن مهجورة، فهناك طارق لها دائم أبناء جين، فلوباندو، الصيادون الذين يعبرون نحو الجزء الجنوبي من وادي الأناناس حين يكثر الخنزير البري، الأصلة والنمر الأزرق، يكثر بها جوز الهند، يستخدمه الدغليون في إشعال النار بعد شرب عصيره المقوي جنسيا، الفاتح للشهية.
من مخافة لمخافة!
من، أم، أم، نن، ل، م، أ، من ...
من متاهة لوضوح ...
وجد نفسه وسط غابة الموز، العلامة المميزة لسكن آل جين، حين لم يكن بهذا الموقع موز من قبل، لكن آل جين هم الذين نقلوه من وسط الدغل إلى هنا. لكنه لم يدر أن موقع الكهف هنا، نعم هو لا يريد أن يدخل الكهف، فالكهف المظلم المهجور مخافات كثيرة؛ الجن يسكن البيوت الخالية المهجورة، الحيوانات المفترسة تتخذ البيوت والكهوف المهجورة مسكنا لها. لأن الصدفة لا تتأتى إلا لمن يبحث عنها، وجد نفسه أمام بناية صغيرة دار حولها في حذر، كان يظن أن آل جين يسكنون في كهف الحجر لكن هذا المبنى مصنوع من أوراق الموز وبعض أعواد الحطب الطويلة القوية، وهو يدور لاحظ أن هنالك مبنى آخر لا يبعد كثيرا عن المبنى الأول، مشى نحوه، كان القمر في لحظاته الأخيرة قبل أن يختفي في متاهات الغرب، كان نحيلا هزيلا محمرا، وقف ليمتع نفسه بلحظات الأفول الأخيرة للقمر، توصل من قبل إلى حقيقة أن القمر هنا والشمس يأفلان قبل الشمس والقمر هنالك في المدينة بزمن يساوي كثافة الأشجار وطولها بالدغل. بينما هو في مقارنات سمع صوتا يقول: إذن أنت تتبعني؟
قال فزعا: فلوباندو، ماذا تفعلين هنا؟! - أتريد أن تقول إنك لم تكن تتبعني، أنا أعرف كل شيء، أعرف حقيقة إحساسك بالوحدة، أعرف حقيقة احتياجك لشخص آخر تحادثه، تعال اجلس هنا قربي، أيضا أحس بالوحدة.
دائما ما أجيء إلى هنا أزور مستر ومسز جين، إنهما أقرب الناس إلى قلبي، وأعرف أنهما حتما سيعودان، اجلس هنا، قربي هنا، إنه مقعد خشبي متين وقديم. - ألا تخافين من شيء؟ - كلا، فأنا محجوبة من الجنون والهوام، تحرسني روح برم بجيل، فلماذا أخاف؟
عندما جلس قربها، أمسكت كفه في كفها الخشنة الدافئة، وقالت بصوت رقيق: هل كنت جادا في طلبك بأن أقضي معك الليلة؟
قال بصوت مخنوق: نعم.
قالت بصوت حلو به نبرة غربية: أنا أعرف شغف الغرباء بالنساء، عرفت ذلك من مستر جين، كانت زوجته كثيرا ما تمرض كان يصطحبني في رحلات الصيد بعربته التي يجرها حمار الوحش، ذات مرة توقف في وسط الدغل حضنني بقوة ثم قبلني ثم قال: كم زوجة لأبيك؟
قلت: امرأتان.
قال: كم زوجة للكواكيرو؟
قلت: عشر.
قال: أريدك زوجة لي.
قلت له: أهلي لا يقبلون، الكواكيرو لا يقبل أيضا.
قال ببؤس: لكنني أريدك.
هي التجربة الأولى لي، مدهشة لذيذة، نفعل في اليوم مرارا، في رحلات الصيد، في غابة الموز، عند البئر، على شاطئ البحيرة، في عربة الصيد، كان شرها لا يكتفي أبدا.
قال سلطان سائلا في دهشة: ولكن ل ...
قالت مقاطعة: لا تسأل عن شيء، لا تسأل.
لقد عاش الجينس هنا العشرين عاما، كانوا سعداء رغم العداء المعلن من قبل القرية كلها تجاههم، لقد منعوا الماء، فحفروا بئرا تخصهم، تقع على بعد ربع ميل من هنا، جنوبا، لقد كانا في وجهة نظر القرية: رسل تخلف.
كان الجينس يلبسون جلود الغزلان والقرود، بعد أن تخلوا عن ملابسهم للقرويين، استيقظت القرية ذات صباح على نداء جين: أعطني جلدا، أو حربة، أو تميمة.
أعطني قربة ماء وخذ ما شئت من أشيائنا ...
كان القرويون لا يعرفون أسماء لممتلكات مستر ومسز جين، لكنهم لا يترددون ثانية واحدة في أن يتخلوا عما يمتلكون من جلود، عاج، أقنعة، في صالح أن يمتلكوا شيئا صغيرا له بريق، أو له ألوان زاهية خلابة، أو شكله غير معتاد، لا فرق بين قلم جاف باركر، خلاط فاكهة، لا فرق.
خذ ما شئت ...
ضع مكانه ما شئت ...
أما أنا ما زلت أحتفظ بطقم من الصيني، ملاعق فاخرة من النيكل، أردية الجينز. ثم استيقظت القرية ذات صباح آخر لتشاهد مستر ومسز جين وهما لا يلبسان شيئا، كما ولدتهما أماهما! أو كأنهما هبطا من السماء للتو!
يا خالق الدغل!
هذا فأل سوء.
برص عراة!
كانوا يطعمون الثمار وجذور الأشجار، يأكلون اللحمة نيئة، يشربون دم الحيوانات، يرضعون الماعز البري، يلعبون مع القرود، لا يتحدثون إلا أقدم لغات الدغل الأوسط لغة بلاوم المهجورة التي لا يفهمها سوى كبار السن من الدغليين. أما طفلاهما بانارودنا وسنيلا، لا يعرفان شيئا من الإنجليزية، ولا حرفا واحدا، فقط بلاوم شيشمباس.
حدث ذات مرة أن طلب من مستر جين أن يفتح بسنتا، هي مدرسة صغيرة لتعليم الأطفال ما يفيدهم في المستقبل من المعارف، مثل قراءة وكتابة لغة اللالا وبعض من التخاطب بالبونا وهي اللغة الإنجليزية، لكن مستر جين أخذ يدرسهم فائدة عودة الإنسان للحياة البدائية البسيطة:
امشوا عراة.
كلوا ما يصادفكم من طعام.
اشربوا رحيق الأزهار.
ناموا أينما هاجمكم النعاس.
ما لكم واللغة والكلام والطائرات والموت؟ وما لكم والكارثة؟
المدينة جثة الحضارة.
كان الأطفال مشغولين بالذباب الدقيق الأسود الملتصق بين فخذيه يمتص العرق، مشغولين بضحك مكتوم وهمسات تعلق على آلته شديدة البياض المحاطة بالشعر الأشقر المدهشة.
ذات يوم اندس الكواكيرو خلف سياج البسنتا، سمع جين يقول للأطفال:
اتركوا أسركم اهربوا ...
عيشوا هنالك بعيدا في الدغل مع القرود والأطيار الجميلة، حيث عسل النحل والكراواوا والأناناس.
هل تجلبون الحطب لأمهاتكم؟
هل تجلبون الماء من الآبار البعيدة؟
هل تحفرون الأرض الصلبة لاستخراج جير الزينة؟
هل تسرحون بالخنازير المستأنسة؟
هل لا تنامون إلا بعد أن تجلبوا الخمر لآبائكم من النخيل؟
هل يرسلكم الكواكيرو بعيدا لتلقي العلم، بعيدا؟
لماذا لا تنطلقوا أحرارا كالغزلان، كالنمور، كالأطيار، لا مسئوليات، لا شقاء، لا جير، لا عذاب؟ لماذا؟
هنا صاح الكواكيرو هاتفا: أيها الأبرص العريان، أنت عدو الدغل الأول، عدو المستقبل، لولا أنك تتحدث بلغة جدنا برم بجيل وأصبح دمك حراما علينا، لقتلناك.
سلطان تيه يسمع الحكاوي، لكنها تدور في تجويف أذنه وتخرج، فليذهب جين إلى الجحيم؛ لأنه الآن يريد شيئا واحدا هو فلوباندو ... - لكنك وقبل أن تغرب الشمس كنت تريد سنيلا. - الآن لا أريد سنيلا، أريدك أنت، فلوباندو ... - لأنني معك الآن، أليس كذلك؟ أناناسة في اليد خير من واد من الأناناس يحرسه جاموس ...
أعرف أنك لا ترغب امرأة بعينها، إن سنيلا، جيمبا، تدروت، فكاو، لا يهم، لا يهم، تريد امرأة ليس أكثر، لكنك فوق ذلك تفضل سنيلا، تلك البرصاء، وأنا أقدر مشاعرك، لكن الآن ليست لدي أية رغبة، لكني أعدك بشيء أن أسهل لك الطريق إلى سنيلا ... - كيف؟ - إنك تحتاج لمعرفة مفتاح شخصيتها. - ماذا يفيدني مفتاح شخصيتها؟ - لأنك لا تستطيع أن تصل لسيدة دون أن تعرف مفتاح شخصيتها.
قال في استفزاز: لديك رغبة عارمة للحكي، وتحبين أن تحكي لي عن تاريخ الدغل وجين، أنا لا أرغب في ذلك، أنا أؤمن بالطريق المباشر، أريد سنيلا، ماذا ستقدمين لي بغير حكايات؟
قالت ضاحكة: أنا دائما أجد من أحكي له، لشجرة جاكرندا، لسيالة، فيكس، لكهف فارغ، لموزات، آل جين ... إلخ، وكل ما أحكي له يستمع.
قال، حاول أن يكون ذكيا: متى وكيف ولدت سنيلا؟ إذن أعطني المفاتيح.
قالت بصوت عال فجر الظلام حولها ألفة: هذا ما يميز الإنسان عن المكان والأشجار، الإنسان بإمكانه أن يسأل، أما الأشجار والأماكن ليس بإمكانها غير السمع في صمت أيضا.
قالت تحملق بعيدا في الظلام متجاهلة كفه التي وضعها على فخذها الكبير العاري محاولا استمالتها متقمصا شخصية الصادق الكدراوي الذي يؤمن بنظرية: «مع المرأة اعمل ثم فكر وفقا لردود أفعالها؛ لأن المرأة وعاء مغلق لا تفتحه الكلمات.
لا تقل للمرأة أحبك، لكنك إذا عمدت إلى تقبيلها فهي تفهم.»
حمل كفه كل إرث الصادق الكدراوي؛ تجربته مع النساء، شيطنته اليومية، كانت فلوباندو تحاول ألا تهتم وهي تحكي له بجدية عن ميلاد سنيلا، كلما أحس بدفء جسدها انتهرته جملتها «كل شيء يبدأ بالرأس، أقنعني أولا.»
كانت مسز جين شديدة الهزال في شحوب دائم، نتيجة لإصابتها بمرض ما، إصابتها في مجال العمل، لا تتحمل أية مشقة أو تعكر جو خاصة الدخان، ما كان جين يرغب أن تغامر وتحبل وتتعرض لمشاق الإنجاب، لكن مسز جين هي التي تصر على أن تلد أطفالا، كانت تؤكد مقدرتها على إنجاب خمسين طفلا أصحاء، وبإمكانها إرضاعهم جميعا، كنت لا أشك في إمكانية أن تنجب أطفالا، لكن أن ترضع ولو طفلا واحدا هذا ما لا أصدقه ولا يصدقه أحد رأى صدرها؛ ثدياها ليسا سوى نقطتين محمرتين على قفصها الصدري لا شيء آخر، لذا كنت أضحك من أعماق قلبي كلما سمعت أنها سترضع خمسين طفلا، في الأيام التي سبقت الحمل كانت مسز جين تأكل بنهم طعام الكراواوا وهو مفيد لنمو الجسد بسرعة، وعادة ما تطعم به الصبيات المقبلات على الزواج، لأن تحضيره يحتاج لجهد شاق استأجر جين رجلين من محاربي القبيلة لكي يجلباه من الغابة، هو عبارة عن عصارة تصنعها حشرة صغيرة يسمونها الكراواوا تشبه الديدان لكنها من الشراسة بحيث لا تترك غذاء يرقاتها للأغراب إلا بعد معركة حامية قد تودي بحياتها وإنزال خسائر بالعدو جسيمة لأن قرصتها تؤلم كلدغة العقرب. فعلا ازداد حجم مسز جين بصورة ملحوظة إلى أن بلغت حدا بدأت بعده في الاستعداد الفعلي للحبل، لقد حدثتك فيما مضى بأنهما كانا منفصلين عن بعضهما في الفراش، أما في هذه المرحلة فقد أخذ صراخها في الليل يمنعني النوم، كانت تصيح بشكل متواصل قبل وأثناء وبعد الممارسة الجنسية، لم أعرف السر وراء ذلك أبدا، بالتأكيد الأمر لم يكن متعلقا بفحولة مستر جين، فلقد كنت أتحمله دون أن تصدر مني ولو آه واهنة، ليس لأن ذلك عيبا، لا، لكن لا أظن أن الأمر يتطلب ذلك.
بعد ثلاثة أشهر من الضجيج الليلي حبلت مسز جين، كان هذا حدثا غير كل شيء في حياتنا، كل شيء، تصدرت مسز جين جدول اهتماماتنا، بل أكثر من ذلك أصبحنا أنا ومستر جين خادمين وفيين لماريانا.
في الصباح الباكر وقبل الشروق بقليل تنخفض درجة الحرارة بصورة مرعبة في المنطقة، فنخرج على العربة التي يجرها حمار الوحش، عربة الجنة، كما يسميها مستر جين، دائما يقول: ليست في الجنة قطارات، طائرات، أو مواصلات، الجنة حمر الوحش. تأخذنا عربة الجنة إلى بحيرة الماء غير العذب حيث نغطس في الماء إلى أن تشرق الشمس، يدفأ الدغل، تصبح ماريانا في حاجة لحمام شمسي، هذا لا يتأتى إلا عند المرتفع حيث الكهف الذي تسكنه، السماء هنالك قريبة، المكان ليس ببعيد عن البحيرة، أنت تعرف بحيرة الماء غير العذب حيث وجدك المحاربون تصور الفضاء عدة مرات أو تتجسس. - هل عدنا لمسألة التجسس مرة أخرى؟
قالت ضاحكة: تتجسس على سنيلا وهي ترقص.
قرصها على فخذها الكبير وهو يحاول أن يضحك بانفعال مصطنع.
قالت وفي فمها ابتسامة لم يرها: قصر يدك.
ثم أضافت من دون انفعال : إن سنيلا هي أكثر فتاة تجيد الرقص في الدغل كله، وفي تاريخ قبائل «لالا» و«فترا» و«شاري» لم ترقص مثلها إلا إجيلا، وقد مضت عشرات السنين منذ أن توفيت إجيلا، لكن إلى اليوم هي حية باقية في الناس، يسمون بناتهم باسمها، ولو أن سنيلا ليست برصاء لنالت مكانة سامية بين قبائل الدغل مثل إجيلا ولتزوجها أشجع الشجعان ...
قال وهو يتحسس فأسه برجله: أنت دائما ما تقولين ما لا أود سماعه أو لا يهمني أنا بالذات، لكن لا بأس قولي لي متى ولدت سنيلا؟ - تاريخا ولدت سنيلا في العام الذي أرسل فيه الكواكيرو ثمانية من أبناء القبيلة دفعة واحدة إلى دولة أندلا المجاورة لدراسة الزراعة، واحتفلت القبيلة به أسبوعا كاملا، في اليوم الأول من الاحتفال ولدت سنيلا ...
أشعل سلطان تيه دون تفكير سابق عود ثقاب، ولأن القمر غاب قبل نصف الساعة تقريبا، فإن الظلام كان دامسا، أضاءت الشعلة المكان بصورة فجائية مدهشة ...
قالت فلوباندو: أتمتلك كثيرا من الكبريت؟ هل تستطيع أن تعطيني عودا أو عودين؟ إنها نادرة هنا؛ لأننا نشتريها من المدن الشرقية أو الدول المجاورة. - سأعطيك علبة كبريت كاملة، أيسعدك ذلك؟
قالت مبتسمة بينما تنطفئ الشعلة تدريجيا: يسعدني جدا.
قال في احتيال مدعيا المسكنة: وما هو الشيء الذي يسعدني أنا؟ - أنت لا تفكر إلا في نفسك فقط.
قال من دون مبالاة: وفيك أنت أيضا.
قالت بسرعة: وماذا عن سنيلا؟
قال وهو يضع علبة الكبريت في يدها: وفي سنيلا أيضا.
فانفجرت فلوباندو بالضحك بأعلى صوتها وتبعها هو بقهقهات صاخبة وكأنهما زوج من قرود العوا، كانت وحدة السكون تتفتت تحت طرقات صوتيهما، لم يسكتا إلا عندما سمعا وبصورة واضحة وجلية نباح السمع ... - إنه كلب السمع؟ - إنه كذلك. - وماذا نفعل؟ - لديك فأس. - أنت تعرفين أن الفأس لا تفيد شيئا، فكلاب السمع تمشي في جماعات وتهاجم في جماعات. - إذن الجري. - إنها تشم الرائحة. - اجر عكس الهواء. - لكن الصوت يأتي من نفس الاتجاه الذي يأتي منه الهواء.
قالت ساخرة: إذن لا نفعل شيئا لأنها مسالمة، وكل ما تفعله ستمزقنا إربا إربا ثم تأكلنا. - أنت تظنين أنني رجل جبان؟ - على الأقل رجل خاف من أن يأكله كلب السمع.
كان صوت الكلاب يبدو مرعبا وهو يقترب قليلا، قليلا، قالت: دعني أحك لك كيف كان مستر جين يواجه الحيوانات المفترسة.
صرخ مقاطعا: أرجوك، إنها تقترب، إنها تصيح من كل الجهات، يبدو أنها عدة قطعان من الكلاب.
قالت ببرودة: اصعد على هذا الكوخ. - وماذا عنك أنت؟ - أنا سأتحدث معها قليلا.
سأقنعها ألا تأكلني، فكل شيء يبدأ بالرأس.
قال بغضب وهو يتشعبط على سياج البامبو والموز صاعدا إلى أعلى، واقعا عدة مرات على الأرض على أثر انكسار بامبو قديم أو عود أكلته الأرضة. - أنت شيطان غزر. - سأنتقم منك أيتها المتخلفة الجاهلة، لولا أنني أرى مستقبلي العلمي أمامي لما صعدت. - دعك من الفصاحة، إنها تقترب.
في قفزة واحدة كان في قمة الكوخ، يجلس في صمت، عواء الكلاب يحتل الظلام تماما من كل جهات الدنيا.
قالت وهي تحاول أن تراه: هل تعلم أن كلب السمع بإمكانه تسلق هذا الكوخ أسرع منك بمائة مرة؟
ثم انفجرت بالضحك بأعلى ما تيسر من صوت فاختلطت قهقهتها بعواء كلاب السمع المتوحشة، بنداء البوم وطيور الليل الأخرى، ما عمق من رعب سلطان تيه الذي تخيل إليه أنه في كابوس لئيم، في حلم غامض لا فكاك منه، أخذ يردد أسماء أهل الكهف في سره عندما سمع فلوباندو ترطن، ثم رأى أشباح المحاربين تنسل من بين أشجار الموز من جهات الدنيا كلها، وبعد أن تجمع كل المحاربين رطنوا قليلا، قالت فلوباندو لسلطان تيه: انزل يا سلطان.
ليأخذك المحاربون إلى كهفك، أنا سأبقى هنا قليلا، إنهم يبحثون عنك لأنه عندما جاءك المحارب بالعشاء ولم يجدك ظنك هربت. اذهب معهم الآن لأنك لا تستطيع أن تعود وحدك، قد تأكلك كلاب السمع، هل تخاف كلاب السمع؟
وانفجرت ضاحكة مرة أخرى.
قال لها وهو يقفز من أعلى الكوخ على شجرة موز عملاقة وقد أحس بأنه انخدع: سأقتلك أيتها القردة الداعرة ...
الرجل لا يغضب لكنه يتعلم
لا تعرف لغة النساء.
لا تعرف كيف تخاطبهن ...
والوصول إلى جسد المرأة لا يتم إلا بالخطاب، لا خطاب لك. هكذا همس ثمليخا في أذنه بينما كان هو يتكئ على الجدار، جدار الكهف، يحس أن بثمليخا ملامح سقراط، هو لم ير سقراط، لا نحتا لا رسما، يحس أن بثمليخا فلسفة سقراط، لم يقرأ سقراط. - عظني يا ثمليخا. - أنا لست بواعظ، أنا رجل هرب بدينه. - علمني دينك ثمليخا. - أنا لست معلما. - إذن قل لي ما هي لغة النساء؟ - إنها كلغة الطير. - ما هي لغة الطير؟ - اسأل الطير ...
غضب سلطان تيه، قال: أنت دائما تهرب من السؤال كما هربت من قبل من الحاكم الروماني، لم لا تتعلم المواجهة؟ إلى متى ستظل هاربا؟ - إلى أن يصبح الواقع كما نشاء. - إن الواقع يمضي إلى الأمام، أنت بهروبك تقف في مكانك كالذي يجري في دائرة، فما الذي يستحق الهروب؟ - ديني. - الدين؟ - نعم.
يا أخي ثمليخا، الدين كالفاكهة، كالتفاح إذا أخفيته وأغلقت عليه فسد وتعفن، إنه يريد الهواء، يحتاج إلى الآخرين.
قال ثمليخا مثأثئا: من أين جئت لتتفه هروبنا؟ - من أين جئتم أنتم لتقلقوا وحدتي؟ - أنت الذي جئت إلينا.
في هذه اللحظة دخل محارب دون سابق إنذار وهو يحمل وعاء جعة الأناناس وشواء الذئب، كانت رائحة المشروب قوية ومنعشة، لونه الأناناس، رغوته البيضاء الكثيفة شيء شهي. شرب جرعتين كبيرتين، انصرف المحارب، قال لثمليخا: أنت كذاب.
لكنه لم يسمع ردا.
تحدث كثيرا، لكنه لم يسمع ردا.
هكذا - قال لنفسه - يأتون كما شاءوا ويمضون؟!
شرب مزيدا من جعة الأناناس، خرج، سمع نباح كلب يأتي من داخل الكهف لكنه لم يكترث كثيرا لذلك، أنا لست في حاجة في هذا الصباح لفلوباندو ولا سنيلا. يحتاج لمن يرتب فوضى حياته، يعيد جدولة أحزانه، يريد أمه، نعم، أمه فقط. كان يحس بفراغ أمه فيه كبيرا وشاسعا، رطبا كجو الدغل، محشورا ممطرا لكنه هلامي أيضا، فوضى، فوضى، فوضى، فوضى!
كيف انزلق في هوة الفوضى؟ هل النساء هن اللائي زحلقنه في جوفها ؟ أي نساء؟! أهو الذي خطا نحو بئر لا غرار لها؟ أي بئر؟!
فوضى، فوضى، فوضى، فوضى، أي فوضى؟
كان دائما ما يأخذ معه فأسه كسلاح ضد المخافات المتوقعة، ولو أن فلوباندو أخبرته أن هذا الجزء من الدغل هو أقرب إلى غابة عادية منها إلى دغل، لاحظ بنفسه ذلك؛ الأماكن المحيطة بالقرية هي أماكن مفتوحة تعرضت للتعرية والقطع بواسطة شركة الأخشاب الوطنية التي كان لها نشاط ملحوظ في هذا المكان خلال سنين كثيرة مضت. وأيضا تقول له فلوباندو: المحاربون دائما حولك، في مكان ما، فلا تخف شيئا.
