الكتاب الأول: سلسلة مذكرات أنطوان شيلون
إهداء
تمهيد الكاتب
مقدمة
القسم الأول
القسم الثاني
القسم الثالث
القسم الرابع
القسم الخامس
القسم الأخير
النهاية
الكتاب الثاني
مقدمة الكتاب الثاني
الكتاب الأول: سلسلة مذكرات أنطوان شيلون
إهداء
تمهيد الكاتب
مقدمة
القسم الأول
القسم الثاني
القسم الثالث
القسم الرابع
القسم الخامس
القسم الأخير
النهاية
الكتاب الثاني
مقدمة الكتاب الثاني
الرجل الذي لا يمكن تحريكه
الرجل الذي لا يمكن تحريكه
تأليف
هيتايروس
الكتاب الأول: سلسلة مذكرات أنطوان شيلون
إن كنت تنشد روايات الحب فأعد الكتاب إلى الرف واسترجع أموالك التي دفعتها مقابله.
ولا تحرم مجنونا من جعل هذا الكتاب شريعة حياته الغريبة.
ككاتب، لن تجد الحب ولن تفهمه في هذا الكتاب.
وكصديق، لن تجده ولن تفهمه في أي كتاب.
هو هناك في الحياة الحقيقية.
إهداء
أهدي كلماتي هذه إليك أبي، فأنت وطني الأصلي، بينما أنا غريب في هذا الوطن.
إليك أمي، عقيدتي في الحياة وشريعة خطواتي الضائعة بين الخطوات الراقية.
إلى إخوتي الصغار؛ بصمة والدي على ورقة الحب.
إلى أصدقائي جميعهم؛ سندي البشري.
إلى المجانين الذين يرون عالما جميلا، فقط في عزلتهم.
إلى العشاق الذين يرون ملاكا عذريا، فقط في محبوبهم.
إلى الغرباء الذين يرون في الأمهات وطنا لهم.
إلى كل من قال إنني لن أنجح.
إلى كل من قال إنني سأفعل.
إلى تلك التي سأنهي حياتي إلى جانبها.
إلى تلك التي أحببتها سابقا ولم تفعل.
إلى تلك التي أحبتني سابقا ولم أفعل.
إلى سلامي الداخلي.
إلى البشر وإلى ما فوق البشر.
عندما يحتار العقل في الإجابة، يكمن الحل في كون القلب قاضيا.
هو من يشعر وينبض بالحياة. هو من يملك القرار الصائب.
يرى الواقع المستقبلي من منظور صادق.
فإذا استغرق العقل ساعات بالتفكير، فالقلب سيحتاج هنيهة فقط.
احتكم إليه لأنك لن تتحكم به، وما هو خارج عن إرادتنا سيكون مقدرا لأن يكون.
والقدر لا يخطئ أبدا بين «نعم» و«لا».
تتغير الحياة في الحياة.
أحمد جابر
تمهيد الكاتب
كتبت هذه القصة برؤية فلسفية لأحداث حياة بعض البشر ممن عايشوا يوما تلك الأيام الغريبة التي عرفتها الإنسانية في هذا البلد، ومن أساطيرهم التي سمعناها ونحن صغار، ولتذكر ما كتبه القدر لهم من الأحداث، أحداث اعتقدنا أننا نتحكم بها، واعتقد البعض منا أنه يجب أن ننكر سلطة القدر المطلقة علينا، لكن الآتي الذي بلغناه أثناء عيشنا للأيام المتعاقبة، كان الدليل الوحيد على عجزنا عن فعل شيء، سوى الانحناء والخضوع لتلك القدرة العلوية، والاستسلام لمشيئتها في اختيار أيامنا ودفعها إلى الانتهاء.
حسنا أعترف.
إنه سر ملكته بداخلي، لم أخبر به أحدا من قبل، فقد كنت خائفا أن ينكره أحدهم. شيء جنوني لأنه يحدث معي دوما، سر مخيف، مخيف بالنسبة إلى البشر، لكن لتعرف سري سيتوجب علي أن أطرح السر على شكل سؤال، ثم ستقرأ القصة بعناية، ستدهشك كثرة الأخطاء اللغوية، لكنني أطلب منك أن تتحلى ببعض من الصبر وأن تنهي القصة لتتخيل، ثم تجيب عن السؤال.
فقط فكر للحظة، ماذا لو لم أفعل ما فعلته؟
ماذا لو تأخرت «عن قصد» في الذهاب إلى تلك الغرفة في إحدى الحيوات التي عشتها، ووجدت كلتا الفتاتين معلقتين من دون روح تسكنهما؟ هل كان سيحدث شيء؟
بعض شخصيات القصة حقيقية، وهي لا تزال تستمر في التعرض لنتائج الأقدار، بينما تتوقف حدود القصة عند فلسفة كنا قد رأينا أنها منفذنا لشرح الأمور ورؤيتها بعين أخرى.
إلى جدتي، وإلى مدونتها الزرقاء.
وإلى الوجودية أينما كانت.
الكتابة ليست شيئا مبالغا فيه، هي مجرد قدرة.
قدرة إلهية.
قدرة الخلق، في مملكة الضمير.
رحيل جلول
مقدمة
في مكان ما وبعالم ما.
كنت أتقدم ببطء، أنظر إلى الأمام، وحتى بعد كل تلك السنوات التي قضيتها بعيدا عن هذا المكان، ها أنا مجددا أتلهف إلى الوصول، وبنفس الشكل، ها هو رواق رمادي لم يتغير منه شيء وتظهره تلك المصابيح الحائطية التي تعتلي النصف الأعلى، بينما ألصق على النصف السفلي صفائح خشبية رمادية اللون وكان لونها مغايرا للون الجزء العلوي. ربما خيل لي ذلك بسبب الإضاءة، وفي نهاية الرواق باب مزدوج بني بمسكتين ذهبيتين، وبيني وبينه يستقر رجل ببزة سوداء يجلس على كرسي أسند على الحائط. كان يتصفح أحد الكتب قبل أن يراني. كنت أفكر فيما قاله لي الرجل (بل جمع الرجال الذي قابلته) قبل توجهي إلى هذا الباب المزدوج الذي يؤدي إلى مكان آخر، في الغرفة الأخرى حينما استجوبني. أعتقد أنني لا أذكر كل تلك الأسماء، وكل تلك الأحداث، وأنا من اعتقد سابقا أن شخصا في هذا المكان لا يجب أن يخفى عليه شيء مما نفعل بالأسفل، لكن الرجل فعل ذلك ليستفزني، ليستفز عدم إيماني بما يفعلون، وحتى بعد كل تلك المرات التي استجوبني فيها، مع أنه كان يعلم أن أقوالي لن تتغير أبدا، حتى بعد ذلك ما زال يكرهني ويحتقرني؛ يحتقر اختلافي وتمسكي بما أود أن أكونه، وهو يخالف بذلك صفة ترفعه عن الأحاسيس، ذلك الترفع الذي تتطلبه المهنة في هذا المكان البعيد عن الأرض والسماء، ثم التفت إلي الرجل الجالس وقال بعد أن أغلق كتابه دون أن ينسى أن يسجل صفحة توقفه بإبهامه، وأشار إلي باحترام إلى الباب المزدوج. - سيدي، توجه مباشرة إلى الباب الثاني (يشير بيده) تلك هي القاعة التي تنشدها (كان يقصد قاعة المحاكمة). - شكرا، لكنني أعتقد أنني أعرف ذلك (ما كان يجب أن يخبرني؛ فلا يوجد سوى ذلك الباب المزدوج) حسنا، زرت المكان عدة مرات. أمسكت مسكة الباب وقبل أن أديرها قال: أوه، حقا، هذا غريب (عاد لتصفح كتابه).
ثم دلفت إلى القاعة، وجلست أنتظر.
بعد مدة من الانتظار.
لم يتفاجأ القاضي حينما رآني، ربما لأنه كان يعلم، لكنه أشار لي لأجلس وهو يقول: هذا أنت مجددا، إذن ماذا لديك لتقوله؟ (يبتسم.)
وقلت في سرعة محاولا تفسير شيء ما: أعتقد أنني أود قول شيء واحد. (يستمر في الإصغاء.) (نظرت إلى الخلف، الحشد ينظر في هدوء.)
وهو ... وهو أن أسلافي هم السبب.
نظر القاضي مدة إلى رفاقه ثم ابتسم قائلا: أسلافك من قاموا بالأمر؟ إذن أنت تنكر أنك من فعلت ذلك!
قمت بتعديل بذلتي، ربما فعلت ذلك لأنني لم أجد ما أقوله، ثم جلست أنظر إليه مفكرا.
وفكرت، اكتشفت أنني كنت وسأكون دوما الرجل الذي لا يمكن تحريكه. بالطبع أخذ مني زمن طويل قبل أن أكتشف ذلك، وأخذ من عالمي بشر كثر ليحدث ذلك، وإنني لا أنسى صنيعهم، ولا أذكر ما حدث معهم بعد تلك الأيام، وفي تلك المرة، لا أذكر ما حدث مع سائق الحافلة، إن هو توقف عن تدخين السجائر، أو ما حدث مع العربي إن هو اكتشف أنه تأخر حقا، أو كيف عاشت زوجتي ما تبقى من حياتها مع زوج آخر يشبهني في كل شيء إلا طباعي الغريبة التي تحبها، أو إن بكت ابنتي يوم وفاتي كما بكت على تلك العجوز، أو إن تغيرت حقا عما كنت سابقا، لكنني أذكر أنهم شاركوني ما كنت عليه، واليوم هو اليوم الذي فكر فيه أسلافي بخصوص معنى الحياة وبخصوص ما سيفعلونه حيال ذلك المعنى، واكتشفوا طريقة للخلود، طريقة لم يعرفها أحد، ولن يعرفها أحد، حتى أنا، وخلدوا في حرب مع القدر، ذلك الخلود الذي يكرهه هذا الأخير.
قال القاضي: أتذكر في أي وقت حدث ذلك؟ - نسيته، بعد زمن، عشت مدة لم أعد أذكر فيها ما أعيش. - حسنا أخبرنا عن الطريقة (ينظر في إحدى تلك الدفاتر البيضاء). - أنا طريقة ذلك الخلود (بصوت هادئ) والدليل الوحيد على وجوده. - سيكون من الصعب تصديق ذلك.
ثم سألته قائلا: ماذا تكون أنت؟ - أنت تعرف من أكون. - حسنا، لم أستمر في العودة إلى هنا؟ هل أنت القدر الذي أعرفه؟ - لا يمكن أن تقابل قدرك بني، لنقل إنني مجرد تخيلات لك في هذا المكان. - حسنا، ما هذا المكان؟ - أنت تطرح كثيرا من الأسئلة (ينظر إلى بقية القضاة). (أخذ نفسا قبل أن يقرر أن يشرح أكثر.) - مجددا يجب أن أوضح الأمر، أنت هنا لأنك اخترت ذلك، لكن ... لكن أنا من يتوجب عليه طرح الأسئلة الآن، فيما بيننا، إنه المكان الذي ستنتظر فيه انقضاء تسعة أشهر، هو مكان فقط ... بين السماء والأرض . - إذن لم تطرح الأسئلة إن توجب أن أنتظر فقط؟ ثم إنه، في الغرفة الأخرى، أروني شيئا عني. لم الجميع هنا يتحدث بخصوصي؟ أقصد كلما أزور المكان. - أخبرت المحقق أنك تعرف المكان، صحيح؟ (يقصد الرجل الذي استجوبني.) - أجل، شعرت أنني زرته مسبقا، لكن ...
ثم أضفت: أين أنا بالتحديد؟ - بني، إنه مكان ما، لنسمه العدم الموجود، ربما هكذا سميتموه، ولنقف عند هذا الحد. ربما يوما ما ستعرف أكثر عنا، بالتأكيد بعدما تعرف أكثر عن شخصك. تذكر، طرحنا للأسئلة هو طرحك لها ليس إلا! أنت مهم بقدر ما هو مهم أن تعرف أن القدر ليس نحن، إنه أنت.
وأضاف: القدر بني هو ما ستكون عليه هذه المرة. - أخبرني، ماذا عن ابنتي؟ هل هي بخير؟ - لا تقلق، يعمل الجميع بكد لإنقاذ الوضع، ثم إن ابنتك امرأة قوية، وهي تظهر ذلك في هذا الوقت. الأطباء يعملون على إنقاذها، وبما أنك صديقي فلتعلم أن ابنتك قد قدر لها أن تنجو. - ماذا أفعل الآن؟ - ستنتظر، وسنرى في دفاترنا البيضاء ما سيحدث، وإن كان لك فرصة، ستغادر هذا المكان. - من الغريب أن يحدث هذا، اعتقدت أنني غادرت الحياة، وها أنا أجلس هنا أقابلك وخلفي هؤلاء. - ليس الغريب ما يحدث معك، الغريب أنك لا تذكر، ليست هذه أول مرة يحدث لك هذا.
القسم الأول
في مكان ما على هذا الوجود
أخبروني قبل قليل أن ابنتي بخير وأنهم أدخلوها إلى المستشفى، كنت أجلس على كرسي خشبي حينما أخبروني عنها، كنت أجلس وحيدا، وسط تلك القاعة، التفت في كل مكان، لم يكن هناك نوافذ، لا شيء سوى تلك الجدران الخشبية التي تشبه في تكوينها أرضية القاعة، التفت إلى الخلف في استدارة جزئية، ولمحت على بعد ما جمعا من الأشخاص يجلسون على كراسي متقاربة، وكان يفصلهم عني حاجز خشبي، كانوا يتحدثون بعضهم إلى بعض، ويكاد يسمع حديثهم، ولما لمحوني استداروا نحوي استدارة جماعية وتوقفوا عن الحديث. رمقوني بنظرة غريبة وكأنني مذنب بشيء ما. خفت من تلك النظرات فالتفت مجددا إلى الأمام، ثم وبعد مدة وبسذاجة طفل صغير أعدت النظر إليهم، كانوا ينظرون إلي في غرابة، وكان البعض منهم يضحك. تهامس البعض الآخر أيضا، لكن المؤكد أنهم كانوا ينظرون بحقارة إلي، وخفت من نظراتهم تلك، أحسست بالبرد حينها فجمعت جسدي بذراعي، أعانق نفسي، ثم نظرت إلى الأمام، ولم أكن قد انتبهت له قبل هذه اللحظة، فقد انشغلت في التفكير بابنتي وأنا شارد العقل أنظر في ثبات إلى الأرضية الخشبية، وعلى بعد مني استقرت طاولة ترتفع أمتارا وخلفها تصطف كراسي ضخمة أين جلس القضاة سابقا، وقد زينت ببساط أبيض تدلى إلى الأسفل وكتبت عليه كتابة بلغة لم أفهمها، ثم إنه بالقرب من تلك الطاولة الضخمة درج ينتهي إلى باب في الأسفل، باب يقف عنده رجل ضخم أسود البشرة، كان ينظر نحونا في ثبات، يجمع يديه في اعتدال، ما كان يتحرك بل ولم أشعر أنه يتنفس حتى، كنت قد نسيت لم أنا هنا، بل إنني نسيت كيف آل بي الأمر في هذا المكان، واستغربت وجودي هنا ثم جلست أفكر.
كنت قد عشت أغلب ما كتب لي أن أعيشه وأنا أبحث عن حقيقة الوجود، عشت غريبا، وكثيرا ما ضحك الناس لغرابتي هذه - هذا يفسر لم يضحك علي الجميع في القاعة - اعتقدوا أنني مجنون، وأنه لم يتوجب علي أن أدرس، فحسبهم سبب جنوني هو دراستي، مع أنهم أحبوا تلك الصفة بي، حتى إن والدتي كانت قد اعتقدت يوما أنني شخص آخر، خاف الجميع مني، فتعجبوا لوجود شخص مثلي بهذا العالم، ومرضت والدتي بسببي، حتى إن والدي استسلم لشرب الخمر بسبب ما فعلت، وأنهى ما تبقى من حياته وهو يطارد جرعات النبيذ يملأ بها روحه المنتشية، ولم أتحدث يوما إلا وأصبت الناس بالخوف لما أتحدث به من غرابة وجنون، وقد درست الطب بأكبر الكليات بباريس، وفعلت ذلك لسبب واحد، إلا أن امتهاني للطب لم يمنحهم إلا سببا آخر ليعتقدوا بجنوني، وكانوا محقين. ربما كنت مجنونا، فقد تحديت القدر في أغلب الأحيان، وكان الطب مجرد ورقة بيدي لإيقاف ألعابه الشريرة، كان يقتل مزيدا من البشر، وكنت أعمل على إنقاذ ما تقدر لي أن أنقذه - ربما كلمة «تقدر» تجعل الفكرة خاطئة، ربما توجب أن أقول «ما كان باستطاعتي إنقاذه.» فبهذا الشكل أكون قد انفردت بذلك دون تدخل من القدر - وفكرت؛ ربما هو كان يسمح لي بأن أفعل ذلك، ففي الأخير كان بإمكانه أن يجعلني أتوقف عن التنفس فينهي بذلك معركتي معه، لكنه لم يفعل، لأنها لم تكن معركة في نظره، كان يستمتع بعجرفتي البشرية، بلعبي معه، كنت أشبه بطفل صغير يحاول الإمساك بإصبع والده، أو أشبه بقط صغير يطارد خيطا يحركه رجل بالغ. والأهم أن القدر كان يود أن يعلمني درسا في الوجود، فقد كنت أعتقد سابقا أنني الوحيد من بلغ درجة الحكمة العليا؛ أنني أفهم البشر وأفهم ما فوق ذلك، أنني أقدر الظروف أشد التقدير فلا يصيبني منها إلا ما درسته، وأفسر القصص أحسن التفسير فلا يخفى علي سبب الأحداث أو غايتها من الحدوث؛ لذا أراد القدر أن يعلمني درسا، درسا حول القدر نفسه، أراد أن يظهر لي أنه مع قدرة الخلق التي يملكها تكمن مسئولية كبيرة، وأن تلك المسئولية لهي نتاج علم وفير يملكه، ويكمن فوق ذلك العلم حكمة عظيمة؛ أن خلف البشر قصة وأن خلف كل خطوة هدفا مقدسا وأن ما قبلها سبب علوي لن يفهمه عامة البشر؛ أن الفراشة قد تحرك الرياح، أن الرياح قد تشكل الأزهار، أن الأزهار قد تنشئ الفراشة، وأن الثلاثة منفردون بوجودهم فلا يندثر أحد باندثار الآخر - كان ذلك أشبه بتناقض عجيب - ولهذا أراد أن يعلمني درسا حول الوجود وعن حقيقة ذلك.
وقد فعل ذلك في نهاية المطاف؛ أقحمني في قصة غريبة، لم أضحك بعدها على غرابة القصة، بل ولم أضحك بعدها على غرابة أي شيء غريب، على عكس ما فعل الناس مع غرابتي. ربما هم فعلوا ذلك لأنهم يجهلون ماهيتي، مثلما جهلت سابقا ماهية القدر، لكنني محظوظ بما يكفي، إن غرابتي لجزء من غرابة تلك القصة، قصة أوجدها لي قدر غريب ، والبقية من البشر يجهلون ذلك، حتى أولئك الذين شاركوني جزءا منها، كل من ضحك علي يجهل ذلك. أنا لا ألومهم؛ فالبشر يجهلون البشر، ولا يعلمون مثلما أعلم، أن خلف كل إنسان قصة، وأن خلف كل قصة قدرا، وأن خلف كل قدر إنسانا؛ إنسانا يؤمن بذلك القدر، أو إنسانا أشبه بي، رجلا لا يمكن تحريكه.
صيف 1939م «كيف يمكنك أن تقتل إنسانا أنت تحبه؟»
كانت هذه آخر كلمات زوجتي قبل أن ننفصل، لم أفهم معناها يومها فكبريائي كانت تمنعني من فهم أي شيء، ثم إنني طبيب ولم أكن أومن سوى بما يؤكده العلم أو ينفيه، مع أنني أتناقض مع نفسي في كثير من الأحيان، أيمكن أن أكذب كل الظواهر وأصدق وجود قوة أسميها قدرا، لكنني صدقت ما أفعل، ولم يرتق تفكيري إلى الفلسفة يوما، وما كنت أفهم الرموز وإن تجلت من حولي، كنت تطبيقيا جدا، ولم أكن أعرف ما تعني بقولها ذلك، فقد كان يجب أن ننفصل، لأنني رأيت أنه يجب أن نفعل، حتى بعد زواج دام 18 سنة كلل بفتاة جميلة أشبه بوالدتها، إلا أنني رجل هو سيد لقراره، وكان قراري أن أطلق زوجتي، حتى وإن لم يكن السبب منطقيا بالنسبة لها، لكنه كان يجب أن أطلقها ففعلت. كثيرا ما اعتقدت أنني تزوجتها لأنها جميلة، وفي كثير من الأحيان كان يخالجني شعور بأنني تزوجتها لثروتها التي سترثها عن عائلتها في فرنسا، ربما فعلت ذلك لأنني أحببتها، لكنني كنت متأكدا من حبي لها، أجل إنه الشيء الوحيد الذي لن أنكره، وقد أحببت زوجتي لأنها كانت فتاة مغامرة صبيانية المعشر، كنت أكبر في كل يوم وكانت تستقر وكأنها محصنة أمام الزمن، كانت تحب كل شيء يتعلق بالحياة، أو حتى بالموت، أذكر أنها كانت تضحكني عندما تخبرني أن الموت حياة أخرى، عادة كانت تفعل ذلك حينما تقبلني، تخبرني أن هذه القبلة هي إكسير الحياة، تملأ بها نفسها استعدادا لحياة أخرى، حينما ستتقمص شخصا آخر، وضحكت لأنني اعتقدت أن تفكيرها ليس له أساس في العلم ؛ كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ الموت هو التوقف؛ التوقف الأبدي ولا عودة بعد ذلك التوقف. وأجمل ما فيها هو استمتاعها بكونها حرة في طريقة عيشها للأشياء وللأحداث وللزمن كذلك، فقد كانت تفتخر بكل تلك المغامرات التي خاضتها وتسترجع كل تلك الذكريات، تخبرني أن الذكرى نوع من الخلود، وهذا ما أعجبني فيها أو ربما هذا ما جعلني أتزوجها؛ فقد كنت أكره أن أتزوج فتاة أشبه بصخرة لا حياة فيها، أردت حقا أن تجعلني أستمتع بالحياة مثلها، أن أكون غبيا لبعض من الوقت وطائشا إن استلزم الأمر، لكنها لم تفعل، فبعد أن تأكدت أنها ملكت كل ما في من روح وزمن وشعور، توقفت عن عيش الحياة من أجلها، بل انشغلت بحبها لي فقط. تخلت عن حياتها تلك، وانشغلت فقط بي، 18سنة من المكوث إلى جانبي جعلني أنسى الفتاة التي أحببتها سابقا، وجعل زوجتي مجرد جثة بشرية تحبني وتقدسني. لقد أخمدت النار التي بداخلها، وكان ذلك بسببي، كنت أود أن أصير شبيها بها، لكنها تحولت إلى نسخة مني، وأحسست أنني أصبحت الشخص الوحيد الذي يمنحها سببا في البقاء على قيد الحياة، لهذا كرهتها. تخلت عن مبادئها من أجلي، قتلت الفتاة المغامرة بداخلها من أجلي.