ولو أنه اعتبر أن ذلك ضرب من التهديد، إنها تريد أن تقول لي: إياك إياك أن تهرب. •••
ماذا يفيدك الذهاب إلى أكواخ آل جين؟ ماذا يفيدك البقاء هنا أو التجول في الغابة؟ ماذا يفيدك الذهاب إلى البحيرة؟
كل شيء مثل كل شيء، الضجر والوحدة يشبهان الضجر والوحدة، لكن من الأحسن أن يشغل نفسه بشيء، ليكن مستر ومسز جين، فليبحث في حياتهما لعله يعرف كيف يعيش ليأكل ما تبقى من لحم ذئب، لا يكمل أبدا وكأنه ينبت كالأشجار في هذه الأرض الخصبة، هل ظن يوما في لا وعيه أن امرأة ستذهب عنه الضجر؟ أما الآن فلن ينسى كيف سخرت منه وضحكت عليه فلوباندو، بل وأضحكت عليه المحاربين المتخلفين الجهلاء، صدق من قال: من يهن يسهل الهوان عليه، ولا بد أنه عاش تجربة مشابهة لما يعيشه هو الآن، في مثل هذا المكان المتوحش الدغل البائس يرمى شخص بلغ من العلم ما بلغ، طالب دكتوراه، ذو تخصص نادر في علم الحياة البرية، ينتظره مستقبل مشرق بين حجرات الجامعات ومنتديات التعليم والمعرفة؟ أتسخر منك دغلية، دغلية ثقيلة الدم باردة كخرتيت، جاهلة حقيرة؟ ليس إلا لجبنك بعض الشيء، بك قلة لا تذكر من الحرص، هل تعرض نفسك رخيصة للتهلكة؟ كيف لك أن ...؟ إن بإمكان المحاربين النباح مثل كلاب السمع.
ما أدراك ومن أدراك يا سلطان تيه؟ الآن سيستغني عنها كأنثى ولن يرغب فيها ولن.
فلتسقط أردافها الجميلة، وتذبل عيناها المتوحشتان!
رأسه مزحوم بالفراغ وهو يمشي على العشب والصخر، يدوس على الجعارين بحذائه القوي الضخم، متوكئا على فأسه، مستمدا بعض الشجاعة منها، تتصارع الكلمات والأفكار في فراغات رأسه تعمق الهوة: يحب سنيلا، سيخطف سنيلا للشرق.
لا يحب سنيلا، لا يخطف سنيلا للشرق.
سيصالح فلوباندو من أجل أن تحكي له، لن يصالح فلوباندو لأنها جعلت منه أضحوكة، لأنها أهانته، لكنه هو من في حاجة إليها، إذا خاصمها يكون قد عاقب نفسه بنفسه، وإن صالحها فيصبح كالفأر الذي أكل ذيله، ليس إلا.
اقتحم غابة الموز الصغيرة، هربت قرود العوا صغيرة الحجم وهي تصرخ، سوف لا يهتم بها، كما في المرة السابقة، وجد نفسه وجها لوجه وكوخ الموز والبامبو، الكوخ الآن أصغر مما هو عليه ليلة الأمس، يبدو ضخما في الظلام، دار حوله يستكشف المخافات، دخله في حذر وهو يقرأ تعويذة تفيد أيضا في طرد أرواح الجن والموتى التي تسكن المنازل المهجورة، كانت الشمس تضيئه بصورة جيدة عبر النوافذ المشرعة وفراغات السقف، ربما صنعتها القردة نتيجة لتسلقها الدائم للكوخ، بالأمس أسهم هو أيضا في خلق بعض الثقوب، الكوخ فارغ تماما، يبدو أنه استخدم كمخزن للحطب الجاف في مواسم هطول الأمطار، ذلك لوجود بعض قشور الأشجار متناثرة على أرضية الكوخ، تفوح من الكوخ رائحة عطنة كرائحة الفاكهة الفاسدة، أرض الكوخ رطبة بعض الشيء، ولا شيء يثير شهية الاستطلاع.
المبنى الآخر مشيد أسفله من الحجر والطين الأحمر، أما أعلاه فمن العشب وأوراق الموز، تغطيه بشكل كامل نبتة متسلقة كبيرة ذات أوراق شديدة الخضرة، لها أزهار حمراء صغيرة كأزهار الأفوربيا الشوكية. حين توقف عند الباب بدا له جليا أن المبنى لا يتكون من غرفة واحدة لكن من حجرتين؛ الأولى متسعة تضيئها الشمس عبر نافذتين كبيرتين لا قفل لهما، في فراغها الكبير مقعدان مستطيلان مصنوعان من الخشب البامبو، ربما كانا يستخدمان كمراقد، هما - كما هو واضح - مثبتان على الأرض، أو بالأحرى مبنيان بنيانا، في وسط فضاء الحجرة منضدة مستطيلة مبنية من البامبو، حولها أربعة كراسي، يوجد أيضا باب مغلق مصنوع من البامبو، مغزول بجلد قوي سميك، حاول فتح الباب لكنه فشل أن يجعله يهتز ولو اهتزازة خفيفة، ما جعله يظن أن هذا الباب باب وهمي، وأنه جزء من الحائط، لكنه كان موقنا أن هنالك حجرة أخرى تبدأ من هذا المكان، وهي ربما أكبر من التي هو بها الآن. خرج، دار حول المبنى، ولاحظ أنه ليس للحجرة الأخرى نوافذ، بابها هو ذات الباب الوهمي الذي يصعب فتحه، عرف بينه وبين نفسه أن بالحجرة سرا ما، في الغالب تحتوى على ممتلكات آل جين من الجلود، أدوات الحرب التقليدية، ربما عربتهم الخشبية أيضا، ولو أن خياله حدث عن مذكرات خاصة تحكي عن رحلة آل جين حفظت ليجدها أحفادهم في المستقبل. لماذا لم يكن الجين في خلوتهم هذه قد وضعوا أفكارا متقدمة عن سلاح لا يعرفه العالم بعد؟ أليس هما عالمين في السلاح؟
لماذا لا يكون قد وصلا لاختراع بإمكانه إبطال مفعول الأسلحة النووية أو آثارها؟ لكن فجأة خطرت له فكرة غريبة بائسة: لماذا لم يكن الجين سوى نفر من الجن، عاش هنا ثم عاد إلى حيث أتى؟ هذه فكرة ساذجة لا يحق لطالب الدكتوراه أن يفكر هكذا، إنها تناسب فلوباندو أو الكواكيرو.
ألا يخاف هو من الجن؟
ألا يوجد الجن بالعالم؟
أيكفر بالجن؟
كانت البئر تقع جنوب المبنى، تحيطها أعشاب صغيرة، لكنها بارزة بوضوح يمكن رؤيتها على بعد أكثر من عشرة أمتار، مغطاة بلوح من الخشب الصلب الثقيل، يمكن فتحها بسهولة فقط لو دفع الكتلة الثقيلة من إحدى نهايتيها نحو أية اتجاه؛ لأنها مثقوبة من الوسط مثبتة بوتد أصم ضخم، لكنه لم يفعل، بل حمل خطاه راجعا إلى كهفه عبر غابة الموز الصغيرة وشجيرات القشدة، فبالسماء سحيبات، خاف أن تمطر حالا، علمته التجربة ألا يدع المطر يفاجئه خارج كهفه أبدا، أخذ يسرع الخطى نحو الكهف. عند الكهف كانت مفاجأة تنتظره؛ فلوباندو معها سنيلا، تجلسان تحت شجرة الجوغان العملاقة قرب الكهف، إنها مفاجأة، مفاجأة خبيثة، إنها مؤامرة، هكذا حدث نفسه؛ العدو هو العدو يا سلطان تيه ولو قبلك على خدك، لذا بادر فلوباندو قائلا بحدة: أية مؤامرة أخرى خبيثة في رأسك بعد فعلة الأمس؟
قالت مبتسمة في برود: الرجل لا يغضب، إنه يتعلم من الأحداث.
قال بنفاد صبر: إذن ما هو درس اليوم؟
قالت وفي فمها ذات الابتسامة الذكية الباردة: ليس هناك دروس ولا مؤامرات كما تظن، لكني أريد فقط مساعدتك.
ثم فجأة ودون أن تترك له فرصة للتفكير أضافت: أنت لم تقل لسنيلا كواسيس، أي السلام عليكم، إنها تنتظر منك ذلك!
لا يعرف، هل يصدق فلوباندو؟ هل يكذبها؟ إنه على كل حال لن يخسر شيئا أكثر مما خسر، فليكن معنى كواسيس اغربي عن وجهي، فليكن معناها وجهك قبيح، فليكن معناها إني أكرهك. - كواسيس سنيلا.
ردت وعيناها الخضراوان تشعان بهجة: كواسيس، كووا تدو ساسيس. ثم أضافت بصوت خفيف: إماما هما جري جري أرو لو كلوا، فلوباندو.
قالت فلوباندو مترجمة: فلوباندو أخبرتني بكل شيء.
قال مندهشا بحذر: ما هو كل شيء هذا؟
قالت فلوباندو في هدوء ووضوح: أنت تريد فلوباندو لتنام معك.
قال في انفعال: أنا؟! هل قلت ذلك؟!
قالت فلوباندو في برود: إذن أنت لا تريد ذلك؟
صمت ...
في الحق كانت قد أذهلته صراحة فلوباندو وتحدثها بالطريقة الواضحة المكشوفة، وخلطها التام ما بين الحب وممارسة الفعل الجسدي، إنه يحب فلوباندو وهو موقن بصدق هذه العاطفة فيه وأصالتها، ببساطة يمكنه أن يوصف علاقته مع فلوباندو بلغة «أريدك أن تقضي معي الليلة».
أما مع سنيلا فكالآتى: «أريدك أن تبقي معي العمر كله»، وإذا كان الحب يحتاج لمبرر فلديه ما يبرر ذلك، إذا لم يكن يحتاج إلى تبرير فإنه يحبها، هذا يكفي، لكن المشكلة مشكلة لغة، لغة فحسب، هي الآن لا ترفض ذلك، ليس لديها ما يمنع إذا كنت تريدها الآن، فهي تبلغ من العمر ثمانية عشر خريفا، لم تصبح حتى الآن امرأة إنها عذراء، وأنا أيضا أعذر!
النساء عند الصادق الكدراوي اثنتان: نساء عذراوات، نساء ذقن طعم الحياة.
قال بصوت مبحوح: لدي بالداخل بعض مشروب الدنبا، دعينا نتناوله سويا، ليس لدي ما أقدمه لكما غير لحم الذئب وأنتما لا تأكلانه، إنني فقير جدا في بلادكما هذه، فقير. دخل الكهف، كان الارتباك واضحا على أوجه أهل الكهف، كانوا يجلسون في حلقة، الكلب يرقد قرب فليستطيونس، بدخوله حملق الجميع في وجهه في وقت واحد، وقف مرطونس أخذ يتلو وصايا موسى العشر من التوراة:
لا تعبد غيري.
لا تتخذ صنما معبودا لك.
احترم والديك.
لا تقتل.
لا تزن، لا تزن، لا تزن، لا تزن.
لا، لا، لا، لا، لا.
وضج الكهف بالهتاف.
لا، لا، لا، لا، لا.
لا تزن.
احتموا، احتموا.
في المسجد الصغير الذي ينتمي إليه والده شيخ شاب ذو أدب جم، هادئ، كثير الصلاة، فقط يعاب عليه أنه مهووس بعذابات يوم القيامة، ليس خائفا لكنه مرعوب، يحفظ كتاب «غرة العيون وفرحة القلب المحزون»، كل كلمة يتفوه بها الشاب الشيخ كلما صحبه والده إلى الجامع، حدثه ذات مرة عن عذاب الزاني يوم القيامة:
قد أراني الله إياه في المنام، كان رجلا له وجه مصفر كالنحاس، يقف عاريا على صفيح ملتهب حافيا، يسمع لشواء قدميه شطيط، كان يصرخ صراخا حادا طالبا الرحمة، فيؤتى إليه بفرج امرأة من الجمر ويقال له: افعل كما كنت تفعل بالدنيا ...
قالت له فلوباندو عندما لاحقته في الداخل لأنه تأخر بعض الشيء: لماذا تتحدث وحدك؟ - إنهم أهل الكهف. - من هم أهل الكهف؟
قال وقد أحس بحرج موقفه: إنهم لا أحد، إنني دائما ما أتحدث إلى نفسي. - هذه هي الدنبا، إنها شراب منعش. - هل تشربينه كثيرا؟ - أنا أفضل دائما اليازو. - هل هنالك أفضل من الدنبا؟! - نعم اليازو، يصنع من الكراواوا، لكنه مكلف جدا لأن جلب الكراواوا عملية مجهدة.
خرجا ...
سنيلا جلست على الأرض في يديها بعض خصلات من شعرها الذهبي تحاول أن تحررها من بعض العوالق. شربوا جعة الأناناس، الدنبا، ذات الزبد الجميل، المنعشة. كانت سنيلا جميلة ولو أنها تبدو متوحشة بعض الشيء، لربما يوحي بذلك شعرها الغزير غير المنظم، تعلق به بعض أوراق الشجر والأغبرة، يداها ذات الأظافر الطويلة مع خشونة طفيفة على الكفين والقدمين تعطي لوحة لإنسان غابوي مستأنس، وفوق ذلك كله كانت جميلة جمالا مفرطا تؤكده العينان المتسعتان الخضراوان كأنهما حقلين من الليمون، هذا ما يؤكده الفم الكرز، يؤكده الجسد، الرقصة، صوتها ذو النبرة العميقة، يؤكد ذلك عنقها المنتصب كساق اللوسيانا، ناعما مستديرا وشامخا، هي فتاة جميلة، والغريب أنها أقرب إلى طبيعة الدغل من فلوباندو؛ لأنها إذا انتصبت قرب ساق حبحب ذات الساق البيضاء عليها بعض النباتات المتسلقة، فليس بإمكان المحارب القوي الملاحظة الذي يمشي بقربها أن ينتبه لوجودها ...
قالت فلوباندو مؤكدة دورها الإيجابي في الجمع بين «العذراوين»: أنتما الآن ليس في حاجة إلي، المطر سينزل بعد قليل، يمكنكما التفاهم، ولو بالإشارة، أنا ذاهبة، إلى اللقاء عند المساء. لا تخش شيئا، فلا أحد يعترض، الجميع يباركون ذلك. مما سنيلا.
مما فلوباندو.
كان سلطان تيه مندهشا لغرابة الأحداث حوله.
أما سنيلا، عيناها تشعان خضرة وانتظارا، كانتا غابتين من الأناناس، إذا دقق الملاحظة بعض الشيء سيكتشف أن سنيلا كانت خجلانة.
النار بالداخل دائمة الاشتعال، للنار ثلاث فوائد: تجفيف الرطوبة العالية.
الضوء والدفء.
النار حرب المخافات كلها.
سنيلا تلبس رحطا يتدلى من خصرها إلى ما فوق الركبة بقليل، مصنوع من قصب ناعم ينمو بالأودية يسميه السكان «البابيت»، يتميز بتشكيلة ألوانه الزاهية بدرجاتها، أما صدرها فكالعادة عار، تتناثر عليه خصلات من شعرها همجيات، تظهر من بينها التميمة الكبيرة مدلاة من عنقها إلى ما بين نهديها، حيث اكتشف سلطان تيه للتو نقطة ارتكاز جسدها.
وتكتشف سنيلا أن هذا اليوم هو نقطة ارتكاز حياتها.
لا يدري من أين يبدأ، كيف يبدأ، ولا مجال إلا لقانون الصادق الكدراوي «العمل المباشر».
لقد تجاوز مرحلة «كل شيء يبدأ من الرأس»، إذن ما دام الجسد هو نشيد إنشاد الروح، وأن النهد - كما اكتشف هو - نقطة ارتكاز الجسد، إذن لماذا لا يبدأ من هنالك؟
في الحق عندما تضخم عنده وجع الشبق خمل العقل، حيثما وكيفما بدأت أنت الواصل، كلها لك، عقلا ، جسدا، فيم التفكير يا سلطان تيه، إنها سنيلا حلمك ووهمك، الرقصة، الغابة، أجمل متوحشة في العالم؟!
لا يدري لماذا دخل الكهف، لكن سنيلا كانت تعرف لماذا مشت خلفه، تعرف لماذا عندما شارفت فراش ورق الموز بيدها اليسرى انتزعت قصبة بامبو صغيرة ناعمة لتحرر رحط «البابيت»، وفي ثوان تقف عارية ساحرة كجنة، وساخنة على دفء النار، خيوط دخانها الفاترة. التفت إليها، عانقها، فجأة سمع صوتا، في الحق عرف أنه فليستطيونس. - قبلها، لتصبح أبا لنبي ينقذ بني إسرائيل من ...
قبلها. - أصبح أبا لنبي! - قبلها.
وهو يحاول أن يقبلها سمع ثأثأة ثمليخا: لا تزن، لا تزن.
سمع شيخ جامع والده، الشيخ الشاب: افعل كما كنت تفعل في الدنيا.
كان يستمع إلى كل ذلك وكأنه آت من عمق سحيق لبئر مظلمة في نفسه، بئر مسكونة بالجن والغيلان، بئر سوداء. - قبلها.
ضاجعها.
لقد زوجتك نفسها، ألا ترغب أن تصبح أبا، أبا لمن ينقذ بني إسرائيل؟
عندها هتف الكهف كله: النار، النار، لا تزن، قبلها، بني، النار، افعل، لا، قب ... ضا ...
اختلطت الأصوات والانفعالات في صدر سلطان تيه، أحست سنيلا بأن سلطان تيه مرتبك أو خائف؛ لأنه تردد كثيرا في محاولة أن يمد شفتيه الغليظتين نحو شفتيها المتوردتين الناعمتين الرقيقتين، تردد كثيرا، لقد قصت لها فلوباندو حكاية كلاب السمع، إنه شخص جبان.
قالت سنيلا لسنيلا: إنه يحتاج لبعض التشجيع، فأمسكت به من وسطه ساحبة إياه إليها بشدة، فصاح سلطان تيه بشدة: اصمتوا، اصمتوا.
بدأت سنيلا تخاف من شيء ما.
بنو سيسيت لما.
لكنها أيضا أخذت تسحبه خارج الكهف.
بحمى الغضب والخوف عانقها مرة أخرى، لكنه عندما رأى الكلب حمران يخرج مندفعا نحوه مكشرا عن أنيابه تركها، هرب جاريا بين الأشجار.
سنيلا الجميلة كانت مهيأة له، مهيأة لعرس، عقلا وجسدا، صاحت في وهن: بنو سيسيت لما.
ثم انهارت على الأرض تحت شجرة الحبحب فاقدة الوعي تماما، عارية تماما، وشديدة الحزن ...
الجذور
ليس بإمكان مستر جين إلا أن يكون رجلا مختلفا، ومنذ ميلاده، حيث كان أول طفل أنابيب أنتج بشكل سري في العالم، وهو نتيجة تجربة وضع دكتور فرانسيس بيترهل لها نسبة فشل قام بها مع بعض معاونيه في الخفاء، بعيدا عن أنف الصحافة ويد المحكمة العليا التي حرمت إقامة التجارب على الجنس البشري، بعيدا عن سمع وبصر منظمات حماية حقوق الإنسان، كان ذلك في 1922 بمدينة بوسطن. الحيوان المنوي الذي استخدم في التجربة تبرع به فرانسيس نفسه، أما الأم المضيفة فهي خادمة صغيرة وفية لفرانسيس، هي التي أصبحت فيما بعد عشيقة له ولثلاثين عاما، أنجب منها طفلتين أوديسا وإليازا، أما البويضة فقد حصل عليها من فتاة ليل جميلة مقابل مائة دولار، ويضاف إليها مائة أخرى مقابل ألا يجيب عن سؤالها: ماذا تريد أن تفعل ببويضتي؟
الأم المضيفة مادونا زنجية فقيرة جميلة تمتد جذورها لتلتقي بجد من الهنود الحمر، وهو سياتل
Seattle
زعيم دواميش، وهي ذاتها لا تدري كيف تنقلت من صلب لصلب، من أبيض لزنجي لهندي، من ملك لصعلوك، الصعلوك لسياسي، لداعرة، لعارضة أزياء، عارضة أزياء لخادمة، لا تدري. هي أمه إذن مادونا ...
وهي أيضا ليست أمه، أكد له والده من الناحية الوراثية البحتة أن أمه هي صاحبة البويضة فتاة الليل الجميلة الشقراء سندرييلا فلييني، ولا أحد يعرف عن مصيرها شيئا، ولكن من اسمها تبدو إيطالية، لأيهم - كما قال لأبيه - إذا لم تشتر منها البويضة لسقطت من تلقاء نفسها مع دم الحيض.
فأمي إذن ليست صاحبة البويضة، ولا مادونا البيضاء/السوداء/الحمراء لأنها استضافت البويضة، ولكن أمي المفترضة من راقدها أبي، أودعها ماءه، تكرمت ببويضتها ثم أنجبتني.
فإما أن يكون لي أمان، وإما أن أكون مثل آدم، لا أب لي لا أم، ومثل عيسى لا أب!
إذن لماذا سمي جين؟
باعتراف فرانسيس، إنه حاول معالجة بعض الموروثات ولكن واجهته مشكلة تفريزها، التي تحتاج إلى آلية إلكترونية متقدمة تنقصه في ذلك الوقت. كان جين طالبا متفوقا في الكيمياء الذرية، والبحث الأكاديمي الذي قدمه عن هاهن وإشتر إسمان وأبحاثهما التي أجرياها في برلين في 1939 عن تحولات النواة، تنبأ بأن هذه الأبحاث ستؤسس لتطور في أبحاث النواة قد يقضي على الحياة بكاملها في بحر ساعة ونصف من الزمان، وهذا شبيه بما أكدته في المستقبل في صيف 1941 لجنة السير طومسون في تقريرها الشهير. كان رجلا مجتهدا ذا علاقات أكاديمية واسعة، وله مقدرة لا تحدها حدود على تحمل النتائج الفاشلة وإعادة التجربة مرة تلو الأخرى، كان لا يهتم بشيء غير البحث المتواصل، وبيته ليس سوى المعمل ذاته، كان صوفيا بعمق معنى الكلمة، مثقفا في عدة مجالات.
1944: نال درجة الدكتوراه برسالة في الصنف 4235 يورانيوم.
1952: رشح لجائزة نوبل في الكيمياء.
1952-1954: تفرغ للعمل كمحاضر في جامعة دبلن.
1955: التقى بماريانا وهي في ذلك الوقت كانت محاضرة في علوم الطاقة النووية بجامعة كلورادو، وتزوجها في نفس العام.
1955: تفرغ هو وزوجه ماريانا تماما للبحث الأكاديمي في موضوع تطوير الأسلحة التقليدية على ضوء التقدم في مجال انشطار الذرة.
1966: أصيبت مدام جين بمرض خطير استحال تشخيصه.
1969: اختفى آل جين تماما في ظروف غامضة!
وقف ثلاثة من المحاربين عند بوابة المبنى الخشبية يحملون حرابا ذات أسنان لامعة مدهونة بسم الثعبان المخلوط بشحمه، يرتدون أرحاطا من اللحاء الناعم لشجرة الحبحب، حرابهم متوجهة نحو الأرض بنهاياتها الحادة، وهذا يعني ... وكلما تعلم جين أنهم في شأن مرسال أرسل إليهم فلوباندو: ضعوا حرابكم على الأرض أيها المحاربون. وهذه الجملة تعني: تفضلوا. - نحن على عجل، يريد الكواكيرو أن يلتقي بالبونا غدا عندما تعلو الشمس هامات الأشجار العالية.
هكذا رد عليها أكبر المحاربين عمرا. - الأرض كلها بيته.
فشكرها المحاربون وانصرفوا وهم يتحدثون عن ثيابها الجميلة، وأنها أصبحت ناعمة كزيت النخيل. وقال سوانتيبو وهو أصغر المحاربين الثلاثة: إنها تحتاج لمحارب مثلي لا تتعبه مراقدة الفتيات أبدا.