وما دفعني الآن إلى التفكير بزوجتي هو أنني كنت أجلس بأحد المقاهي في هذا اليوم الحار، وأيام الصيف بالجزائر حارة جدا، كان كل شيء يذوب وسط هذا الزحام تحت هذه الشمس، لم أولد بهذا المكان مع أنني أمضيت جزءا من طفولتي هنا حينما كنا نزور ممتلكات والدي «أراضي شيلون» لذا كان من الصعب علي أن أتحمله، كنت أرتدي قميصا أبيض وقد اخترت واحدا أوسع لمنح جسدي مزيدا من التهوية، ووضعت قبعة على رأسي، ونظارة شمسية، حتى إنني جلست إلى طاولة بالقرب من شجرة توت، فقد كان يجب أن أحظى ببعض الظلال، حقيقة ما كان يجب أن أخرج بيوم كهذا، لكن المهمة تستوجب خروجي، وكانت حقيبتي اليدوية تذكرني في كل لحظة بتلك المهمة.
ومع كل رشفة من فنجان القهوة كنت أتذكر زوجتي ، لا أعرف لم أتذكرها الآن، فهي على الأرجح بمكان ما بالشيلي محاولة إنقاذ قطيع من البقر، أو هي تساعد بعض الرهبان بالتبت. هي عادت إلى حياتها السابقة، فقد طلبت مني قبل أن تغادر أن أحتفظ بابنتنا صوفيا - اسم جدتها من والدتها - لثمانية عشر شهرا، ريثما تعود. أخبرتني أيضا أنها بحاجة إلى مغامرة كي تنسى ما حدث بيننا وأنها تتمنى أن أتغير حينما تعود؛ فهي تود أن نبقى صديقين حتى بعد ما حدث؛ 18 سنة لن تذهب هباء بالنسبة لها، ربما هي قامت بالرحلة فقط لأنها أرادت منحي متسعا من الوقت للتفكير بما فعلته، لتأنيب الضمير الذي لا أملكه. لم يكن ذلك هروبا منها، هي جهدت في الحفاظ على العلاقة، ولا أنكر أنها أحبتني بشدة، إلا أن الخطأ كان خطئي، ليس لأنني أرى أن ما فعلته كان خطأ - ربما هي تعتقد ذلك - لكنني من قرر أن يتوقف عن كونه زوجا لها، وكان بعقلي شيء يخبرني أن ما في من روح لا يحتاج إلى الحب بالشكل الذي قدمته زوجتي لي، وببساطة أردتها أن تبقى على حالتها الأولى، أقصد قبل الزواج. أنا أعرف أن الحب هو كل شيء في حياة المرأة، لكنه جزء فقط في حياة الرجل، ولا يمكن أن يكون جزئي المخصص لها ليتطابق مع كلها الذي منحته لي. أحببتها أكثر من أي شيء آخر، لكنني لم أكن قصة حب لتمتلئ حياتي بكلام الحب، كنت نظرية من دون حل لها؛ رزمة من الأسئلة. وعلى خلاف زوجتي فقد كنت مجرد كيان فكري وفلسفي مليء بسائل الحياة، ولم يتحمل هذا الكيان تلك الرومانسية الزائدة، لذلك طلقتها وكان ذلك قبل ثلاثة أشهر، كنت لبقا وهي وافقت على ذلك، ثم استضفت ابنتنا معي، ستجول هي العالم بينما سأتكفل بتلك الفتاة الشقية، وتحت ضغط هذه الحرارة، ولأول مرة، ندمت على قراري بالتكفل بالفتاة، الفتاة التي ورثت كل شيء عن والدتها؛ ذلك الجمال وتلك العجرفة وحتى ذلك الشعور اللامتناهي للحياة البشرية، ولم ترث عني شيئا سوى شكل أنفي الذي أثار زوجتي في أول لقاء لنا، لكنني أعشق ابنتي؛ لذا ربما هي ضربة شمس، فأنا أحب ابنتي صوفيا كحبي لتلك الأفكار المترسبة بنواة عقلي الوجودي، أجل هي ضربة شمس فأنا أجلس هنا منذ 20 دقيقة في انتظار الباص وهو لم يأت بعد، لدي مهمة للانتهاء منها، شخص ما بحاجة إلي لأساعده، وسيارتي لدى الميكانيكي، وقد تأخر في إتمام العمل عليها على غير عادته مع السيارات، كان يجب أن أتحمل ذلك؛ أن أتحمل عدم إتمامه للعمل مع أنني دفعت مسبقا المال المتوجب علي دفعه، وتوجب أن أتحمل البقاء هنا لمدة أطول بسبب عدم قيام أي شخص على هذا الكوكب بدوره، فيجب أن أساعد تلك المرأة، امرأة عرفتها من قبل، بل عرفتها زوجتي إن صح القول، لم أكن أعرف أحدا هنا بالمعنى الحقيقي للمعرفة الشخصية، بل ولم أرد أن أعرف أحدا، كانت زوجتي تترك ابنتنا لدى تلك العجوز العربية، تتكفل بها ريثما نقضي حوائجنا، كانت أشبه بحاضنة لنا مقابل 5 فرنكات تدفعها زوجتي لها، مع سلة من البرتقال عادة، لم أكن أدفع فلسا آخر، فقد توجب على زوجتي أن تتكفل بابنتنا وليس عجوزا عربية لا تفقه آداب المائدة، لكن زوجتي كانت ترى شيئا في هذه العجوز، فلا أنكر أنها علمت ابنتنا ما لم يكن ليعلمه لها أي بشري، وأنا بشكل ما ممتن على ذلك، صنعت تلك العجوز من ابنتي إنسانا حقيقيا، مثلما صنع العرب والدي سابقا، وها أنا بعد 18 سنة أحاول إنقاذها، بعد أن اتصلت بي ابنتي تخبرني أنها بحالة خطرة، لم أكن أكره تلك العجوز، ولم أكن أحبها أيضا، لكنني كنت أحب إنقاذ البشر ومعالجتهم أو دفعهم للاستمرار في العيش، فلم تكن مشكلتي مع الناس يوما، بالرغم من أنني كنت غريبا عنهم، ولم أتصرف بود مع أي أحد، إلا أن مشكلتي كانت مع القدر وحده، هو كان سيدا علي، وعدوا لي في نفس الوقت، أما تلك العجوز فلسبب ما كان يجب أن أساعدها؛ على الأقل هي ساهمت في بلوغ ابنتي ما بلغته، لكن يبدو أن القدر يقضي على كل فرصي الآن، وهو على الأرجح قد يكون تسبب بحادث للباص، أو أنه دفع زوجتي لتسقط بطائرتها على الباص فيهزمني بذلك مرتين، فيقتل زوجتي ويتسبب في تعطلي عن اللحاق بالدقائق الأخيرة لأنفاس تلك العجوز، وهكذا أفقد بشريين بدل واحد. كانت تلك الأفكار الغريبة تتملكني، ما كان بمقدوري التوقف عن ربط الأمور السيئة بالقدر، حتى إنني نسيت كم الجمال الذي تسبب فيه من حولي، الجمال الذي يخفي خلفه بشاعة وجوده في حياة جميع الأحياء، وكنت من دون إرادة مني مؤمنا، مؤمنا بأنه يوجد قدر لما يحدث، لم أختر أن أومن به، حاربته طيلة الزمن الذي عشته، وكانت حربي تلك ومن دون قصد إيمانا به، فلا يمكن أن تحارب عدما، إلا إذا صدقت بوجوده، اعترفت بوجوده فحاربته؛ لذلك أنا مؤمن به، رغم أنه لم يتمكن يوما من شراء قناعاتي، حتى حينما كان يسهل علي الأمور أو حينما كان يمنحني حظا لم أكن لأملكه، ولو كان لي بالقدر صلة قوية كشأن جميع المؤمنين، لكنني لست كالبقية من المؤمنين، هو لن يشتري قناعاتي، لم يفعل ذلك من قبل، ولن يفعل يوما.
وجلست ارتشف قهوتي، كان يجب أن أرتاح قليلا، أن أزيح تلك الأفكار ببعض من القهوة المرة، ثم رأيت على بعد مني رجلا يتقدم بخطى متثاقلة، ينظر بعينيه الشاحبتين إلى كل مكان، وقد بدا أنه عاش في هذه الحياة حتى سئم فعل العيش، لم أتمكن من تقدير عمره، لكن جسده الهزيل ووجهه الأسود الذي أخفته التجاعيد، وحتى تلك المساحات الفارغة من الشعر أعلى رأسه، أظهرت أنه طاعن في السن، كان يتحرك ببطء شديد، وأذكر أنني كدت أقسم أن هذا الرجل ليس ببشري، أو أنه كذلك على غير ما يظهره للعالم، بشري تأخر كثيرا عن اكتشاف العالم، عن تقدير ما حوله من الموجودات، كان يجهل ما يرى، أو ... لحظة ... أو أنه يعي أفضل من أي شخص آخر ما يرى الآن. أجل هو يقدر ما يرى أفضل التقدير ويعلم حقيقة ماهية هاته الأشياء.
تقدم وهو يستدير نحو كل مكان، يستمتع برؤية كل شيء من حوله، وكأنه يبصر لأول مرة، لم يكن يعبأ بشيء مما يحصل، كان يعيش رؤية الأمور وكأنه سيفقدها للأبد، يتلذذ الثواني وهي تتعاقب لتذيقه ألوان الحياة، ألوانا اختصرها بقية البشر في الأبيض والأسود، وجعلوا الأبيض خيرا والأسود شرا، كان يرى ألوانا أخرى غير الخير والشر، كان يرى لون الأطفال، لون الغبار، ألوانا نسينا أنها موجودة، أنها هي الأحق ببناء عالمنا. لم يكن العالم يوما أسود وأبيض، لكنني لا ألوم البقية من البشر، فقد بنوا عالما آخر وضعوه بحجرة خشبية أسموها التلفاز، ومجددا لم يتجاوزوا فكرة الأسود والأبيض، لكن هذا الرجل، لم يعبأ بشيء من ذلك، لم يعبأ بالأسود والأبيض، لم يهتم للشمس ولا للحر، لم تزعجه تحركات الآخرين، ربما كان يحب ذلك، تأملته جيدا، حتى إنني توقفت عن ارتشاف القهوة، كان مشردا غريبا، وعلى خلاف باقي المشردين، لم يكن ميتا، كان يحيا كل شيء في تساؤل أجهله من مكاني هذا، تساؤل جعله يستفسر عن الأمور البسيطة والتي لا نلحظها عادة، كالسماء التي أخذت جل وقته في النظر، الأطفال وحتى الأشجار، يفعل كل ذلك وهو يتحسس نفسه، يرفع يديه، يراقبهما، يتلمس مرفقيه ويسير نحو كل اتجاه، يكتشف الجمال في كل شيء، ثم بعد وهلة اقترب منا، وعلى بعد أمتار ووسط الطريق توقف، اصطدم به المارة، لم يتحرك، وصرخ عليه الراكبون، حتى إن رجلا شرطة قاما بدفعه ناحيتنا يبعدانه عن الطريق، لكنه لم يهتم. توقف عن فعل ما كان يفعل، وفكر للحظات، كان شيء ما يشغل باله، شيء من الجنون يشغل باله، لحظتها وددت أن أعرف ما يفكر به، فقد بدا سعيدا، بل أسعد من ذلك بكثير، بينما لم تظهر ثيابه تلك السعادة التي تغمره، كانت رثة وأبسط من أن تفعل ذلك؛ قميصا أبيض اتجه لونه إلى الاصفرار، وسروالا يحافظ على لونه الأسود بصعوبة، حافي الرجلين وكانت تصلبات أصابعه كتصلبات يديه اللتين ملأتهما الجراح والندوب. بدا لي كأنه كان يخوض حربا في الجوار، لم يبال بشيء من حوله، بل تقدم نحو المقهى وجلس على بعد مني، جلس جلسة ملك، وقد ركض صاحب المقهى بعصاه نحوه محاولا منعه من المكوث هنا، إلا أنه سرعان ما تراجع عن قراره وبدله بابتسامة شيطانية، فقد أخرج المشرد قطعا نقدية كانت كفيلة بشراء مودة الرجل المصطنعة، بل كفيلة بتحويل ذلك العنصري إلى إنسان مجددا، ولو أنه تصنع إنسانيته تلك. وقد جلس المشرد وكأنه ملك لمملكة لا يعرفها أحد سواه، ولا يشاركه فيها أحد غيره، كان ملكها الواحد، ساكنها الوحيد، حارسها وعبدا فيها، كان كل شيء في تلك المملكة، مملكة الرجل الواحد، كان ملك مملكة الضمير، وبدا أن مملكته فوق كل شيء، فوق العالم الذي نعرفه، فوقنا نحن البشر، فوق الوجود الذي ننشده، فوق العالم الذي أوجده البشر وفوق البشر الذين أوجدهم الوجود، والأهم فوق الوجود بصمة الرب على العدم.
لم أعرف سره، سر سعادته تلك، وتساءلت وأنا ألتفت إلى باقي البشر، لم يراقبه أحد، لم ينتبه إليه أحد، كان أشبه بحقيقة لا يعرفها أحد سواي، قصة لا يراها أحد غيري، وتساءلت: لم أنا الوحيد الذي يراقبه، لم أعهد نفسي مباليا بالناس من قبل، لكنني أفعل الآن، أنا أهتم مجددا، وبمشرد، مشرد غني، ابتسمت، ابتسمت وأنا أراقبه الآن بينما تخلى البقية عن فعل ذلك، رفع يده مناديا على النادل، استمتع بفعل ذلك، غريبة هي الحياة، التي تجعل مشردا يجلس إلى جانبي متخطيا كل الحواجز التي أقامتها عنصريتنا، أم أنني المشرد وها أنا أجلس قرب ملك ما، مشرد يتصرف وكأنه ملك، وطبيب مثلي بطباع مشرد أناني، وفكرت مجددا، ربما هو الملك وبقيتنا مشردون في عالم نحن بنيناه. ولما اقترب النادل العربي، وضعت قهوتي جانبا، اقتربت في تلك اللحظة حافلة على بعد منا، حافلة يجدر بي ركوبها الآن، لأنها ستكون آخر حافلة، لكنني ما اهتممت لذلك، اخترت أن أراقب المشرد، شيء ما دفعني إلى البقاء جالسا، شيء ما ثبتني في مكاني، كان يتحدث إلى النادل، بينما التفت إلى الحافلة في عجل ثم فكرت في عجل، لكنها لم تعد تهمني، وفكرت ربما لم يجب أن أنتظرها، ربما كنت أنتظر هذا المشرد، استدرت مجددا إليهما - إلى المشرد والنادل - وكنت أفهم كلمات قليلة من لغة العرب هنا، وسمعته يقول للنادل العربي: ماء.
شعرت أنه يقول، سأكتفي بكوب ماء فقط، لكنه بدا أتعب من أن يشرح احتياجاته، وقد اختصر كل شيء في كلمة ماء، كما اختصر الرب الحياة في الماء.
وأضاف كلمة كان العرب يتحدثون بها كثيرا بالجزائر، وعلى خلافنا نحن في فرنسا، كانوا دائما يتعاملون باسم الرب، يربطون فعل الشكر بجزاء منه، وكأن أبسط الأمور لا تتم إلا بمباركة تلك السلطة المطلقة التي يسمونها مشيئة الرب، وإن تمت الأمور فيختمونها بطلب المباركة؛ لذا أضاف المشرد في كلمات: حفظك الرب، وبارك أيامك.
كان من الجميل أن أرى بشريا يعتقد أن الإله سيحفظ النادل لأنه سيسقيه من الماء، كوب ماء مقابل رعاية أبدية من الإله الأعظم، كان تبادلا جميلا، ولو كنا بقدر إيمانهم بأمور الاعتقاد، لما احتجنا إلى المال والقوة في فرنسا، لما احتجنا لشيء، لكانت كلمة الرب فوق كل التعاملات، بالطبع أنا لا أومن بكل هذا، وإن ذكرته الآن فإن العديد من البشر بفرنسا كانوا سيذكرونه، العديد منهم، أو بالأحرى العديد من معارفي بحاجة إلى شيء يؤمنون به وإن كان فكرة الله، لكنني على خلافهم ما زلت أومن أن تلك الفكرة أكبر من أن أستوعبها، كما لا تستوعب الخلية أنها جزء من شيء أكبر، وكما لا تعي أنها تشترك والملايين من الخلايا في خدمة جسد سيتخلى عنها بعد أيام، وقولي «لحاجتنا إلى الاعتقاد بذلك.» هو نتاج حاجة العديد منا إلى الأمل، أمل يبدو أنه سهل المنال عند العرب، لذا سأختصر كلمة الرب في كلمة الأمل، وبعد كل ما أشعر به، أعتقد أنني أغار منهم، من العرب، يتمسكون بفكرة الإله، كتمسك الغريق بفكرة النجاة، ربما العديد منهم لا يدرون ذلك، لكن الإسلام في جوهره يجعل من فكرة الإله حقيقية جدا، وإن كان هناك إله حقا فلا أرى سوى أن الدين عنده لن يكون غير دين العرب؛ الإسلام.
التفت إلى الحافلة مجددا، كان كل شيء يحدث ببطء، تمدد الزمن بفعل تفكيري، لكن الحافلة كانت أسرع من أفكاري، فقد غادرت مكانها، وفكرت: اللعنة، تبا لهذا المشرد! (ابتعدت عن الكرسي الذي انقلب جراء اندفاعي للوقوف بسرعة.)