فرد عليه المحاربان الآخران بسرعة وفي آن واحد: ومن تظن أن مراقدة الفتيات تتعبه؟ •••
مسز جين الهزيلة دائما ما تكح في ألم، خاصة قبل طلوع الشمس حيث تنخفض درجة الحرارة وتعلو درجة رطوبة الجو. فلوباندو لا يتعبها جلب الأحطاب الجافة للمدفأة الحائطية، ولا تكل أو تمل من الإيفاء بطلبات مسز جين، في سرعة بالغة . في الحق كانت مسز جين لا تستطيع القيام بأي نشاط عضلي يتطلب مجهودا ولو قليلا، كأن تحرك منضدة الخشب الصغيرة الموضوعة أمام سريرها إلى النافذة، كأن تمشي إلى ما بعد شجرة المانجو الكبيرة عبر عشب النجيل المتوحش، كأن تقود السيارة الجيب إلى مسافة بعيدة، كانت فلوباندو قد تعلمت قيادة السيارة في الشهر الثاني لوصول الجين إلى الدغل، ولكنها لم تكن ماهرة في القيادة، لكن بمساعدة مستر أو مسز جين ... وتعرف الآن كيف تستعمل مقياس الزيت، كيف تستبدل الزيت، كيف تشحن بطارية الجيب الفارغة من التيار الكهربائي المتولد من الطاقة الشمسية، وتستطيع تغيير الإطارات وصيانتها ...
كانت فلوباندو سيدة خباثات مستر جين، بعد شهر واحد يبلغ الجين عامهم الثالث بالدغل، وتبلغ فلوباندو عامها الثاني عشر، وتشمخ بنيتها الجسدية لعمر يفوق الثامن عشر، فلوباندو الجميلة ذكية أيضا؛ لأنها تتحدث لغة البونا بطلاقة وكأنها لغتها الأم، وماريانا الشاحبة المصابة بداء التلوث الكيميائي المشع كانت ذات وجه مستدير شديد البياض وعينين كبيرتين خضراوين كعيني قط بري، هي وزوجها يتحدثان لغة «شاري» و«فترا» و«لالا» بلهجتيهما، «لالا» و«فترا»، وهما سكان الدغل الأوسط والشمالي، «لالا كيكي»، وهم سكان الشرق والغرب، علمتها ذلك فلوباندو. ويعرفان كثيرا من الطقوس وجمل الاحترام، ويحفظان سبعا وثلاثين حكمة عن حكيم وجد وعراب الدغليين برم بجيل.
ولدهشة الكواكيرو واستغرابه عندما جاء وفي صحبته نائبه وصديق العمر أبريا، وهو رجل طويل كثير الأسنان كالذئب، كبير العينين كالجاموس، كسولا كالخرتيت، ذكيا كالثعلب وكالشيطان. ومعهما في الصحبة ثلاثة من المحاربين، من بينهم الملقب بالشجاع برطانة ال «لالا»
، وهو رجل عجوز ذو تاريخ كبير في القبيلة، وكلمته لا تسقط على العشب كما يقولون أو تقولون.
أرسل أصغر المحاربين ليعلم مستر جين أن الكواكيرو في انتظاره، في ذات اللحظة التي ظهر فيها مستر جين بنفسه صائحا بصوت مرح: واوا تليب سيسوي، واوا تريب دن قوا بدو.
أنتم في بيتكم، أنتم في بيتكم الكبير ...
وهكذا كان يخاطب أعيان القبيلة، وهكذا يحترمون. ولأنهم قوم أحق بالاحترام تخطوا الدهشة وقفزوا على خيبة الانفعال الأولى وصاحوا معا: نووسا ما.
السحابة بيت الريح.
وبعد أخذ ورد في كلام المجاملات وهي كما يقول برم بجيل: غسيل القلوب. أكلوا، شربوا، قالوا.
ضحك مستر جين كثيرا، ثم تحدث مشجعا إياهم على الفكرة، ولكنه قال: ولكن الطريق وعرة، ولا يمكن للعربة أن تسير على الأشجار.
قال له أبريا، الرجل الثاني الضخم - ويقال له أحيانا نوسا مانديبا - نعرف طريقا كان يسلكها عمال شركة الأخشاب قبل أعوام كثيرة، وكانت لديهم شاحنات تحمل الأخشاب الضخمة، والآن لم تنبت على الطريق سوى بعض الشجيرات الصغيرة، وبإمكاننا اصطحاب جمع من المحاربين يقومون بقطع الأشجار بالفئوس. قال جين: ولكن هذا يأخذ زمنا طويلا أكثر مما لو ذهبنا للاجتماع بالحمير الوحشية أو بأرجلنا.
قال الرجل الشجاع
: الوقت لا يهم، المهم أننا سنذهب على ذلك الشيء.
وانفجر الجميع بالضحك ...
ولكي يصل وفد قبيلة «لالا» للاجتماع السنوي في الميعاد المطلوب، قرروا ابتداء الرحلة قبل يومين من الزمن المحدد، واضعين ظروف الطريق في الاعتبار، وكان يوم بدء الرحلة هو اليوم الذي سيذكره الأطفال لأحفادهم بعد عشرات السنين، وسيقول الكبار ضاربين كفا بكف وهم يشربون الدنبا واليازو والكافي تحت أشجار المهوقني: عشنا وشفنا، قضى مستر جين وفلوباندو قرابة الساعتين يجهزان العربة للرحلة الطويلة وسط حشد من الأطفال والنساء وبعض المحاربين الذين صعدوا على الأشجار يراقبون الموقف عن كثب، إيقاع النقارة يعلو حينا وينخفض، آتيا من قلب القرية عبر الأشجار والعشب، السماء لن تمطر إلا عندما تسقط الشمس، ستمطر قليلا، والمطر شيء عادي وبسيط ولا يقلق أحدا، فهو - تقريبا - يهطل طوال العام، ولكن هنالك أشهر تزداد فيها كمية الأمطار بشكل ملحوظ. مسز جين كانت في حالة مزاجية معتدلة، أخذت تتمشى عند طليعة الأشجار الكثيفة وهي بين حين وآخر ترمي حجرا على كومة من الأعشاب، فتخرج الأرانب هاربة في سرعة البرق، أو تهش الثعابين، وعلى إيقاع النقارة أيضا يتشكل في خيالها الاحتفال، الراقصون والراقصات، وهي تعشق بشكل جنوني رقصة الصياد والغزالة، التي في الأصل هي جنة، وكانت تسميها هي «أوبرا الدغل»، لم تلحظ مسز جين الصبي الصغير الذي يتبعها من بعد، وكلما أحس بأنها ستلتفت وتراه اختفى خلف كومة من الأعشاب أو وراء ساق مهوقني، الطفل كلفته فلوباندو.
عندما أطلق مستر جين بوق العربة ثلاث مرات متتالية، هرب الأطفال واختفوا بين أعشاب الغابة، وفي خوفهم أخذت النسوة في الضحك الذي يعبر أكثر ما يعبر عن خوف مدهوش، آخر جيل شاهد عربة في هذه الأمكنة يبلغ الآن أصغر فرد فيه من العمر سبعين عاما. •••
يقام المؤتمر القبلي بأرض قبيلة «شاري» كل عشر سنوات، و«شاري» أكبر قبائل الدغل الشمالي والأوسط عددا، وأكثرها بأسا وقوة، وهي مخافة الحكومة المركزية في الشرق، أكبر مخافاتها.
تمتلك «شاري» 5٪ من الثروة الحيوانية في الدولة، وبأراضيها منجم احتياطي من البترول في وسط القارة، وبها منجم الذهب الكبير على سفح جبيل «فترا بشير»، ولو أنه الآن تحت إدارة الحكومة المركزية الشرقية مباشرة، ويمنع الاقتراب منه ولو على بعد مائة ميل إلا بترخيص سابق، مستحيل، من قوة إديا الوطنية للأمن العام، ولكن يظل «شاري» وأهل الدغل الشمالي يمتلكون سبائك من الذهب لا حصر لها، يحصلون عليها من مناجم محلية بأسلوب بلدي، مواقع لا تعرفها حكومة الشرق المركزية يسمونها فيما بينهم «إبط الشيطان»، ويحرسها محاربون من كل قبائل الدغل الأوسط والشمالي، وهي ثلاث قبائل كبيرة: «فترا»، «شاري»، «لالا»، ولها خشم بيوتاتها.
أولا: ركب الكواكيرو في المقعد الأمامي شمال مقعد القيادة، وقامت فلوباندو بربط حزام الأمان حوله، ترتدي إسكرت قصيرا من الجينز، وصدرها كبقية الفتيات عار إلا من تميمة الحظ السعيد، كان الجميع في حالة من البهجة والغناء، ركب أبريا
gap ، ركب «بندي مندو» المحارب ذو الكلمة القوية المسموعة، ركب «شني» الشيخ الطيب الذي بحكمته تفادت القبيلة حربا كانت لا محالة واقعة بين «لالا» و«الكا»، ركبت هاشي ما، وهي أكبر النساء عمرا في مجلس القرية، الذي يتضمن خمس نساء وعشرة رجال، وهكذا تكون وفد القرية، الذي كان في الماضي يضم المرحوم «مزاكي» رامي القوس، الذي استطاع وحده قبل أربعين عاما في الحرب القصيرة - حرب التهجير - التي دارت بين سكان الدغل الأوسط والشمالي من جهة، وحكومة الدغل الشرقي؛ استطاع مزاكي أن يبيد بسهامه المسمومة جماعة من الجيش النظامي المسلح بأحدث الرشاشات، واستطاع أن ينجو بنفسه من الموت؛ لأن العسكر ما كانوا يعرفون من أي الاتجاهات تأتيهم السهام السامة؛ لأنها كانت تسقط من السماء مباشرة عليهم بشكل عمودي، ما أدخل الرعب في أنفسهم وشل تنظيمهم، خاصة بعد أن ثقب سهم جمجمة الملازم «مزاكي» المرحوم، هو الآخر كان أسطورة تغنت بها السيدة الجميلة «كريبا»:
من يستطيع أن يتجنب الصاعقة
بإمكانه أن يتجنب
سهام مزاكي
لأن مزاكي يرسلها للرب
ويقوم الرب بتصويبها على الأعداء
مات مزاكي قبل عامين، رفسه حمار فأسقط قلبه.
عندما ربطت أحزمة أمان الجميع، أدار مستر جين المحرك، حينها صاح الأعضاء العظام بصوت واحد: شوونا بانا ...
وعلا صوت النقارة، ثارت الأغبرة من تحت أرجل الراقصين، طارت الأطيار من الأشجار المجاورة، هربت الكلاب بعيدا، بعيدا، والأطفال اقتربوا أكثر وأكثر، وبعد أن دارت العربة دورتين حول شجرة حبحب ضخمة راقدة بين شجيرات الإيفوربيا، والسلعلع، والنجيل المتوحش، توقفت، كانت مسز جين تلوح إليه من بعيد أن ينتظر، كانت هي الأخرى جميلة في هذا اليوم ونشطة، وعندما قربت نزل مستر جين من العربة، مشى نحوها، كان الدغليون ينظرون إليهما مندهشين، ماذا يريد أن يفعل البونا، ولكن عندما قبلت مستر جين خفض الجميع رءوسهم للأرض. •••
وفدنا سيذهب إلى الاجتماع على ظهر عربة لا كالقبائل الأخرى على ظهور الحمير، سلطان قدايا نفسه سيأتي على ظهر حمار وحشي على أحسن تقدير، سلطان الدغليين كلهم، الشرق أيضا يحترمه ويقدر كلمته.
جئت على عربة، إنها سيئة، تجعل بطني تهتز كقربة ماء، وتملأ جلد النمر الذي أرتديه غبارا، وربما اصطدمت بصخرة أو بشجرة أو بتلة ألقت بنا على الأرض، ولكننا أتينا على عربة. وهكذا يترحل البونا البرص في بلادهم ما وراء الأدغال، خطوة جيدة في سكة التطور، نحن دائما نسعى لكي نصبح الأفضل في الدغل.
آه لو أطعنا هذا السيد الأبرص وبنى لنا بيتا لتلقي المعرفة، بيتا لتلقي العلاج، وبيتا لصناعة مثل هذا الشيء الذي يجري كالنمر الأرقط! بإمكاننا استثمار ذهب القبيلة من أجل ذلك. آه لو عاد الأبناء من البلاد المتقدمة! لأنهم سيحققون أحلام القبيلة كلها في رمشة عين، وليطير البونا مع الرياح، بالتأكيد سيركع الدغل كله لنا، وليندموا ما شاء لهم وليشربوا الكشو، إنهم أبناؤنا وعلمناهم بدمنا، إنهم لم يرسلوا أبناءهم لتلقي العلم.
كان ينظر لمستر جين، الذي يهتز رأسه مع كل قفزة للجيب على خور أو بقايا شجرة صعب على المحاربين اقتلاعها ...
أبرص قبيح متخلف. •••
هاشي ما، سيدة كبيرة في العمر، وأكبر من سنها حكمتها، عايشت شركة الأخشاب وهي طفلة؛ ترى العربات التي تجرها حمر الوحش وعليها جذوع أشجار التك والمهوقني الضخمة، رأت أيضا العربات الصغيرة التي يستغلها مواطنون من الدغل الشرقي والبونا على حد سواء في التنقل السريع، ورأت بعض شاحنات الخشب الآلية أيضا تنهب الأرض مثيرة للأغبرة مصدرة دخانا كثيفا، ورأت بأم عينيها الفأس التي تعمل وحدها وبسرعة الشيطان في قطع الأشجار، حتى تلك التي ليس بإمكان مائة محارب أشداء قطعها في شهر كامل، تستطيع هذه الفئوس ذات الصراخ المرعب قطعها في لمح البصر.
ورأت، ولكنها لأول مرة تركب هذا الشيء المدهش وتتمنى وبصدق، أن يتوقف هذا الوحش المجنون، ينزلها هنا، وسأمضي بأقدامي إلى حيث الاجتماع: هششش كلوا ...
مر بمخيلتها يوم لقاء المجلس لأول مرة مع جين، وكانت فلوباندو في ذلك الوقت تترجم بصعوبة حيث لم تمكث مع البونا سوى ثلاثة أشهر، وتذكرت قول جين لهم: لا تدهشكم حضارتنا، إن ضررها لهو أكثر من نفعها.
وتذكر رده عندما طلب من الكواكيرو لأول مرة إنشاء بيت للتعلم وآخر للتشفي، وتذكر تعليقه الغريب على إرسال الأطفال إلى المدينة للتعلم: «هذا أسوأ ما يمكن القيام به تجاه أبنائكم، والأجدر أن تحتفظوا بذهبكم وبقركم للمفاخرة بدلا من صرفها في شيء سيعود إليكم بالخراب.» كيف ذلك أيها البونا؟ قال: «أنتم الآن تعالجون مرضاكم بما لديكم من طرق ورثتموها من أجدادكم وأعشاب تنمو بالدغل بكثرة، أنتم الآن تديرون شئون الدغل بينكم بأسلوب رفيع وتراض تام، أنتم تأكلون وتشربون وتنامون وتنجبون أطفالا، وتزرعون وتحصدون وتصطادون وتركبون حمر الوحش، فماذا تظنون أن أبناءكم سوف يضيفون إلى ذلك؟»
نحن نتطلع إلى حياة أفضل، فإلى متى نظل نتعالج بالكشو والطج؟ نعرف أن بالشرق علاجا أسرع شفاؤه لمرض الحمى وله طعم حلو، إلى متى نظل لا نعرف شيئا عن القراءة والكتابة؟ وحتى الخطابات التي يرسلها لنا أبناؤنا تظل مغلقة إلى حين عودتهم، أتظن أن هذا أفضل لنا؟ قال وهو يهز كتفيه بغير مبالاة: «لا أدري، في الحق لا أدري، ولكن، ولكن أقول لكم: احذروا الحضارة.»
قالت هاشي ما في ذاتها وهي تعيد شريط الذكريات: البونا على حق، ماذا لو انكفأت هذه العربة بنا الآن؟ نصبح أول ضحايا للحضارة.
من منا سينجو؟
كانت تراقب رأسه وهي تهتز كلما قفزت العربة على جذع أو حفرة: أبرص حكيم.
توقفت العربة قرب جمع من المحاربين يدفنون خورا يعترض طريق العربة، وعلى ما يعتقد أن شركة الأخشاب الوطنية كانت تستخدم كوبرى جوالا وعند رحيلها أخذته معها. عند هذا الخور قضى مجلس القرية المسافر ليلته وليمة للبعوض والقراد الأسود العبيط، أشعل المحاربون نارا مدخنة لطرد الطائر من الحشرات وإبعاد كلب السمع والحيوانات المفترسة الأخرى بعيدا، وكانت فرصة ذهبية لمجلس القبيلة المسافر للنقاش مع مستر جين بشأن مستقبل الدغل وقبيلة «لالا» المتطلعة دوما للمجد والمتشعبطة بركب الحضارة تشعبطا.
وهي الليلة المباركة نفسها التي أقنع فيها مستر جين بفتح بيت للتعليم بسنتا، الذي طرد منه فيما بعد عندما أخذ يعلم أطفالهم - على حد قولهم - ما لا يفيد، إنه يعود بهم إلى الوراء سنوات كثيرة. وهي الليلة المشئومة، التي شهدت أول تمرد من قبل المحاربين تجاه مجلس قبيلتهم الموقر، كان المحاربون يعملون بكد وجهد في دفن ما يمكن العربة من عبور الخور، وكانوا يقطعون الأخشاب الجافة لوضعها على النيران لكي لا تنطفئ، وكلما عطشوا شربوا الدنبا، وكلما جاعوا شووا صيدهم من الأرانب والغزلان، ولكنهم على ما يبدو ليسوا براضين عما يفعلون؛ لأن «ينبو» هذا محارب مشاكس ذو بنية جسدية أسطورية، وكان يرغب في الهجرة إلى مدينة نيلوا لتلقي العلم مع صديقيه قاشي وتيوفو، ولكن رؤية مجلس القرية فيه بأنه يصلح لحماية «إبط الشيطان» والقرية، وهو أكثر فائدة بالدغل، ونسبة لميوله الفوضوية رئى أنه سيفسد في المدينة. تنبه إلى حقيقة أن مهمة المحارب هي الدفاع عن القرية والحرب، وليست الأعمال الشاقة، الآن نحن نقدم خدمة للقرية، لمكانة القرية، لرفعتها. - لا، من يرجى منهم تقديم خدمة تساهم في رفعة القرية ومكانتها ليس نحن، إنهم هنالك وراء الدغل منعمون يقرءون ويكتبون، ألم تشاهدوا بأم عينيكم سامبا ولد مزاكي عندما عاد لرؤية قبر والده، هل كان يشبهكم؟
هل كان يشبه سامبا نفسه صديقنا الذي قرصته الكراواوا في أذنه عشر مرات ورغم ذلك استطاع أن يأخذ طعامها؟ قال له محارب شاب: أنت تعبت يا ينبو، وغلبك العمل لا أكثر، وإلا فلكل شخص دوره في الحياة.
ضحك ينبو بصوته الغليظ قائلا: أنت تفهم جيدا، إذن نحن لحماية القبيلة وللحرب.
ولكن ينبو جمع حوله أفرادا ليسوا بالقليل من المحاربين أعلنوا: إننا لن نتعاون، واكتفوا بالشواء وشراب الدنبا. ثم اقترح «نووا» حفلة، وغنوا الأغاني التي ليس من الذوق غناؤها أمام الشيوخ والأعيان، إنها أغنيات قلة الأدب، أغاني المحاربين بعيدا عن القرية في رحلات الصيد، أو عند إبط الشيطان ليلا، وفي رحلات مراقدة فتيات «الكا»، سمعها الكواكيرو وفريقه، صاح الكواكيرو: اصمتوا يا هؤلاء، ألا تحترموا آباءكم؟
ولكن ينبو بصوته الغليظ الأجش الأشتر صاح مغنيا:
شيء المحارب.
شيء المحارب.
شيء المحارب في طول قناته ...
قالت له لوما: لماذا لا تتخذ ساق المهوقني قناة لك؟
ولكن الكواكيرو لم يقل شيئا، ولم يتحدث أحد من المجلس، وعرف مستر جين أن في المسألة عصيانا.
وعندما انطفأت النار لم يوقدها أحد، وعند مطلع الفجر وعلى ضوء واهن تميز فريق الكواكيرو، إنه لم يكن هنالك أحد من المحاربين، ولم يسأل أحدا أين ذهب المحاربون، قام مستر جين بدراسة الخور جيدا مستفيدا من تجربته هو عندما قاد عربته عبر الغابات، ولو أن المسافة كانت قصيرة لأنها عبر الحدود من المدينة نيلو ...
سنعبر الخور.
وعليهم حقا أن يعبروا الخور الآن عند هذا الصباح الجميل المشحون بالتوتر؛ لأن الاجتماع الكبير اليوم العصر.
الكواكيرو بالذات كان مشحونا بالغضب ضد المحاربين الذين أهانوه وسط مجلسه والبونا الغريب، ولكنه لن يتحدث الآن، لن يقول شيئا؛ عندما تعود يا الكواكيرو ستقطع أذن الحية ينبو، ينبو اللئيم، سأتدبر أمره.
في أقل من ربع الساعة عبروا الخور الكبير، ولكن الطريق لا تزال وعرة وعصية، ما حتم أن يستخدم الكواكيرو وفريقه الفئوس لقطع الشجيرات حديثة النمو. •••
زئير العربة حرك سواكن «شاري» كلها، أول ما انزعجت كلابها وأطفالها، كلما اقتربت العربة أكثر وأكثر من الأكواخ اتسعت دائرة الفوضى والارتباك؛ النساء، المحاربون، القطط، الطيور التي ترك على هامات الأشجار ونهايات الأكواخ المدببة.
ما زاد الأمر تعقدا وجود المحتفلين في الميدان الكبير، فصوت محرك العربة وخروجها المفاجئ من بين الأشجار مصحوبة بهالة من الأغبرة؛ اختلط الحابل بالنابل، والتفت السوق بالسوق، وفر الناس في كل الاتجاهات، وأخذ الكواكيرو مرعوبا يصيح: أوقف هذا الشيء ...
أوقفه ...
في الحق، كان يظن نواب المجلس أن هذا الشيء لن يقف، ربما أكد ذلك في أذهانهم الفوضى والضجيج، بالإضافة إلى محاولة مستر جين القيام باستعراض يزيد الموقف إثارة.
أوقف هذا الشيء أرجوك.
دارت العربة حول نفسها دورتين في سرعة البرق ثم علا صفير بوقها قبل أن تتوقف أخيرا ويهبط منها مستر جين برشاقة عسكرية قائلا: الحمد لله، وصلنا الآن.
ليس بإمكان أحدهم رد التحية، كانوا في ذهول تام ودهشة، مثلهم مثل بقية الدغليين الذين لأول مرة يرون عربة، ولكنهم تشجعوا لكي يبدو الأمر عاديا وطبيعيا: انزلوا.
كانت أرديتهم الجميلة المصنوعة من الجلود النفيسة ولحاء الأشجار المصبوغة بأزهى الألوان، تعلق عليها الغبار، ولكن من الأحسن ألا يبدوا منزعجين من أجل ذلك، ولو أن كل واحد منهم حاول أن ينفض الغبار عن شعره، أن يضع رياش صقر الجديان في مواضعها بعد أن كانوا يحتفظون بها بين أرديتهم خوفا من أن تذهب بها الريح. وعندما اطمأن الدغليون اقتربوا من العربة، الشيوخ أولا، ثم المحاربون، ثم البقية، كان الكواكيرو ومجلسه مجسدة الجميع، كانوا عظاما وغرباء وكأنهم نزلوا من كوكب آخر ...
نحن بنو «لالا» نقود ركب الحضارة.
تركوا صغائر الأمور لصغائر البشر، وكأنهم لم يروا الأطفال والمحاربين وهم يتفحصون العربة والبعض لمسها، البعض تجرأ وركب عليها، فليندهش من يندهش.
لنبدأ الاجتماع.
طالب وفد «لالا» بتهيئة مقعد إضافي للبونا كتقليد قديم تتبعه قبائل الدغل تكريما لضيوفها، الذين قد تهبهم حق المواطنة، بل وتعتبرهم أفرادا من جنس قبيلتها بالتأكيد. كان على سلطان قدايا أن يقلل من شأن الكواكيرو ويحد متعة التميز وينفيه ليؤكد ذاته هو، الجاذب في كل زمان ومكان للنظر، والسلطان الأقوى والأكثر تقدما ورقيا وأصالة، سلطان قدايا، سلطان قبائل الدغل كلها، يسكن «شاري»، أصوله «فترا»، طوله متران ونصف المتر، يطابق حجمه ثور جاموس، كبير الرأس ضيق العينين، ينمو بجلده شعر كثيف ناعم، أكول، ذكي، له ثلاثون امرأة يسميهن بأسماء أيام الشهر الثلاثين، يبدأن «أتير» وينتهين «شاش مرا»، وذلك لكي يجعل عملية تقسيم المبيت عملية سهلة، وأيضا لتسهيل عملية حفظ تواريخ الحمل، حتى إذا أصابت إحدى زوجاته طفلا من رجل آخر عرف ذلك بسهولة، حيث إنه كان بارعا في الحساب ويعرف في السحر والتنجيم، وبنظرة عاجلة لأسفل بطن زوجه يعرف كم عمر حبلها. لسلطان قدايا تسعون ولدا وبنتا، له ثلاثمائة حفيد وحفيدة، يمتلك مخزونا من الذهب التبر لا يعلم مقداره إلا جواسيس حكومة الشرق، بالتحديد قوات ديبا للأمن القومي، والله رب العالمين، أما سلطان قدايا نفسه فلا يستطيع أن يحدد كم مقدار تبره بالضبط.
فمن هو كواكيرو «لالا» لكي يخطف عني الأضواء؟
أليس هو ولد رونا ابنة ماردو الذي كان خادما لدي؟
ولأنه ذليل تسهل قيادته وتضمن طاعته جعلته زعيما لقبيلة «لالا».
من الذي كون له الثروة التي ينعم بها الآن؟
من الذي كرمه بمراع من الأبقار النادرة؟
من الذي خصص له إبط شيطان لا ينضب أبدا تبره؟
هذا حق، هذا حق يا سلطان قدايا.
ولكن هل نسيت أن أبي هذا الطائع الذليل الخادم لديك، ماردو، هو الذي نصبك سلطانا على كل قبائل الدغل؟
حقا إنه كان خادما لأبيك، ولكن لماذا رفض أبوك تنصيبك سلطانا وهو على فراش الموت؟
هل تعرف؟
هل تعرف من هو الذي زور وصيته؟
أليس هو عبده، مكمن أسراره، رهن إشارته ماردو؟
ألم تطلب منه ذلك وأنت باك راكع أمامه؟
كان سلطان قدايا يجلس وحوله حاشيته من الأبناء والأحفاد، يتسابقون في خدمته وراحته. أما الكواكيرو فيجلسون في صف خلف السلطان، وحول كل كواكيرو رجال مجلسه الأخيار وبعض المحاربين القائمين على راحته، أمامهم يمتد الميدان، يحيط بجوانبه الأهالي، ضاربو الطبول يلتزمون بالتقليد المتبع؛ الرقصة الأولى لقبيلة «كا» على إيقاع معروف في العالم الخارجي بالسامبا، وهم يسمونه «اد ودود» ويعني الأسد. يبدءون بقبيلة «الكا» لأنها أبعد القبائل عن مكان الاحتفال وهذا تكريم لهم، وقبيلة «الكا» من آكلي لحوم البشر، فتياتها أجمل من الجنيات، أما رجالها فأقبح ما خلق الله، وتستخدم الفتيات جمالهن كمصيدة لرجال القبائل الأخرى واصطياد البونا، ولو أن «الكا» لا يفضلون لحم البونا لأن به جرثومة البرص، ولأن به رائحة شبيهة برائحة لحم الضبع.
ومن القصص الشعبي المشهور عند قبائل الدغل هي قصة حب فتاة تسمى «جيد» - وهي من «الكا» - لفتى وسيم من قبيلة «فترا»، وكيف أن أسرتها كادت أن تتعشى به لولا أن «جيد» مع صديقاتها هربن به إلى دغل كثيف وبنوا له كوخا آمنا يترددن عليه الواحدة تلو الأخرى إلى أن مات أخيرا. درداب الطبول يحاكي تربص الأسد بحمار الوحش، اقتراب وقوع الضحية، إحساسها الداخلي بالمصير المرعب، رجفة عضلاتها بين ناب الوحش، سعادة الوحش، قفزة، عضة، صرخة الألم، محاولة الخلاص، الاستسلام.
ثم ينتقل الضاربون على الطبل إلى رقصة النسر وهي تخص «شاري»، ثم إلى رقصة الذئب التي تخص قبيلة «لالا»، وهو إيقاع قريب لما يعرف بإيقاع الرقي، ثم إيقاع قبيلة «فترا» المستضيفة ويسمى بمشية السلطان العادل. ثم يقرأ الساحر العظيم الماضي والحاضر والمستقبل، يبارك الحضور، ثم يقدم سلطان قدايا ليروي عطش الآذان بحديثه الطيب ليجدد الأرواح التي تأخذ وقودها سنويا من خطابه. وعلا صوت النقارة، ارتعبت أطيار أبي مركوب ومالك الحزين والبجعات البيضاء التي مدت أعناقا طويلة أمامها قبل أن تطير بعيدا تاركة السمكات الصغيرات التي كادت أن تصبح ضحية لمناقيرها الشرسة، دخلت الفئران البيضاء الكبيرة جحارها.
صوته كنشيش قدر أسطورية ضخمة، قيل إنه إذا غضب يمكن سماع عزيفه في القرى المجاورة، حتى الثعابين الصماء تسمعه، عيناه الدقيقتان المحمرتان المكتحلتان بالفلفل، عيناه الدقيقتان كانتا تزيدان كلامه قوة وتأسطرة، وعندما تحدث عن «لالا» قال: إنكم قوم أذكياء.
نعم.
تسعون نحو المجد، هكذا دأب جدودنا.
نعم.
ولكنكم وأنتم تحضرون اللقاء المقدس على عربة جاء بها البونا البرص من قبل وعلى ظهرها آلات الموت وجند من الشيطان، والأسوأ أن يأتي في صحبتكم أبرص، أليست هذه خيانة بينة لآلاف من السلف أخذهم البرص بعيدا خلف البحار وباعوهم كما تباع الأبقار؟ أخشى - وباسم ذات التقدم - أن تأتوا غدا وفي صحبتكم الشرقيون الذين هم أكثر سوءا وتقولون إنهم ضيوفنا، لماذا ترفضونهم؟ هل لأن من أبيدوا وهجروا ومسخوا هم أفراد تعرفونهم بالاسم؟ هل من حق من لا يعرفهم بالاسم أن يصالح الشرقيين؟
وقال قولا كثيرا.
طلب مستر جين الفرصة أن يقول، فسمح له سلطان قدايا بنفسه: لنر ماذا يقول؟
أولا حيا مستر جين سلطان قدايا بلغته القومية ولهجته الخاصة بأسلافه من «فترا»، وهي اللهجة التي يجهلها شباب اليوم، حيا كل كواكيرو القبائل واحدا واحدا، بأسمائهم ولهجات قبائلهم الخاصة، قدم للجميع احترامه باللهجة الشائعة، هي اللغة المتداولة بين جميع قبائل الدغل، ثم تحدث عن الماضي؛ تجارة الرقيق، الاستعمار، الاستعباد، سرقة الثروات، التهجير، القتل الجماعي، التطهير العرقي، الاستيلاء على الأرض والماشية والذهب.
قال: حدث ذلك في زمن لن يأتي أبدا، لم يعد العالم كما كان في السابق، وليس برص الأمس هم برص اليوم، فاليوم لا يستطيع أحد الاستيلاء على أرض أحد بالقوة بحجة الاستعمار والبناء، لا يستطيع ذلك باسم الدين وبشاراته، ولا باسم الحضارة ومنجزاتها، ولا بأي من المسميات.
ثم حاول بقدر الإمكان أن يشرح لهم فكرة الأمم المتحدة، الحكومة الراعية لمصلحة جميع الدول بمحاكمها ومنظماتها الفرعية الأخرى، وكيف أنهم أعضاء فيها عن طريق حكومتهم المركزية، متجنبا أن يذكرها بالاسم؛ حكومة الشرق، وركز على هذا الأمر لأن سلطان قدايا في خطابه قال بوضوح: هكذا البرص دائما، يأتي رجل واحد منهم، يلتفت يمينا ويسارا ويذهب دون أن يثير الانتباه، ثم يعود في رفقة رجلين، يبنون بيتا ويقولون لكم إنه بيت الرب، جئنا ببشارته، ثم يأتي الآخرون وفي صحبتهم آلات الموت، ثم يطلبون أرضكم وأبناءكم باسم الرب وبشاراته أو باسم الشيطان وآلات موته، والآن لا يذكرون شيئا عن بشارات الرب ولكنهم يقولون إنهم رسل الحضارة.
انظروا، انظروا، هل وكلهم أحد بانتشالنا من الجهل والتخلف؟
إنه الموت، إنه الرق، إنه الرب الجديد ...
قال مستر جين: أما بشأني، أنا جئت إلى بلدكم لشيء واحد هو أن زوجتي مريضة بالتلوث،
1
وجئنا إليكم أصدقاء، ضيوف، ألا تحبون الضيوف؟
في الحق، حاز احترام الجميع، وليس لأن سبب مجيئه سبب إنساني، لا، ولكن لأنه تحدث بألسنة الجميع، أجاد كل لغات القوم التي كثير منهم لا يستطيع أن يتحدثها بطلاقة، ويحفظ الكل قول جد القبيلة برم بجيل: «القبيلة هي اللسان، والرجل هو لسان، واللسان هو القلب.»
ولكن سلطان قدايا لا بد أن ينقص شأن «لالا» وبوناهم، بالتالي من إنجازهم الحضاري والتاريخي، حيث إنهم جاءوا بعربة تسير كما الريح.
لا أظن أن الكلام البراق سيخدع كل الناس، هنالك دائما الحكماء منهم، إنهم يزنون القول بميزان المعرفة، يحمصونه في مقلاة العقل، يقارنونه بالتجربة، ثم يضعونه جانبا سبع مرات قبل أن يقولوا: آمنا به، أو كفرنا به.
ناقش بعد ذلك مواضيع شتى مختلفة تخص الناس، ثم تحدث كواكيرو «شاري» وكواكيرو «فترا» وكواكيرو «لالا»، ثم تحدث أفراد من الشعب، ثم قال الساحر: هل سيترك الجميع خلافاتهم إلى أن يعودوا إليها في العام القادم ليجدوها قد غسلت تماما عن الأرض، فتلك مهمة الرياح ، والمطر، والأسلاف؟
قام الجميع للمصافحة ونسيان الخلاف، فالسلطان هو السلطان، علا صوت الطبل مما لم يمكن الكواكيرو من سماع ما همس به سلطان قدايا بصوته المرعب في أذن مستر جين: أريد واحدة مثل هذه العربة بأي ثمن ...
«تيري»، «الكا»، وأشياء أخرى
أشياء أخرى.
المغنية الجميلة كريبا، زوجها عازف الإيقاع «أكو»، وهو أشهر من يصنع الآلة الإيقاعية من البامبو وأشهر من يعزفها، جدها والد أمها المحارب بوشا أورثها روح الغناء، منذ صغره كان بوشا يحمل ربابته ذات الوتر الواحد يتجول بها بين القرى المجاورة يغني:
الطريق إلى «الكا»
خطيرة
وأنا أريد فتيات «الكا» الجميلات
والطريق إلى «الكا»
تؤدي إلى الموت ...
فيكافئه المستمعون بهدايا من الكراواوا والتبر وبعض العاج، أما كواكيرو الكا عندما سمع به أرسل إليه فتاة جميلة اسمها «واني» أي الجنة، واني الساحرة هذه جدة كريبا، من المتعارف عليه أن لفتيات قبيلة «الكا» أعذب الأصوات، وإذا غنين تخالهن نفرا من الجنيات يمرحن، وإذا سمع الرجل صوتهن ولو من على بعد شاسع تتبع نغمات الغناء إلى حيث فتيات «الكا»، واللائي لا يتأخرن في اصطياده لعشاء القبيلة، كريبا وريثة هذا الصوت الساحر، الذي ثمنه الحياة، وكما يقول المثل: «النار تلد الرماد».
وأيضا «وينو» صاحب الصوت الأجش الأشتر هو ابن كريبا، أكو يعمل في صناعة البطاطين الثقيلة من لحاء الحبحب وألياف الرافيا، ويقوم بمقايضتها بالتبر أو العاج، أحيانا بجلود النمر الأزرق وحتى الكراواوا، وربما كان لأكو باع كبير في تطوير صناعة فساتين قصب البابيت، منه انتقل إلى بقية قرى الدغل الشمالي والأوسط، نعم، لم يوجده أكو، فقد اشتهرت صناعة الفساتين من البابيت منذ أمد بعيد في الدغل، وأنها وفدت إلى الدغل من الدول المجاورة، ولكن أكو استطاع أن يستفيد من تدرج الألوان بأقصاب البابيت وفقا لعمر القصبة وحجمها، استطاع أن يصنع تشكيلات مختلفة من الفساتين لها ألوان متميزة وتصلح لمناسبات متباينة؛ الأعياد تتطلب ألوانا زاهية وصارخة، أيضا احتفالات الموت تلبس لها الفتيات البابيت الأبيض ذا اللمعة التي تحاكي بريق نصل حربة القدر التي تؤخذ بها الأرواح، وهكذا الأعراس، الصيد، الرقص، الرحلات للقرى المجاورة، الذهاب إلى المدينة. استطاع أكو أن يجعل البابيت لباس كل المناسبات وموضوعا للمفاخرة، بل يصح أن يقال فيه: جعله إيقاع الدغل الصامت.
إذا كان باستطاعة سلطان تيه أن يرى فستان البابيت الذي كانت ترتديه سنيلا يوم عرسها الذبيح، لرأى فيه كيف أنها كانت فرحة وسعيدة ومشحونة بالأمل، فقد استخدم أكو لصناعة هذا الفستان نوعا نادرا من قصب البابيت وهو القصب الأسود، الذي ينمو بخور البجعات، على بعد ميلين من القرية، وميلان في الدغل تساوي مائة ميل على الأرض الفضاء، كما يعلم لسنيلا مكانة خاصة في قلب أسرة أكو، فهي أعظم راقصة في تاريخ الدغل، أكو أعظم صانع إيقاع بامبو وأعظم من عزف عليه، كريبا زوجته هي مغنية الدغل الأولى، إذن العلاقة يمكن أن يقال عنها «فنية بحتة»، ولكن في الحقيقة لم تكن كذلك، فسنيلا وأخوها بانا يقيمان جوار أسرة أكو، وأكو ليس لديه بنات، له ولدان وينو ودينو، وينو محارب يقضي وقته عند إبط الشيطان مع رفاقه المحاربين، يصطادون، يجمعون الكراواوا ويغازلون الفتيات اللائي يتعمدن مصادفة المحاربين في الدغل بعيدا عن القرية، كانت سنيلا تقوم بطحن الذرة وسحن جوز الأرض وتحضيره لطعام أسرة أكو، ولها وأخيها يوميا ودون كلل أو ملل، وكانت كريبا تعاملها كابنتها تماما وذلك منذ صغرها، حيث تركها أهلها هي وأخاها وذهبوا إلى حيث لا يعلم أحد، وعندما أخبرتها فلوباندو عن رغبة الغريب في اتخاذ سنيلا زوجة له سعدت أيما سعادة، وذهبت هي وزوجها أكو إلى خور البجعات وجلبا البابيت الأسود النادر، ثم أعدتها للعرس في صمت، ولم تخبر أحدا من جيرانها خوفا من السخرية والحسد أيضا، فلا أحد كان يتخيل أن يأتي من يطلب سنيلا البرصاء زوجة، وكريبا نفسها كان يقلقها أن تظل سنيلا عذراء عمرها كله، فهي لا تستطيع أن تذهب مع الفتيات إلى إبط الشيطان حيث يتاح لها الاختلاء بمحارب، مكتفية بتجربة واحدة مريرة، وكان ذلك عندما بدأت تظهر عليها أعراض البلوغ وهي في الرابعة عشرة من عمرها، ذهبت مع صديقتيها لاوتبار وشيتا، وعند خور صغير وجدن المحاربين الشباب يصطادون الخنزير البري، وكالعادة حاولن الهرب مدعيات أنهن فوجئن بالمحاربين، ولكن استطاع المحاربون اللحاق بهن، قدموا لهن عصير الكراواوا وغنوا معا ورقصوا ثم اختلى محاربان بالفتاتين وتركوها وحيدة تجلس بين الأعشاب تحاول ألا تبكى، تحاول ألا تحزن، كانت دموعها تسيل دافئة على خديها وهي تنتظر لاوتبار وشيتا اللتين تصلها ضحكاتهما المتغنجة، و... هما، فلم تذهب مرة أخرى أبدا.
كانت كريبا تجلس قرب زوجها العجوز أكو وهو يصب صبغة النيلا على ألياف الرافية منهيا المرحلة الأخيرة في صنع ثوب غطاء سنيلا، كانت كريبا تعالج أغنية رائعة تتشكل في ذهنها، تحاول أن تقبض على الكلمات الملعونة المراوغة المتقافزة في دائرة مسحورة في مخيلتها، دائرة هلامية، لا بد أن تمهر هذا الحدث العرس السعيد بأغنية ترددها الأجيال تلو الأجيال، وعندما بدأت الكلمة الأولى الملعونة تنزل حيث اللغة والمادة، أش! إذا بمحاربين يدخلان وسنيلا الحزينة بينهما يسندانها، كانت صامتة وعيناها مغمضتان، يلتف حول خصرها بابيت العرس حزينا، فأكملت كريبا الأغنية:
أش!
دع الحزن ينام
لا توقظه
أش، أش، أش.
تيري.
أنزيرا والد فلوباندو له زوجتان فقط، يعني أنه فقير، ويعني أنه كسول لا يجد في زراعة جوز الأرض، أو يتعب نفسه في جمع الكراواوا الغالي الثمن ولو أنه كان صيادا ماهرا، ولكنه لكي يحصل على صيد وفير لا بد أن يجهد نفسه في هجرة طويلة وهو لا يفعل، وزوجته الثانية تيري حصل عليها في ظروف غامضة ومنشطة لخيال الأقاويل والشبهات.
واوايامو هي الزوجة الأكبر عمرا، وهي الأجمل أيضا، والأكثر تحملا للمسئولية، الصانعة للطعام، المائحة، هي أم الأطفال، بذور لأشجار الغد الكبيرة، ولكن ليست هي المرأة الأكثر قربا إلى قلب أنزيرا، كان يتوجه بكل ما حباه خالق الدغل من عاطفة نحو تيري التي كان حظها من الجمال متواضعا؛ لونها أصفر كقرد الطلح، نحيفة، لها عجيزة هزيلة، وكأنها لم تأكل في حياتها كراواوا، فوق ذلك كله كانت كسولة مدللة، تحتاج لساعتين لجلب قربة ماء واحدة من البئر، ربما جمالها فقط في عينيها، حيث إنهما تمتازان ببريق غريب؛ لمعان مكسور مدهش، يجبر كل من ينظر إليها أن يفكر قليلا فيما رأى، عيناها ساحرتان، ولكن لا أحد هنا يهتم بمسألة العينين، فإنهما لا تصنعان خبزا ولا تطبخان جوزا أو تجلبان ماء من البئر البعيدة أو تصنعان كراواوا.
جاءت تيري وحدها إلى منزل أنزيرا، أقامت معه، في الأصل من «شاري»، هذا ليس مؤكدا، قابلها صدفة ذات مرة وهو عائد من رحلة صيد الماعز البري، سبيت، رآها تنام تحت شجرة موز كبيرة تغطيها بعض صفقات من شجرة تك مجاورة، تتوسد ثمرة دليب، خاف في بادئ الأمر؛ لأنه ظنها فتاة من قبيلة «كا» في وضع اصطياد، ومعروف أن «الكا» يستخدمون صباياهم الجميلات في اصطياد الذكور من البشر والحيوانات على حد سواء، بينما هو يحاول الهرب إذ تعثر قدمه بعشبة فتحدث كشكشة توقظها فتناديه بلهجة «شاري»؛ فيطمئن لأن «الكا» لا يتحدثون بلهجة «شاري» بالذات فهي لهجة الصالح برم بجيل، وقد حرمها عليهم يستحيل أن ينطق بها لسانهم.
لا تخف.
أنا اسمي تيري، تيري من قبيلة «شاري».
ماذا تفعلين هنا؟
أنا أعيش هكذا بين الأشجار، بيتي المكان كله.
ثم ابتسمت وهي تضيف فأكملت بغنج بناتي مشبق: ألا تستريح قليلا؟
وضع أنزيرا المعزة البرية التي اصطادها على الأعشاب وجلس قبالتها، أنزيرا لم يتحدث كثيرا، قيل إنه راودها عن نفسها وإنه فاعلها، فاعلها كثيرا؛ لأنه أحس فأكملت ذاته بأن تيري تهبه متعة الشيء أكثر من زوجته واوايامو، وأكثر من أي امرأة أخرى أصابها، ولكنه خاف أن يطلب منها أن تتزوجه لأنه لا يملك مهرها، وليس بإمكانه إعطاء والدها مالا مقابل أخذها زوجة له ثانية. مهما يكن، هنالك أسرة لكل إنسان؛ لذا تركها نائمة تحت شجرة الموز مبقيا صيده من المعز البري قربها، امتنانا وعرفانا، وأيضا عربونا لعلاقة قد يسمح بها القدر مرة أخرى ...
ومضى ...
وهو يمشي نحو القرية كان يحن إلى تيري حنينا طاغيا، إلا أنه يزجر نفسه بين حين وحين؛ لأنه لا يستطيع أن يتزوجها، بالتالي عليه ألا يضيع ماءه هدرا، إبقاء المتعة.
عندما استيقظت تيري كان الوقت ليلا، والغابة مصخوبة بصراخ طيور الليل وعواء الذئب وكلاب السمع وغيرها من الهوام، تيري لا تخشى شيئا، ثلاثة عشر عاما في الحياة البرية لم يصبها سوء ولو لمرة واحدة بين الوحوش، تحت المطر، في العاصفة، لا تخاف شيئا، دائما وحدها، كسولة وماكرة.
تلفتت حولها فلم تجد أنزيرا!
أين أنت يا أنزيرا؟
انتبهت تيري إلى وجود المعزة البرية، ربها على العشب مذبوحة باردة، ربما ذهب لقضاء الحاجة ...!
أنزيرا، أنزيرا.
في الحق - ولأول مرة - تحن إلى شخص ما، ففي كسلها هذا مر بها رجال كثر من شتى قبائل الدغل، بعضهم هرب عندما رآها ظانا أنها فتاة «كا»، أو جنة، أو ما أوحت به له مخيلته، البعض تبادل معها الحديث، البعض فاعلها، ومضى جميعهم دون أن تبخع نفسها على آثارهم، ولكن في شأن أنزيرا فالأمر اختلف، وضعت المعزة البرية على كتفها وذهبت في طلبه، تشمم الهواء كالكلب المتوحش.