وبسرعة حملت حقيبتي وركضت خلفها، كان يجب أن أغادر المكان، وركضت مدة لم تكف السائق ليلتفت إلى المرآة الجانبية ليراني، لم يهتم بفعل ذلك، لم يكن يعي أنه بتوقفه لي سيساعد طبيبا على إنقاذ شخص ما، أو أنه سيكون السبب الأساسي في إنقاذ العجوز، لم ألمه على ذلك، فنحن البشر لا نعي أن خلف كل رجل يركض كالمجنون سببا ما، لا نعي شيئا إن صح القول، توقفت عن الركض ونتاج الخيبة التي تملكتني فتحت يدي أرفعهما أمسح وجهي، لحظتها تركت حقيبتي تسقط أرضا، انفتحت بمجرد ملامستها للأرض، خفضت رأسي ورأيت أدواتي مرمية حول الحقيبة، تذكرني بفشلي، التفت إلى المقهى، وفكرت، سأنتظر نصف ساعة آخر، حافلة أخرى ستتقدم إلى هذا المكان بعد نصف ساعة من الآن، إذا لم يحدث شيء ما، فعلى السائق ألا يتعطل في فعل شيء آخر، ألا يقوم بخطأ ما، هو على الأرجح في المحطة الرئيسية الآن، ينتظر ركوب الراكبين، سيتجه لإشعال سيجارته، فقد كره عمله كسائق وتلك السيجارة تنسيه ما يكره، وأنا من مكاني هذا أشعر أن هناك بعض الحركة للرياح، مع أن الجو ساخن إلا أن الهواء لم يكن ساكنا، والمحطة الرئيسية في مكان مرتفع، لذا سيشعر بقوة الرياح هناك أكثر، الرياح التي تتسبب فيها فراشات في أستراليا، ربما لن تشتعل سيجارته لسبب أو لآخر، ربما بسبب الرياح، لذا سيتأخر في ركوب حافلته ومغادرة المكان، سيغضب، وسينشغل بمحاولة إشعال السيجارة، أو حتى تدخينها، وبينما هو يفعل ذلك ستغادر فتاة على بعد 4 كيلومترات منزلها، ستخرج من المنزل فتاة في مقتبل العمر ولم تكن تهتم سوى بمظهرها في يوم حار كهذا، أو هذا ما سيبدو عليه الأمر لمن سيلتقيها بالشارع، تحاول أن تثير اليوم أحد الشبان بينما تتجه إلى صالونها الخاص، لكنها ستتأخر بدورها عن الخروج، فبتفكيرها في إثارة شاب ما ترددت بخصوص أناقتها، ستتوقف قبل أن تبلغ الباب، ستعود إلى غرفتها، تعيد ترتيب ملابسها، ربما بعض من التزيين سيفي بالغرض، والأهم، ربما قبعة كبيرة بيضاء ستتم الأمر، قبعة تضفي إلى سمرتها شيئا من الجاذبية، ربما ستتأخر لسبب آخر، أو لألف سبب أجهله، لكن الأهم، تأخر السائق وتأخرت الفتاة، ولو لم يتأخر أحدهما لما حدث ما سيحدث، مع أنه كان لما حدث من إمكانية عدم الحدوث نصيب، فلو أن السائق لم ينشغل بسيجارته، لقطعت الفتاة الشارع على بعد 4 كيلومترات و700 متر، لو أنها فكرت أن الشبان في الشاطئ في هذا اليوم الحار، لو حتى رضيت بما كانت عليه من جمال، أو ربما هي واجهت مشاكلها دون فرار، لو ربما توقفت قبل خروجها، لو هي استدارت إلى والدها، لو هي تشجعت على قبول قدرها، والأهم لو لم يغادر والد بيته قبل ثلاثين سنة، لو لم يغادر فرنسي فرنسا إلى ممتلكاته بالجزائر، والأفضل من ذلك كله، لو لم يحدث ما حدث قبل مائة سنة، لاستمر العالم فيما يفعل، لما حدث شيء، لما ضحك القدر، لكنهما تأخرا كلاهما (الفتاة والسائق) وبزمن دقيق لدرجة أنني تأكدت أن هناك قوة علوية حرصت على دقة ما يجري، لذا كان من المقدر وبسبب تأخرهما أن يصطدم بها، سيجتمع حشد من الناس حولها، سيحملونها ميتة ثم سيتوقف السائق وسيشعل سيجارة أخرى لينسى بها كعادته، سيجلس القرفصاء وهو يدخن السيجارة، سيلوم نفسه، سيلوم نفسه على المغامرة التي قام بها قبل مدة، وسيفعل كل ذلك معطلا بذلك رحلتي، سوف أتأخر لنصف ساعة أخرى ولن أبلغ العجوز سوى متأخرا، وستموت مربية طفلتي، ستحزن هذه الأخيرة، وسيهزمني القدر بلعبة، لعبة تحكم في شروطها تحكما تاما، وقطعت تفكيري أبواق السيارات المتوقفة، شتمني البعض من السائقين، حتى أنني رددت بنفس الشتم، نظر إلي السائرون بوقاحة، حتى إن إحدى النساء قالت لصديقتها إنه على النبلاء ألا يشبهوني، أخرى قالت إنها تكره الرجال لعجرفتهم، ما اهتممت للأمر وكما ذكرت سابقا، مازال البشر يجهلون البشر، لذا وأنا أقف متوجها بنظري إلى المقهى، تمنيت ألا يحدث شيء مما سيحدث، ألا يعطلني شيء ما مثلما فعل هذا المشرد، انخفضت أجمع لوازمي في سرعة، أغلقت حقيبتي وتوجهت إلى المشرد، حتما ستغضب ابنتي، فقد وعدتها أن أصل بالوقت، هي اتصلت بي صباحا تخبرني بحالة مربيتها الحرجة، كنت بالمكتب منشغلا بعض الشيء بتلك الفواتير التي يجب دفعها، انشغالا لا يخصني على وجه الخصوص، فأنا أدفع المال لأشخاص ليهتموا بهذه الأمور عادة، وها أنا أدفع لهم المال وأقوم بعملهم، حتى إنهم أخذوا عطلة أغسطس جميعا، لذا توجب أن أشتغل لوحدي في العيادة، وها أنا تأخرت بسبب ذلك المشرد، وبسبب انشغال السائق في الحديث. لن يصدقني أحد إن قلت إن السائق لم يرني عبر مرآته فقد كان يتحدث إلى الشرطيين اللذين دفعا المشرد جانبا، سيكون ذلك مجرد تكهن جميل لذكره في سهرة ما حينما يتحدث الجميع عن الأمور الغريبة التي حدثت معهم ويثملون جميعا بعدها، لكن ماذا لو اعترفت أنني عرفت أن ما حدث توجب حدوثه؟ وبما أنني أعلم ذلك فإنني أعلم صفة حدوثه؛ كان الشرطيان يتحدثان إلى السائق بخصوص المشرد العربي، وكيف يجب على فرنسا أن تبيد هذه الأشكال من الحياة، كانا قد انتهيا من مناوبتهما وتوجها إلى الحافلة بعد أن دفعا المشرد عن الطريق، كانت عنصريتهما تجاه العربي، تفوق عنصريتي تجاهه؛ فعلى الأقل أرى أنه ما زال بشريا كبقيتنا، إلا أن ارتباطاتي بقوميتي الأوروبية، وانتمائه إلى العرق العربي، جعل مني شخصا غريبا عنه، جعله أدنى من أن يكون إنسانا، وجعلني أكون أكثر من مجرد ذلك، امتيازات منحت لي بتقسيم غبي، قام به فرد من أجدادي نتاج نشوة تافهة، نتاج أنانية حيوانية، ونسي الجميع أن الفرنسيين والعرب وبقية البشر من رحم واحد.
لكن يجدر الذكر أنه لو أن المشرد لم يتقدم إلى الطريق ولم يتوقف هناك يتأمل السماء، لما دفعه الشرطيان، لما منحهما موضوعا للتحدث بشأنه، لما تعطلت عن الركوب، والأهم، لتمكن السائق من رؤيتي من خلال مرآته الجانبية، ولجلس الشرطيان دون أن يزعجا هذا الأخير، لكن ها هو المشرد يجلس هناك، وبعدما تسبب في كل ذلك ها هو لا يدري أنه وعن غير قصد، ومن دون وعي قد يكون أفسد يومي. على كل تقدمت نحوه ووضعت الحقيبة جانبا، كان قد تفاجأ لفعلي هذا، وصرخت عليه قائلا: لقد جعلتني أتأخر عن مهمتي. (صرخت حتى إنني جعلت الجميع يسمع ذلك) كيف لك أن تجلس هنا غير مبال؟ اللعنة! (أخذت نفسا ونظرت من حولي، ثم وبصوت هادئ يخفي الانفجار بداخلي): لم أنت؟ لم أحدثك الآن وكأنني أعرفك؟ أنا لا أعرفك! ما تكون أنت؟ (وضعت يدي على الطاولة أسند جسمي المنحني باتجاهه.)
اللعنة! (ولكمت الطاولة.)
واكتشفت أنه لن يجيبني، لم يفهم شيئا مما أقول، كان خائفا من المحاولة حتى، فقد التصق بالكرسي الذي كان يستند إليه، وشعرت بيديه ترتجفان ولم يحاول قول كلمة، بل ثبت نظره نحوي، التصقت عيناه السوداوين بي واتسعتا، وكأنه ينتظر موتا محتما، أو يحاول توقع ضربة أوجهها إليه - تخيلت للحظة أنني لكمته بيدي اليمنى، سيتراجع جراء القوة التي أثرت على ثقله، يرتفع رأسه إلى الخلف في بادئ الأمر ويتجه إلى الخلف، ثم يستمر ما تبقى من جسده في أخذ نفس الحركة، وينتهي به الأمر على الأرض. لحسن الحظ كانت فكرة فقط - كنت قد هدأت والتفت إلى الطاولة التي كنت أجلس إليها سابقا، لمحت فنجان القهوة، جلبته ثم جلست بالقرب من المشرد، وأنا أضع رأسي بين يدي أفكر في طريقة ما للتوجه إلى العجوز.
ومن دون وعي رفعت يدي وأنزلتها بسرعة أضرب الطاولة.
اللعنة!
ثم رأيت يدا تتمدد نحوي وهي تحمل مائة فرنك، رفعت رأسي ورأيت العربي وهو يقدم لي المال محاولا شراء هدوئي، لم ينبس ببنت شفة ولكنه قال الكثير بعينيه.
أذكر أنني ابتسمت ساخرا وقلت له مع أنه لم يفهم ما قلت: أتعتقد حقا أن مائة فرنك ستشتري زمنا لي ، أو أنها ستوقف أفعال القدر؟
قبل أشهر من الآن، من جلوسي قرب المشرد.
تقدمت زوجتي إلى طائرتها؛ طائرة بمحرك واحد، كانت قد رسمت على بدنها صورة ابنتنا وأسمت الطائرة باسمها. «صوفيا».
كانت ترتدي زوجتي معطفها الجلدي البني، معطفا جلديا بجيبين، على أحدهما شعار صقر الكندور - النسر الأمريكي - كانت تمسك بخوذتها، وهي تحمل حقيبتها الجلدية تجرها إلى الطائرة، ركضت ابنتي نحوها. - ماما، لا تغادري (تركض).
كنت أقف بعيدا عن الطائرة أراقب ابنتي تركض إلى والدتها، تقدمت صوفي إليها وهي تصرخ: ماما، ماما خذيني معك (لم تلتفت، واصلت الركض نحو والدتها). - عزيزتي، أحبك، ربما حينما أعود (قالت ذلك بينما عانقت صوفي التي تمسكت بها، تنغمس في حضنها). - أرجوك ماما، لا تغادري (دفعت برأسها إلى أعلى صدر والدتها تتمسك بشدة). - عصفورتي، الطائرة لا تتسع لنا جميعا (تنظر إلي محاولة أن تطلب مني مساعدتها في إقناع صوفي)، والدك يحبك (خفضت رأسها إلى صوفي)، سيرعاك ريثما أعود، الرحلة ستكون شاقة، وحينما تجهزين سنذهب في واحدة. - خذيني معك (رفعت رأسها)، سأركب رفقة أنطونيو.
وناديتها: صوفي (استدارت في عجل إلي)، أنت تعطلين والدتك (نظرت أنا بعدها إلى أنطونيو الذي كان يبتسم لي، رفعت يدي أشير إليه).
التفتت إلي ولم تعرني انتباهها ثم سرعان ما التفتت إلى كلمات والدتها: عزيزتي، أنطونيو ميكانيكي، وله عدة يحملها معه. عصفورتي، أتعلمين أن أهم ما في الطيران هو تدوين المعلومات؟ خذي مدونتي هذه واكتبي بها، حينما أعود ستملئينها بشيء جيد (التفتت مجددا صوفي نحوي) سنقرؤه في رحلتنا إلى مراكش، سآخذك معي، ومن هناك سنرى العالم بأسره، لدي صديق هناك ووعدني بطائرة أكبر. - ماما، هل هذا وعد؟ (أمسكت بالمذكرة تنظر إليها.) - أجل صوفي، أنا أعدك (تقبلها على جبينها). - انتظري أنت لم تعقدي أصابعك. - حسنا حياتي (تعقد سبابتها بالوسطى)، هي بهذا الشكل صحيح؟ - أجل. - أعدك عصفورتي، جهزي نفسك لمراكش، أراك بعد ثمانية عشر شهرا.
واستدارت طفلتي تعود إلي وهي تعانق مدونتها الزرقاء. - أنطونيو أدر المحرك، دعنا نغادر.
وأشارت لي زوجتي بيدها ، أذكر أنني لوحت لها أيضا، أرسلت لي قبلة، ولبست خوذتها، أثناء ذلك اقتربت مني ابنتي، عانقتني وهي تبكي، ما كان لي كلمات من أجلها، سوى أنني قلت لها: ستعود، هي دائما تعود، ثقي بي (حككت شعرها أدللها وأنا أنظر إلى الطائرة).
قبل لحظات من جلوسي قرب المشرد «بأحد المنازل الفرنسية بالجزائر»
أنا أشعر بالغضب، والدتي تخبئ عني شيئا ما، لا يجب على الوالدة أن تخفي عن ابنتها أي شيء، بل يجب أن تكون أعز صديقة لها، أن تكون مجرة أسرارها، لكنها تخفي شيئا، شيئا بعظمة وحجم المجرة التي توجب أن تكونها، وقد سمعت أخبارا من ابنتي عمي، تخبراني بشيء تخفيه عني والدتي، ما حاولت استفسار الأمر فقط، أنا حملت حقيبتي فقد كان يجب أن أخرج الآن لأتجه إلى الصالون، سأتجه إليه فأنا لا أشعر أنني بخير، ثم إنه الوقت الذي يجب فيه أن أغادر المنزل، وانخفضت وبلغت الباب الخارجي، كانت والدتي رفقة والدي، تقف عند الباب، توقفت وسط السلالم، نظرت إلى كليهما، كان والدي يبتسم لي، ابتسامة مصطنعة تخفي توترا أظهرته وقفته الغريبة، بينما والدتي تنظر إلي وعيناها تظهران حزنا عميقا، ثم وخز والدي والدتي يدفعها إلى الكلام، قالت والدتي بكلمات متقطعة: سيلين، عزيزتي، يجب أن نتحدث (متوترة بشكل واضح). - ماما، أنا متأخرة (انخفضت عبر السلم)، يجب أن أتجه إلى الصالون الآن، نتحدث فيما بعد.
قال والدي: عزيزتي (بجدية مخيفة)، أنصتي لوالدتك، الأمر مهم. - لكن أبي ... (حركت يدي بحثا عن منفذ لتفادي الحديث) ألا يمكن تأجيل الأمر؟ - سيلين، والدتك ليست بخير (وقف خلفها يمسك بكتفيها)، يجب أن تتحادثا، الآن عزيزتي.
واتجهنا جميعا إلى المطبخ، جلست كلتانا على الطاولة، بينما وقف والدي عند باب المطبخ يحمل فنجان القهوة، كان ينظر إلي بحزن، كنت أعرف نظرات والدي، ما كان يجب أن يتحدث أبدا لطالما طلبت أن ينظر إلى عيني لأعرف ما يشعر به، وبعد صمت طويل قالت لي والدتي: عزيزتي، ماذا سمعت من ابنة عمك؟ (عينان حمراوان) ماذا كتبت لك في الرسالة ؟ - ماما، أهو أمر يجب أن نتحدث عنه؟ (أنظر في تناوب سريع إلى كليهما) لا شيء يهم، كانت تستفزني.
ثم قال والدي: عزيزتي، أخبري والدتك (نبرة حزينة). - هو لا شيء يهم (خفضت رأسي أنظر إلى خاتم الخطوبة الذي أحركه بإصبعي).
وأردف يقول: عزيزتي (الكثير من الحزن والجدية). (تملكني أثناء ذلك غضب شديد وبكيت لشدة الغضب ثم صرخت أضرب الطاولة): أخبرتني أنكما لستما والدي. (استمررت في ضرب الطاولة بقبضتي يدي.) - هذا صحيح؟! ماما هل هذا صحيح؟ (وبسرعة نظرت إليهما في تناوب.) - استفزتني، حتى إنها قالت إنها تملك أدلة على ذلك، وأنني لست بفرنسية؛ أنني ابنة همجية من إحدى القرى العربية. هل ما ذكرته صحيح؟ أجيبا.
حتى إن والدتي شاركتني البكاء، كانت قد أخفت وجهها بيديها، لا تفعل شيئا سوى أنها شرعت تبكي في صمت، لم تقل شيئا. اقترب والدي بشدة وأنا أستمر بالبكاء، أصرخ عليهما: ماذا أكون؟ هل هذا ... بابا، قل شيئا، هل أنا ابنتكما؟
قال والدي: سيلين، تعلمين أننا نحبك، أنت ابنتنا لا تنسي ذلك، حتى وإن ...
نظرت إلى والدتي موجهة إليها الكلام: حتى ماذا؟ ماما، تكلمي (بكت من دون أن يبتعد نظرها عني). - عزيزتي، والدتك تشعر بالاستياء، لكنها تحبك، أنا أقسم أنها لن تعيش من دونك.
ثم وخزها قائلا: عزيزتي أخبريها. - تخبرني ماذا؟
رفعت والدتي رأسها ببطء، أمسكت بكلتا يدي وقالت: ما أخبرتك به ابنة عمك ساذج ومن دون معنى (توقفت ثم أضافت)، أنت ابنتي ولن يأخذنك مني بشر. - ماما (صرخت). - الأمر ... (وبتردد نتج عنه كلمات متقطعة) الأمر صحيح.
أذكر أنني لم أنبس ببنت شفة، ركضت إلى غرفتي، كنت أبكي بشدة، كان الأمر صحيحا، لست سوى فتاة متبناة، ثم تذكرت كل تلك السنوات، لست سوى عربية بحياة فرنسية، تذكرت جلول الشاب العربي الذي هزأنا منه أنا وصديقاتي حينما كنا نرفع تنانيرنا له، وحينما يخفض عينيه نشتمه ونحتقر بدائيته وهمجيته، تذكرت حينما نظر إلي بوقاحة، بكره وبغضب، تذكرت فرحتي لما كنت أسمع اعتقال رجل عربي، أو لما ينكلون بعائلة عربية، وأنا أشجعهم من الشرفة ، تذكرت كل شيء، تذكرت كل شيء إلا انتمائي الوحيد، وها أنا أبلغ أشدي ولا أعرف من أنا أو لمن أنتمي، حملت قبعتي وخرجت راكضة من المنزل، لحقني والدي وهو يصرخ: سيلين، سيلين، توقفي لحظة، سيلين.
لما ابتعدت التفت للمرة الأخيرة، رأيته يجلس على ركبتيه يبكي أشبه بصبي صغير، ما كان يجب أن أغادر المنزل، كنت أحبهما، كانا والدي، وركضت أبكي متجهة إلى الصالون، وأخفيت ملامحي بقبعتي، أركض في سرعة، وبعد مدة بلغت شارعا، قطعته بسرعة، لكنها كانت أبطأ في لحظة واحدة، سمعت صراخ البشر من حولي، أصواتا كثيرة لم أفهم منها سوى ...
احذري.
ورافق الصراخ، أبواق السيارات، رفعت قبعتي بسرعة والتفت إلى جانبي، كانت الحافلة أقرب بكثير، وخلف الزجاج، يفعل السائق كل ما في مقدوره ليوقفها، وبتباطؤ الزمن، فكرت في كل شيء، ما كان يجب أن أغادر المنزل وتمنيت لحظتها أن أعود إلى ماما، أن أخبرها أنني أحبها، أن أعود إلى والدي، أن أساعده في الوقوف، أن أمسح دموعه وأعانقه، لكن فجأة تسارع الزمن.
قبل 42 سنة من جلوسي قرب المشرد،
أراضي «فارم دو شيلون»
اقترب العربي من القرية بعد مسيرة أيام رفقة ابنه محمد، كانوا قد قطعوا أميالا قبل أن يبلغوا الحدود الشمالية لتلك الهضاب الخضراء، صنعت زراعة الكروم معظم تلك الخضرة. أراض شاسعة يملكها الفرنسيون، ويقيمها العرب ويحفظون استمرارها، وقد انتقل العربي وابنه لسبب وجيه، سبب اكتشفه ابنه بعد سنوات، فلن يتنقلا للنزهة في أرض كهذه تتسع لتبلغ كل الأماكن، فتختلف الحرارة في كل مكان، وباختلاف الحرارة، يختلف تساقط الأمطار، ونسبة المطر والحرارة، تخلقان نوعا من الانتقاء الطبيعي، فتتقسم الطبيعة نفسها إلى أنواع عديدة، فتتغير الموجودات والكائنات وحتى البشر، وبتغير البشر تتغير الطباع والعادات والمفاهيم. هذا العربي قدم من الجنوب، والشمال يخالف الجنوب في كل شيء، إلا أن سببا وجيها دفعه ليسير كل هذا المسير؛ معرفته أن من طلبه سيتجه جنوبا مجددا، جنوبا إلى مدى بعيد، مدى ربما لم يبلغه قط العربي وابنه، وقد كان ذلك أشبه بتحد له ؛ ماذا يوجد إن تعمق أكثر جنوبا؟ ماذا يوجد خلف هذا الجنوب؟ كان السيد الفرنسي يجلس عند مدخل بيته الشاسع، المشيد على الطريقة الإسبانية، كان قد شيد قبل مائة سنة، مائة سنة من مولد السيد الفرنسي. اقترب العربي ودنا من السيد الفرنسي الذي أحاط به بعض العرب يتقدمهم مترجم، وكلبة تجلس في هدوء. جلس الجميع عند المدخل، وكان أشبه بحديقة صغيرة. رفض العربي أن يأكل شيئا مما عرضه السيد الفرنسي، كان يتعجل إنهاء الأمر، وقد سأل عن إمكانية التعجيل في الذهاب جنوبا، كان الفرنسي رجلا لبقا، وقد اشترط أن يجلس الجميع معا لوجبة العشاء قبل التحدث، ثم إنه من الجيد التحدث والبطون ممتلئة. فكر العربي بذلك، كان على ابنه أن يأكل شيئا، وقد وافق على ذلك من أجله فقط، لم يكن معتادا على البقاء بالبيوت لوجبة العشاء وللسمر، فمكانه في الخارج وسط الصحراء، إلا أن الضرورة هذه المرة ستدفعه إلى التريث قليلا. ليس سيئا أن يجلس الجميع لتناول الطعام والتحدث، ربما سيتعلم ابنه كيف يكون الحديث وسط الكبار ووسط النبلاء، ربما سيتعلم كيف يعامل الفرنسيين، بعد الأكل. تكلم الرجل الفرنسي، كان قد أخبرهم أنه يجب التوجه إلى الجنوب الغربي، ستحمل القافلة بكل اللوازم، سيتسلح الرجال، ربما البعض فقط، فلا حاجة لهم لكل ذلك الحذر. وتساءل العربي عن سبب التوجه إلى الجنوب الغربي، لا شيء هناك سوى الصحراء التي تنتهي إلى البحر الكبير (المحيط الهادئ) كان قد ذهب عدة مرات إلى هناك ولا شيء هناك سوى بعض البدو والكثير من الحديد، وكان السيد الفرنسي يود اكتشاف مكان ما بالجنوب به قبيلة محلية عرف عنها قدرة استرجاع الموتى، أسطورة أخبره بها أحد البرتغاليين الذين ينقلون الماس من الجنوب، حتى إنه أقسم أنه رأى صديقه يعود إلى الحياة، وقد فكر الفرنسي أن الجنوب الغربي هو الوجهة، أن تلك القبيلة بمكان هناك، ربما ستتيح له فرصة استرجاع زوجته المنتحرة. اعتبر العربي أن ذلك مضيعة للوقت، ونصح بالتوجه إلى الجنوب دون التفات أو ما شابه ذلك ، التوغل إلى قلب القارة هو أفضل وجهة، لأنه حينما تتسع اليابسة وتبتعد عن البحر ستجد كل شيء، أخبره أن المعجزات لا تقبل الضيق ولا ترضى بالبحار، الأساطير تولد بقلب اليابسة، بأعمق نقطة فيها، كما ولد الإسلام بقلب الصحراء، تعالت أصوات العرب تلك الليلة، مجدوا الرب لكنهم اعتبروا ذلك خطيرا، الجنوب يحوي باب الجحيم (وهي أسطورة العرب عن كون الجنوب بابا للجحيم) وأنه لا يمكن لأحد أن ينجو هناك، وحتى قبل أن يقترب من باب الجحيم، فإن قطاع الطرق يستقرون هناك هربا من الحكومة الفرنسية ومن المقاومة. كانت تلك رحلة انتحارية فكر بها العربي، لكن السيد الفرنسي أعجبه ما سمع منه؛ سيسيرون إلى الجنوب، سيتوغلون إلى قلب القارة، سيبلغون باب الجحيم، وسيتجاوزونه إلى ما خلف ذلك. وكان للعربي فكرة غريبة تخالف ما عرفه باقي العرب، فكرة أن ما خلف الجنوب يوجد الشمال، وقد اتجهت القافلة إلى وجهتها، لم تبتعد كثيرا؛ حوالي 340 ميلا جنوبا عن القرية، قبل أن تدفعهما المقاومة إلى العودة، توفي العربي في تلك الرحلة وعاد الفرنسي بابنه (ابن العربي وكان اسمه محمد) إلى القرية، مرت سنوات وجلس الرجل الفرنسي قبالة باب بيته الإسباني مرة أخرى، جلس قرب كلبة أخرى، فقد توفيت تلك الكلبة التي توجهت معه جنوبا. كان أعجز من أن يقوم بمغامرة أخرى وحده، حتى إنه قام بنشر تلك الأسطورة وسط كل الأثرياء الفرنسيين، ما يوجد بجنوب الصحراء أغلى من كل الأراضي، أغلى من الذهب والألماس، واجتمع العديد من الرجال ببيته في عدة مناسبات للتحدث عما يوجد بالجنوب. كبر الصبي (ابن العربي) في العمل هناك رفقة السيد الفرنسي، ورافقه في كل ما قام به من الأعمال، واستمروا على تلك الحال إلى أن اقترب رجل مرة أخرى من باب الفرنسي، اقترب رجل جريء، ومثلما كنت أسرد، كان السيد الفرنسي يجلس بمدخل منزله، تجلس إلى جانبه كلبة أخرى. دنا السيد منه، وقام أحد الخدم بتقديمه.
قال السيد الفرنسي: أرجو ألا أكون قد أطلت عليك، ميسيو جاك (وجلس إليه لشرب الشاي ).
قال صاحب البيت: لا، لا، ميسيو جوناثان (أشار له باحترام)، إنه يسعدني أنك بلغتنا سالما، هل سنتحدث بخصوص الرحلة؟
أجاب السيد في سرعة: أجل، أكيد، لا أود أن نضيع مزيدا من الوقت. إذن هل تم الأمر؟ - آسف، أعتقد أن هناك مشكلة. - أي نوع من المشاكل؟ (بجدية.) - أقصد أن فتانا تزوج. - وسيمنعه ذلك من مرافقتنا؟ - ربما. (فكر وهو يضع يده على فمه.) - إذن (تساءل صاحب البيت وهو يرتشف مزيدا من الشاي). - حسنا دع الأمر لي، سيكون من الجيد لو ألتقيه شخصيا. ماذا لو استضفته هنا؟ - سأعمل على ذلك (فكر قليلا)، وهل ستخبره بهدف الرحلة؟ - أعتقد أنه يجب أن نبقي ذلك لأنفسنا، لتفادي الأقاويل، أنت تعرف العرب وباب الجحيم الخاص بهم. - هناك شيء إضافي. - أجل، تفضل رجاء، كلي أذان صاغية ميسيو جاك. - سأرافقكم. (لم ينبس السيد ببنت شفة.) - حسنا لن أتوجه أكثر من نصف الطريق. - آه، وما الهدف؟ (في تعجب واضح.) - لنقل إنني سأستقر بمكان هناك، في انتظار عودتكم، يجب أن أكون أول من يرى ما جلبتموه. - جيد، ربما (فكر قليلا)، حسنا سيكون لك ذلك.
قبل 70 سنة من جلوسي قرب المشرد
مكان ما بالحدود الفرنسية الإسبانية
وفي ليلة مظلمة، لم يظهر شيء من كل تلك الأشياء المحيطة، ولم يسمع شيئا سوى صوت أرجل وهي تضغط على العشب جراء الركض، لم ير شيئا ولم يسمع شيئا حتى اقتربت تلك الفتاة العشرينية في صعوبة إلى باب الدير، وقبل أن تبلغه سقطت أرضا. ليس من السهل أن تسير لأميال بعد أن تفقد حصانك الذي أنهكه السفر، تمسكت بمسكة الباب الدائرية، كانت تتألم، ومن دون قدرة صرخت صرخة مدوية، كانت تلك الصرخة كفيلة بإيقاظ كل قاطني الدير، التفتت خلفها في ألم، تمسك بطنها المنتفخ، وبيدها الأخرى تتمسك بالمسكة الحديدية تمسكا. نظرت إلى الخلف، لا شيء هناك سوى الظلام، لكنه يمكن أن يحوي كل أشكال الخوف والألم بسواده ذلك، نفس أشكال الخوف التي واجهتها خلال رحلتها، وكالعادة لا يمكن أن تثق في ذلك السواد . تنقلت لثمانية أشهر تبحث عن هذا الدير، لقد فقدت كل شيء، وليس لها ملجأ سوى رجل يقطن بهذا الدير، رجل تلا العهود ليلة زفافها، وهو دليلها الوحيد على أنها زوجة اللورد، لن يصدقها أحد - خاصة وإن كانت تظهر أشبه بعاهرة ببطن منتفخ تسبب فيه أحد الجنود - ليس وهي على هذا الشكل، يجب أن تستعيد كل شيء، وهذا الرجل خلف سور الدير هو منقذها، إنه الشخص الوحيد الذي تذكرته، والسعادة تجعلك تتذكر كل شيء، هي تذكر أنها وقفت أمامه في سعادة يتلو عليها العهود، تذكر كلماته المقدسة: اشبكا أيديكما معا، وانظرا إلى قلبيكما، فبعد الآن لن يؤذيكما المطر، أنتما مأوى هذا الحب، بعد الآن لن تشعرا بالبرد فكلاكما لباس دافئ للآخر، بعد الآن لن تشعرا بالوحدة، فسيكون كل واحد منكما رفيقا للآخر، أنتما الآن جسدان، لكن بروح واحدة، وستجمعكما حياة واحدة، ولتكن حياتكما طويلة، أيامكما مديدة، وليبسط عليكما الرب بركته الأبدية.
أيها اللورد قبل زوجتك، أيتها السيدة قبلي زوجك.
علمت الفتاة أن الأب هو أصدق رجل قد رأته على الإطلاق، على الأقل هو الوحيد الذي آمن بحبها للورد، وأن ما جمعهما كان من أقدس قدسيات الحياة، كان يجب ألا تموت هذه الليلة، ليس بعد، ليس قبل أن تنجب هذه الفتاة بداخلها. ارتفعت في صعوبة تامة، تألمت بفعلها لذلك، ليس هناك فرصة أخرى، صرخت جراء الألم، نظرت إلى الأسفل، يخفي بطنها مستقبلا رائعا، ثم وبعد ألم شديد أمسكت قبضة الباب الدائرية بكلتا يديها، وبقوة قامت بدق الباب في سرعة، لم تود أن تتوقف فقد خافت فكرة أن تتوقف فتعجز عن دق الباب مرة أخرى، كان يجب ألا تتوقف عن دق الباب حتى يستيقظ الجميع، ودقت الباب عدة مرات، صرخت بكل ما أوتيت من قوة: آآآآآآآه (تألمت)، رجاء ...
التفتت وهي تقف في انحناء تستند على الباب متمسكة بتلك الحلقة الحديدية. - رجاء (بصوت يكاد يسمع)، أوف ... أوف ... أوف (أخرجت الكلمات بسرعة تنفسها الذي ساير الكلمات)، آآآآآآآه (صوت يكاد يسمع). نظرت مجددا إلى النوافذ، لا نور هناك، كانت قد فشلت في إيقاظ الجميع، وكان ألمها يمنعها من فعل أي شيء، تشجعت، وفكرت أنه يجب أن تنقذ الفتاة في بطنها، ثم بقوة دقت الباب مرات عديدة، وسقطت أرضا بعد ذلك، كانت تنظر إلى السماء، وقد رأت النجوم هناك، تخيلت وجه زوجها، ثم أغمضت عينيها جزئيا. أنار ضوء ما المكان عند وجهها، يخفي خلفه وجه رجل طاعن في السن، ولما أزاح الرجل مصباحه الزيتي، علمت الفتاة أنها أنقذت ابنتها. لم تخبره بشيء، لم تشرح له ماهيتها، لم تعد مهمة، لم يعد شيء مهما غير ابنتها، وقال الرجل في ذهول: ج... (قاطعته الفتاة تضع يدها على شفتيه تمسك كلامه.)
وقالت وهي تتنفس بسرعة: صوفي، سيكون اسمها صوفي (بصوت متقطع).
القسم الثاني
في مساء ذلك اليوم توفيت تلك العجوز، لم تأت الحافلة الثانية قط وتأخرت بالفعل، وفي طريق العودة كنت أجلس بالباص إلى جانب ابنتي حينما فكرت بذلك، كرهتني ابنتي بسبب ما فعلت، ولم يكن هناك من طريقة لأخبرها كم أنا متأسف، لكنني كنت حتما سأكذب بخصوص ذلك، وكنت أكره أن أفعل ذلك، فأنا لم أشعر بالأسف، ليس بشكل رئيسي، بل بالغبطة، الإحساس الوحيد الذي يتملكني في هذه الأثناء هو غضبي تجاه القدر، هزمني مرة أخرى، وأخذ مني إنسانا آخر، التفتت إلي ابنتي، وأخبرتها أن أمها بالصحراء وهي تشتاق إليها في آخر رسالة منها - كانت تسند رأسها تنظر عبر النافذة - لم تكلمني ابنتي حول الأمر، هي تشتاق إليها أيضا، وهي تفكر على الأرجح أن والدتها كانت ستنقذ تلك المربية العربية، أو على الأقل ستفعل ما بوسعها، تعتقد أنني لم أفعل ما يكفي، كنت مجرد حقير آخر، بل ربما أول حقير تلقاه بحياتها، حقير تتصل به في رباط أرغمت عليه يوم أطلت على هذا الوجود، وأنا متأكد أنها تفضل أن يكون لها والد غيري، فأنا حسبها من سيئ، وهي لا تذكر أنني أمضيت وقتا إلى جانبها، وهي محقة، حتى إنني لا أذكر ذلك، فقد كان يجب على أحدنا أن يحصل على مال لتغطية تكاليف حياتنا المترفة، لكنها أصغر من أن تعي ذلك، عدا أنني وفرت لها كل شيء وهي على الأقل لم تنكر ذلك، كانت تحب هذا المكان برغم حرارته العالية، وقد فهمت ذلك الحب، هي ولدت هنا وهي تشارك العرب حبهم لهذا الوطن، حب لا يمكن أن يشعر به أحد آخر، كانت تحن على العرب، وكانت تقدر تلك العجوز العربية، لدرجة أنها لم تتوقف عن البكاء عند وفاتها، حتى إنها ألحت على مرافقة العرب إلى المقبرة، وكان للعرب عادة تمنع سير النساء معهم إلى الدفن، وقد أجاز لها أحد شيوخ العرب أن ترافقهم من دون دخول المقبرة، لا أعتقد أنها ستبكي بذلك القدر يوم وفاتي، فلست سوى والد بيولوجي بالنسبة لها، وكنت أمقت حالتي هذه، لكنني فطرت على هذا، حتى إن والدتي أخبرتني أن جدي كان بمثل طباعي وأنني أشبهه لدرجة مخيفة. لم تصدق والدتي كيف تكرر حدوث ذلك، كيف يمكن أن أكون أنا ووالدها بوجه واحد وفكر واحد وبروح واحدة، جعلها ذلك تفقد رشدها وكانت تقول لوالدي أن جدي لم يمت قبل زمن وإنما هو يعيش بجسدي، وكانت تسألني دوما إن كنت أذكر الحروب النابليونية، كان ينعتها والدي بالمجنونة، كان يأخذني بعيدا وهو يقول: لا تعر والدتك اهتماما، إنها مريضة بعض الشيء (يحضنني). - بابا (أمسح دموعي)، لم والدتي مريضة؟ (أفعل ذلك وأنا أحمل رسمة لجدي.) - لا تقلق، ستكون بخير، إنها تشتاق إلى جدك. (يشير إلى الرسمة.)
لكنك أنت وحدك، أنت فريد من نوعك. (بإصبعه على جبيني.)
ربما تشبه جدك قليلا، لكن الأمر طبيعي، إنها الوراثة، كان جدك رجلا حاسما، لكنك فريد من نوعك، لم يكن بإمكان أحد أن يدفع جدك عن تحريك رأيه.
حتى إنه خسر 100 رجل في إحدى المعارك جراء صرامته ... وقد لقب بالرجل الذي لا يمكن تحريكه، لكنك واحد في هذا العالم، أنت فريد بني. بعد مدة طلق والدي والدتي، كانت مريضة وازداد مرضها حينما أصبحت تناديني بوالدي، ما تحمل والدي ذلك الأمر، واتجه يعاقر الخمر لينسى، كنت قد جعلت والدتي مجنونة، لسبب ما كنت أنا من دفعها إلى الجنون، وجعلنا ذلك نخسر والدي، توفيت والدتي بعد أن انتحرت بغرفتها، فعلت ذلك حينما منعها الجميع من مقابلتي، ما تحملت فقداني، أو فقدان والدها - حسب ما اعتقدت - واتجه والدي ليختبئ بمكان ما في هذا العالم، تخلى عن كل شيء، واختفى فقط، وعشت رفقة جدتي بفرنسا، ولسبب ما كانت تعي ما أنا عليه، لم تحدثني يوما عما حدث لنا، لم تحدثني عن جدي بشكل مفصل، بل اكتفت ببعض الأمور، قالت فقط إنني وإن كنت أشبه جدي، فالأهم أن أعيش حياتي بكل ما تحمله كلمة الحياة من معنى، إن كنت حقا جدي، فإنه إن حدث ذلك، فيجب أن أعيش أيضا الحياة، وبأخطاء أقل، كنت قد جهلت كجهل الأطباء مرض والدتي، صدقتها جدتي بطريقة خفية، صدقت أنني زوجها كذلك، لكنها كانت ولغاية ما تخفي ذلك التصديق لنفسها، أما البقية فصدقوا قول الأطباء بخصوص مرض والدتي، لم أصدق أنا ذلك، وشاركت والدتي وجدتي ما تصدقان، ليس لأنني كنت أعرف شيئا، وكيف لي أن أعرف شيئا وأنا بالخامسة؟ لكنني آمنت أن والدتي كانت على حق، وفعلت ذلك لإنقاذها، أو هذا ما وددته، وأعتقد أن هذا السبب في اختياري للطب، أردت دوما أن أفهم ما حدث لوالدتي؛ لذا لم يكن لي اليوم حيلة ما، لا أحد يمكنه أن يتفهم وضعي، فأنا لا أكره البشر بل أكره القدر، هو يعاقبني بالبشر فكرهتهم ليس إلا لأنهم العقاب، مثلما يكره العبد أداة السوط فيشمئز عند رؤيتها.
الكولونيل دي لا بوت
كثيرا ما قصت لي جدتي عن الكولونيل دي لا بوت، أو المعروف بالرجل الذي لا يمكن تحريكه، وهو مثل العديد من الرجال الذين لن يذكرهم التاريخ، سيندثر اسمه من بعدي؛ فأنا لا أود أن أذكره لابنتي أو لأي شخص آخر، وسيبقى مجرد شخص خيالي بذاكرتي مثلما كان في طفولتي، كانت روايتها مركبة بعض الشيء؛ ذلك أنها كانت تجهل زوجها، أشبه بجهلي له، وأخذت زمنا قبل أن أفهم شخص دي لا بوت، جدي الكولونيل المجنون. كانت تجلسني إلى جانبها، ثم تقص لي أعظم إنجازاته، لم تكن عظيمة إلى ذلك الحد، لكن جدتي رأت ذلك نتاج الشهامة التي عرف بها دي لا بوت، احترام رجاله له مكنه من الحصول على منزلة رفيعة بقلب جدتي، مع أنه لم يكن يعر الأمر اهتمامه، وأحبته جدتي بعد مدة، جدتي التي تزوجته كخطة خاطتها كلتا العائلتين، أضافت جدتي أنها اختارت ذلك أيضا مع أنها كانت تحب شخصا آخر، لكن مغرية هي فكرة الزواج من كولونيل مرموق، لورد دي لا بوت كان صفقة جيدة لتأمين مستقبل العائلتين. اعترفت جدتي خلال حكاياتها بخيانة ما أحست به مع الرجل الآخر، اعترفت بتمردها على الحب الذي جمعها بعاشقها الأول وعلمتني بذلك درسا عن الحب، أن تتحدث لطفل في الخامسة عن أشياء أشبه بالخيانة والحب والأنانية أمر غريب ونادر الوجود، لكن جدتي تلونت ببعض من طباع دي لا بوت الرجل الذي لا يهمه سوى ما يؤمن به، حتى إنها أخبرتني بأنه فقد 100 رجل في إحدى معاركه من أجل فتاة أخرى أحبها أيام زواجه بجدتي، لو لم تخبرني جدتي بأن ارتباطهما كان خطة لا أكثر، لتساءلت كيف لها أن ترضى بما فعل. أذكر أنني سألتها إن كانت حزينة، فضحكت وأخبرتني أنها أحبت دي لا بوت لدرجة دفعتها إلى تقبل كل الخطايا التي ارتكبها. إن تلك الخطة تحولت بعد سنوات إلى حكاية حب. من المؤكد أن جدي دي لا بوت ما كان يشعر بمثل ما شعرت به جدتي، إلا أنه سايرها في تلك العملية حفاظا على كلمته، أن ينهي حياته إلى جانبها وأن يشيخ معها. كان من أعظم وأقدس القرارات التي اتخذها، والرجل الشهم بعقل جدي دي لا بوت هو رجل لا يتراجع عن قراراته وإن اختلفت النتيجة عما توقع. أعتقد دوما أن القوة تكمن في تحمل نتائج الاختيار، وحسبه أن يتحمل نتائج اختياراته على اختلافها فهو رجل قوي، لذلك تحمل دي لا بوت وفاة 100 من رجاله، تحمل كذلك وفاة تلك الفتاة منتحرة في غرفتها بقلعة زوجها، بعد أن حاصرهم جدي ورجاله لمدة 20 يوما، تحمل كذلك فكرة أنه قتل على يد مزارع شاب بعد سنوات حينما اتجه إلى دير في الجنوب.
ذكرت لي جدتي أن والدة دي لا بوت حكت لها هذه الحادثة بعد أن سمعتها من شخص دي لا بوت نفسه؛ معركة جوانا.
ثم تجهز الكولونيل للمعركة بعد أن استعجل التخطيط لها وتحرك إلى قلعة رجل آخر كان قد أحب دي لا بوت إحدى زوجاته (جوانا) وعلى رأس جيش صغير كان قد بلغ الكولونيل القلعة وأحاط بها يحاصرها لأيام، كان قد طلب من اللورد أن يسلمه جوانا، وأن تلك هي الوسيلة الوحيدة لبقاء سكان القلعة في أمان، ومنح دي لا بوت اللورد أياما قبل أن يهجم، أخبره أنه رجل له كلمته، وأنه إن قال أنه سيسمح له بالعيش فإنه سيحدث ذلك، وإن هو قرر قتل الجميع فإنه لم يخلق الرب بعد شخصا سيمنعه من فعل ذلك. كرامة اللورد دفعته إلى الامتناع عن تلبية طلب الكولونيل، فكيف له أن يقدم زوجته جوانا كثمن مقابل حياته، وكان له رجال من حوله يدفعونه إلى مجابهة الكولونيل، يملئونه شجاعة وقوة للتصدي لهذا المجنون الذي أتى ليأخذ جوانا، بعد أيام رأى اللورد أنه لا مجال للبقاء خلف الأسوار وأنه يجب أن يخرج إلى دي لا بوت، كانت النساء داخل القلعة قد اخترن أن ينتحرن إن هو انهزم اللورد، واعتزمن أنه لن يبلغهن الكولونيل وهن على قيد الحياة، وقد شهد سكان القرية القريبة من القلعة على حدث المعركة، حتى إنهم ذكروا أنهم لم يروا يوما جثثا تملأ المكان من قبل على نحو مخيف مثلما حدث في معركة جوانا، خسر دي لا بوت 100 رجل قبل أن يتمكن من قطع رأس اللورد، واتجهوا يبيدون كل حياة خلف أسوار القلعة، وفي المساء دلف دي لا بوت إلى داخل القلعة وسط صيحات الرجال، الكل ينادي بعظمة اللورد، يتحرك بعضهم لجمع الجثث بينما اشتغل الآخرون في حمل ممتلكات اللورد المهزوم، وتبع الكولونيل بضعة من خيرة رجاله إلى داخل القصر ودلفوا جميعا، بعد مدة اقترب الجميع من غرفة الفتاة، إحدى زوجات اللورد المهزوم، الفتاة التي أحبها دي لا بوت، مع أنها لم تلتقه من قبل سوى أنها سمعت في كثير من الأحيان أن الكولونيل المجنون قادم من أجلها، كان الجميع يقف قبالة الباب الخشبي المزدوج، شهروا أسلحتهم وصرخوا صرخة واحدة يخبرون الكولونيل باستعدادهم لكسر الباب، وغرابة القصة تكمن فيما حدث بعد الصرخة، جدتي كانت دوما ما تقص لي الحكاية بنفس الشكل، مع أنني تخيلت دوما أن ما حدث مغاير لذلك، وكأنه حدث معي، رأيت ما حدث بعد الصرخة، حتى أنها وفي كل يوم تكرر قص الحادثة، أسمع تلك الصرخة، صرخة الرجال الواحدة، وأتخيل نهاية الحكاية بما شعرت أنه حدث، كان يتملكني إيمان قوي أن ما حدث لا يعرفه سوى دي لا بوت وحده، ربما ليس وحده، لكنه احتفظ بما حدث لنفسه، وما روي لي كان شيئا آخر.