بيت أنزيرا كبيوت أهل القرية جميعا عبارة عن معسكر صغير تحيط به أشجار النجيل، وعليها تنمو المتسلقات، في الداخل ثلاث قطيات: قطية قرب المدخل وهي لأنزيرا، قطية زوجته تبعد قليلا للداخل، ثم قطية الأطفال كبار السن، وكالعادة لم تسأله واوايامو لماذا عاد من دون صيد ودماء العنزة جف على كتفه؛ لأن السؤال عن الرزق يجر سوء الطالع، جلبت له الطعام والماء، ثم أرسلت إليه البنت الصغيرة، التي كان يحبها جدا ويناديها «ني» باسم أمه، أرسلتها لكي تروح عنه ولكنه - وليس كعادته - طلب منها أن تعود لأمها لأنه يريد أن يبقى وحده لبعض الوقت.
وعندما دخلت إليه في الظلام ظنها زوجه واوايامو، فطلب منها أن تعود لقطيتها لأنه سينام وحده هذه الليلة ولكنها لم تبرح مكانها، وليس هذا من طبيعة واوايامو؛ إنها لا تعصيه أبدا، وضعت تيري الصيد على الأرض ورقدت قربه، عرفها فلقد كان لجسدها رائحة الذئب. قالت له: لقد نسيت عنزتك، فخفت عليها أن تفسد إذا تركتها للصباح، أو تأكلها الضباع والكلاب البرية، لذا، أحضرتها لك.
أيقظ واوايامو، طلب منها أن توقظ فلوباندو وودي وأن يقوموا بسلخ المعزة ووضع العشاء.
معي امرأة، أريد أن أتخذها زوجة لي.
تيري.
سعدنا جدا أن والدنا اتخذ امرأة أخرى إلى جانب أمنا واوايامو، تقوي مكانتنا الاجتماعية، ولا أحد سوف يعير أبى بأن له امرأة واحدة. من ناحية أخرى فهي ستقوم بحمل كثير من الأعباء عن أمي؛ إدارة شئون المنزل، الطهو، جلب الكراواوا، طحن الذرة، حلب المعزات البرية المستأنسة، ويمكن أن يجيء منها الكثير والكثير إذا كانت امرأة فاضلة، بالإضافة إلى أسرة جديدة ستضاف إلى أسرتنا، امرأة أخرى شيء رائع، ما كنا نحلم به، نعم، أمي ستتنازل لهما عن نصف مبيت الشهر، وهذا ليس بالشيء المثير للقلق، فأمي امرأة كبيرة العمر، كما لو أننا قارنا حالها ببقية نساء القرية فلا تزال لها ميزة عليهن، فبعض الرجال في القرية يمتلك قرابة العشرين امرأة. ولكن لسوء طالع أمي، وسوء طالعنا جميعا أن زوجة أبي الجديدة ليس بالمستطاع بأن يرجى من ورائها خير، بل أضحت عبئا أضيف إلى كاهل أمي؛ كانت امرأة كسولا تنام اليوم بطوله، وإذا ذهبت لجلب الماء من البئر جلست تحت شجرة جوز أو حبحب، وأخذت تغني وتلاعب القرود، التي لا تخاف منها وكأنها قردة منهم، ومن الغريب في الأمر أن الطيور ترك على كتفيها ورأسها وهي مطمئنة، وإذا أحضرت الماء للمنزل استحمت به، وإذا عجزت عن إحضاره استحمت بالماء الذي نحضره نحن أو تحضره أمي، وأصبح الشجار اليومي بين تيري وأمي ظاهره الماء وباطنه استحواذ تيري التام على أبي، وقد تأكد لنا جميعا وللجيران أن تيري استخدمت السحر في ذلك، وما يغضب تيري - ولو أنها إطلاقا لا تظهر غضبها أو تبدو منزعجة - أن تقول لها: أندل. وأندل قبيلة سكانها يعيشون الآن في مائة عام مضت، وهنا في «لالا» يضرب بهم المثل في التخلف، وتعتبر إهانة بالغة إذ يقال لأحدهم: أندل. ولكن تيري تغضب في برود ودون مبالاة، متفهمة محاولة أمي لإغاظتها، وذلك يزيد توتر أمي ويشعل فيها عيدان الانتقام.
وذات مرة، وبينما كان أبي في رحلة صيد، أرادت تيري الاستحمام، واستخدمت لهذا الغرض ماء جلبته أمي، وبينما هي تستحم خلف قطية أبي تحت ستار من المتسلقات الخضراء على نبات النجيل الكثيف، دخلت عليها أمي وأخذت جرة الماء، فضحكت تيري بصورة أغاظت أمي، فأخذت أمي ملء كفيها ترابا وأفرغتهما على رأس تيري، أخذت تيري تسحي التراب عن رأسها ووجهها وهي تضحك بسخرية وخبث، ثم تغني أغنية:
العجوز الشمطاء
وآو وآو.
فحملت أمي عصا غليظة تستخدم لقتل الضباع ودخلت بها إلى تيري، التي لم تبرح مكانها خلف قطية أبى تغني وسط المتسلقات والنجيل، ولكن لدهشة أمي لم تجدها وقررت البحث عنها في الكوخ، سمعت ضحكتها الخبيثة مرة أخرى من خلف الكوخ، وعندما عادت إليها هنالك لم تجدها أيضا، وهكذا، أخذت أمي تجري ما بين الكوخ والحمام، هاجت وماجت وأخذت تضرب بقتالة الضباع كل شيء يقع في عينها؛ السياج، الكوخ، الأشجار، الآنية، حتى حطمت جرار الماء غالية الثمن، وكلما هدأت سمعت ضحكة تيري مرة أخرى من مكان قريب بل وكأنها خلفها، فتثور.
إلى أن جاء جارنا تيتي وأخذها بالقوة إلى داخل كوخها وحبسها هنالك إلى أن حضر أبي، أخبر بالقصة كلها، لم يفعل شيئا، دخل كوخه ووجد تيري نائمة في هدوء تام، نام قربها ولم يسمع لهما صوت، وكان عليه أن يفعل غير ذلك، عندما هدأت والدتي أعلنت بصوت جهوري أنها سوف تذهب إلى بيت والدها ولن تعود مرة أخرى وليأكل أنزيرا وتيري التراب. وسمعت تيري وسمع أنزيرا قول أمي وظلا ساكنين. قالت أمي إنها لن تحمل نيرو وودي معها، وليموتا بالجوع هنا في هذا البيت المشئوم.
وسمعت تيري، وسمع أنزيرا أبي، وظلا ساكنين بالكوخ. قالت أمي إن أباها لن يعيد لأبي مهرها.
وسمعت تيري، وسمع أبي، وظلا. قالت أمي إنها قبل أن تذهب إلى بيت أبيها ستشعل الكوخ واللذين هما بداخله الآن نارا ...
وسمعت تيري، وسمع أبي، وبعد لحظات خرجا، خرجا من الكوخ دون أن يقولا شيئا.
من فناء الدار، خرجا من القرية، خرجا للأبد، إلى الآن لا ندري أين ذهبت تيري بوالدنا؛ لأن تيري روح من الجن، عادت إلى وادي الأرواح الشريرة حيث جاءت.
كلوا بابو.
المرتدون للأمام والمتقدمون للخلف.
بدأ الصراع فعليا بين جين والدغليين في اللحظة التي تخلى فيها عن كل ممتلكاته للقرويين، بدأ من ملابسه، مرورا بآنية المطبخ، انتهاء بالجيب، الذي أهدى إلى الكواكيرو، بدأ الصراع عندما عاد الجين إلى بيتهم عراة يلتفون بالجلود التي أعطاها إياهم الكواكيرو، بدأ الصراع عندما ترك الجين بيتهم وأقاموا بالكهف جنوب البحيرة، بدأ الصراع عندما مشوا عراة كما لو أنهم نزلوا لتوهم من السماء، بدأ الصراع عندما تأكد للقرويين أن الجين هم رسل تخلف وليسوا رسل حضارة.
ميلاد سنيلا أولا.
هي سعيدة بأنها حبلت، ولكن كلما قرب وقت الولادة أصابها القلق، قالت لي: تبقى لي أسبوعان لكي أضع حبلي، كيف تلد النساء هنا؟ أنا عن نفسي لم أر امرأة تلد، ولكن أراهم يغلون الماء وعليه ورق شجرة النيم، ويطلبون العرافة لكي تبارك الجنين وتسميه، أليست هنالك امرأة تساعد النساء على الولادة؟
هنالك دائما الجيران والأهل، ولكن باستطاعة النساء أن يلدن دون مساعدة أحد، إنها مسألة - كما يقولون - ليست شاقة، وهكذا كل المخلوقات تلد وحدها، حتى الأفيال.
نعم، نعم.
لكنها كانت خائفة خوفا حقيقيا، فهي أول مرة في حياتها تدخل تجربة كهذه، وكانت تقول لي: كلما كبرت المرأة تعسرت في الولادة، وقد تنجب طفلا مختل العقل، وأنا الآن أبلغ الأربعين، أي قدر عمرك ثلاث مرات.
والوقت الذي كنت سأنجب فيه بسلام قضيته بين جدران المعامل، حدثيني، كم تبعد مدينة نيلو الحدودية من هنا، عبر طريق «شاري»؟ ولكن هل بإمكاني السفر؟ نعم، بإمكان جين أن يحضر لي قابلة من المدينة، نعم، بإمكانه ذلك، حتى ولو يستلف عربة الجيب من الكواكيرو.
وطلبت من جين أن يأتيها بقابلة، وأجابها فيما يعني أنه سيحضر لها الطبيب عندما يحين الوقت، ثم أصبح موضوع الطبيب والقابلة موضوع الشجار اليومي بين ماريانا وجين، وكلما قرب ميعاد الولادة اشتدت الخصومة واحتد الشجار، كانت ماريانا تتهم جين بعدم المبالاة، وأنه يعرض حياتها للخطر، ولكن مستر جين دائما ما يطلب منها ألا تستعجل قدوم الطبيب، وأنه سيحضر حالما يحين وقت الولادة. - بل قل وقت الموت.
وقت يحين وقت تخلصك مني، أنا أفهم جيدا نواياك، ولكن أليس من الإمكان أن تحقق هذا الحلم وأنا على قيد الحياة؟
قبل المخاض بيوم عاد مستر جين من رحلة الصيد التي يقوم بها عادة على عربة الكارو التي يجرها حمار الوحش، والمفاجأة أنه عاد جين وفي صندوق العربة امرأة شمطاء تلبس جلد ذئب وفي صحبتها سبعة أطفال: بنتان وخمسة أولاد، ينشدون أمام الكوخ بإيقاع حلو ونغم ساحر نشيد:
أمنا المطرة
شجرة الباباي
ترن، ترن
ترنترنترنترنترنترنترنترنترنترن.
ولو أن مسز جين كانت في قمة أشجار يأسها المخوف، إلا أن النشيد أيقظ فيها روحا حلوة، وجعل عينيها تبرقان ذهولا وأسئلة: من هؤلاء؟
هل هم الملائكة؟
إنهم، إنهم الملائكة.
وعندما هبطوا الأرض، كانت نقارتهم الجميلة مزينة بأنياب الفهد والعاج المنظوم في حلقات صغيرة معلقة على جوانب الطبل، ومع دقات الطبل الهادئة العميقة غنى الأطفال:
لابينا
هبا، هبا
لا
لا بيناهبا
لابينا
لابينا
هبا، هبا، لا
لابينا هبا
لابينا
لابينا، تلو، تلو، تلو
لو، لو
لووووووو.
كان جين يقف قرب حمار الوحش وفي فمه ابتسامة رحبة ثرية، مشت ماريانا متثاقلة إليه، أمسكت كلتا يديه في حنان قائلة: من أين جئت بهم؟ هل أرسلت إلى روح القديسة سانت ماريا؟ لقد سميت عليها، وهي دائما في قلبي، قل لي، يا يسوعي الصغير.
الساحرة ذات الأطفال طقس دغلي متجذر في قدمه، ولكن للأسف قد أهمل تماما ونسي في كل قرى الدغل، ولكن كيف عرف جين الطريق إليهم والمجيء بساحرتهم وأطفالها؟ فهذا ما لا أعرفه، ولكنه في رحلات صيده دائما ما يطرق سفرا شاسعا. الساحرة، التي يجب ألا يعرف أحد اسمها لأنه مجرد معرفة اسمها يؤدي إلى مسخها إلى طائر هدهد شرير ومسخ المنادي إلى دودة شهية، يقوم الهدهد بابتلاعها لكي يعود إلى ساحرة ذات أطفال مرة أخرى.
إذن من الأفيد للمنادي إذا طلبها أن يقول: الساحرة ذات الأطفال. والطريف في أمر هؤلاء الأطفال - الذين في عمر واحد - عندما يبلغون الثامنة يستبدل أطفال جدد بهم، يتم اختيارهم في الحلم أثناء النوم، يحلم بذلك آباؤهم أو أقاربهم أو تحلم بهم الساحرة كثيرة الكلام، كثيرة الأوامر، التي تلقي بها هنا وهنالك جزافا.
عجوز ما فوق الخمسين، وهذا خطأ حين لا يجب تقدير عمرها، في الحق أنه لا يمكن تقدير عمرها؛ لأنها تجدده كلما بلغ أطفالها سن التاسعة، أي كل ثلاث سنوات. الأطفال أجمل عند الفجر، استيقظوا، تبولوا خلف أشجار الموز، شربوا لبن العنز البري، تشاجروا قليلا عندما عض جيرو منوا في مكان بنهدها الذي لم ينم بعد، جلبوا أوراق الموز الأكثر نعومة من القلب، شربوا اللبن مرة أخرى ثم أخذوا ينشدون وحدهم، كانت الساحرة ذات الأطفال بالكهف مع مسز جين التي ترقد على الأوراق وهي تئن بين حين وحين. أعد أنا قدر الماء المغلية فيه أوراق النيم عند باب الكهف، خلفي الأطفال، طلبت الساحرة ذات الأطفال جين، سألته: أتريده ولدا أم بنتا؟
قال وهو يحاول أن يكون دقيقا في تعبيره عن رغبته مع أنه في ذاته يعلم أن ليس باستطاعة الساحرة تغيير ما ستنجب ماريانا وفقا لمشيئته هو أو مشيئة الساحرة ذات الأطفال: أريده ولدا.
قالت الساحرة ذات الأطفال ضاحكة في شمط قديم بائل: ستلد بنتا لأنك قلت تريده ولدا، لا فرق، كلهم أرواح أسلافنا، يأتوننا أطفالا، إنهم لا يذهبون بعيدا.
ثم طلبت من الأطفال أداء رقصة أهلا، بروح نوا، وكانت أجمل رقصة يمكن لإنسان أن يراها؛ الطفلتان تهزان بطنيهما مع الاحتفاظ بركبتيهما في وضع السكون، في ذات اللحظة التي يهز فيها الأطفال صدورهم وأقدامهم وهم يعزفون بأفواههم طبلا هادئا حلوا. وفي هذه الأثناء كانت ماريانا ترى القديسة سانت ماريا تسحب البنت سنيلا من بين نهريها كما تنساب موسيقى هادئة.
المشكلة الأولى مشكلة إرضاع سنيلا، ماريانا لها مكان للثديين ولكن لا ثديين لها، فلوباندو في الثانية عشرة وثدياها في حجم برتقالتين ناضجتين من صنف ليمون القرد الأخضر، ولو أن ما أكلته ماريانا بإمكانه أن ينتجها فيلة صغيرة شحيمة، إلا أن الأمر كما تقول ماريانا: المشكلة مدى مقدرة الجسد على تمثيل الطعام، بالإضافة إلى الاستعداد الوراثي للسمنة، في البدء حاولنا سقيها لبن المعز البري، ولكن الطفلة لا تستطيع غير ابتلاع قطرات قليلات منه، وعندما فكر جين في إحضار مرضعة لها من القرية اعترضت ماريانا على الفكرة؛ إن بالقرية أمراضا لا حصر لها، وعلى أثر صراخ سنيلا من الجوع فكر مستر جين سريعا، قال لي: آتني بالمعزة ...
غسلنا أثداءها، غسلناها جيدا.
بالحيوان أيضا أمراض قد تنتقل للإنسان، اغسليها جيدا،
في البدء، أي في الأيام الأولى، كانت المعزات تقوم بالرفس أو النطح، ولا تذعن لفم سنيلا الصغير إلا بعد ربط وشد وزجر، ولكن مع مرور الأيام أصبحت المعزات مسالمات طيعات، تستسلم بهدوء لسنيلا الصغيرة، وعندما بلغت سنيلا الشهر التاسع كانت تجري بنفسها خلف المعزات وتقوم برضاعتها، وكبرت بسرعة، ويرجع الفضل إلي لأنني كنت أطعمها يرقات النحل ودود الباشين بكميات كبيرة، ومسز جين لا تدري بذلك، جين يعلم ويشجعني، ودائما ما ينصحني بتجنب نهاية ذيل الباشين الحادة، ماريانا تحذرني من ثلاثة أشياء: لا تتحدثي معها إلا بلغة «لالا» فقط.
لا تتركيها تغيب عن عينيك لحظة واحدة.
لا تسمحي بالاختلاط مع الدغليين، خاصة الذين تظهر عليهم دلائل الأمراض.
التزمت فقط بالتحذير الأول، أما الآخران فتجاوزتهما، عن قصد أحيانا وأحيانا أخرى بغير قصد، والسبب الأساسي في ذلك سنيلا نفسها، هي طفلة نزقة مزعجة متمردة لا يمكن قولبتها، خاصة وهي في أواسط السنة الثانية، كانت تهرب مني في الأعشاب الكثيفة، أظل أبحث عنها، أناديها وهي تسمع ولا تجيب لأنها ترضع المعزات، أو تحفر الأرض بحثا عن الطين الرطب الأحمر لتأكله، أما إذا رأت طفلا من القرية جرت نحوه ورطنت بأن يأتي معها للكهف، أو قدمت إليه ما بيدها من طعام، وإذا حاولت إبعادها عنه عضتني في أناملي أو صرخت كالملسوعة، تحب الأطفال والطين ودود الباشين ثم المعزات ثم أمها ماريانا، أما أنا فعندها لست سوى سجن يتبعها بجدرانه وعساكره حيثما أرادت أن تنطلق حرة منفكة.
الساحرة ذات الأطفال مرة ثانية «تعتب» الكهف، كانوا ينشدون:
أمنا المطرة
الباباي.
ناموا، استيقظوا، تبولوا تحت الموزات الكبيرات، وردوا البئر، تشاجروا، اصطفوا وهم يهتفون:
أهلا بروح نوا
نوا التي تصحو قبل الديك
نوا
الجدة
طفلة ماما، نوا.
سألت الساحرة ذات الأطفال مستر جين: أتريده ولدا أم تريدها بنتا؟
ضحك جين في ذاته، لقد اكتشف اللعبة الآن: أريدها بنتا
قالت الساحرة ذات الأطفال الشمطاء: إذن ستلد ولدا، ولدا هذه المرة ...
قال محاولا فضح الحيلة: ماذا لو قلت ولدا؟
قالت الساحرة ذات الأطفال في شمط بائل: أيضا ستنجب ولدا ...
قال محاصرا شمط الساحرة ذات الأطفال: وأين حكمة قولك في المرة السابقة بأنها ما أنجبت بنتا إلا لأنني قلت أريده ولدا؟
قالت الساحرة ذات الأطفال: كل شيء في هذه الدنيا في تغير، حتى المقاييس والمكاييل والصخور التي تبدو أبدية وصماء وعنيدة، كل شيء ...
لقد كان ذلك قبل عامين كاملين، وكانت الشمس في ذلك اليوم - أي عند ميلاد سنيلا - عند الغزالات الثلاث، تتجه نحو عين الحية ذات الرءوس السبعة، فبأي حكمة تنجب زوجك ولدا؟ قل لي.
أما الآن، فالشمس عند رأس الأسد خارجة من إبط التمساح، بصدرها نسر وبصدرها ضبع.
فقل بالله، بأي حكمة تنجب زوجك بنتا في هذا الوقت بالذات والجنيات تمشط الأسد ...؟
وأسماه والده بانارودنا، أي الولد الذي أتى به البرق، لقد هطلت الأمطار في ذلك اليوم معلنة بداية الفصل ذي الأمطار التي تهطل نهارا وبكثرة. كان أبيض، عيناه خضراوان، ولكن عندما تفحصت الساحرة ذات الأطفال قدمه اليسرى قالت: إنه محارب صبور ...
ولكن حظا تعيسا سيصاحبه طوال حياته ما لم يتزوج تلك المرأة ذات الصدر، الفرجاء ذات السحر، التي تكبره بأعوام كثيرة.
الجميلة السوداء ...
لا، لا، لا
لا، لا، لا،
لا.
السماء الآن صافية، الريح الثقيلة المشبعة ببخار الماء التي تهب من الجنوب لا معنى لها، عرف ذلك من طائر مالك الحزين، يقف في هدوء تام وسط بركة ماء صغيرة مطمئنا: لن أعود للكهف مرة أخرى، لن أعود، وليتصرف الكواكيرو القرنفش كما يحلو له، في المرة السابقة عدت لا لشيء إلا من أجل سنيلا، لا أريدها أن تتهمني بالجبن وتفهمني خطأ، أنا رجل شجاع، نعم لست فارسا بطلا، ولا محاربا جسورا، ولكني شجاع بما يكفي للحفاظ على حقائق رجولية في يجب ألا تمس، هي أو فلوباندو، فليكن الكواكيرو نفسه في مكاني، في كهف معزول في مرتفع في وسط غابة، لا جار ولا صديق، وفوق ذلك كله يخرج لك أشخاص من الجدار يجادلونك، يهددونك، ثم يطاردك كلبهم، هل ... وفوق ذلك كله ذئب، أينما صوبت وجهك ذئب، أنت، هل ...
أنا أحب سنيلا، سنيلا تحبني، فلأجلها أفضل المستحيل، أول المستحيلات امرأة هي فلوباندو الخبيثة.
وليست لك تجربة، فأنت ضعيف، فلوباندو قوية، مجربة، وفوق ذلك كله امرأة وأنت رجل.
مجرد رجل.
أريد الصادق الكدراوي الآن، أريده هنا تحت هذه الشجرة، أنت تعرف كيف تقرأ النساء، اقرأ مأساتي، البحيرة، نعم، فلأذهب إلى البحيرة، قالت له ذات مرة فلوباندو إن البحيرة هذه دموع امرأة فقدت طفلاتها الثلاث، ابتلعهن الدغل، هو الآن يحس بالفقدان، فقدان ما أعطته البحيرة، بحيرة الدموع، جلس تحت ذات الشجرة التي كان يجلس عليها يوم أن رقصت سنيلا على شاطئ البحيرة الرملي، لو استطعت إرجاع عجلة الزمن للوراء، ليس الزمن فحسب بل المكان، الصورة، الكائن، الهواء أيضا، أنت لا تستطيع أن تعيد اللون والإيقاع، الرقصة، الرقصة ذاتها، أنت لا.
لساعة الكاسيوس مم! دائما وفية، في رأس كل ساعة من الزمن تصدر شارات موسيقية متتابعة: شارتان، وهو كالعادة لا ينظر ليرى كم الساعة، يكتفي بأن ساعة من الزمن مضت، ساعة أضيفت إلى ساعات كسولة باردة مرت، ساعات كثيرة لا حصر لها.