قد يتساءل الجميع عن السبب الذي دفع بجدتي لتقص علي حكاية الكولونيل، حتى إنني تساءلت بدوري، واكتشفت السبب لاحقا، حدث الأمر في الثالثة من عمري، كنت يومها بإحدى الغرف ألعب ببعض الدمى الخشبية حينما دلفت علي والدتي، كنت أعيد حكاية القصة بواسطة تلك الدمى، يومها كنت أجهل القصة، حكاية دي لا بوت كانت مجرد تخيلات طفل في الثالثة، تخيلت دوما أن بعضا من الدمى هاجمت قلعة لإنقاذ الفتاة المنتحرة، وبلعبة خاطها القدر دلفت والدتي لتسمعني ألعب القصة وعلى لسان دي لا بوت الجبار. جلست إلى جانبي كأي أم عادية، جلست تراقبني، ثم انتبهت إلى أن اللعبة هي ما حدث مع والدها الكولونيل، ثم تساءلت في بادئ الأمر، كانت تسألني في كل مرة أحرك فيها الدمى عن سبب فعلي لذلك، واتضحت لها القصة وكأنها تعيشها من جديد، أو أن والدها يحكي لها الحادثة، أذكر أنها ركضت بعيدا عني، لم ألاحظ لحظتها مدى تأثرها بلعبي للقصة، مع أنني كنت أجهل يومها أن ما ألعبه كان قد حدث قبل سنوات من مولد والدتي، بعد دقائق امتلأت الغرفة بكل العائلة، حتى إن بعضا من الخدم تسللوا لرؤية الأمر، دنت مني والدتي وطلبت من الجميع أن يصغي للعبي، وأعادت طرح الأسئلة في كل حركة أقوم بها، كان الجميع ينظر في ذهول، استغرب الجميع معرفتي للقصة، وببراءة طفل اعتقدت أنهم يودون اللعب معي، أو أنه يعجبهم ما أفعل، فأكثرت من سرد القصة، أحرك دي لا بوت وجيشه من الدمى، أجعله ينتصر، ويصل إلى غرفة الفتاة المنتحرة، كانت الفتاة دمية رجل خشبي جعلتها تبدو أشبه بأميرة، التفتت والدتي إلى الجميع ثم سألتني من أخبرني بالقصة، أذكر أنني رفعت رأسي أجول ببصري في كل الزوايا، أنظر في وجوه الحضور، أحاول أن أجد شخصا قص لي الحكاية، وما كان بمقدوري أن أخبرها أنها مجرد قصة ألعبها من نسج خيالي، لم يذكر لي أحد قبل هذا اليوم اسم دي لا بوت، ثم اكتفيت بالقول إنني أعرف القصة، التفتت والدتي في حيرة إلى والدي، واتجهت ببصرها إلى جدتي، أنكر كلاهما الأمر، لم يرو لي أحد ما حدث مع الكولونيل، أذكر أن والدتي لم تتجاوز الأمر قط، ثم صرخت في أنحاء المنزل لأيام تخبرهم أنني مجنون، ثم ترسب بعقلها أن المجنون ليس بمقدوره اكتشاف حادثة في الماضي، خاصة وإن لم يكن هناك توثيق لها، ثم فكرت مجددا في كل الاحتمالات، إن كان هناك توثيق لما حدث فأنى لطفل بالثالثة أن يحصل عليه، وأكثر ما أرق والدتي هو تجسيدي لنهاية الحادثة والتي تخيلتها مخالفة لما حدث مع دي لا بوت في رواية الجدة، وتساءلت: كيف لصبي أن يعرف القصة، وأن يروي النهاية بشكل آخر؟ إن أخبره أحدهم عنها فإنه سيعيد قصها بنفس الشكل، ربما سيتخيلها بطريقة طفولية، لكنه لن يغير القصة أبدا، فتغيير القصة، سيحطم سنوات من الاعتقاد بأن جدي رجل لا يمكن تحريكه، بأنه من دون قلب، بأنه عاد إلى جدتي حينما وجد الفتاة منتحرة. ستتغير نظرة جدتي لدي لا بوت، سيكتشف الجميع حقيقة ما حدث، إذن كيف لي أن أعرف القصة وبنهاية أخرى؟ حملتني جدتي إلى غرفتها وقصت لي القصة، أخبرتني لأول مرة عن دي لا بوت، شعرت هي أنه يجب أن أعرف هذا الشخص، وأنه من واجبها أن تتحقق إن كان ما تقصه لي هو حقا ما حدث. أخبرتني أن رجال دي لا بوت صرخوا جميعا صرخة واحدة، ثم تجهزوا لفتح الباب عنوة، ثم أمرهم الكولونيل بالتريث قليلا. ذكرت أنه نزع سلاحه وقدمه إلى أحد الرجال ولم يبق سوى سكينته إن هو حدث شيء ما ثم أمرهم بالانتظار هنا، وطرق الباب، لم يفتح له أحد، إلا أنه دلف إلى الداخل بعد أن فتحه بنفسه، انتظر الرجال لمدة، أطال دي لا بوت مكوثه بالغرفة، حتى إن الرجال استغربوا ذلك، اعتقدوا أن أحدا قتله بالداخل، أرادوا بشدة الدخول إلى الغرفة، لكنه أمرهم بالبقاء خارجا قبل أن يدخل، وكان الرجال يخافون عدم إطاعة الأوامر، خاصة أوامر رجل مثل دي لا بوت، ثم بعد مدة فتح الباب على مصراعيه، وخرج ببطء وهو يحمل حبلا، خرج في صورة غريبة، شيء ما حدث غير انتحار الفتاة، بدا وكأنه شارد العقل، طأطأ رأسه، وأخذ من الرجل سلاحه ليعيده إلى حوضه، نفس الرجل الذي انتبه للجرح الذي أصيب به دي لا بوت في يده، وخلفه رأى الجميع فتاة معلقة، وبعد صمت غريب تكلم دي لا بوت بصعوبة، كان شارد العقل، لم يطل البقاء وطلب منهم أن يستعدوا للرحيل في الحال، كان قد استدار إلى الباب وأغلقه وذكرهم أنه لن يدخل أحد هذه الغرفة مطلقا، توعد بقطع رأس كل شخص يفكر في فعل ذلك، كان الجميع يفكر أنه يتوجب على دي لا بوت أن يدفن محبوبته، وألا يتركها معلقة بذلك الشكل، لكن من يتجرأ على قول ذلك أو حتى اقتراح الأمر، سيقطع رجليه لأنه قال ذلك وسيقطع رأسه لأنه فكر بذلك، وختمت جدتي القصة بأن الكولونيل والرجال غادروا القلعة إلى الأبد من دون رجعة، حتى إنها سمعت إشاعات أن سكان القرية القريبة من القلعة قد اتخذوا القصة أسطورة، وأن العديد منهم ما زال يعتقد أن الفتاة المنتحرة معلقة هناك، وأن دي لا بوت الرجل الذي لا يمكن تحريكه يحرس غرفتها بانتظار من يتجرأ على الدخول.
لكن ما حدث لم يحدث يوما برأس ذلك الصبي الذي كنته، وأحسست لسنوات أنه إن حدث ذلك فإنه سيتغير الكثير مما حدث بعد ذلك، ثم اكتشفت شيئا لاحقا؛ بعد سنوات من الآن، حينما سأجلس بتلك المحكمة المعلقة بين السماء والأرض، حينما سأنتظر لتسعة أشهر، سيخبرني أحدهم عن حكاية دي لا بوت، وسأكتشف ما حدث، سأكتشف علاقتي بالفتاة المنتحرة.
بعد خمس ساعات من وفاة العجوز
تمددت إلى الكرسي، ونظرت إلى الطريق، كانت الحافلة تسير ببطء، وابنتي تبكي إلى جانبي، كان الركاب يعتقدون أنني ضربتها، لكن لا يهم ما يعتقد الآخرون، فالبشر يحكمون دوما على ظواهر الأمور بخبايا أنفسهم، وأنا الآن لا يهمني ما يعتقدون، حتى إنني لم أهتم لبكاء ابنتي، جلست وكأن شيئا لم يحدث، التفت إليها مجددا وأخبرتها أننا لن نغادر الجزائر كما كان مقررا، فقد طلبت مني والدتها قبل شهر مبلغا من المال، مبلغا كبيرا، كانت بالجنوب وأخبرتني بأنها في حاجة إليه، لذا أرسلت لها مدخراتنا، لم يكن يجب أن أفعل ذلك، فقد طلقتها ولم يكن على عاتقي نفقات كهذه، لكنها وعدتني أنها ستعيد لي المال بعد ثمانية عشر شهرا، وهكذا كنت قد أغظت ابنتي فهي كانت تود بشدة زيارة جدتها صوفي بفرنسا، وقد أحبت جدتها صوفي أكثر من حبها لي، كانت ترى أن جدتها - ربما حتى جديها - أفضل بمراحل مني ووالدتها؛ ذلك أنها عاملتها دوما بمودة لم تكن لتعامل بها زوجتي، أحبت ابنتي في العائلة الجيل السابق لأمور عديدة، جهلت الكثير منها لانشغالي بمعرفة أمور أخرى غير ما تحبه ابنتي أو ما تكرهه، وأعتقد أن الانشغال عنها هو أحد الأسباب التي دفعتها لتفضل جيل العائلة الذي سبقنا، وتساءلت دوما عن الأفراد الذين لم تتمكن من الالتقاء بهم، كوالدتي ووالدي، أفراد العائلة الراحلين، من لم تستطع مقابلتهم كشرط وضعه القدر لتتمكن من القدوم إلى العالم، أفراد من العائلة الكبيرة رحلوا عنها قبل أن يكون لصوفي وجود، وكان والدي أحد أفراد العائلة الذين أكثرت صوفي السؤال عنهم، والدي الذي أذكره الآن وأتذكره ما بعد ذلك بأشواط من الزمن، اعتدت أن أتذكره في صفة تساؤلات، كان أشبه بسراب أبلغه في مرحلة معينة من التذكر، ربما كان يشغل بالي بعض الوقت، ليس لأنني أشتاق إليه، لكن لنسمه الفضول في معرفة أين هو، إلى أي مدى قد ابتعد، تساؤلات عن كونه ميتا أو على قيد الحياة. وعلى خلاف الجهد الذي بذلته في التفكير به، لم أفكر يوما في البحث عن أجوبة لتلك الأسئلة، كانت مجرد أفكار مجردة برأسي، وكأنها تمرين لي لتقوية حس الفضول بي، لم أبذل جهدا في البحث عن الأجوبة، وبمثل ذلك لم أبحث عن والدي قط؛ فقد فكرت دوما أن البحث عن الأجوبة لهو جزء من البحث عن والدي، ولم أكن أود أن أبحث عنه، ليس لأنني أكرهه، وكذا ليس لأنه يصعب علي أن أفعل ذلك، لكنني لم أرد أن أفعل ذلك ببساطة، وقد كان مجرد شعور بأنه لا يهم إن أنا بحثت عنه، وفكرت أن والدي ابتعد لأنه لم يرد أن يجده أحد، وإن أنا اعتزمت فعل ذلك فإنني ومن دون وعي سأكون قد جعلته يفقد الهدف من ابتعاده عنا.
أن أجده فعل مخالف تماما لما أراده والدي، ولن أبحث عن والدي إن هو أرادني ألا أفعل ذلك، ولم يكن لي متسع بعقلي لحشوه بكل هذا الاهتمام بما حدث أو حتى بما سيحدث مع والدي، ربما لأنه ترسب بعقلي أنني لا أملك متسعا من الوقت لترجمة ذلك الفضول والاهتمام إلى رحلة بحث ستأخذ كثيرا من الوقت، ثم إنني انشغلت بمحاربة القدر أكثر من اهتمامي بإيجاد الرجل الذي اختار ألا يجده الآخرون، وكنت أتذكره فقط في مناسبات متفرقة، وكانت إحداها حينما أرادت ابنتي أن تعرف أكثر عن جدها، أكثر قليلا من فكرة أنه أنجبني، أذكر أنها الفكرة الوحيدة التي حصلت عليها عن جدها قبل أن تسأل مرة أخرى، كنت وبسذاجة مني اختصرت وجود الجد في كونه أنجبني، ثم سألتني مرة أخرى، لا أنكر أنني أصبت ببعض من الذهول يومها، لا أنكر كذلك أنني ارتجفت، سرت بجسدي رعشة خوف، لأن ما حدث مع ابنتي كان قد حدث معي سابقا مع والدتي، حينما سألتها عن دي لا بوت، تمالكت نفسي، وفكرت أنه لا طائل من التفكير في كل شيء بخصوص ما حدث أو حتى بخصوص ما سيحدث بعد هذا، لذا أجبتها: ماذا تودين معرفته بالتحديد بخصوص جدك؟ (كانت تلك نفس الإجابة التي حصلت عليها من والدتي.) - ربما البعض من كل شيء.
ثم فكرت، الزمن يعيد نسج نفسه ببطء، ارتعشت مرة أخرى؛ أيمكن أن يحدث ذلك، أم هو مجرد صدفة غريبة؟ ثم خفت أن يحدث ذلك مع ابنتي، وأرهقني التفكير فيما إن كان هناك علاقة خفية بين ما حدث قبل أربعين سنة وما حدث مع ابنتي، لكنني اكتشفت بعد زمن، أن ذلك كان مجرد مصادفة ليس لها معنى سوى أنها حدثت في صورة مخيفة. - حسنا، أول ما يجب أن تعلميه بخصوص شخص جدك، أنه كان أرستقراطيا فرنسيا، أحد الذين أحسنوا استغلال الفرص، وكان جدك جيدا في التعامل مع الفرص، الجزائر كانت فرصة أخرى أحسن استغلالها، عشنا بفرنسا لكنه اعتاد دوما على زيارة الجزائر، حتى إنه كان يدفعني إلى مرافقته في كل مرة يأتي إلى هنا، وإحدى ثمار تلك الفرصة، هو أنه امتلك الكثير من الأراضي بالجزائر، وأحسن التعامل مع كل تلك الممتلكات، حتى إنه كان محبوبا في كل تلك المزارع المنتشرة في حدود المدينة، وأحبه رجال العروش الذين شاركوه تسيير تلك المزارع، كان بدوره يبادلهم ذلك الحب، ربما بادلهم الاحترام والاهتمام، أخبرني في كثير من المرات أنه يجب على السيد المحترم أن يحسن معاملة هؤلاء الرجال، إن هو أراد أن يحافظ على ما يملك من أراضيهم، أخبرني كذلك أن أولئك الرجال يملكون هذه الأرض وسيخلدون على هذه الحال، حتى وإن تسيدنا عليهم، ففي الأخير نحن خلقنا بفرنسا وهم خلقوا هنا، وأهم ما جهد والدي في بنائه، لم يكن المزارع ولا تلك الممتلكات، امتلك والدي شيئا أقوى من كل تلك الأشياء، امتلك ثقة شيوخ العروش والقرى، وكانت تلك الثقة كنزه الخاص الذي يخلق ما تبقى من كنوز والدي، أذكر أننا اعتدنا المكوث في مسكن أحد الشيوخ كان قد اختاره والدي كرفيق له وفي كثير من المرات كنا نسكن منزلا إسبانيا امتلكه والدي ووالده قبله، ولا زلت إلى يومنا هذا أذكر كل زاوية، كل منعطف، كل رابية من تلك القرية التي تحتاط بها أراضي والدي، أحببت تلك القرية لسبب ما، سابقا بالتأكيد فقد توقفت عن زيارتها بعد اختفاء والدي، سبب فقدته قبل زمن، واعتاد جدك على طبيعة العرب، وأخذ عنهم بعضا من طباعهم، يستيقظ في نفس الوقت لمراقبة تلك الأراضي والتعامل معها مثلما يفعل العرب، كان يشاركهم الأعمال كذلك، وفعل ذلك ربما لأنه كان واحدا منهم، أكثر من كونه أحد أولئك الأرستقراطيين الفرنسيين، كان والدي عربيا في الصميم وقد أحب هذه الأرض أكبر من حبه لأي أرض أخرى، كانت الجزائر المكان الوحيد الذي يجد فيه ضالته من الإنسانية والبساطة، اعتاد القول كذلك.
الرجل الذي لا يتساقط عرقه من أجل أملاكه هو رجل لا يملك شيئا، ثم دفعني في كل تلك العطل التي قضيتها في الجزائر إلى العمل، يعلمني شدة وقوة العرب، بساطة عيشهم، تلاحمهم المقدس. وكانت كل دقيقة في تلك القرية أشبه بدرس أتلقاه، كنت المتعلم الوحيد فيها، وكان البقية جمع المعلمين الذي يرشدني، وكنت أختلف إلى كل مكان هناك، وعرفني جميع العرب، كان والدي يحرص على أن أرافقه في كل ما يفعل، حتى إنني كنت أجلس إلى جانبه حينما يجتمع برجال من القرية، أذكر ذلك وكأنه حدث بالأمس، حينما اقترب أحد الرجال من والدي، كان قد طلب والدي رحالة ليتجه إلى الأراضي الجنوبية ليكتشفها في الشتاء، وقد أحضر له العرب رجلا عرف القارة كمعرفته لابنه الذي جلبه معه، كان والدي يقف إلى جانب العربي ، وكنت أراقب الشاب، كان يراقبني بدوره، لم ينبس أحدنا ببنت شفة، اكتفينا بالمراقبة، مراقبة بعضنا البعض، وقد علمت من والدي أن اسمه محمد، طلب منهما والدي المبيت بالقرية لليلة أخرى، فإنه لا يجب أن يغادرا حالا، أذكر أنني أمضيت تلك الليلة قرب الشاب محمد، أحاط به رفاقي من العرب يجلسون معنا، نسمع قصص تجوله مع والده.
وقطعت صوفي سلسلة أفكاري حينما وخزتني بيدها، لم يعجبها عدم اهتمامي بما حدث، كيف لشيء ما أن يجعلني (شارد العقل) أفكر؟ كان يجب أن أكلمها على الأقل، أن أسألها عما تشعر به - كان ذلك منطقها.
ولم أعتقد أن سؤالا سيعيد العجوز إلى هذه الحياة، لذا ما كان يجدر بي أن أفعل شيئا سوى أن أفكر في شيء من الماضي، التفتت إلي دامعة وقالت لي بصوت سمعه الجميع: تبا لك، متى ستصبح إنسانا؟ (لم أجبها.)
لا شيء، تبا لك (سرعان ما عادت إلى مراقبة الطريق).
ضحكت رغم أنني لم أظهر ذلك، فكيف لفتاة في الثامنة عشرة أن تعرف معنى الإنسان، أو حتى أن تحكم علي، أو تتهم إنسانيتي فقط لأنني لا أشاركها حزنها، أو لأنني لا أبكي؟ فأخبرتها أنني إنسان، وأنني بعد ذلك أكون والدها، ولا يجدر بها أن تعاملني بحقارة، وأنها يجب أن تحترم طبيعتي. أذكر أنني أخبرتها أنها محظوظة، لأن لها والدا لا يضربها، لكنها فاجأتني حينما أخبرتني أنها تتمنى أن أموت وأن يكون لها والد يضربها، وأن يهتم بها بعد ذلك، ثم أخرجت مدونة زرقاء كانت تكتب فيها ما كان يجول برأسها، وقالت لي وهي تقدم لي تلك المدونة: أتمنى أن تتعلم كيفية الاهتمام بالآخرين، لأنك إن لم تفعل فستخسرني عما قريب.
وفكرت للحظة فيما قالته ابنتي وانتهيت إلى استنباط منطقي؛ ابنتي ستتركني يوما ما، سواء اهتممت أو لم أفعل، سيأتي يوم أتحول فيه إلى آخر اهتماماتها؛ لذا ليس من المفيد أن أفكر بتهديدها لي، هي لن تتركني الآن فأنا لم أخطئ في شيء، ثم إنها مرغمة على البقاء إلى جانبي، كانت ابنتي قد نامت إلى جانبي، وأنا أمسك بتلك المدونة، أراقبها من دون سبب، استدرت إلى ابنتي ولأول مرة أحسست أنني أجهلها، وقد قلت لها إنني أحبها - بصوت يكاد يسمع - أعتقد أنني أتشجع حينما تنام، بالتأكيد هي لم تسمعني، راقبتها لمدة وأنا أتمسك بمدونتها الزرقاء، ثم التفت إلى المدونة، وفتحتها وقد كتب بأول صفحة فيها: «جليستي امرأة من حديد.»
كان الخط رديئا، مجرد خربشات هنا وهناك، وقد أرفق النص ببعض الرسومات الصبيانية، رسومات وخربشات مراهقة في كل مكان، التفتت إلي ابنتي، كانت قد فتحت عينيها بعد مرورنا على مطب زلزل الباص، سألتها عن المدونة، أخبرتني أنني يجب أن أقرأها، وحاولت إقناعي بأن عدد الصفحات صغير، وأنه سيكفيني الوقت الذي سنقضيه في الحافلة لإنهاء قراءتها، وقد قالت لي: ستنتهي قبل وصولنا إلى المحطة.
ابتسمت لها، نظرت إلى السائق، كان يكثر الحديث إلى أحد الركاب، وفكرت هو لا يركز على الطريق، لذا من المؤكد أننا سنتأخر، إذا وصلنا على قيد الحياة، لذا يبدو أنني إذا أضعت بعضا من الوقت لقراءة ما يجول برأس هذه الصغيرة، فلن أشعر بالرحلة، وسأكتشف على الأقل طريقة تفكيرها، وشرعت في القراءة، تبا، كم كان الخط رديئا!
كانت قد كتبت حتى حوارها مع تلك المربية، وأرفقت الكتابات بتاريخ كتابتها ومكان جلوسها رفقة المربية، حتى إنها رسمت بعض الشخوص لتوضيح ما كتبت، وقد بدا أن لابنتي موهبة في قص الحكايات، أو حتى شرحها، إلا أن خطها كان صعب القراءة، وقد جهدت في فهم ما كتبت، واشتغلت بقراءة ما كتبت كل الطريق.
القسم الثالث
«عزيزتي، صغيرتي الجميلة، ماذا تكتبين؟ تبتسم وأجبت: نانا أنا أكتب ما تقولين. تضحك وتقبلني. أحب حينما تقبلني، ثم تضيف هي، إنها السنة التي اختفى فيها كل شيء، وفقدت ما كنت أعيش من أجله، إن كان أحد يقرأ ما تكتبين فأتمنى ألا يعيش ما عشته، ما زلت تكتبين؟ أجبت بنعم، أضافت، إذن أخبريه أنني أحبه، أنني أحب كل من سيقرأ كتاباتك، مهما كان، سأحبه كزوج أو كابن أو كأخ أو كوالد. نانا أنا أكتب لنفسي. تضحك وتضيف: إذن أنا أحبك.»
إحدى الأيام المنسية سنة 1899م
إنها السنة التي اختفى فيها كل شيء، يومها كنت صاحبة الثامنة عشرة، حينما ساءت حياتي، وفتاة بالثامنة عشرة في قريتنا كان يجب أن يرى لها الناس زوجا يكبرها بعشر سنوات وطفلين على الأقل، كدليل على أن الزوج يتحملها، ويتحمل العيش إلى جانبها، ومنزلا طوبيا لا يتداعى في الشتاء لتديره الفتاة، لكنني كنت الاستثناء الوحيد في قريتنا، فقد ولدت بمنزل شيخ القرية، وكان بمنزلنا إضافة إلى الشيخ ووالدتي ذات القلب المتحجر، أخ يكبرنا نحن الفتيات، أخ يستعد لخلافة الوالد، وخمس فتيات يتقاتلن على احتمالية ما للظفر بمودة والدتنا ربة المنزل، والدتنا التي لم تحبني قط، بل كانت تدفعني فقط إلى خدمتها، ولم أكن سوى دابة أخرى تستعملها لربح بعض الوقت والجهد، حتى إنني منعت من الدراسة، على خلاف باقي أخواتي، فقد تحججت والدتي بحاجتها إلي لمجالسة الأخت الصغيرة. أعتقد أنها وعدت والدنا بأيام وردية، إن هو منعني من دخول المدرسة الفرنسية، بينما تمكن الجميع من مزاولة الدراسة، بأمر من والدتي، فقد سمعتها تقول: المرأة الجاهلة دابة فوق الأرض.
وهو ما دفعني إلى التوجه إلى المدرسة خفية، لألحق الفتيات، وأدخل القاعة المدرسية مع صديقاتي، وأنانية صديقاتي أشبه بأنانية والدتي، فبمجرد دخولنا القاعة، يبتعدن عني في صمت رهيب. كنت قبل ذلك وفي الصباح الباكر أستيقظ باكرا وأصفف شعري بنفس الطريقة التي يفعلن، حتى إنني كنت أجلس مثلهن في القاعة، تماما مثلما يفعلن، وقد كان لي مقعد في آخر الصف أجلس إليه كل صباح كي لا تكتشف المعلمة الفرنسية وجودي، وقد كانت تنادي بأسماء الفتيات، وكنت أتمنى أن تذكر اسمي ولو عن طريق الخطأ، بل تمنيت أن يكون لي اسم يمكنها ذكره، حتى إنني تمنيت أن أشارك إحدى الفتيات اسمها فتتمكن كلتانا من حضور المدرسة، لكن لا شيء مما ذكر قد حصل، وكانت المعلمة تكتشف وجودي، فتدفعني إلى الخارج، كانت تبكي في غالب الأحيان وهي تفعل ذلك، وكانت تقول لي: أنت جميلة، تعجبني تسريحة شعرك، ربما يوما ما، ستتمكنين من مشاركتنا الدروس (تبتسم بصعوبة).
بالطبع لم أتمكن من فهمها، أو فهم لغتها الفرنسية، لكنني تخيلت قولها ذلك، كما تخيلت كثيرا من الأشياء، كنت دوما أتخيلها تقول هذه الكلمات، وكثيرا ما تمسكت بيدها، لم أكن أبكي قط وهي تدفعني إلى الخارج، كنت فقط أراقب عينيها، أصرخ من خلالهما حتى وهي تطردني بتلك اللباقة، اعتقدت أن المعلمة ستحب أن تدرس فتاة لا تبكي، وأن إخراجي من القاعة ليس سوى اختبار لي، وأنه يجب أن أجتازه لأدرس، إن جميع صديقاتي مررن بهذه التجربة، لكنني اكتشفت بعد زمن، بعد وفاة تلك المعلمة بسنوات، وبعد أن ماتت كل صديقاتي في هذه الحياة، أن المشكلة لم تكن يوما في البكاء، فقد توجب على والدي أن يسجلني مثلما فعل مع كل إخوتي، ولم أطلب من والدي أن يسجلني يوما، كنت أخشى أن يضربني إن أنا طلبت منه ذلك، وقد كنت أكتفي بالبكاء عند حائط المدرسة، أجلس وحيدة أنظر إلى السماء، وأتساءل، إن كان هناك إله، فهل هو يحبني حقا، إن كان يفعل ذلك حقا فلم يتسبب في بكائي؟ كنت أتمسك بردائي، أمسح دموعي إن مر أحدهم وأنشغل باللعب بالحجارة مدعية اللعب لكيلا يعتقد أنني أبكي، ما كنت أود أن أشارك أحدا أحزاني، وكنت أعود للبكاء بمجرد رؤيتي لظهره، ثم أستمر في العودة يوميا إلى تلك المعلمة، أبكي في كل مرة تطردني فيها، كانت الفتيات يكبرن في تلك المدرسة على آداب الحياة وعلى أسس العلم، وكان الفرنسيون يجعلون من الفتاة العربية امرأة غربية باسم الحضارة، بينما كنت أكبر عند حائط المدرسة على البكاء، أكبر على رؤية السماء التي لم تحرك ساكنا، أنظر إلى الله، أنتظر منه شيئا ما، أن يمطر لي مدرستي، وكنت أدعوه أن يجعل مني فرنسية، كنت أقول: «إلهي، اجعلني فرنسية في الصباح، واجعلني عربية ما تبقى من الوقت، إلهي فقط لأخدعهم وألج المدرسة صباحا، وأعدك أنني سأكثر من الصلوات ، سأتوقف عن اللعب وسأصلي لك.»
لكن الله لم يكن يحب الخداع، فأبقى على صفتي العربية، في الصباح وفيما تبقى من الوقت، وكنت أعود إلى المنزل، أحمل أختي الصغيرة وأنتظر خروج الفتيات لألعب معهن، كن يسألنني عن عدم دخولي للمدرسة، كنت أتجرأ وأخبرهن أنه على الفتاة أن تكبر لتصبح امرأة، أن تسير العائلة، أن تخدم زوجها، لا أن تتعلم، كنت أكذب عليهن، أكذب على نفسي، وكن يضحكن علي لقولي هذا ثم يسخرن مني بقولهن: «إذن لم تستمرين في القدوم يوميا إلى المدرسة لتطردي مجددا؟ على المرأة أن تمكث بالمنزل، وأن تحمل شقيقتها.»
ويضحكن بعد قولهن، فأتراجع بمجرد سماعي لتلك الكلمات، تمتلئ عيناي حزنا، أنظر إلى السماء أشهدها على ما حدث، ثم أنظر إلى وجوههن الضاحكة، أحفظ كل جزء منها، أنظر إلى عيونهن الغريبة، ثم أخفض رأسي إلى شقيقتي الصغرى، هي تشبههن، سأحملها حتى تكبر، ستدرس بنفس المدرسة، وستبتسم مثلهن، أرتعش رعشة غريبة، أحمل أختي، وأبتعد، كنت أركض باكية إلى مدخل المنزل، أركض وأنا أحمل أختي الصغيرة، أجلس هناك وحيدة بعينين منتفختين، ثم أنكر كل شيء عند مدخل المنزل، أنكر وجودي، أنكر السماء، أنكر الحياة، ثم أكفر بكل شيء، أتمرد على الوجود، وأصدق المدرسة، أومن بالمعلمة، فأراها المخلص الوحيد، وكان ذلك ما يدفعني إلى العودة في الصباح، وعلى خلاف جميع البشر، آمنت فقط بالمعلمة، فكنت أحج إليها كل صباح لترفضني مرة أخرى، وكنت أجلس عند مدخل المنزل وأنا أحمل شقيقتي حتى ألمح أخي على بعد ما يتجه نحوي، وأحب أمر إلى قلبي هو عودة أخي محمد، أخي الكبير، كنت أبلغ يومها الحادية عشرة، وكان محمد يكبرني بسنتين، كان يجلس إلي، يأخذ مني الفتاة ويحملها عني، يمسح دموعي، ويعلمني الحساب، ويذكرني أن الإنسان لا يكبر أبدا عن التعلم، أخبرني أيضا أن المدرسة الفرنسية تافهة وأنه سيقدمها لي بوجه عربي، كان يشبه العمليات بالدجاج وعدد البيض، وإن استعصى علي الفهم، كان يتجه لإحضار ما تقدر من الأشياء ويمثل لي الحساب في صورة حقيقية، كان المعلمة التي لم أحظ بها، ولا يقطع فرحتي تلك، سوى صرخة والدي على بعد ما في حانوته الخاص، فأرمي كل شيء، أقبل أخي على جبينه الأبيض، آخذ منه الفتاة وأتجه صوب والدي، أركض بسرعة منهكة جسدي، وكأن الله ينادي علي، وليس والدي، كنت أخشاه كخشيته للموت، كان له موت يخشاه وكان هو موتي الوحيد. ولما كنت أبلغ دكانه الواسع، كان يشير إلي عند الباب فأنتظر ما طلب مني أن أنتظره من الزمن، كان رفاقه من الشيوخ يجلسون إليه في حلقة من الشاي يتسامرون حول أمور الحياة، حياة تجاوزتهم قبل زمن، ثم كان يقف في شموخ، يبتسم لأصدقائه، فيغادرون الدكان في عجل، وكان البعض منهم يهنئني، يهنئني كوني فتاة سيد الشيوخ، يمدح جمالي الخلاب، والبعض الآخر يمدح والدي كون الرب من عليه بابنة جميلة، يبتسم لهم يخبرهم أنه لا يعرف كيف يشكر الله على ما أنعم عليه سوى بالتضرع له ليلا. كان والدي ينهي لقاءه بهم بدعاء المباركة لهم، ثم يطلب مني أن أتقدم، كان ينزع حزامه الجلدي يطويه لجعله أقصر إلى النصف، ويشير إلي فأتقدم، كان جزء مني يموت في حضرة تلك العيون الرمادية التي تراقبني وأنا أتقدم، وكثيرا ما اعتقدت أنه سيكون هناك يوم أموت فيه بين يديه، لم أتصور أبدا أن الموت لا يشبه والدي، وتخيلت في كوابيس متفرقة راودتني طوال حياتي، أن سيد الموت يأخذ بيدي، يحملني إلى السماء، وكان أشبه بوالدي في كل تلك الكوابيس، كنت أشبه بسجين ينتظر ساعة إعدامه، كانت كل صرخة ينادي فيها علي، أشبه بموتة أخرى أموتها، كانت لي أرواح كثيرة، وكان في كل نداء يقتل واحدة من تلك الأرواح، لم يعبأ إن كنت مجرد فتاة صغيرة، بل كل ما كان يجيده والدي هو جعلي عبدة لديه. اقتربت منه فصرخ وهو يقول: شريفة، ضعي أختك جانبا (جمع حاجبيه وجعل كل جزء من جسده يتصلب).
كان حمل تلك الفتاة، هو المانع الوحيد في وجه والدي، كانت الدرع التي أحملها والتي تمنعه من ضربي ، سابقا قبل أن ينادي علي كنت أكره حملها، كنت أجعلها تبكي انتقاما على حملها، فأحرمها من اللعب، أقرصها في غالب الأحيان وكنت بفعلتي تلك أحاول رد اعتبار لي، اعتبار أخذ مني غصبا، لكن لحظة حمله لحزامه كنت أتمنى ألا تكبر تلك الفتاة، وأن أخلد ما تبقى من حياتي وأنا أحملها فقط لكيلا يضربني، كنت أتمسك بها بشدة وأبكي، وكانت تبكي بدورها، كانت تشعر أن حاملتها في خطر، كانت تخاف مثلي، وكأنها تشاركني شيئا من الخوف والألم، أو أنها كونت رباطا روحيا بي بعد طول حملي لها، فلا تشعر سوى بما أشعر وكنت أتمنى أن يتثاقل الزمن وأنا أضعها أرضا، وببلوغها الأرض وقبل أن يشرع والدي في توجيه حزامه إلى وجهي الفتي، كنت أقفز وأرتمي إلى رجليه أقبلهما بشدة، أبكي وتبكي الفتاة على الأرض، مناجية إياه. - أنت سيدي، يا والدي الحبيب (أبكي بشدة)، أنا أرجوك، يا سيدي، يا سيدي (أتمسك برجليه).
ما كان يعبأ بكلامي، بل كان يركلني على وجهي، يدفعني عنه بعيدا حتى يتيح لنفسه متسعا يمكنه من توجيه ضربات إلي، يفعل ذلك وهو يقول: يا لقيطة، تتأخرين (يوجه حزامه إلي بقوة)، تتأخرين وأنا أنادي عليك.
ثم يضربني مرارا بحزامه وهو يصرخ: يا لقيطة، متى ستتعلمين الإصغاء؟ (يضرب مرارا دون توقف.)
وكنت أتحرك هربا في كل مكان على تلك الأرضية، وأنا أصرخ مطالبة منه أن يرأف بي، أن يرحمني من طغيانه، أن يسامحني على خطأ لم أرتكبه، أن يسامحني لأنني ولدت ببيته، أن يسامحني لأنه يشعر أنني ثقل على كاهله، أن يسامحني لأنني لم أكبر بسرعة لأتزوج، أو لأنني لم أكبر بسرعة خارقة للعادة كي أموت، والأهم أن يسامحني لأنني لم أولد صبيا كمحمد، بيد أنني لم أتأخر يوما على ندائه، ولكنه كان يفعل ذلك فقط ليظهر لي مدى جبروته، مدى قوته، وفي غالب الأحيان كنت أعتقد أنه يعذبني تعبيرا منه عن حبه لوالدتي التي تكرهني، فيذكر حبه لها بضربي كل يوم، كان والدي رومانسيا وكان ضربي هو الرومانسية الوحيدة التي يعرفها، كان يضربني وأنا على الأرض أراقب والدتي تقف عند الباب تشجعه على ذلك، كانت تزداد حبا له عندما يفعل ذلك، ترى في ضرباته الرجولة التي لم يريها لها في أي مناسبة أخرى، وكنت أبكي، ليس لأنني أضرب، بل لأن والدي يتشاركان الحب عبر ضربي، وكأن ضربي هو الجنس الخاص بهما، كنت أبكي فرحا، وقد كانت تلك اللحظات الوحيدة التي أشعر فيها أنه لدي والدان يحبان بعضهما، على خلاف ما تبقى من الأوقات، وتذكرت أثناء تلقي تلك الضربات ما أخبرتني به والدتي، أخبرتني يوما أن محمدا كان نتاج حب تشاركته مع والدي، وأن بقية إخوتي كانوا نتاج شهوة رجل متزوج بها، ولما كنت أسألها عني، كانت تجيب وهي تدير رأسها إلى أختي الصغيرة تمشط شعرها: أنت ... أنت نتاج كره جمعنا، ولا تسأليني مرة أخرى (تمشط شعر أختي)، تحركي إلى جدتك أخبريها أنني قادمة (من دون أن تلتفت إلي)، وكنت أصرخ بينما هو يضربني: يا سيدي، يا سيدي (أقبل رجليه)، المغفرة، المغفرة يا سيدي، حتى إنني ولشدة الألم الناتج عن تلك الضربات المتتالية على ظهري كنت أظهر له المودة والحب وأنا أقول: يا والدي، يا سيدي أنا أحبك (يضرب بكل قوة)، يا سيدي الرأفة، بابا أنا أحبك، اغفر لي بابا. (أصرخ): بابا.
وكان ينتهي من ضربي ليتجه فيجلس إلى ركن ما، كان ينهكه ضربي، وهو يقول: أطعمك وألبسك، حقيرة أنت، أتفعلين بي هذا، تفعلين بي ما لا يفعله الحيوان، يا لقيطة أتعتقدين أن أحدا سيطعمك غيري، أو يهتم بك (يتنفس بصعوبة جراء التعب)، أو ... ابنة الزانية، ما كنت أجيبه بل كنت أجلس عند رجليه أقبلهما، وأنا أطلب منه الغفران، أتضرع إليه، أملا في أن يسامحني على خطئي، الخطأ الوحيد الذي ارتكبته، وهو أنني ولدت بهذه الحياة، أنني ولدت كابنة له، وكنت أنظر إليه في خوف ورهبة، وأنا متمسكة بعباءته البيضاء، كان ينظر إلي بعين حاقدة، كانت تلتهب عيناه غيظا وكان يطفئ نار ذلك الغيظ ببعض الاستغفار، ثم يقول لي وهو يرجع حزامه حول جسمه : توقفي عن تقبيل قدمي (يشير إلى مكان الكنس)، واكنسي الدكان فقد ملأه الغبار.
لم يكن يسمح لي حتى بنسيان تلك الضربات، وكنت أخشى تحسس موضعها، فيعيد ضربي، أو رؤية إن كانت تلك الأماكن من جسدي تنزف، وليس لأنني أهتم بنزيف جسدي بل كنت أخشى أن يلطخ الدم لباسي فأعود إلى المنزل فتمسكني والدتي بحزام آخر، تخرج غضب السنوات التي جمعتها بوالدي على جسمي الهزيل المليء بالكدمات. - أفسدت ثوبك (تصرخ وهي تجهز الحزام). - والدي هو من فعل ذلك (أنكمش في إحدى زوايا المنزل وأرفع يدي لأحمي رأسي)، أرجوك لا تضربيني. - يا حقيرة ما دمت أنا من ينظف ثوبك فلا يجدر بك أن تنزفي (تصرخ)، تعالي هنا يا حقيرة.
وكنت أسارع إلى كنس الدكان بأكمله، أرتب لوالدي كل شيء، بينما كان هو يكتفي باللعب مع شقيقتي الصغيرة، ربما كان ذلك هو الوقت الوحيد الذي كنت أكتشف فيه أن والدي شخص حنون، كنت أحب أن أراقبه وهو يلاعب أختي، أبتسم، أكنس الدكان بمزيد من الحب، وكنت عبر أختي أشعر بحب والدي وهو يقبلها، أشعر أنه يقبلني أنا، وكانت تلك لحظتي، كنت أشاركها الحب، مثلما كانت تشاركني حياتي وأنا أحملها، كانت حجتي الوحيدة أن والدي كان يحبني، على الأقل لما كنت بعمرها، أحببت والدي كثيرا لدرجة أنني بكيت لأسبوع يوم وفاته، بعد سنوات عديدة من آخر ضربة أخذتها، أحببت والدي، حتى أنني بقيت بالقرب من قبره أقص عليه ما يحدث معي، بينما سارع إخوتي ووالدتهم إلى تقاسم كل ما تركه. أذكر أنني طلبت منهم أن يمنحوني عباءته البيضاء التي كنت أتمسك بها في صغري حينما كان يضربني، وأذكر أنني تمسكت بذراعه وهو على فراش الموت لما كنت في الأربعين، كنت بابنة وحيدة أجهل مكانها في هذا العالم، ابنة حرمني منها هذا الوالد الذي يتوجه إلى مكان آخر، مكان ليتعلم الحب فيه، كان قد طلب من الجميع المغادرة في آخر ليلة له، أخبرهم أنه يود أن يموت بن يدي، أن نبقى وحدنا في آخر لحظاته ، لم يتأسف على ما فعل بي حينما باشر الكلام، كان قد نسي ذلك، لم ينبس ببنت شفة، وكنت أخبره أنني كنت أحبه مهما فعل، أنني أحببت طبيعته، كان يخرج الكلمات بصعوبة، صعوبة تحملي لتلك الضربات، وأخبرني أنه رضي عني طوال حياته، وأنني كنت فتاته المفضلة دوما، أخبرني أيضا أنني سأعيش سعيدة، وأكثر من قوله: اغفري لي، يابنتي، شريفة.
كان يبكي، إلا أن الموت لم يسمح له بإظهار ذلك، حتى إنه كان يقتل فيه كل شيء، لم ينس الموت سوى دموع فرت منه، ووالدي يقول وتتباطأ كلماته: «اغفري ابنتي ... اغف... (يفتح عينيه وكأن الكلمات تحاول اختراقهما) اغفري، شريفة، شري... (يصدر صوت اختناق يليه سكون رهيب وتوقف عن الكلام بمجرد ملامسة الدموع ليدي التي كانت تسند وجهه.)»