ولم يهتم، لم يهتم، فيم! ولكن خارج وعي سلطان تيه تشير إلى الثالثة أو الرابعة بعد الظهر، وخارج وعيه أيضا الريح خفيفة ناعمة دافئة دغلية تحمل صراخ قردة العوا من مسافات بعيدة، وربما من غابات الموز الواقعة خلف غابة المهوقني والنخيل المتسلق. أما في وعيه وأمام عينيه وعلى الطبيعة حدث ما يلي: على عجل هبط قردان الماء، وعلى عجل دارا دورة في الرمل وعادا للغابة، يعرف أن لا حيوان أو إنسان يشرب من ماء البحيرة، يعرف أيضا أن ليس كل ماء الدغل يشرب؛ بعضه سام قاتل، بعضه يحتوي على نسبة كبريت عالية، والبعض ثقيل كالزيت؛ لذا يشرب المواطنون في أغلب الأحيان من الآبار أو الأنهار الكبيرة الجارية، كان قلقا كأنف فأر، تطوف بمخيلته أطياف وظلال شتى، كان وحيدا ومكتظا بالأشباح. حينما وقفت على رمل الشط للحظة قبل أن تحرر نفسها من فستانها البابيت البهيج وتلقي به على عشب قريب على الشاطئ، لم يصدق نفسه بأنه يراها حقيقة، هل لعينين بائستين، ساقطتين، أرهقهما السهر أن تريا سنيلا، سنيلا أيضا؟! وعندما أشهرت عريا أسطوريا قبل أن تقفز به في الماء، وعندما تطاير الماء في كل صوب وجهة مندهشا؛ ما كان ليؤمن بما يرى، من أدهش البحيرة أهو الجسد الفعلي للجنة سنيلا؟!
الجسد الفعلي للجنة سنيلا!
انتظر يا سلطان تيه، ربما كتب الله لك رقصة، لا شيء كثير عند الله، سيكتب لك رقصة، كيف ضيعت هذا الجسد ذات مرة؟! لن تضيع الرقصة، فقط الزم مكانك ساكنا مسكونا متمسكا بالأمل، اليأس شرك بالله، الأمل صلاة صامتة، الأمل حج.
كان ينظر إليها في رهبة كأنه موسى ينظر إلى نار الله، تغطس في المياه، تخرج مندفعة إلى أعلى كدلفين مسحور، تقف على رمل الشاطئ، يرقص الشاطئ، ترقص الصورة الظل على تموجات الماء، هل كان ذلك النهد، القد ...
اصبر، اصبر، اصبر يا سلطان.
ولكنه فجأة صرخ: سنيلا.
انطلاق الصوت عبر الغابة، محاكاة الماء والضفة الصخرية المواجهة.
لا
لا
لا
لا
لا
لا.
هل هو الذي صرخ؟ متى وقفت على رجلي؟ متى قفزت في الهواء صارخا؟!
الذي يعيه تماما ويعرفه أن سنيلا التفتت يمنة ويسرة باحثة عن مصدر النداء، ثم في برق ارتدت تمائمها واختفت بين الأشجار، وكأنها طيف لا أكثر، مجرد طيف ...
بكل هدوء جلس، أسند ظهره على ساق شجرة المانجو، وأخذت تطوف بمخيلته أطياف شتى وظلال داكنة لا حصر لها، على التنبيهات المتزامنة مع نعيق غراب على صفصافة بالشط، نهض، أخذ يبحث عنها، قبل لحظات كانت هنا، وقبل لحظات لم تكن هنا، على هذا الرمل أثر أقدامها، لا شك فيه، هنا وضعت قصبها وقلائدها، خاض في الماء إلى أن ابتلعه تماما، كان يبحث عن دفء جسمها، عن ذرات الماء التي عانقت خصرها، وعندما أحس بنفسه يختنق خرج في خطوات بطيئات هادئات، ثم اختفى بين الأشجار والماء يقطر من ملابسه، اختفى.
هذا الجزء من الغابة لم يره من قبل، ولكنه في الحقيقة ليس سوى تكرار ممل لذات الجزء الشرقي حيث كهفه، نفسها عينة الأشجار والأعشاب، التربة الصخرية، واكتشف أن المسافة ما بين البحيرة والقرية ليست بالشاسعة كما كان يخيل إليه. بعد مسيرة نصف الساعة هبوطا، عبورا، صعودا، تعثرا، رأى القرية تنام تحته، أكواخها المتفرقة المبنية من البامبو، أخشاب المهوقني والتك، أزقتها الضيقة ثعبان أسطوري يتلوى بين الأكواخ حاضنا إياها في أبد ساكن.
هبط الجبل، بمجرد دخوله القرية تجمع حوله الصبية عراة، حول خصورهم نظم من الخرز، ومن أعناقهم تتدلى التمائم حامية إياهم من الأرواح الشريرة والعوارض، تجري خلفه الكلاب مهوهوة، خلفه أعناق النساء من أعلى زرائب الإنجيل وسياج البامبو، كان يمشي دون هدى، يشق الأزقة حيثما اتفق ... اتفق ...
أين سنيلا؟
كانت في البحيرة قبل لحظات رأيتها بأم عيني، وكانت سترقص لولا أنني هتفت مناديا باسمها، أو هتف أحدهم بصوتي وإحساسي، لا علم لي إلا ما علمني الله، كيف لي أن أعرف؟
جاءه المحاربون، طردوا الأطفال، اقتيد إلى منزل الكواكيرو الذي أمر بإعادته إلى الكهف، إنه ضل الطريق، قال الكواكيرو، الرأس العجوز يفكر: لماذا لا أفيد منه في تعليم الأطفال شيئا يفيدهم؟ لماذا لا نفتح له بيتا للتعليم ونغريه بالذهب؟ قيل إنه يريد سنيلا، تلك القبيحة البرصاء، لماذا لا نعطيها له زوجة؟
في هذا العام يبلغ الكواكيرو ثمانينه، أي عشرين عاما منذ أن اختفى مستر ومسز جين، عشرة أعوام منذ أن أرسل آخر طالب رسالة، كان كهلا مهموما بالتقدم، مأمولا بالمستقبل، ولكنه دائما مفجع بالنتائج السيئة.
أرسلت حتى الآن ما يقارب مائة طالب للعلم، من خيرة أبناء القبيلة، أنفقت عليهم من التبر والبقر الكثير يكفيهم ليعيشوا عمرهم كله، لكنك تعرف الآن أن أكثرهم أصبح تاجرا بالشرق، ولو أن البعض واصل تعليمه في بلاد ما وراء البحار كلها وأصبح ذا شأن، ولكنهم أقاموا هناك أيضا، وما زلت كلما لاعبك حرقان الأمل أرسلت آخرين.
لم يعد إخوانكم، عودوا أنتم، القرية دائما في انتظاركم.
وحملتهم بالتبر ودعوات ذويهم بأن يرجعوا ...
سأحضر يا أمي سنويا إلى أن أكمل تعليمي، بعد ذلك سآتي لأقيم بالقرية وأعلم الأطفال، وسأنشئ بيتا للتداوي من الجذام والجدري والسل والملاريا، أنا لست مثل الآخرين، سأعود.
وعندما عمل الآباء على عصيانك، منعوك أطفالهم، أغريتهم بالتبر وزوجتهم مزيدا من النساء وشجعتهم على الإنجاب.
قلت في ذاتك: حتما سيولد الولد الذي يعود.
حسنا، أحضروا لي قاتل الذئب، سلطان تيه أريده الليلة هنا، اذهبي معهم يا فلوباندو، انقلي له أوامري ... •••
ومنذ أن عين محاربا يحرسه، أي منذ اليوم الذي شك الكواكيرو أن سلطان تيه سيهرب، قلل من تجواله في الدغل، ولو أن وجود المحارب الذي يحاول - ورغم جهله بلغة سلطان تيه - أن يخلق تواصلا إلا أنه بدأ يحس باليأس القاتل يأكل قلبه، يقرضه قرضا.
عندما رأى فلوباندو انتابته حالة عصبية إلا أنه تمكن من أن يسيطر على نفسه؛ لأنه على الأقل قدر أنها في مهمة رسمية ما دام صاحبها المحاربون، وهذا لا يمنعه أن يخالها بسرية تشككية أنها في سبيل القيام بلعبة خبيثة.
هل تدبرين مؤامرة جديدة؟
قالت وهي تتجاهل سؤاله تماما: أرسلنا إليك الكواكيرو، إنه يطلبك الآن في بيته ...
فجأة راوده أمل ولكنه بعد لحظات أحس أنه أمل كاذب.
هل سيطلق سراحي؟
قالت في خبث: إنك لم تأت على الذئب كله بعد، هنالك أرطال كثيرة منه مجففة، وأرطال أخرى من الشحوم، قتلت ذئبا شحما رغم ... - نعم، كان ضخما.
وفهم أنها تريد أن تقول له: رغم جبنك. نعم، سأنتقم منها، سأثأر منها لكرامتي ولا يسلم الشرف، أنا أعرف أنها، أنها غيرة، غيرة فحسب، سأحب سنيلا أكثر وأكثر، وسأحبها، ولن أضاجعك ولو انطبقت السماء على الأرض وفاض شبقك محيطا من الوسخ والدم!
وكأنها قرأت ما برأسه، إذ فاجأته قائلة: إنك لم تستطع أن تعاشر سنيلا، هنالك كثير من الرجال يعجزون عن مفاعلة النساء، عاجزون، لست وحدك، إنها ظاهرة موجودة في الشرق كما يقولون. - أنت إنسانة حقيرة كالعقرب، دينك وديدنك الأذى.
ضحكت بصوت أجش مشحون بالانفعال: هل تظنني كذلك؟ إذا كنت حقا كالعقرب لما كلفت نفسي عناء التقريب بينك وبين سنيلا، وعندما فجعت سنيلا بك وبهروبك منها حينما كانت مهيأة للعرس، لما كنت لازمتها فراش المرض أياما كثيرة أغسل إسهالها، شارفت المسكينة على الموت وأنت السبب، فمن منا العقرب يا سلطان تيه؟ دعنا من نقاش لا طائل منه، فالكواكيرو يطلبك.
قال بخشونة: ماذا يريد مني؟ - لم يقل لي.
قال بشكل قاطع ومفاجئ: قولي له رفض سلطان تيه المجيء إليك.
قالت ببرود دغلوي: ربما تنبأ هو بذلك، إنه شيخ حكيم، أرسل معي هذين المحاربين القويين واللذين لا يعصيان الكواكيرو أمرا.
كنت رجلا يا سلطان تيه، قررت شيئا، قررت المقاومة، فهل تتراجع وتشمت بك فلوباندو تلك الهرة الشريرة؟ أتخاف المحاربين؟ نعم، لم يأمر الله بالتهلكة، هؤلاء قوم متوحشون، مثلهم مثل حيوان دغلهم لا أخلاق لهم، لا مثل، لا مستقبل يخشون عليه من الضياع، لا ماضي يحاولون إبقاءه نظيفا، لا أمم متحدة، لا حقوق إنسان، ولا منظمة عفو دولية، ولا إنسان.
أين الإنسان؟ - كن رجلا عاقلا كما كنت دائما، هذان المحاربان شرسان فحكم عقلك.
إنها تقصد كن رجلا جبانا كما كنت دائما، إنها تعني ذلك، هذه اللبوءة الحائل.
لن أضاجعك ولو انطبقت الأرض على السماء، وسأحب سنيلا أكثر وأكثر. - أين سنيلا الجميلة ذات الشعر الذهبي؟ إنها أجمل منك بكثير ولها قلب طيب كقلب قديسة، إنها جميلة، أين سنيلا حبيبة قلبي؟
قالت ببرود: ماذا تريد منها بعد أن حطمت قلبها وحلمها؟ ماذا تريد منها وأنت عنين ولا مقدرة لك على فعل شيء؟
هاج سلطان تيه وصرخت شياطين في صدره كانت خرساء، قال لها: إذا دخلت معي الكهف سأثبت لك رجولتي.
قالت ضاحكة: ولماذا داخل الكهف؟
قال، نشف ريقه فجأة: في الكهف سنكون وحدنا.
قالت بذكاء بارد: كنا وحدنا من قبل، وكنت باردا ولا حيلة لك، أتذكر يوم كلاب السمع؟
كانت تحت شجرة الحبحب التي لا تبعد كثيرا عن باب الكهف، واثقة، تقف كنحت لمايكل أنجلو، كانت مكملة، جسدها رياضي في أنثوية بدائية، جامع، أغاظته بلفظ مكشوف واصفة إياه بالعنة والجبن.
يقبل الرجل بأن يقال له جبان، ولكن أن تسلب رجولته وأن يوصف بأن لا حيلة له وأنه بارد وأنه عنين ...
سأبرهن لها الآن أنني رجل.
وعندها هجم عليها بوحشية غابوية محاولا حملها إلى داخل الكهف، ولكنه لم يستطع أن يحركها قيد أنملة، طويلة شحمة، ذات عظم غابوي أصم. ضحك المحاربان اللذان لا يفهمان ما يجري الآن ...
حاول مرة أخرى.
فشل مرة أخرى.
رطنت فلوباندو للمحاربين فانصرفا وهما مندهشان. - تمهل، فلنذهب للداخل.
قال بصوت مبحوح وهو يبعد عنها ماضيا نحو الكهف: حسنا، فلنذهب نحو الداخل.
في ذاتها الحقيقية كانت تريد أن تحطمه تماما، تهد آخر حصن هش لديه.
كنت أرغب فيه بحق وحقيقة ومنذ رأيته مثل الفأر يحيط نفسه بأغصان الشوك، ولكنه كان دائما ما يفضل سنيلا علي، لا أحقد على سنيلا فلا ذنب لها.
كانت تعرف أنه سيفشل.
سيفشل.
سيفشل.
ضحكت في ذاتها وهما يلجان الكهف الدافئ، بناره بصيص، وفي لحظات أصبح جاهزا وهي أيضا، وعندما أعطت وجهها للحائط حيث ينام أهل الكهف في أبدية قلقة واضعة ركبتيها على الأرض رافعة ردفيها للأعلى، كانت تكتم ضحكة سافرة ستطلقها بعد قليل: تحية لفشلك الأخير، أيها الشرقي العنين ...
لم يهتم إطلاقا سلطان تيه لهتافات أهل الكهف الذين استيقظوا في لحظة واحدة وأخذوا ينشدون منفستو موسى - عليه السلام - ذي العشر نقاط، ما عدا فليستطيونس، كان وبصوته القديم الأجش يغني: طوبى لرجل سيصبح أبا لنبي يثأر لبني إسرائيل!
طوبى لرجل سيصبح أبا لنبي يثأر لبني إسرائيل!
طوبى!
طوب ...
سأثأر لنفسي الآن.
طوبى لرجل يثأر لنفسه بابن سيغدو نبيا لينقذ بني إسرائيل!
لا، لا، لا، لا تزن، لا تزن.
هو، هو، هو، هو.
يؤتى إليك يوم القيامة بفرج ...
عندما اخترقها الشيء حارا ارتجفت قليلا، وقفزت للأعلى، ولكنه توغل ...
أكثر، وأكثر، وأكثر، وكلما حاولت التملص منه توغل أكثر.
رطنت بلغة ال «لالا» بما يعني: نجحت هذه المرة، لعنة الرب عليك!
واستسلمت، سيطر عليها شبق دغلي مفاجئ، اشتهاء بذيء، ولذة وحشية نادرة. عندما خرجا في طريقهما إلى الكواكيرو وتحت شجرة الحبحب كان ينتظره فليستطيونس، كانت أدمعه تسيل على خده، قال له والعبرة جرح برئتيه عميق وخنق: طوبى لك! خلد ذكرك ...
قال له الكواكيرو بعد أن أكمل ضيافته وأجلسه قربه: نريدك أن تبقى معنا هنا، تصبح مواطنا مثلك مثل أي شخص من القبيلة، وبإمكانك زيارة أهلك متى شئت ذلك، فقط نطلب منك أن تعلم أولادنا القراءة والكتابة بالطريقة التي توجد في الشرق أو بلاد البونا أو أي مكان آخر.
ثم أضاف: وإذا شئت زوجناك سنيلا، وأعفيت من أكل ما تبقى من الذئب. - نعم، سنيلا ...
عندما يتذكر سنيلا يسكت عن البدائل، وتهون في سبيل سنيلا المصاعب كلها، وتستأمن جميع المخافات.
أول زيارة لنا للمدينة لن نعود مرة أخرى أبدا، تزوج سنيلا، علم الأطفال شهرا علمهم شهرين، ثم اطلب زيارة أهلك أنت وزوجك بالتأكيد، وحينها فليرحم الله مشروعك الحضاري يا الكواكيرو الطموح، سيركب الكواكيرو الطواحين الهوائية ويلوح إلى دون كيخوته بلسانه. أما أنا لم يخلقني الله للعيش في الأحراش، أنا ابن المدينة، ابن جامعاتها، ابن التكنولوجيا وعصر الاتصالات، أنا مشروع بروفيسور، هل يعلم الكواكيرو ماذا يعني البروف؟ أعلم الأطفال! أي أطفال؟! مثلي، وهذا حق، يحتاج إلى زوجة جميلة بيضاء البشرة، متفردة، فلتكن من البونا أو كما يسمونهم، فلتكن سنيلا، فليمت الصادق الكدراوي بغيظه ، أين تجاربك؟ أين نظرياتك؟ إن لم تقدك إلى صدر فتاة جميلة ما تفيد. أين علم استمالة النساء؟
أيها الكارما بهارتا المزيف.
ولكن هل كان الكواكيرو غبيا؟
قال له الكواكيرو بصوت هادئ تجلى بجعة الأناناس: عندما تخرج أول جيل من الطلاب، في ذات اليوم نشونك بالتبر ونحملك بعربة البونا في زيارة لأهلك بالمدينة أنت وزوجك سنيلا.
لا، لا، ذلك من تخبيث الحاقدة فلوباندو، ربما ترجمت خطأ، أخرج جيلا من الطلاب ثم أذهب! كم يوم كم شهر كم سنة! هذا تخبيث شخص خبيث ...
لا تتعجل الأمور يا سلطان تيه، ففي التأني السلامة، كن صبورا فالصبر قطار الأمان وإن وصل متأخرا إلا أنه سيصل في سلام، في العجلة الندامة وهي التي هربت سنيلا يوم أن تعجلت الصراخ، العن الشيطان يا سلطان، قل إنك تزوجت سنيلا، اقض حاجتك منها واهرب بها أو بغيرها، ليلة ليلتين من المراقدة الفاعلة ويخبو بريقها وتصبح عندك شيئا عاديا.
لا غموض، لا تشوق، لا رقصات، ولا ...
ولكن هل كان الكواكيرو غبيا؟
قال له الكواكيرو وهو يدخن التباكو مخلوطا بمادة الدرم المخدرة: في اليوم الذي نتفق فيه تصبح سنيلا خطيبتك، أي في انتظارك، وذات يوم الاحتفال بتخريج أول جيل من الطلاب سيكون يوم فرحتك وفرحة الدغل الكبرى ... - لا، لا ...
إنه تخبيث شخص خبيث، إنه خيانة مدسوسة في الترجمة، لن أدرس الأطفال، أنا خلقت لأصبح أستاذا جامعيا ولا أقبل بغير ذلك، فلتذهب سنيلا وفلوباندو وأية عفريتة أخرى للجحيم.
لا تتعجل الأمور، أنت تعشق سنيلا، إن العشق يؤذي كما يقول الصادق، لا تكن أحمق، كن شجاعا في حكمة، ومن أجل الحكمة ذاتها كن جبانا.
حكى لي الكواكيرو عن خذلان مستر جين لقبيلة ال «لالا» منذ أكثر من عشرين عاما، وكيف أن الحال تردى بمستر ومسز جين وأخذا يمشيان عاريين، عاريين تماما كما ولدتهما أمهاتهما، يمشيان هنا في شوارع القرية وعوراتهما يرك عليهما الذباب ونحل العرق، مدعيين أنهما أكثر سعادة، انظر أي سعادة في العري؟!
إنه حقد البونا القديم وبخلهم بما يعلمون، وفوق ذلك كله يودون تخلفنا أكثر وأكثر، فطردناهما مثل قطين شريدين، تركا طفليهما، وذهبا، إلى عهد قريب كان الناس يصادفون مستر ومسز جين في الأحراش، نما الصوف على جسديهما. رأى، وهذا وفقا لشهادة رجل لا يكذب، هو أبريا، ذلك الشيخ الذي نحترمه جميعا، كان أبريا يجمع الكراواوا في دغل عشيب، وبينما هو يخترق العشب الكثيف إذا به يجد نفسه وجها لوجه أمام شخصين أبيضين مشعرين كقردين من فصيلة العوا، لهما ما يشبه الذيل، هربا بعيدا، يصرخان، هي لعنة الجد برم بجيل التي أصابتهما.
قال سلطان تيه، استقر الصراع النفسي به إلى لا شيء: سأدرس الأطفال.
ثم أضاف في عمق سحيق من مأساته: ولا نامت أعين الجبناء!
البداية
فلوباندو تعلمه لغة ال «لالا» كلغة وسيطة بينه وبين التلاميذ. كان رديئا في استيعابه.
لا رغبة لي في أن أعرف كلمة واحدة من هذه اللغة البائدة، التي لا يتحدثها في العالم كله أكثر من مليون مواطن فقط، في عالم يقدر عدد مواطنيه بالمليارات. بينما الناس خارج الدغل يتسابقون لتعلم آخر لغة كمبيوتر تم استخدامها، أتعلم أنا: إييلي بني، أمبوروو، دخو، دوخو، بوغو، مرسي ... إلى آخر لغة أول من تحدث بها الشيطان!
أنت.
نعم.
لا.
أنت.
لا ...
أنت.
ذو الرأس المستطيل كالبطيخة، قل: كيو.
يوكو.
حمار! يا كلب السمع، يا بليد، قل: كيو، وليس يوكو.
يوكو.
اجلس يا حمار الوحش!
كان يخاطبهم باللغة العربية واللغة الإنجليزية، برطانته القبلية الخاصة، بما تعلمه من لغة ال «لالا» البغيضة إلى نفسه، بلغة العصا/اللسان.
صبرا يا كواكيرو صبرا، أتريدهم عصريين بشروطك الخاصة، متصلين بجذورهم وثقافاتهم، باقين بدغلهم، وهم يتعاملون بالإنترنت والإنترنت وندوز 2000، يصنعون الطائرات والسيارات، يداوون السرطان والجمرة الخبيثة، ينتقدون ما بعد العولمة وسياسة الاحتواء، يتحدثون عن الخطاب الروائي الحديث وتي إس إليوت، وأنا، هذا السلطان تيه، الطريق إلى ذلك، أعلمهم ما لا أعلم أنا نفسي؟ حسنا، استخدمت ضدي سلاحين: المرأة والحراب. وأبقيتني لتحقيق حلم الأطفال، حلم ساذج، حلم عجز عن تحقيقه أبناء القبيلة أنفسهم، حطمتني، حسنا.
أما أنا فسأقتلع أطفالك من جذورهم البائدة التي تحاول أنت إبقاءهم بها، حسنا، سأجعلهم مسلمين، وذلك من أجل شيئين: لأكتسب فيهم أجرا يدخلني الجنة، لأقتلك بالغيظ كمدا. •••
في اللحظة ذاتها التي حدد فيها سلطان تيه هدفا واضحا أن نصب نفسه رسولا استثنائيا لإدخال تلاميذ «بيت التعليم» الإسلام، بدأ يعمل بجدية وبروح جديدة مشرقة، أخذ يعامل الطلاب بخلق صوفي نبيل: لا يشتمهم، ولا يضربهم، ولا يلسنهم، وعندما بدأ يعشق عمله وسنيلا فقط بدأت رياح التغيير تهب؛ حضر «بابو» الغريب، «بابو» ابن نادية ابنة الكواكيرو الكبرى، حضر ذات عصر ممطر يقود وحده عربة جيب 99 ذات لون أحمر ساحر، أوقف العربة تحت شجرة جوغان ضخمة وأخذ يستعمل المنبه بصورة شاذة جعلت القرية كلها تهرع إليه، عندها نزل الأرض، يرتدي بدلة إسموكن بيجية، وربطة عنق بها ألوان كثيرة هادئة، وجهه ناعم، به رقة أنثوية تعلن عن نفسها، ذو أصابع لينة دافئة، كما لاحظ أهله ذلك من الدغليين ذوي الأكف الخشنة المتشققة، صافح كل القادمين، واحدا واحدا واحدا، يدا بيد.
عرف أسماء بعضهم، خاصة أصدقاءه من المحاربين، عرف الأسماء الأسرية للبعض الآخر وشبه البعض، بكى الناس فرحة بعودة الابن، وبكوا أيضا عندما سأل عن أمه.