لم ألم والدي يوما على شيء، حتى والدتي التي كانت تمقتني بقدر الكره الذي يكنه والدي للفرنسيين، حتى هي توفيت بمنزلي وحيدة، كان قد تخلى عنها بقية إخوتي، إخوتي الذين حرصت هي بشدة على أن يدرسوا، فقد اعتقدت أنهم سيردون إحسانها بإحسان مضاعف، لكن المدرسة الفرنسية علمتهم كل شيء، إلا حب والدتي، ولم يكن العلم سوى حجة أخرى لينفروا منها، وتوفيت بين يدي وهي تخبرني كم كرهت والدي وأنها ما كانت تحب أن يضربني، لقد ماتت وهي تكره والدي، ماتت ميتة غريبة، ماتت وهي تغتاب والدي عند ابنته المفضلة. ما عشت بسلام في ذلك المنزل أين كبرنا جميعا، ولم أكتشف يوما معنى المحبة إلا بعد بلوغي السابعة عشرة، حينما أحبني صبي يكبرني بسنتين، وأحببته فقط لأنه كان يذكرني بأخي محمد، أخي الذي فقدناه في حصص التعذيب، بعدما أمسكه الفرنسيون بمكان ما ينقل رسائل الثوار، كان يحن إلي مثله، وقد قيل لي يوما إن الفتاة تحب شخصا يشبه والدها، لكنني لم أفعل، فقد أحببت صبيا يشبه أخي، وقد أحبني هو بدوره لشيء ما، لا زلت أجهله ليومنا هذا.
وقد كلل حبنا هذا بزواج غريب، لم أكن أطمع يوما في ذلك، لم أعتقد ولو للحظة أن هذا الحب الذي جمعني بزوجي سيقضي على تلك المحاقد، وفجأة تحول والدي إلى محب، واهتمت والدتي بشئوني، كنت أول ابنة لها تتزوج، ولأول مرة منذ سبع عشرة سنة مضت، اهتم الجميع بي، كانت تزورني مرة في أسبوع، تحمل إلي ما تنوع من الطيبات، وكان والدي يحن على زوجي فيجلسه بقربه، ويحدثه في أمور القرية، لم يكن زوجي حبيبي من عائلة ثرية وما كان نسبه ليطغى على نسبي، لقد كان مجرد عامل، وقد أحبه والدي لذلك، كان يقفز هنا وهناك ليحمل لي سعادة يصنعها بيديه، كان يضحكني على الدوام، حتى حينما أراه في أحلامي، وكنت أسأله دوما لم تحبني، كان يخجل من سؤالي، يخفض رأسه، ويقول لي بأنه لا يعرف الإجابة عن السؤال، كان يكذب، وكنت أعلم أنه كان يخشى أن تكون إجابته غير مقنعة أو أن تكون حجته ضعيفة، أن يخبرني بأنه يحب عيوني البنية، فأرفض حبه، أو أن يخبرني أنه يحب لون شعري الأسود، فأنكر مودته تلك، كان يخشى أن يكون ما يقوله غير كاف لي، لكنه كان يجهل أنني كنت سأكتفي لو هو قال أنه يحبني فقط، وقد أمضيت إلى جانبه أجمل أيام حياتي، ولأول مرة بدا أن الأمور ستسري على ما يرام، كان الجنة التي أخرج منها آدم، جنتي الخاصة، جنة لا تبالي بأحد سواي، وكان لما يعود إلى بيتنا المتواضع يحكي لي عن أصدقائه من اختاروا حياة السلاح، كنت أخبره أنني سأنتظره إن هو ذهب يوما واختار تلك الحياة، وأنني لن أكون عائقا إن هو أراد المجد في يوم من الأيام، أنه سيكون بطلي مهما حدث. كنت أعلم كيفية تفكير الرجال، ورجال العرب يتمسكون بشهامتهم دوما، ومهما عاشوا، فإنهم لا يرضون سوى بالمجد، كان أهم ما يهم رجال قريتنا، كباقي القرى العربية، هو تشريف أسماء العائلات التي ينحدرون منها، لكن زوجي الحبيب كان يرفض ذلك، كان يرفض كل شيء، كان يقترب مني، يتنفس في وجهي بحب، وكنت استنشق زفيره في حب، يضع يده على بطني المنتفخ ويقول لي في هدوء: هم يحاربون من أجل وطنهم، ولن أحارب أحدا ما دام لم يسلبك مني، أنت الوطن الوحيد الذي أهتم له.
وما كان بمقدوري أن أساير كلماته، كنت فقط أعانقه وأنا أقول باكية: أخشى أن تتركني في يوم من الأيام.
كان بدوره يشاركني ببعض من الدموع، ينخفض ليقبل بطني، الحاجز الوحيد بيني وبين طفلته، وهو يقول: لن أتركك حتى في أحلامي.
وفي إحدى الأيام وبينما أنا جالسة قرب موقد النار الطيني، أتحدث في هدوء إلى الطفلة بأحشائي وأنا أمشط شعري، دخل زوجي الحبيب، اقترب مني، جلس وتحسس وجهي وكأنه سيفعل ذلك للمرة الأخيرة، قبلني بشدة وكأنه لم يقبلني قط، تحدث إلى بطني كالعادة، كان سعيدا بطريقة مخيفة، أخرج كيسا من النقود وقدمه لي، وهو يمسك بيدي بشدة وقال: حياتي، لقد وجدت عملا، إنه عرض جيد لي، سيكفيك هذا كل الشتاء، وحينما أعود سنغادر هذه القرية إلى الأبد، سأعمل بالمدينة لقد وعدوني بمال كثير، سأفتح دكاني الخاص هناك، وسننسى هذه القرية المشئومة، وإلى الأبد.
تملكتني لحظتها رهبة قوية، حتى إن طفلتي حركت قدمها بأحشائي لسماعنا كلمات والدها وقلت: لا تذهب، أرجوك، لا تتركني، لا أعرف ما سيحل بي هنا، سيأكلونني حية، ماذا عن ابنتك؟
لكنه كان مقنعا جدا، أقنعني بأهدافه، أخبرني أنه على ابنتنا أن تتعلم، وأن العمل الذي سيقوم به سيتكفل بضمان مستقبل الصغيرة، ثم وعدني بأنه سيعود. تقدم مرة أخرى وقبلني بشدة، تمنيت لو أنه لا يترك شفتي، التصقت به، ضحك وقال: سأعود، أنا أعدك حياتي. سأعود، أحبك. - لا تذهب (أمسكته مرة أخرى إلي). - أحبك (قبلني قبلته الأخيرة)، سأعود.
واشتقت إليه قبل أن يغادر حتى، أحسست بوجع يمزقني، ترك شفتي وغادر المنزل، أخبرني حدسي أن مغادرته للمنزل لعنة علي وعلى ابنتي، لعنة سترافقني مدى الحياة، أنه ما كان يجب أن أسمح له أن يغادر، أنه ما كان يجب أن أثق، أو أن أنتظر عودته، لأنه فقط زوجي الحبيب، هو لم يكن القدر، كان مجرد عامل يجوب الأرض بحثا عن وردة يقدمها لي ليلا، كان حدسي في محله، مر الشتاء وولدت ابنتي الحبيبة، لم يعد والدها قط. اختفى من الوجود، حتى إن رائحة ثيابه اختفت، لطول ما أبقيتها إلى جانبي، أحضنها كل ليلة، أشتم ما تبقى فيها من الذكريات، وساءت أموري مجددا بعد تلك الأيام، فقد تقدم والدي بخطبتي إلى أحد الشبان من القرية، وقد اشترط الشاب وكان ابن شيخ من شيوخ القرية، اشترط ألا تعيش ابنتي معي، ووالدي ما كان ليهتم بشيء من ذلك، لم تهمه حفيدته، فقد كان يذكرني مرارا بقوله: تلك ليست بابنتك، تلك ابنة الشيطان، ولا يجوز لك الاحتفاظ بها، الشيطان الذي ذهب وتركك.
ثم أخذها مني، لم يحتفظ بها بل أخفاها في مكان ما في هذا العالم وهكذا، كان القدر قد سلبني حتى بصمة زوجي علي، لم يترك لي شيئا سوى الزمن لأنساه، وما نسيته، نسيت كل شيء، نسيت الليالي التي كان يلامسني فيها زوجي الثاني دون أن أتفاعل معه، كنت أقدم له جسدي وأطير بروحي بعيدا بحثا عن حبيبي، نسيت أنه توفي في إحدى المعارك، ونسيت أن والدي زوجني مرة أخرى بشيخ يكبرني بأربعين سنة، وقد نسيت وفاة ذلك الشيخ بسكتة قلبية وهو يجامعني في فراش بيته الغريب، نسيت أنني تزوجت للمرة الرابعة من رجل آخر أحبني بشدة، زوج ذكرني بعد سنوات بزوجي الأول، ومع مرور الوقت أحببته ونسيت كيف أحبه حتى، لكنني أحببته، بلون آخر من الحب، ربما أشفقت عليه، كانت حياتي مجرد نحس، تابعتني تلك اللعنة ما تبقى من حياتي، ولم يبق إلى جانبي رجل قط، تزوجت أربع مرات وأتممت حياتي وحيدة، حتى ذلك الزوج الرابع الذي أحبني كان قدره الذهاب، فيوم ضربني فيه، أقسم والدي ألا يبقى هذا الزوج إلى جانبي، التف حوله رجال القرية وأخبروه أنه لا يجب أن يطلقنا، فقط لأن زوجي ضربني، حتى إن بعضهم انخفض ليقبل قدميه فقط ليتراجع عن قراره، أخبروه أنه من العادي أن يضرب الرجل زوجته، حتى إن أحد الشبان قال: يا شيخنا ألم تضرب امرأتك قط؟ (استهجن الشيوخ تدخل الشاب) كان والدي قد أسقط أسنان ذلك الشاب، وأقسم قسما جعل كل الرجال يتراجعون عن المطالبة بإيقاف قراره وقال: إن لم يطلقها، فإنني سأسجد لله غربا (وأشار بعصاه إلى الغرب). وتنازل الرجال والشيوخ عن المطالبة، وأخبروه أنهم لن يسمحوا بشيء يجعل شيخ القرية يكفر وقالوا: الفتاة ستكبر وستتزوج مجددا (تعالت الأصوات موافقة على القول)، وابننا سيتعلم كيف يعامل النساء وسيتزوج أو يتجه إلى الجبال لحمل السلاح، لكن الأجدر أن يحافظ شيخ القرية على إسلامه.
كانت تلك لعنة زوجي الأول، لعنة حبيبي، وقد رأى والدي أنني بلغت سنا لم يعد فيها تزويجي من رجل آخر يهم، وقد سمعت والدتي تخبره: لا تزوجها، تلك الفتاة لعنة، وكلما اقترب منها رجل يختفي أو يموت، ولا أرى رجلا يود مشاركتها شيئا، إنها لعنة، دعها تساعدك في أمور الدكان، دعها تخدمك، أنت قد كبرت على هذه الأمور، ومحمد أخذته شهامتك وعزتك فمات بعيدا عنك، لقد كان ذلك قدرها من البداية. وأمضيت ما تبقى من الأيام أبكي وحيدة في بيتي البسيط، أبكي زوجي الحبيب، كان قد مضى على زواجي الأول خمس عشرة سنة، تمكنت فيها من قتل تلك الفتاة، تمكنت من قتل تلك الأنثى بداخلي ونسيت ... نسيت الحياة.
القسم الرابع
أغلقت تلك المدونة والتفتت إلى ابنتي، كانت نائمة، لقد تعلمت ابنتي عن تلك العربية لغتها، وتعلمت لونا من ألوان الشقاء، عرفت أيضا معنى أن يكون الإنسان سعيدا، كانت أحكم مني في أمور البشر وكنت أحكم منها في أمور ما فوق ذلك، هي فهمت ألعاب القدر الغريبة، لكنها لم تكره القدر، ولسبب ما، لم تكره الوجود. كان يجب أن أنقذ تلك العجوز العربية، لكنني الآن علمت أنني أنقذتها بعدم إنقاذها، فهي كانت تفضل الموت على إمضاء دقيقة أخرى على هذا الكوكب، ما كان بإمكاني إتمام تلك القصة، وتساءلت مرارا كيف لها أن تقبل بكل ذلك؟ كيف لها أن ترضى أن تعيش تلك الحياة؟ والأهم، كيف لها ألا تتمرد على تلك السلطة العليا؟ ثم تذكرت شيئا، أنا أهتم الآن، وبعد أن قرأت قصتها، قبل مدة، حينما كنت أجلس إلى جانب المشرد، لم يكن يهمني أمرها، كنت أود إنقاذها فقط، كانت وسيلة لإغاظة القدر فقط، أن أظهر له أنني قادر على إيقاف ألعابه، لم تهمني كإنسان، على خلاف ابنتي التي اهتمت لها، وها هي كتبت قصتها كلها، كنت أجهل هذه القصة، مثلما أجهل قصص كل هؤلاء الركاب، ومن المؤكد أن بعضا منهم هنا يحاربون من أجل شيء ما، مثلما أفعل أنا، أو أنهم يعانون من شيء ما مثلما عانت تلك العربية، وترسب بعقلي فكر جديد: «إن جهلنا لحقائق الأمور لهو حجة عظيمة لتلك الهيئة العليا في استعبادنا، وما كان يجب أن نتمرد لأننا نجهل الكثير، جهلنا للبشر هو ما جعلنا عبادا لما فوق البشر.»
توقف الباص ونزلت رفقة ابنتي لنتوجه إلى المنزل، كان أقرب بكثير، فما علينا سوى السير خمسة عشر مترا مرورا بالمقهى الذي جلست به صباحا، ركضت ابنتي إلى المنزل، لم تكن تود أن تحدثني أو أن تسير إلى جانبي، أو ربما هي فكرت أنها يجب أن تلج غرفتها وتغلق على نفسها، وتدعي أنها نائمة، حتى لا أزعجها، وهكذا تنقذ نفسها من مجالستي لها ومن الإزعاج الذي أحيطها به. تقدمت في خطوات وأنا أراقب تلك المدونة الزرقاء، والتفت بعد ذلك ومن دون وعي إلى المقهى، كان فارغا هذا المساء إلا من ذلك المشرد، الذي يجلس هناك وحيدا، يراقب تلك الكأس الفارغة، كان يستند إلى الكرسي وعلى الأرجح هو دفع مالا ليجلس هناك كل هذه المدة. بعد تفكير وددت أن أتقدم نحوه، كان شيء ما يدفعني إليه، وتذكرت لحظتها زوجتي، تذكرتها للمرة الثانية، تذكرت تلك الرسالة التي طلبت فيها المال مني، وقد خطتها لي بكلمات غريبة عنها، أحسست عبر كلماتها أنها أوقدت تلك النار مجددا؛ النار التي انطفأت بداخلها لما تزوجنا، لقد عادت إليها تلك الفتاة التي أحببتها، لم أكن أعلم أن محرك الطائرة سيعيد حياتها، أنه سيحرك الفتاة بداخلها، أنه سيشعل النار الجليلة، وقد ذكرت في رسالتها أن المال الذي طلبته مني، سيغيرني كثيرا، على الأقل في يوم من الأيام، أنه سيجعلني أكتشف الذات بداخلي، لقد كتبت لي أيضا أن بداخلي قدر يجب أن أحاربه، وأن أتخلى عن محاربة قدر الناس، أن بي رجلا لا يمكن لأحد أن يحركه، أن القدر الذي أعرفه لا يغير الرجل الذي يستقر ثابتا بداخلي، ليس لأنه لا يقدر على ذلك، بل لأنه يود أن أفعل بنفسي ذلك، أن أختار ذلك التغيير، القدر يغير البشر الذين يؤمنون به، أنا لا أومن، لذا لن يهتم لي، هو يفضل من يتقرب إليه، أما أنا فمجرد حجرة أخرى بوادي الملوك، أو فراشة على جذع شجرة بغابة في أستراليا، فكيف له أن يهتم ببشري لديه بداخله رجل لا يمكن تحريكه؟ وفكرت بكلامها لوهلة. «هل حقا سأقتل يوما ما الرجل الذي بداخلي؟ هل سأقتل ما أحب؟ هل سأتغير؟»
كل شيء مقدر له التغير، كل شيء فان على هذا الوجود، كل شيء عبد للزوال، هل سأتغير إن أنا أقرضتها المال، كان ذلك قبل شهر من الآن، ربما هي قامت ببناء مدرسة في النيبال، أو رممت ديرا قديما في كوالالمبور، ولم أجد الرابط المقدس بين الدير في كوالالمبور والتغير الذي سيطرأ على حياتي، مع أن السبب الوحيد الذي يجعلني أهتم لهذا التغير هو الفضول الذي يدفعني للتساؤل، إذا تغيرت فماذا سأصبح؟ إلى أي مدى يمكنني أن أتغير؟ وهل سأقبل بكل تلك النتائج؛ كل تلك المخاطر؟ هل سأرضى إن أنا أصبحت شخصا آخر، شخصا يهتم، أو هل سيرضيني إن أنا صرت القدر نفسه؟ وكان التفكير في ذلك مرعبا. تملكتني وقتها رعشة وأنا أقرأ تلك الرسالة، وأعتقد أن تلك الرعشة هي ما دفعتني لأرسل المال لزوجتي، المال الذي جمعته طيلة حياتي، مدخراتنا كلها؛ لأنه وببساطة كان يجب أن أراهن، أن أخاطر بكل شيء، إما أن أصير مجرد فرد آخر في قطيع هذه الحياة، أو أن أتحول إلى القدر نفسه، القدر الخاص بي، قدري أنا ، فبداخلي رجل لا يمكن تحريكه من طرف أي قدر كان.
اقتربت من المشرد وجلست إلى جانبه، لم يرفض ذلك، بل ابتسم لي، وأخرج مجددا تلك النقود التي رفضتها صباحا، حاول أن يقنعني بأخذها، ما كان بإمكاني أن أفهمه ما أقول وما كان بإمكاني أن أفهم كلامه العربي، وأشرت إلى النادل العربي وطلبت منه أن يجلس إلى جانبنا، وضعت المدونة الزرقاء وطلبت من النادل: أخبره أنني لست بحاجة إلى المال، أنا فقط أود أن أجلس إلى جانبه.
وتكلم النادل بلسانه العربي بما قلت، أرجع المشرد ماله وابتسم لي، ثم تحدث إلى النادل، لم أكن أفهم ما يقول، لكن النادل قام بترجمة حديثه وقال لي: هل تود أن أقدم لك شيئا؟ - لا شكرا، أخبرني فقط بما قاله لك الآن.
ابتسم النادل وقال لي: أخبرني أنه سيدفع لي مبلغا محترما إن أنا قمت بخدمتك هذا المساء، أثناء بقائك هنا. - أنا أود أن أتحدث إليه، وسأحتاج إلى مترجم.
وقف النادل مكانه وقال: حسنا، انتظرني رجاء، سأنتهي من بعض الأمور وأعود، لن تأخذ مني سوى دقائق.
ثم نادى على صبي اسمه عمر وحدثه بالعربية قليلا ثم دخل إلى المقهى، بينما جلست أنا إلى المشرد أراقبه ويراقبني، وكان في كل مرة يهز رأسه مبتسما وكأنه في كل لحظة يرحب بجلوسي إلى جانبه. لم أكن أعرف لم أنا أجلس إلى هذا الغريب، فهو لم يطلب ذلك، ولو كان بمقدوره التساؤل لسألني عن السبب الذي دفع بفرنسي من الطبقة الراقية أن يجلس إلى جانبه، لكنه لم يفعل بل جلس يبتسم لي، وكأن كل تلك الفوارق انضمرت أمام الانتماء الوحيد الذي يشملنا جميعا؛ الإنسانية.
بعد مدة تقدم النادل وهو يحمل صينية الشاي، رتب الأمور على الطاولة، ثم جلس إلى جانبنا، قدم لنا الشاي، ثم عرض علي سيجارة، أخبرته أنني طبيب وأن هذه ستقتله عما قريب، ضحك وهو يشعل سيجارته وقال لي إن الرب هو الذي يحيي ويميت البشر، وليس سيجارة صغيرة، لم أعبأ بفلسفته تلك بل قلت له: اسأله إن كان مريضا، وأخبره أنني أملك عيادة بالقرب من هنا.
اقترب النادل برأسه إلى المشرد وأخبره بما قلت، ثم أشار إلي، لم أفهم ما قاله له لكنني رأيت المشرد العربي يرفض مبتسما، أشار بيده معبرا عن امتنانه، قال النادل لي: إنه ليس مريضا، ولكنه بحاجة إلى المساعدة، إن أردت ذلك، وهو يعرض عليك المال لقاء ذلك.
نظرت في عيني المشرد جيدا، وأخبرت النادل أنني أصغي لكلامه، وربما إن استطعت فإنني سأساعده من دون مقابل. كان النادل قد ترجم كلامي، وشرع يروي لي ما يقصه المشرد.