إنها ذهبت لتلبية نداء الأسلاف ...
أخذه جده الكواكيرو إلى المنزل، وهنالك بكي كثيرا، وتحدث كثيرا.
شرب الدنبا التي اشتاق إليها كثيرا، تحدث عن عشرات أبناء القبيلة بالبلاد الأخرى واحدا واحدا، قال: إنهم جميعا سيأتون.
قال لآبائهم وأمهاتهم: نحن على صلة ببعضنا عبر تجمع أبناء الأوسط والشمالي. - هل نوجا معكم أيضا؟
نعم، إنه معنا. - هل شينو معكم أيضا، إنه ابني؟
نعم، إنه معنا.
وهل دنقو، وهل رودنا، وهل مابا، وهل لوبا، وهل دودو، وهل نيلو ...
نام وتركهم حوله يسألون ويتفاءلون. وعندما أراد الجميع الانصراف انتفخ الكواكيرو قائلا: ألم أقل لكم إن الأبناء سيأتون؟ قلبي لا يكذب، فليستعد القوم غدا للاحتفال ب «بابو» وبما سيقدم من أبناء.
لم تكن له متعلقات كثيرة، فقط حقيبة صغيرة بها بعض الملابس الداخلية وبيجامة النوم، وتحتوي أيضا على جواز سفر وبعض العملات الأجنبية والكتب وراديو صغير ديجيتال، وله في جيب سترته جهاز اتصال إرسال واستقبال
30000 km . استيقظ مبكرا، ليس كعادة أهل الدغل حيث إن البرد الصباحي القارس يحول دون فراقهم لمراقدهم الدافئة وبطاطين الرافيا الثقيلة، كما أن ما الشيء الذي نستيقظ من أجله مبكرين؟
ذهب للبحيرة كمحاولة عاطفية للربط بين الماضي والحاضر، ولإشباع الرغبة في تأكيد عودته إلى الدغل، هنا حمام القرية الطبيعي ومنذ طفولته المبكرة كان يحضر وأقرانه للاستحمام واللعب، لا تزال البحيرة تحتفظ بدفء أجسادنا، وسيتذكر الأشياء كلها مدغولة بسفره الشاسع من أجل العلم، ولكنه لا يستطيع أن يعطي مساحة للماضي، لرقص هذا الغياب الممتد الحزين؛ لأن برأسه أشياء وأشياء يفكر فيها، أشياء بكبر الدغل، وعندما لحق به بانارودنا طلب منه مصاحبته في جولة حول المكان، دارا في الغابات المجاورة؛ أماكن مياه الشرب، التلال الصغيرة، الأحزمة النباتية الكثيفة الخيران، إبط الشيطان؛ إبطا إبطا وشيطانا شيطانا. وكان ناعما صلدا لا يتعبه المشي ولا خوض البرك والطين أو صعود الجبيلات ولا اختراق الأعشاب الشوكية، كان ناعما صلدا، ما أثار إعجاب بانارودنا وأثار دهشته.
هل هنالك جبال وغابات ونخيل وشوك وطين مثل هذا الطين؟
ضحك «بابو»: لا، لا، ولكن تدربنا على مناخ وطبيعة أكثر تعقيدا من هذا المكان.
ولكنه لم يقل له إنه تخرج في كلية عسكرية ذات مكانة وكفاءة لا مثيل لها في العالم كله، إنه برتبة جنرال، وعندما عاد كانت في انتظاره وجبة الإفطار بحضرة علية القوم، ولكنه اجتمع أولا بجده الكواكيرو لما يقارب الساعتين والنصف، وعندما خرج من خلوة الكواكيرو رفض الكواكيرو الغداء وذهب مباشرة إلى منزل بنيته الكبرى «لألأ»، فهي تصنع أجود أنواع الدنبا المسكرة، وأعلن لابنته وهو سكران شديد النعاس أم نعسان شديد السكر: قولي لهم ليس هنالك احتفال! •••
وعند الظهر عاد اثنان من الطلاب على عربة جيب واحدة ومن ذات طراز عربة بانا.
ثم لحق بهما اثنان.
ثم لحق بهم جاقو.
ثم لحق بهم اثنان.
ثم لحق بهم اثنان.
ثم لحق بهم تيم ، ثم لحق بهم ...
وفي العصر كان الاجتماع، في العصر كانت قمة الدهشة بقافلة سيارات الجيب الجميلة، في العصر يتسلل الظن إلى خسره الأول، ولأن الناس لا يعرفون لماذا ألغى الكواكيرو الحفل فإنهم أقاموه. في عمق الصخب وغناء الآباء والأمهات والإخوان والأخوات والأصدقاء والعاشقات بقدوم الأبناء وانتظار من لم يحضر؛ تحدث «ألبرتو»، وهو الاسم الجديد ل «سامبو» ابن الكواكيرو، الكواكيرو أوقظ من نومه المسكور، جلس متهالكا محبطا ينفس دخان غليونه يمنة ويسرة، وأمامه يرى لا شيء غير ابتسامة مستر جين عالقة في الهواء. قال ألبرتو إنهم طوال هذه السنوات لم ينقطعوا أبدا عن الدغل؛ لأن الدغل كان فيهم، وإنهم يذكرون سكانه فردا فردا، ويعرفون غاباته شجرة شجرة، طيوره، دود القنطور، ذئابه الكراواوا، ويعرفون ويعرفون، كل شيء، وإنهم الدغل، و«الدغل روح تهيم فينا، في غيابنا عنكم، حضورنا فيكم، والرجل كما يقول برم بجيل لا يساوي شيئا من دون غابته.»
قال ألبرتو: لماذا لم نعد إلا الآن؟
نعم، كنا نعد لهذا اليوم، كل سنوات سفرنا نعد لهذا اليوم ...
الناس صامتون، صمت حذر، الناقرون وضعوا عصيهم جانبا ونقاقيرهم جانبين، المغنون نحوا أغانيهم الزرقاء جانبا وألحانهم ألف جانب، الوقت انتظار كبير موتور، وكأنما هنالك ملك يحتضر، ملك شرير، كان يقول ويقول ويقول، كانوا يسمعون ويسمعون ويسمعون، ولا يفهمون ولا يفهمون ولا يفهمون، الكواكيرو بدأت عليه دلائل قلق عصي، يحشو غليونه بالتباكو، الأطفال يصعدون على ظهر عربات الجيب الجميلة، يلعبون. «عندما تعلمنا عرفنا، تفتحت أعيننا لأشياء كان يعمينا عنها الجهل، فرأينا الدغل كما يجب أن يرى؛ ثرواته وأهمها البترول والذهب، الثروة الغابية والحيوانية وهذه لا تقدر بثمن أو تعد. ولكن لماذا نظل نحن سكان الدغل أفقر الفقراء ونحن أغنى الأغنياء؟ لماذا نحن جائعون ومتخلفون، عراة وجاهلون؟»
ثم تحدث العائدون عن حرب الإبادة الشاملة وأعادوا ذكرى حرب 1950، بتفاصيل نسيها من حضر الحرب من الشيوخ واندهش لدقتها المتذكرون، كانوا يعرفون كل كبيرة وصغيرة عن حرب 1950، «ولولا أنكم لا تستطيعون القراءة والكتابة لعرضنا لكم الوثائق الآن.»
ثم تحدثوا عن حرب 1952 التي عرفت في التاريخ بحرب التهجير، والتي أجبرت فيها كثير من القبائل الدغلية على هجر الدغل والإقامة على هوامش مدن الشرق المتحضرة والخضوع لبرامج تثقيفية تهدف لطمس هوية الدغليين وتشريقهم؛ مسخهم. «الآن تفتحت أعين أعيننا.
والآن تفتحت آذان آذاننا.
وجئنا لنبصركم ما أبصرنا.
ونسمعكم ما سمعنا. جئنا لنوحد القول والرؤية.
فآن الأوان لكي نتحرر، لكي نستقل، لكي ننشئ دولتنا التي تخصنا، ونستمتع بثرواتنا التي تسرقها الآن حكومة الشرق.»
ثم تلا عليهم وقائع المؤتمر الثامن للحركة الوطنية للتحرير، الذي ضمن مقرراته أن يبدأ العمل المسلح الآن ...
وقف الكواكيرو على رجليه لكي يراه الجميع، قال: «نسي الأبناء أننا هنا ما زلنا لا نفهم الكلام المعقد، والناس جميعا هنا يريدون أن يعرفوا منكم باللغة التي يعرفونها: هل ستفتحون بيوتا للتعليم؟
هل ستفتحون بيوتا للشفاء؟
هل ستستغلون التبر في تعمير الدغل وإنشاء الصناعات المفيدة؟
هل ستحاربون الملاريا والجدري والسل ومرض العظام؟
هل ستبدءون ذلك اليوم؟
قولوا لهم ذلك وستسمعون النقارة تدق تحت كل شجرة وكل قصب الدغل سيتحول إلى مزامير وإيقاعات، قولوا لهم ذلك وسترون البنيات الجميلات يرقصن التاتاتا، قولوا لهم ذلك وسترون كيف يلعب الأطفال لعبا لا يحلم به أحد.»
قال «موس»، وهو ابن المحارب «جامبو»، قضى بالخارج ما يزيد على خمسة وعشرين عاما، وكان ضمن أول دفعة أرسلها الكواكيرو للتعلم: «وهذا ما سنفعله.
وهذا ما سنقوله.
ولكن ليس الآن، الآن يجب علينا أن نتحرر، أن نستقل بأنفسنا، أن ننشئ دولة باسم الدغل، دولة تحمي مصالح الدغليين، وتنهض بالدغل لتضعه في مصاف الدول المتقدمة ولدينا ما يحقق هذا الحلم، نحن نعد لذلك منذ خمسة عشر عاما، أي منذ أنشأ أبناؤكم بالخارج الحركة الوطنية للتحرير.»
قال الكواكيرو: إذن أنتم تنوون الحرب؟ - حرب التحرير.
شهدت بنفسك حرب الإبادة في عام 1950، رأيت كيف يقتلون الأطفال والرجال بلا رحمة، مليون ونصف المليون من البشر طحنوا طحنا تحت جنازير الدبابات أو شوهوا بقاذفات اللهب أو أخذوا عبيدا ومساجين في الشرق. شهدت حرب التهجير بعد عامين من ذلك، ورأيت كيف يؤخذ الناس للعيش قسرا على هوامش المدن، وهنالك تتفه معتقداتهم ويؤتى لهم بدين جديد، تتفه عاداتهم وتقاليدهم ويؤتى لهم بخلق جديد، تتفه ثقافاتهم ويؤتى لهم بثقافة أخرى لا تمت إليهم بصلة، ومن منهم يستطيع أن يقول لا؟ لأن من يقول لا يقتل في الحال، أنت تعرف ذلك. والآن ما سبب هجرة قبائل «لالا» و«شاري» و«فترا» و«كا» إلى هذه الأصقاع النائية من الدغل؟ وأين هي مواطنكم القديمة؟ في يد من؟ أين منجم الذهب الكبير؟ في يد من؟ من أين يستخرج الشرقيون البترول؟ لمصلحة من؟
وأين، وأين، وأين؟
ولمن؟
إنها لحرب مقدسة، والآن ما على المحاربين الشجعان إلا أن يستعدوا لتلقي التدريب العسكري الحديث على الآليات المتقدمة، التي هي في الطريق إلى هنا الآن، ونحمد الله على أن من أبنائكم مائة طالب تلقوا تدريبا عسكريا عاليا وتخرجوا بشهادات رفيعة في أشهر الكليات العسكرية في العالم، وهنالك الأطباء منهم والمهندسون والمعلمون والمفكرون في شتى ضروب المعرفة. سنشتري آلياتنا الحربية من مخزون الدغل، من آباط شياطينه، كما أننا لا نرد الأيدي الخيرة التي تمد إلينا من الدول الصديقة الكبرى الحادبة على مصلحتنا القومية. من أراد من الشعب التعليق فليتقدم إلى الأمام.
فسأل مواطن.
فسأل مواطن آخر.
فسأل محارب، فسأل محارب، فسأل محارب، فسأل محارب، فسأل محارب.
سألت كريبا العجوز بصوتها العميق الحلو: هل سنذهب للشرقيين في مدنهم ونحاربهم هنالك؟
الشرقيون هنا في مدننا ودغلنا وقرانا، إنهم في حدودنا الإقليمية ينصبون أنفسهم حكاما علينا وحماة لنا من أنفسنا، يستمتعون بثرواتنا نيابة عنا، وفي أرضنا يسرحون ويمرحون ويقتلون.
وانتهى الاجتماع بشكل غامض، وخرج الناس بفهم مبهم للحرب أو الرفاهية، حيث اختلط المفهومان في أذهان الدغليين البسطاء خلطا بائسا.
الذهب، البترول، الغابة، السكن المريح، الذهب، البترول، الغابة، السكن المريح، الشفاء، التعليم، التطور: الحرب، الشفاء، التعليم، التطور.
الحرب.
كان الناس ينفضون عن الاجتماع يتحاورون، يسأل بعضهم البعض في اتهام صريح وتشكك في آن، الآخر يفهم ولا يريد أن يقول.
أعرف أننا سنحارب الشرقيين، ولكن لماذا؟!
والأغرب من ذلك كان كثير منهم يسأل الكواكيرو الغاضب الحزين: متى ستبدأ بيوت التعليم في استقبال الأطفال؟
هل يتاح لنا أيضا حضور الدروس؟
من من هؤلاء يعمل في العلاج؟ •••
تيم الأنيق الوسيم هو الذي استجوب سلطان تيه، كان يجيد الإنجليزية والعربية والإسبانية والفرنسية أيضا، كان سفيرا طائرا لحركة تحرير الدغل الوطنية، شخص ذو ثقافة عالية ومعرفة مدهشة بالعملية السياسية في العالم، وله علاقات مع مئات من حركات التحرر ويعرف قادتها واحدا واحدا، فوق ذلك كان رجلا طيبا وعاطفيا. لم يستغرق الاستجواب كثيرا؛ لأن تيم اقتنع سريعا بأن سلطان تيه ليس بجاسوس شرقي، ولكن من الأحسن أن يغادر الآن إلى شرقه. - ولكن الوقت ليلا. - تصرف، تصرف يا رجل، أمامك إلى منتصف الليل، سنعطيك سلاحا شخصيا، ربما هاجمتك بعض الوحوش، أقصد ما تبقى من وحوش.
قال سلطان تيه وكان جادا وصادقا وحزينا ومؤملا في ذات القول: هل تسمحون لي أن آخذ سنيلا معي؟ هل تسمحون؟
قال تيم الوسيم مبتسما: سنيلا! ولماذا سنيلا؟!
إنها من مواطني الدغل، ومواطنو الدغل سيبقون بالدغل. •••
كان سلطان تيه يعد نفسه لمغادرة الدغل، ترك له تيم سلاحا شخصيا حديثا وبه ذخيرة بكمية معقولة ووداعا مدهشا.
هؤلاء الصعاليك أي مدينة داعرة أفاختهم؟! أي جحيم؟! وداعا أصحابي أهل الكهف! حمران، زادك الله نوما كالموت!
كان يحملق في خربشة الكلب على الحائط حينما سمع صوت فلوباندو في الخارج، أنت ماذا تريدين؟ لقد قال تيم كل شيء، كما أنني مشغول برحيلي ولا أرغب أية امرأة.
قالت ضاحكة: ومتى كنت ترغب في امرأة؟ لقد كنت أشهر عنين وطئت قدماه أرض الدغل.
قال وهو يحس بجفاف مر في حلقه: يبدو أن ذاكرتك لا تحتفظ بشيء.
فانفجرت بضحك صاخب ثم سكتت فجأة، رقدت على فراش الموز مباعدة ما بين ساقيها رافعة رجليها لأعلى، قالت: الرجال الذين تحترمهم النساء يستلقين من أجلهم هكذا، والرجال الذين لا تحترمهم النساء يعطينهم مؤخراتهن فقط ...
ثم نهضت في حركة رياضية بارعة وقالت: أرسلني إليك الكواكيرو. - قولي له سلطان تيه لن يذهب إليك ولا يريد محادثة أحد إطلاقا. - يبدو أنك غضبت لأنني أريتك الفرق بين العنين والرجل الفحل، لا يهم، المهم أن تذهب للكواكيرو، وعليك ألا تخلط ما بين الشخصي والعملي. - لن أذهب. - الكواكيرو يريد أن يزوجك سنيلا الآن. - لن أذهب.
ولكنه أحس في ذاته بأنه سيذهب ولكن ليس مع فلوباندو، ولا أن تشمت به فلوباندو ولن ينكسر أمامها ... ألا ترغب في برصائك المحببة إلى قلبك؟ لأول مرة في حياته يحس بأنه يجب عليه أن يقتل، أن يقتل. والإحساس بالحاجة لقتل إنسان إحساس لذيذ عنيف يسري في الدم كالثعبان المسحور، ودون أن يدري وجد نفسه يقبض على سلاح تيم الأوتوماتيكي يحشوه في سرعة رهيبة ويصوبه ناحية فلوباندو، كانت تنظر إليه في دهشة وهو يردد في حماس مسعور: سأقتلك الآن، سأقتلك، سأقتلك ...
كان يرتجف كزرزور عجوز صعقه البرد، تيار القتل الخبيء يدب فيه، يحرك أنامله نحو لذة إنهاء شيء ما، فليكن فلوباندو، لا فرق والموت يسري، فليستطيونس، الراعي النئوم ذو حمران، يهمس الراعي في أذنه بينما يمسك بيد باردة قديمة عجفاء نخرة ذراع سلطان تيه بقوة.
لا هكذا يتعامل الرجل مع المرأة، فلقد خلق الله المرأة لكي تنجب لنا الأطفال، وها هي قبل لحظات تشهدك سر خلقها، فلقد باعدت لك ما بين نهريها وأرتك ما لو أرته لحجر لتمطت شهوة فعله، وها أنت ترى المعجزة وتصر على الكفر.
وأخذ منه السلاح وألقى به بعيدا، كان سلطان تيه يرتجف كعصفور بئيس مصقوع.
ما هكذا.
ما هكذا، ما هكذا، ما هكذا.
ما هكذا، ما هكذا، ما هكذا.
وعندما برد شرر عينيه وانكسر في داخله اشتهاء القتل، أحست بالندم تجاه إنسان لا يستطيع أن يقوم بشيء، وهل تريد قتلي؟ إنه ليس بالإمكان، لم تتنبأ أية عرافة كانت بأنني سأموت على يد إنسان غريب، وهذا وحده هو الذي جعل فلوباندو تكذب ما ترى، وعندما انكسر وحش عينيه أحست بشفقة نحوه.
فليقتلني إذن، أهون، أهون.
قال وهو يتلاشى في فضاء الكوخ: أين الكواكيرو؟ أهو بمنزله؟ سأذهب إليه.
فبكت فلوباندو، فبكت فلو، با، ن، دو، فبكت فلو، فلو، فلو، فلو، فلو، فلو، فلو.
بكت.
ركعت أمامه وكأنه إله أعظم، وكأنه عظيم غير متناه، أخذت تقبل قدميه وترطن ترطن، ولأنه كان كأضعف ما يكون تذكر الصادق الكدراوي وحاول أن يتمثل ردة فعله الآن، في هذا الموقف بالذات همس ثمليخا في أذنه: إن فعلت هلكت.
همس فلستطيونس في أذنه: إن لم تفعل هلكت.
ولكنه سأل نفسه: ما هو الفعل؟
حاول أن يهدئ من روعها بكلمات أحس فيما بعد أن لا معنى لها، طوال الطريق إلى منزل الكواكيرو كانا صامتين، كلاهما ينظر للأرض، كان منكسرا لأنه انكسر، كانا منكسرين، قالت له فلوباندو: هل تذهب للبحيرة، سوف نستحم. كانت جريئة وعميقة وقوية وامرأة جدا، أهي مزحة ماكرة أخرى؟ - سنذهب أولا للكواكيرو ...
ثم سألها في سره: هل سترقصين؟ قال لها: سأرحل الليلة على كل حال، فلقد أعطاني تيم فرصة ساعات قلائل. قالت بصوت خفيض مشروخ: كلنا يعلم بذلك. - فقط لمنتصف الليل. - نعم. - أترى، ماذا يريد مني الكواكيرو؟ - لا أحد يعلم ما برأس الكواكيرو في هذه الأيام غير أنه محبط وبائس.
بدت القرية وهما يهبطان الجبل، تحتهما، قرية أخرى، فمنظر عربات الجيب الجميلة من انعكاس أشعة الغروب وحركة الأطفال السريعة المندهشة والطيور البيضاء الكبيرة التي تذهب بعيدا تعبر أفق الرؤية ما بينهما، الشمس تذهب للغروب والناس يتحركون ما بين هنا وهناك مسرعين، سيقضون حاجاتهم مستفيدين مما تبقى من ضوء الشمس، ويسمون هذا الوقت «بنجارو»، أي الزمن الذي من ذهب.
أين تكون سنيلا الآن؟ سنلتي الجميلة المتوحشة، سآخذها معي للشرق، حتما، حتما، يعود المحاربون على حمر الوحش من رحلات صيدهم البعيدة محملين بالكراواوا ودود القنطور ولحم الغزلان والطيور الكبيرة وقصص طازجة عن صراعهم مع فتيات «الكا» الجميلات والوحوش، وسيحكون تفاصيل رحلاتهم وهم يتناولون دنبا ما بعد مغيب الشمس، أطفال يقومون بتطبيع صغار حمر الوحش، صراخهم يأتي من بعيد ويمكن رؤيتهم أيضا هنالك في أطراف القرية وحولهم بعض الكبار يضحكون ويقدمون النصائح، تقف عربة جيب بيضاء تشع نورا بالقرب من شجرة كبيرة على ظهرها نساء كثيرات صغيرات جميلات يلبسن البابيت الملون، مروا أمام فلوباندو وسلطان تيه قبل أن تستقر بهم العربة الجميلة تحت شجرة الحبحب العملاقة، البنيات الصغيرات الجميلات عاريات الصدور، الناهدات الصدراوات وكأنهن حمائم الجبال البعيدة، كن منفعلات مندهشات وفي ما يشبه الصدمة، وكل واحدة منهن تحاول أن تتحدث مع السائق ذي الطلعة التي لا تشبه طلعة الصبيان الذين اعتدن عليهم، ذي رائحة ياسمينية لا كعبق دود الكراواوا الذي هو رائحة صبيان القرية.
وله، وله، وله، ليس ل ...
قالت فلوباندو لسلطان تيه: كل شيء سوف يتغير في القرية، نعم، وهذه هي سنة الحياة.
ولكن، كما يعرف، إن للصادق الكدراوي رأيا آخر، وإذا شاهد ما يشاهدون همس في أقرب أذن: إنها وليمة بشرية، وربما يؤكد ذلك قول فلوباندو: إن هؤلاء الصبية القادمين من بعيد مثل عصافير ودو، لا ترهقهم مضاجعة الفتيات أبدا، وإنهم أدخلوا أسلوبا جديدا لا يعرفه الدغل، وتندفع إليهم الصبيات ربما لإشباع حب الاستطلاع؛ أن يتحدثن للأخريات قائلات: إنه لحس شيئا بلسانه، إنه، إنه، إنه.
وعندما اقتربا من الجيب أكثر حيت فلوباندو الصبيات، ثم قالت لهن بلهجة «فترا» التي لا يعرفها القادمون جملة جعلتهن ينفقعن ضحكا، ما جعل فليب ابن أخت الكواكيرو ينظر يمنة ويسرة في حيرة مما يجري، ويبتسم بالخيبة: عزلة.
وجدا الكواكيرو ثملا، حوله قرع الدنبا، تفوح منها رائحة الأناناس وعليها رغوة بيضاء كأنها سحابات أول الخريف، قال له: اجلس يا بني.
كان لطيفا ولو أنه قلق. - أعطه قليلا من الدنبا، إنها تشعل القريحة.
كانت الشمس الآن تغرب، يظلم المكان حوله شيئا فشيئا. - ها هم كما ترى، قد عاد أبناؤنا الذين أرسلناهم في السنوات الماضية للتعلم في بلاد بعيدة، قد عادوا، كنت أرقب هذا عن كثب، قد عادوا. - أعرف أنك تريد أن تقول لي ما قاله تيم؛ إنه لا مكان لي بالدغل. - بالعكس هذا يسعدني. - إن لدي رسالة في الشرق أريد أن أكملها. أريد أن أهاجر أنا أيضا إلى البلاد البعيدة حيث أتذوق طعم الحياة.
قال الكواكيرو وهو يدفق كأسا مزبدة من الدنبا في فمه الكبير: هل رأيت واحدا منهم؟ هل صافحت أحدهم؟ إن أكفهم أنعم من أكف نساء سلطان «فترا»، إن الصبيات يتلذذن عندما يضغطن أكفهن الخشنة على أكفهم بقوة، فيتمايلون توجعا مثل دودة الموز، وإنهم الآن يريدون الحرب، ولا شيء غير الحرب. - إنهم أبناؤكم ولا دخل لي في شأنكم، وأنا سأغادر هذه الليلة إلى الشرق.
دفق الكواكيرو كأسا أخرى من الدنبا في حلقه العميق الغور. - ليسوا أبناءنا الذين أرسلناهم، إنهم مسخهم. المهم، أنا أريدك يا سلطان تيه أن تواصل في تعليم الصغار هنا بالقرية ولك كل ما تشاء، فلو شئت إبط شيطان بكامله أعطيتك.
وإذا شئت قنطارا من الملح أعطيتك. أما سنيلا فهي لك منذ هذه اللحظة، وإذا أردت زوجتين زوجناك فلوباندو أيضا، فقل ماذا ترى؟
زوجتان، زوجتان، زوجتان، زوجتان!
ضحك فيه الصادق الكدراوي، ضحك فيه، في عمق أسود مغبوب، عمق كالجراد، ضحك فيه، ثم عليه. ويلك أيها الصديق من النساء! وأنت لا تصلح لطفلة دعك من فتاتين، وأي الفتيات هما؟ فلوباندو وسنيلا. - وإذا شئت جعلتك أحد أفراد هذه القبيلة، وإذا شئت نائبا لي، وإذا شئت كواكيرو، في مكاني، فقط ابق معنا هنا.
دفق الكواكيرو كأسا مترعة من الدنبا ومسح رغوتها بظهر كفه، علق على شاربيه بعض شراب الأناناس الرائع. - لست سكرانا، أنا لا يسكرني بحر من الدنبا، لا تسكرني غابة من عرق النخيل.
هذه جبهة جديدة للحرب والموت ابتدعها الكواكيرو ونصب نفسه عدوا للقادمين؛ صعاليك، مجرد صعاليك حرب لا أكثر.
قال له الكواكيرو: سنعزلهم، والجميع سيملهم بعد قليل، إنها دهشة الأشياء الجديدة، وحالما يملونهم عندما تهب الريح تغري الأشجار بالطيران معها فتتراقص الأشجار وتحاول أن تقلع نفسها عن الأرض، وحالما تذهب الريح وتصبح الأشجار في أماكنها. ويا حسرة من اقتلعت نفسها من على الأرض، فلا طارت مع الريح ولا بقيت على الأرض!
ودفق، ودفق.
ودفق الكواكيرو كأسا في بئر جسده الضخم، ودفق.
في الخارج ومع بداية هطول الظلام أقام القادمون حفل الرقص، وكان من بينهم «أمازو» الفنان والذي يعرفه الكثيرون في بلاد الهجرة، طبقت شهرته آفاقا بعيدة، لديه بعض الأغاني بلغة «لالا»، يغني بالإنجليزية وبالفرنسية، يقلد كل أغاني بوب مارلي وبيتر توش وخوليو، يحب أيضا البيتلز، طويل رشيق ناعم الوجه والأطراف، يجيد الرقص.
ودفق.
جاء أمازو الموسيقي بكل آلاته الموسيقية، سيقوم ببث الروح الوطنية القتالية في نفوس القرويين، وعندما أضاءوا أول لمبة نيون ضخمة تعمل بالطاقة الشمسية وعندما صدح الترومبيت، دفق الكواكيرو كأسا، ثم نهض واقفا.
هيا لنرى الشيطان الذي يصرخ ويضيء الظلام.
لم يبق أحد في القرية في بيته، حتى كلاب الحراسة والقطط والحشرات الصغيرة، دار الجميع حول المغنين والضوء والآلات التي تنادي، كل شيء. وضع مقعد الكواكيرو كالعادة أمام الجميع، في موضع يراه الجميع ويسمعه الجميع إذ يأمر، تفاءل القادمون بمجيئه وأنه ربما غير في رأيه، وأنه لان. دفق، ثم أمر: غنوا ...
الموسيقى كانت صاخبة بشكل لم يعتده الدغليون ولم تستسغه أسماعهم، وكادوا ينصرفون، ولكن عندما رقص الأولاد القادمون أثاروا انتباه الجميع وشهية المشاهدة فيهم، كانوا يرقصون بصورة خليعة ولكنها بارعة على كل حال ونالت الإعجاب المسخوط. سنيلا كانت هنالك، خجلة، تقف وسط صبيات دغليات جميلات يلبسن البابيت الملون وعلى صدورهن. سلطان تيه قرب الكواكيرو.
دفق.
ثم علا شخيره، وشخير الكواكيرو أمر بأن الأشياء يجب أن تستمر على ما هي عليه.
لا يحس وجعة شباب القرية غير شباب القرية أنفسهم؛ المحاربون، كانوا يحسون بغربة بالغة، وأنهم يقفون على هامش الأحداث، وأن العائدين سرقوا المشهد، وأن لا أحد يلتفت إليهم؛ هم الغبش ذوو الأيدي الخشنة، يلبسون جلود الثعالب والرافيا وينتعلون جلد الخرتيت، يركبون حمر الوحش ويتسلحون بالفئوس والحراب ولا يعرفون بل ولا يقرون بأن يلحس المحارب شيء الصبية.
أترى كيف يرقص هؤلاء الخصيان، ما رأيك أن نضحك عليهم؛ أن نرقص مثلهم، نضحك الناس عليهم؟ إنهم يرقصون رقصا لا يشبه رقصة الحرب ولا رقصات الحصاد ولا رقص المطر، ولا رقص أية موسم يعرفه الناس، سنسخر منهم .
ودخل «وينو» الرهيب الساحة، كان يرقص في سخرية، مرة يقلد الراقصين؛ يرفع رجليه قافزا في الهواء، ينحني بنسوانية بائسة، ويضحك الجميع ويهتفون تشجيعا له. لوينو أذن واحدة، قطع الأخرى الكواكيرو بعد العصيان الذي قام به وينو في الخور قبل سنين كثيرة مرت، ولو أنه الآن في السابعة والثلاثين من عمره إلا أنه ما زال ولدا نزقا تركب رأسه العفاريت، ويركب ظهرها، كانت أمه العجوز كريبا هي الوحيدة التي تحس بقلق عليه وعلى وينو: اعقل يا وينو، اعقل يا بني.
سنيلا تعرف أن وينو عندما يبدأ شيئا يتمه، تربت معه في منزل واحد، طلب وينو من أمازو أن يعطيه ذلك الشيء، وأنه يريد أن يغني، الجميع يعرف صوت وينو الذي في أحسن الأحوال نهيق حمار وحشي مذعور، ويعرفون أغانيه الداعرة ...
وعندما رفض أمازو الرقيق النحيل الطويل رفسه وينو رفسة جعلت كل شيء يصمت، وبدأ وينو الغناء بصوت حماري أشتر أجش بذيء.
شيء المحارب.
شيء المحارب.
شيء المحارب في طول قناته.
قالت له لوما: لماذا لا تتخذ ساق المهوقني قناة لك؟
ففهم القرويون شيئا، فهم القادمون شيئين، استيقظ الكواكيرو.
دفق.
انتهى الحفل، قال له الكواكيرو بلهجة باردة مخمورة وهو يمسك بيده مودعا: إذا حاولت الهرب فأنت تغامر بحياتك؛ لأنني سأرسل خلفك المحاربين، وإذا بقيت فزت بالمال والجاه والصبيات أيضا. - لكن تيم.
أنا سيد هذا الدغل وليس تيم، سأراك غدا في البسنتا، فالصغار في انتظارك، وعندما تحضر غدا تجد المحاربين بنوا لك بيتا مجاورا للبسنتا، بداخله تجد سنيلا في انتظارك بدنبا الصباح، مع السلامة.
وابتسم ومضى وبقيت فلوباندو في رفقته إلى أن شارف الكوخ ثم عادت أدراجها لبيتها.
يجب أن نكسب هؤلاء المحاربين أولا، فسينصاع لنا الكواكيرو العنيد طائعا.
أزولوما الحرب
أبنائي، الأرض التي تمشون عليها هي أمكم،
فخفوا في مشيكم وقدروا،
والشجرة التي تسكنون وتأكلون وتشربون هي أختكم،
فخفوا في سكناكم وأكلكم وشربكم وقدروا،
والهواء الذي تتنفسون والشمس،
والقمر،
والمطر، والصاعقة، والمرأة حين تعشق،
والذئب، فلا تشعلوا نارا وأنتم تخشون الحريق،
فقط مدوا يدكم لله، وسيملؤها بالكراواوا الدنبا؛ باللذة.
أمي هي أنتم؛ لأنني عندما أطعمكم، أشبع،
أنتم، كلاكما رب نفسه فاشكرا الله لأنه بارك يدكم.
يدكم.
شجرة.
أنا برم بجيل، أنجبتني امرأة واحدة وأبي الريح.
أبي.
يدكم.
سلام عليك وأنت ترفع حربتك عاليا، عندما تقرصك نملة الموت، تحيا.
وعندما رفع الكواكيرو كف الذئب، أخذ المحاربون ينشدون أوزو لوما الحرب، عدهم الكواكيرو بنفسه في الليلة الماضية وكانوا سبعمائة مقاتل، عدهم الكواكيرو الآن بعد أن قسمهم إلى فرق حربية متخصصة: الساهمون. وسمى الفرقة ب «مزاكي» تيمنا بقدراته غير المحدودة في استخدام السهام، حيث كان يرسلها للرب ويقوم بتصويبها على صدور الأعداء؛ فلتكن روحه الآن هي بصيرتكم، الفأسيون بقيادة ساسو القط، الشهير بالقط، ومن يستخدم الفأس مثله في خفة كف القط الحرابيون.
حملة الماء والطعام والدنبا على ظهور حمر الوحش أوزو لوما باييخي.
وإذا اشتعلت الحرب لا بد ممن لهم صلة بالرب المستضيف لأرواح الأسلاف، من يطلبون النصرة لجيش «لالا»، بقلب وأكف وصوت برم بجيل الصالح.
شاوندو، المائحين،
الحرب شر، ولكن أن تستسلم للعدو شران.
قالت له فلوباندو: والرجل خلق لكي يموت في حرب ضروس. - أما أنا، ما علاقتي بكل ذلك؟! لست مع الكواكيرو، لست مع العائدين، ولا مصلحة لي في الحرب التي ستشتعل الآن، ولا أعتقد أن الرجل ولا المرأة خلقا لكي يموتا في الحرب. - إذن هي فرصتك كي تحدد موقفا، فبدلا من أن يكون لك عدوان فليكن لك عدو واحد، الكواكيرو أو العائدون، أنت في حاجة لمن يقف خلفك ويرد عنك سهما قد يصيبك من الخلف.
من على شجرة الحبحب العملاقة بدا ميدان المعركة مكشوفا على جانبي أرض حرام أوجدتها الصدفة، على الجانب الشرقي الدبابات العشر التي تمثل الدفعة الأولى، حضرت مبكرة لأغراض التدريب ومعها خبيران أجنبيان أسودان. - هل سيطلقون نار الدبابات على المحاربين؟ - إنهم لن يفعلوا، وإلا عادوا إلى مهاجرهم خائبين، فقط سيقومون باستعراض عسكري. - وإذا هاجمهم المحاربون؟ - لا أدري إذا كانوا سيهربون، أو يبقون داخل دباباتهم المصفحة؟
كانت فلوباندو واثقة مما تقول.
في الجانب الآخر، الشرقي، المحاربون في جلود النمر والرافيا يشكلون فرقا ميدانية يطلون أوجههم بالرماد والجير وينشدون أوزو لوما الحرب، يستعرضون أسلحتهم في الهواء، يقتلون أعداء وهميين، يعتقلون آخرين يربطونهم بحبال الرافيا والسعف، يقتلونهم يمثلون بجثثهم، هكذا يستدعون روح السلف لتنصرهم، هكذا يخيفون العدو.
جسداهما ملتصقان وهما على شجرة الحبحب العملاقة، كانت لدية رغبة واحدة: العودة، وبأي ثمن.
كانت لا تعرف ماذا تريد، وعندما سألها عن سنيلا كان لا يعني له السؤال شيئا ولم يعلق هو أملا ما على الإجابة؛ العودة، ولا شيء. - سنيلا هي الأخرى مندهشة لما يحدث، ويقال إن الفتية العائدين يرونها فتاة بالغة الجمال، تماما كما تراها أنت، هؤلاء الفتية - كما يقول الكواكيرو - مسختهم الغربة، إنهم لا ينتمون إلى هذا المكان أبدا. هل ما زلت ترغب في سنيلا؟ بالمناسبة، لقد وجدت صديقتي سوما بالأمس وهي عائدة من قرية مو مع عمتها العجوز على حمر الوحش، وجدتا والدي سنيلا وبانارودنا، كانا مشعرين وكأنهما قردان عجوزان، مسز جين أصبحت امرأة ضخمة الجثة لها أثداء كبيرة مكتنزة، أصبحت ذات بشرة سمراء كالتراب، هكذا وصفها كثير ممن رآها في السنين الأخيرة، بحث عنهما الكواكيرو بنفسه في الدغل المجاور، بل ذهب إلى ساحل بحيرة التماسيح وسفح جبل «الكا» ولم يعثر عليهما، كان يريد أن يتحقق من أحد قولين: هل صارا بأذيال وآذان كالقردة، أم أنهما لا يزالان بشرا ولكن يكسو جسديهما شعر كثيف؟ وجد أبي مرة، وكذلك وجد أبريا وكاب بوغو، وجدوه مع امرأته الشيطان، وقالوا إنه سعيد ومرح ...
فجأة دوى صوت انفجار مقذوف الدبابة وهو يخترق الهواء، ثم تبعه آخر.
دن، دن.
دن، دن.
دن، دن.
دن.
دن، دن.
دن، دن.
دن.
كانت الأرض تهتز، والأشجار، العصافير شكلت سحابة ضخمة في سماء الغابة، الوحوش ارتبكت وهربت في كل الاتجاهات.
إنها الحرب.
إنهم يستعرضون قوتهم ...
ارتبك المحاربون قليلا ولكنهم ثبتوا في أماكنهم، أما الصبية والنساء الصغيرات فهربوا للمنازل، النساء كبيرات السن كن دائما يفضلن الموت مع أبنائهن المحاربين. عرف الكواكيرو بينه وبين نفسه أن الفتيان أيضا يحاربون عدوا وهميا في الفضاء، يطلقون نارا حقيقية عليه. قال له أبريا، الذي لا تقع كلماته على العشب أبدا: اطلب من المحاربين أن يذهبوا إلى منازلهم ونذهب نحن، وبذلك نكون قد كسبنا المعركة.
وفهم الكواكيرو ما يرمي إليه أبريا، كان القادمون ينظرون إلى المحاربين في استغراب لأنهم يعرفون أن الكواكيرو لا ترعبه مقذوفتان أو ثلاث في الهواء، ولا حتى على صدر جيشه.
لقد كسب الكواكيرو المعركة، وأصبحوا هم شيئا، أصبحت القرية وساكنوها أهلهم وقبيلتهم، شيئا آخر؛ الهزيمة. •••
عندما خلا بنفسه فكر في الهرب، ويعرف أنه لا يستطيع؛ لأن دورية المحاربين التي أبقاها الكواكيرو حول الكهف لا تهمله طرفة عين، تأخذه في حراسة مشددة للبسنتا، يعلم الأطفال ما يريد أن يعلمهم، تأخذه للكهف. عندما سأل الكواكيرو لماذا لم يف بوعده بشأن سنيلا، قال له: أنت باق معنا رغما عن أنفك، ولم تقبل ما عرضته عليك، أنت تعمل الآن خارج الاتفاق. •••
أول من التحق بالعائدين وينو.
ذلك الشرس، ويقال إن تيم وعده بأن يصبح سائقا لإحدى الدبابات، سيعلمه قيادة الجيب، وينو يكره الكواكيرو لأنه أهداه لقب «تنقا»، و«تنقا» بلغة ال «لالا» تعني ذا الأذن الواحدة، وذلك شيء لا يمكن أن يغفر، وكان حديث كل بيت وشارع وغابة، رحلة صيد، ورود ماء، جلب أحطاب، الذهاب إلى قضاء الحاجات، شواء الدجاج، مطاردة الأرانب، جلسات الدنبا، جلب الأناناس، حصد الذرة، تخمير القشدة، صيد الكراواوا، رحلة نكاح بنات «الكا» والهرب منهن، وهي رحلة طريفة يتسلى بها المحاربون؛ تمضي جماعة من المحاربين أصدقاء إلى عمق الدغل، حيث الأشجار عالية وتكثر الخنازير البرية، هنالك بنات «الكا»، هن مصائد القبيلة، يصاد بواسطتهن رجال القبائل الأخرى، يتبعون كل ما هو معتاد إثر الرائحة التي تفرزها أفواه وفروج فتيات «الكا» وهي رائحة مثيرة، رائعة قاتلة.
يجدون فتاة «الكا» تفترش فيء شجرة عرد عملاقة، دائما عرد، على مرقد من أوراق الموز تدعي النوم، تلمع بشرتها السوداء المدهونة بزيت النخيل على شعاع الشمس المنسرق بين أفرع الأشجار ، جميلة وشهية وطازجة، لها أرق، أنعم، أطول، أقوى أذرع خلقها الله لامرأة، يفوح من بين نهريها وفمها عبق يشعل ثلج نوم الفعل في ذات حجر.
يذهب نحوها من يختاره الحظ، عندما تحس بقدومه تستيقظ، عندما تستيقظ تبتسم، تباعد قليلا بين نهريها، تبدو تفاحتها بين تفاحتين، وهي القذيفة التي تميد بآخر حجر في قلعة الخصم، العاشق، الصيد.
يختبئ الأصدقاء بين العشب على أهبة.
يلتصقان، فتاة «الكا» كما هو معروف مثلها مثل الكلبة، إذا ولجها الشيء قبضت عليه بعضلة ممسوخة في عمق شيئها، ولأنها المصيدة تهب لذة الشيء في اكتمال أسطوري ولذة لا مثيل لها، بينا الرجل بين لذة ولذة يأتي قومها ويأخذونه صيدا.
وهنا يتدخل أصدقاؤه ويقومون بطرد أكلة البشر، حيث إنهم يتصفون بالجبن الشديد، ولسوء حظهم أن نساءهم ليس بإمكانهن قتل أحد وأنهن يستمتعن بالمفاعلة، وهنالك قلة من رجال «لالا» ابتسم الحظ في صدفهم وتزوجوا من فتيات كأنهم أسعد الرجال.
وعندما قاد وينو سيارة الجيب الحمراء ودار بها حول القرية مصرفا بوقها، مفزعا دواب وأليفات القرية مجريا الأطفال خلفه وهم يتقافزون على العشب، مفترا أفواه الصبيات والنساء بل وحتى المحاربين، عندها انضم عدد من المحاربين للقادمين، وعندما قادوهم أيضا انضم عدد آخر من المحاربين، وعندما انضم عدد آخر من المحاربين وبدأ التدريب الفعلي حين وفدت مجموعة أخرى من الدبابات ذات الأنظمة الهجومية/الدفاعية المعقدة ...
انضم.
عندما.
ولعب الفأر في جرة دنبا الكواكيرو العجوز، وعندما غنت الصبيات: «لالا».
بي كم بيسي.
كم إيلي.
كانت قراءة ما يحدث في المستقبل أوضح من شمس الصحراء ... •••
مرة أخرى جاءه الوسيم ذو اللفات الكثيرة تيم: - كنا نعلم الظرف الذي أبقاك، والآن تغيرت موازين الأشياء، والكواكيرو أصبح وحده وبعض العجائز الذين لا يفيدون في شيء.
ارحل ...! •••
الساعة تشير إلى العاشرة مساء، وهو سيتصرف ببرود وثقة تماما كما كان الصادق الكدراوي.
بثقة/ببرودة.
ببرودة/بثقة.
كان يحمل متعلقاته على ظهره، ينتعل حذاءه الكولمان القوي، ببرود/بثقة: سنيلا سآخذها معي، أنا رسول نجاتها الاستثنائي، وسوف تذهب معي، وحينها سيموت الكدراوي غيرة.
سنيلا، تلك الوحشة الغابية الجميلة، سآخذها حيث يقدر جمالها وتعاد إليها مملكتها المسلوبة.
يعرف تماما موقع كوخها، كان مضاء بنار الليل، وهي عيدان تبقى مشتعلة بالكوخ إلى الفجر. سآخذها معي، وستقبل الذهاب دون مساومة، من يقدر جمالها في هذا الدغل الموحش المتخلف؟ من يعرف أن سنيلا هي أجمل ما خلق الله؟ البرصاء، هه، برصاء؟! هم البرص، هم المرضى بل الميتون، عذرائي الرائعة سنيلا.
وهيجت فكرة عذراء في نفسه شجنا دفينا واشتهاء خبيثا ونشوة، فكررها، دعني أسكر منها، أجن، أهيم، أموت.
وهي القدر الذي ساقه الدية قدر.
وهي الميلاد الذي خصه به ميلاد، وهي الروح الذي دله إليه روح، وهي الوجد، وهي السهد، وهي ... كان كوخها مضاء، أهم الآن يستعدون للحرب؟ وسنيلا مثلي تماما، ما شأنها؟
وتقدم ناحية الكوخ بجرأة فريدة، إنه لم يرها منذ أسابيع كثيرة مضت، مشتاق إليها الآن أكثر وأكثر وأكثر ...
باب الكوخ المصنوع من البامبو كان مغلقا، قد تكون نائمة، سأوقظها الآن، أبشرها بالذهاب معي إلى الشرق ... وأخذ يغني بقلق: أحبك لأنك ...
وهو يقترب من الباب أكثر سمع همسا، ولكنه تقدم بجرأة وبرود، عبر ثقوب باب البامبو استطاع أن يرى كل شيء، وبوضوح تام: تيم، كان تيم الوسيم ذو اللغات الكثيرة، يعتلي صدر سنيلا ويغرقان في عري كوني جامح.
نذل.
ودون أن يفكر في شيء ما، دخل الدغل الساكن المرعب في ظلامه التام، كان عواء كلب السمع يأتي من كل صوب وجهة، ولكنه لا يخاف من شيء، يجب عليه أن يمضي بعيدا عن هذا المكان.
السلم هو جثة الحرب
لا شيء، لا شيء، لا شيء غير هياكل الأشجار المحترقة، أشجار الحبحب، والمهوقني، والمانجو والتك العملاقة، لا شيء، غير هياكل من الفحم والرماد، أما القشدة، الأناناسات، البابايات، وغيرها من الشجيرات الهشة التي كانت تنمو على جوانب التلال الخصيبة الممتدة ما بين الدغل الأوسط والشرقي عبر قرى «لالا»، «شاري»، «فترا»، كهوف «الكا» المتفرقة فيما وراء بحيرة التماسيح، قبيلة «الكا» المرعبة؛ تمتد خلفها ...
9 / 12 / 1997-6 / 7 / 2000
خشم القربة
अज्ञात पृष्ठ