قبل زمن من الآن أو في حياة سابقة ... كنت سيدا على نفسي، وكنت أملك حياتي هذه، فأنا لم أولد يوما كعبد لأحد، كان في ما مضى، وبأحد الأماكن منزل طوبي لي، كان لي عائلة به، عائلة لم أهتم لها، كان لي اسم أيضا، محمد العلاوي، اسم رجل حر، اسم لم يكن له شأن وسط العرب، لكن على الأقل كان العرب ينظرون إلي كرجل شريف، والرجل الشريف عندنا هو رجل حر، يملك قراره وله كلمة اختياره، وقد كنت أشتغل بكل شيء، فقد من علي الرب بقوة أحسد عليها من قبل أقوى الرجال، فلم يخني جسدي في أي عمل، عملت حمالا، وتجولت في رحلات وكانت تلك مهنة والدي، أخذتها عنه وعملت راعيا أيضا، وقد افتخر سكان العرب بصنيع يدي، وقد اشتهرت صفة الرجولة والمروءة التي أمتلكها بين كل أسياد العرب، وقد تسابقوا للظفر بخدماتي، حتى إن بعض الفرنسيين لجئوا إلي في أيامهم الصعاب، وقد كنت أعلم منذ صغري بخبايا الأراضي كلها، وقد جلت الصحاري مع والدي، كان حمالا بدوره، وقد أمضيت طفولتي إلى جانبه، نتجه إلى الصحراء في رحلات، لم يكن لنا بيت نرتبط به، بل ولم يكن يجب أن يكون لنا واحد، فقد أخبرني والدي أن المنزل من دون ربته ليس بمنزل، علمت منذ طفولتي أن والدتي توفيت أثناء إنجابي، وأن والدي حزن عليها حزنا جعله ينسى المنزل الذي جمعهما يوما. ولما كنت أسأله عن المنزل الذي عاشا به سابقا، كان يقول: بني، حبيبي، إن منزلنا رفع إلى السماء مع والدتك، هي هناك تنتظرنا به.
وكان يشير بيده إلى أحد النجوم القريبة، كان يخبرني أيضا أننا سنشيخ بعد دهر ونلتحق بها في الجنة أين والدتي والمنزل، وقد طلب مني أن أنسى منازل الدنيا كلها وأن أتنقل رفقته، أن نشيخ معا في رحلاته، أن نحمل الأشياء إلى كل الأراضي، إلى كل المنازل التي لن نعيش بها، أن نساعد الآخرين على الحفاظ على تلك المنازل، أن نحمل الأدوية إليها لحماية ربات المنازل، لكيلا يرفعن رفقة المنازل إلى السماء، وبلغت أشدي وأنا أتنقل إلى جانبه ومضى على ذلك زمن، إلى أن شاءت الأقدار أن يتوفى والدي بإحدى الرحلات، بعد أن سرنا 340 ميلا احتضر بين يدي وهو يقول: إنها أفضل رحلة من بين كل الرحلات.
كنت أبكي عند وجهه أقبل جبينه وأنا أقول: أنت تكذب، كيف تكون أفضل رحلة وأنت لا تستطيع أن تتمها. - بني أنا لا أتحدث عن هذه الرحلة.
أدار وجهي بيده الضعيفة إلى السماء، وجعلني أنظر إلى النجم القريب وقال: أتحدث عن رحلتي إلى هناك، إنها أفضل رحلة. - توقف، أرجوك، أبي. - ششش، كن قويا بني، سأنتظرك ووالدتك بالمنزل.
ضحك والموت يأخذ منه الأنفاس الأخيرة وقبل أن تنطفئ شمعة روحه قال: سنجهز لك غرفتك، ثم سنراقبك تكبر هناك، بيننا.
لم أنس كلماته يوما، وقد دفنته دفنا يليق به، وجلت بعدها البلاد بحثا عن والد آخر، فكل ما تعلمته في هذه الحياة كان من والد لي، وقد رافقت أحد الفرنسيين إلى إحدى القرى التي يعرفها، كان يعرف والدي معرفة جيدة، وقد ارتحل معنا في كثير من المرات، إلى أن توفي والدي في إحدى تلك المرات، كان قد رأى أن شابا مثلي سيختفي وسط فساد العالم الذي أوجده البشر، لذا توجب عليه - حسب ما رآه من المنطق - أن ينقذني، كانت له فلسفة مخالفة عما عرفته يوما من والدي، بيد أنه اشترك ووالدي في شيء واحد، كان كلاهما يحسن معاملتي، وكأنني أهم بكثير من كوني مجرد حمال أو رحالة، كنت أشبه بنبي يقوم الآخرون بحمايته. واختار الفرنسي أن أخذ نبيه إلى القرية ليساعده في تسيير أموره الخاصة هو أفضل طريق لحمايته، وفي تلك القرية، وهناك فقط، هناك فقط تغير كل شيء، وبذلت من جهدي ضعف ما أقدر، كان يجب أن أظهر للرجل الفرنسي أنه لم يخطئ حينما آمن بنجاتي من هذا العالم، وفي كل مرة كنت أسترجع ما قدمه لي والدي من دروس وعبر، علمني أن أعيش بين الفرنسيين وبين العرب، كان قد جهزني لما هو قادم، كان يعلم أنه سيرفع إلى منزلنا في السماء في يوم ما، وما أراد أن يصعد إليه شارد العقل، كان يجب أن يضمن ضمانا تاما أنني سأكون من بعده الرجل الذي لطالما تخيله، وفعلت ذلك بتذكر ما علمني إياه، تذكرت كل ما علمه لي والدي، وأهم ما علمني والدي هو الحب، أحبني لدرجة جعلتني أحب الحياة بكل أشكالها، ولما كان لاسمي من صفة الرجولة نصيب، زوجني أحد الرجال بابنة له بوساطة من السيد الفرنسي، وعشت إلى جانبها ما تقدر لنا أن نعيشه، وقد أحببتها مثلما علمني والدي، مثلما أحبني، فذلك هو شكل الحب الوحيد الذي عرفته يوما، فرعيتها مثلما رعاني والدي، كنت والدا لها، وزوجا أيضا، وقد عاهدتها أن أعيش الحياة من أجلها، وأنه لا شيء في الحياة يبقيني حيا، غيرها وحدها، فمنزلي ووالداي في السماء، وأنني أنشد الحياة إلى جانبهما، وأن الشيء الوحيد الذي يدفعني إلى التشبث بهذه الحياة إلى جانبها، هو القلب الذي هيأه والدي، قلب ليحبها وحدها، مثلما كان لوالدي قلب هيأه ليحب والدتي وحدها، وقد أخبرتها أن والدي أقام قلبا ليحب فتاة واحدة، وأن هذه الفتاة هي زوجتي، قلب لا يصلح إلا لها، وكأن والدي قد التقى بها في حياة أخرى عاشها الجميع، وخاطني بقلب يليق بها، بقلب لا يتسع إلا لها، وقد آمنت في تلك القرية بشيء واحد، آمنت بها، كنت قد كفرت بكل شيء، يستيقظ الجميع كل يوم ليعيشوا ما قدر لهم من الحياة، وأستيقظ كل يوم فقط لرؤيتها، أخبرتها أنه سيملك الرب قدري في هذه الأيام وسيملك روحي بعد هذه الأيام، ستأخذ الأرض نصيبها مني لأنها تملك جسدي، سيتسارع الزمن باندثاري بعد أن تأخذني الأرض، سيملك الزمن وقتي، لكنه لا أحد، لا شيء، ولا حتى أنا نفسي كنت لأملك الوجود الذي عرفته يوما، أخبرني والدي يوما أن الإنسان الذي لا يتدبر الوجود لن يكون موجودا، لكنني فكرت مرة أخرى، هل يمكن أن يخطئ والدي؟ استيقظت كل صباح لأتأكد من ذلك، أجلس قبالتها أراقبها أتأملها لمدة طويلة، عادة ما كانت تستيقظ وأنا على تلك الحال، لم يتغير شيء، إنها سبب وجودي، ووحدها فقط ستملك سبب وجودي. أخطأ والدي مرة واحدة، حينما نسي أن يخبرني أنه لم يكن لوجودي معنى من دونها، وأنه لا يجب أن أتدبر في شيء آخر، سوى مراقبتها. زوجتي أحبتني بدورها، كانت تقدس كياني في أبسط صوره، كانت تحب رائحتي، كانت تعشق اللعب بشعري الأشعث، وكنا قد عشنا معا في سلام، وكان ذلك الزمن ليكون النهاية الجميلة لقصتنا، كان ليقول الناس، وعاشا سعداء ما تبقى من عمرهما، لكن لم يحدث شيء من ذلك، فالقدر لم يعجبه قصر القصة وبساطتها، كان له قراء يفضلون القصص المعقدة وأراد أن يتفنن بقصتنا، أن يجعلنا لوحته الأكثر تعقيدا.
وقد كان لي في يوم من الأيام أن التقيت بأحد الفرنسيين الذي كان قد رافق الرجل الذي ساعدني في مرة من المرات التي ارتحلا فيها، فطلب مني أن أرافقه بإحدى رحلاته إلى الجنوب الشرقي، كنت قد رفضت ذلك العرض منه، لكنه رفع السعر ليلامس أحلامي، ثم إنني لم أود أن أخيب ظن السيد الفرنسي الذي ساعدني، فقد كان مشتركا في الرحلة بدوره، وقد أغراني رفيقه بجائزة لم أكن لأنال مثلها في أي رحلة أخرى، وقد خرجنا بعد ليلتين في قافلة محملين بما اختار السيد الفرنسي أن نحمله إلى الجنوب، كنت قد تركت عائلتي، وارتحلنا جنوبا إلى أقصى ما يمكن أن نبلغه، وقد تغيرت أشكال الحياة حولنا واختفت خضرة الأرض واصفرت السماء، كان أقصى حد وقعت عليه قدماي، وازدادت الأرض سخونة حتى إن بعض الحمالين ادعوا أننا نتجه إلى الجحيم، كان رجال منهم يتحدثون عن لعنة التوجه إلى الجحيم، وكيف أن الرب وضع بابا للجحيم على الأرض، وأنه يلعن من يقترب منه، وبلغنا مرحلة لم تكن العودة فيها ممكنة لأي شخص يقرر الاستسلام، لأي شخص يحاول العودة بمفرده، وقد قدر لهذه القافلة أن تعود إن هي أرادت، فقط إن كانت كاملة دون أن تفقد أي فرد، ولو كان بإمكان أي شخص أن يبلغ ما بلغنا، فإنه كان سيموت لو هو حاول النظر إلى الخلف. لقد كانت طريق عودتنا هي استمرارنا نحو التقدم جنوبا. كنت أعلم أن الجو سيبرد مجددا، على خلاف العديد من الرجال الذين اعتقدوا أن ما ينتظرنا جنوبا هو باب الجحيم في الأرض، أما أنا فعلمت أننا سنتوغل إلى الحر، سيموت كثير منا، أو ربما لن نصل أبدا، لكنه يوجد بمكان ما بالجنوب شيء يشبه الشمال، وقد سرنا لأشهر ندفع تلك الإبل إلى الغوص بأعماق القارة، وكنا نلتف بالتفاف الصحراء، حتى إننا كنا نتجه غربا لأيام بحثا عن مياه للإبل، أو نستقر في انتظار القوافل المحلية، عادة كانت تلك التي تتجه شرقا أو غربا، لم يكن أحد يجرؤ على التوجه إلى الجنوب، ننتظر قافلة تدلنا على الماء، أو تزودنا به إن أمكن، مقابل بعض من حمولتنا، لم تكن مسيرتنا رحلة تجارية كما اعتقدت سابقا، كانت رحلة عقائدية، أشبه برحلة روحانية. كان السيد يؤمن بشيء ما، أنه يوجد شيء ما بالجنوب غير الحر والرمال، غير باب الجحيم الخرافي، غير المكان البارد الذي أعتقد أنه ما بعد هذا الاتساع الحار. كان يعتقد أنه يوجد شيء ما، شيء يستحق العناء، عناء الرحلة، عناء لعنة باب الجحيم، يستحق التوجه جنوبا من أجله، وكان بالقافلة بعض الفرنسيين من الجنود، وذلك السيد الفرنسي ورفقاؤه من النبلاء، وكان البقية من العرب. كنت أصغر الجميع سنا، كنت صبيا مقارنة بالبقية، بجسم ضخم وإرادة صلبة، ثم مرت علينا الأيام مرورا لم نلحظه، وكنا نتقدم في الصحراء، كأننا لم نفعل قط، وفي كل خطوة نخطوها أو نتقدمها كانت تظهر الصحراء متنامية الأطراف، كانت كل خطوة تبدو وكأنها الخطوة الأولى، لم نكن نشعر أننا نغوص نحو مكان ما، وكأن الصحراء تتمدد بتطاول خطواتنا، فلا تنتهي حتى نكاد نيأس نهايتها، أذكر أننا كنا نتوقف ببعض القرى فلا نشبع فيها من الأيام البشرية حتى نعود مجددا إلى ما كنا فيه، بل نغادرها بسرعة إلى الجنوب مجددا، لم يخبرنا السيد الفرنسي لم نقوم بالرحلة، بل كان يسجل على دفاتره كل شيء، كان يحسب كل شيء وكأنه يعلم كل شيء، وفي غالب الأحيان كان يجلس إلى جانبي، نتحدث ليلا، بينما يحرس الحارسان القافلة حول نار يقيمانها، كان يسألني عن حياتي، كانت تجمعنا علاقة تمردت على سنوات العداء التي جمعت العرب بالفرنسيين، لم أكن أهتم للون عينيه أو لشعره الأشقر أو حتى للكنته الأجنبية، كان يتحدث لغتي، بل يجيدها تماما، ولم يكن يعبأ بعروبتي، كنا أخوين وكان صديقي بل صاحبي، صاحب لم يكن لي في حياتي من قبل.
وكان لنا في ليلة من الليالي، أن جلسنا حول نار الحراسة، نحرس القافلة، وقد طلب السيد من الحارسين أن يناما ويأخذا قسطا من الراحة، مع أنه كان يجب على الجنديين أن يحرسا القافلة ليلا، لكننا رأينا أننا لن ننام الليلة، وجلست أحاوره ويحاورني. تكلمنا حتى رأيت نارا على بعد منا، أشبه بنقط متجمعة، أشبه بنار مخيم أو أشبه بقافلة تستريح في مكان ما في تلك الصحراء، كان يجب أن أخبر السيد عنها، لكنني لم أفعل فقد اختفت بسرعة، حتى كدت أجزم أنها ما كانت موجودة، ثم إنني اعتقدت أنه قد لا يهمه الأمر، بدت أشبه بسراب ما، أو تخيلات تراودني، تكلمنا كثيرا واستهلكنا جراء كلامنا كثيرا من الشاي، شاي منحنا شعورا باليقظة فازدادت أحاديثنا حلاوة، وكان يقول لي: لم يتوجب علينا القدوم إلى هنا؟ (قدم لي كأس الشاي.) - هل تقصد أنه ما توجب أن نقوم بهذه الرحلة؟ (أنظر إليه في تساؤل.)
كان يبتسم ويقول لي: لا، أنا لا أقصد الرحلة (يتردد بخجل) لكن، ما كان على حكومتنا أن تقوم بالحملة العسكرية.
أخبرته أن الأمر لا يهم، سواء حدث أم لا، وقلت: إنها طبيعة البشر، وحتى إن لم يأت الفرنسيون لفعل ذلك، لقام به آخرون، أو لتسيد علينا سادتنا من العرب، أو ربما كنا سنفعل بكم مثل هذا! إن استعمار الشعوب للشعوب لفطرة إنسانية، ولا أحد مستثنى منها، فإما أن تكون تابعا أو متبوعا؛ لذا أنا لا ألومكم، على الأقل أنا لا ألومك أنت.
ثم سألني قائلا: لم لم يساعدكم إله العرب، أقصد إلهك، أنت متدين، صحيح؟
ضحكت وقلت: أجل، مسلم.
وأضفت قائلا: وهل تعتقد أن إله الفرنسيين قد بارك هذه الحملة العسكرية.
ضحك وقال: لا، لا أعتقد أن الرب يرضى بقتل الأبرياء، قتلهم لأنهم لا يجيدون الفرنسية.
ضحك كلانا وأضفت: وما الله بأقل حكمة، لكنه يرى أنه لا يغير بنا شيء لا نود تغييره، إنه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، إن الله عادل، ولن يدعم جانبا من البشر خلقهم مقابل بشر خلقهم أيضا، لاختلاف ألوانهم، أو كونهم عربا أم عجما، الله يدعم عباده الصالحين من البشر، ثم توقفت، كان السيد يكتب ما أقول. - ماذا تكتب؟ - ما يفعله إله العرب.
ابتسمت وقلت: أعتقد أنه منحنا حق الاختيار، وما آلت إليه الأمور هو خيارنا، لا خياره.
ثم أضفت: خياره الجنة، وليس هذا.
وحملت بعضا من الرمال وتركتها تنسال بين أصابعي لتعود إلى مكانها، أصابعي التي باعدت بينها.
ثم سألته: لم تقوم بهذه الرحلة؟ أقصد إلى أين نتجه؟ - أنت تعلم أن خلف كل رحلة أسطورة (ينظر إلى السماء)، لنقل إنني أومن بواحدة. - حسنا، على الأقل أنت تسير خلف إيمانك.
واستمر حديثنا إلى أن غفونا، في تلك الليلة المظلمة هاجمنا جمع من الرجال العرب، كانوا ضعفنا، رجال مسلحون بالكراهية والعداء، ضعف تسلحهم بالسيوف والبنادق. قتلوا العديد من الرجال ولم يستثنوا العرب من الفرنسيين. كنت قد ساعدت السيد الفرنسي على الفرار. أطلقوا النار عليه مرارا، لكنهم لم يسقطوه من على ظهر الناقة، كنت قد ساعدته على ركوبها وأنا أقول: أنا أعرف أنك تؤمن أن إلهك سيساعدك، لكنني سأدعو الله أن يحفظك. لم تكن هذه معاركنا يوما، وما كنا لنكون أعداء أبدا، ثم وخزت الناقة فتحركت مبتعدة إلى المجهول، لم يعبأ به المرتزقة، فقد كان همهم الأول الحصول على حمولتنا من الحوائج والبشر، وأمسكوا بنا يجروننا إلى أماكن نجهلها، ثم باعني بشر يتكلمون لغتي، يؤمنون بإله أنا أومن به، إلى مجموعة من الثوار في سوق إحدى القرى، واستعبدني شيخ كان اسمه مبارك، كان قائد جماعة من المقاومة أو هذا ما اعتقدت في بادئ الأمر، أجلسني أمامه، اقترب مني وقال: أنت خنت الإسلام، وقد ولدتك أمك مسلما، وباسم الله الذي خنته، وما كنت لتخون إلا نفسك، فإنني أسلبك باسمه الجليل حريتك التي منحها لك، فأنت لا تستحقها بعد الآن.
لم أنبس ببنت شفة، لكنه التفت إلى رجاله وقال: اقتلوا السيد بداخله، اجعلوه ينسى الرجل الحر بداخله، وسارع الرجال إلي فربطوني بجذع نخلة ونزعوا عني الجلد بسياطهم، يضربون كل جزء من جسدي، وفعلوا ذلك أياما، ولما كان ينتهي النهار، كانوا يتركونني وسط الصحراء ليلا، مع قليل من الماء، ووضعوا حولي صخورا ضخمة أحضروها وكان بينها متسع كبير، اعتقدت في الليلة الأولى أنهم أطلقوا سراحي بفعلهم هذا، ثم اكتشفت أنني مخطئ بعدها، اكتشفت ذلك لما وجدوني صباحا بمكان ما مرمي، فأعادوني إلى جذع النخلة وأشبعوني ضربا بالسياط، ثم تعلمت ألا أتجاوز الصخور، وكانوا يذهبون ليلا إلى مكان ما، كانوا يعلمون أنهم سيجدونني بين الصخور، فلا مكان أتجه إليه، ولا يكفيني الماء إن أنا اكتشفت وجود مكان أذهب إليه، ثم يعودون صباحا، يأخذونني إلى جذع النخلة، يربطونني مجددا. كنت أتوسل لهم ولكن ما كان يكترث الجزء البشري بداخلهم، ثم يعيدون ضرب الجلد الذي تشكل بتخثر الدماء التي حاولت غلق الجراح، فأخسر من الدماء مقدار ما شربت من الماء ليلا. كانت معادلة سهلة لأحفظها، الماء ليلا مقابل الدم صباحا، وأبقوا على ذلك أياما عديدة، حتى نسيت اسمي، فبدلوه باسم آخر، «زنيم».
ثم حملوني إلى مكان آخر، وجعلوني أخدمهم خير خدمة، وما تكاسلت في فعل شيء، إلا وعادوا إلى تأديبي بالضرب والجلد، يفعلون ذلك حتى يخر ما في من قوة، فيبلغون الروح بسياطهم، ولم أر في حياتي عذابا كعذابهم لي، وبقيت على تلك الحال عددا من السنين أجهله، وما كنت أعلم أنني أكبر في العبودية، إلا بعد سقوط شعري، أو إحساسي بالتعب وأنا لم أعرف له طعما من قبل، أو نسياني لما توجب علي ألا أنساه. وبعد مدة قتلوا ذلك الرجل بداخلي؛ قتلوا محمدا العلاوي، وأنشئوا زنيما العبد القادم من الشمال، ثم نسيت حريتي، نسيت أن لي عائلة، نسيت كل شيء، كانوا يقررون ما أفعل، ما آكل وما ألبس، كانوا يختارون وقت راحتي ووقت عملي، وأصبحوا الملك الذي يجب أن أخشاه، جعلوني أنسى الرب فوقهم جميعا، نسيت إله الفرنسيين ونسيت إله العرب، ثم تذكرت فجأة زوجتي، تذكرت عائلتي، وكنت أتخيلها كل ليلة، كنت أشيخ في الصباح، ثم أنتظر الليل، لأعود صبيا من جديد، أنسى أنني عبد شيخ، أنسى أنني زنيم، أراها ليلا فتاة شابة، وأرى مدخل منزلي الطوبي، هي لم تكبر أبدا في اعتقادي، وتصورت دوما أنني عندما أصير طليقا، يوما ما، فإنني سأتوجه إليها، فأجدها شابة تنتظرني عند المدخل، سأركض نحوها وأنا أصير أثناء ركضي شابا من جديد، أنني سأعود كاليوم الذي اعتقلوني فيه، كانوا قد قتلوا المنطق الذي أعيش به، جعلوا حياتي مجرد كابوس طفل مرعب، حلم لا يمكنني الاستيقاظ منه، وأمضيت ما تبقى من حياتي كعبد اسمه زنيم.
القسم الخامس
ثم توقف العربي عن الكلام وتوقف النادل بدوره عن الترجمة. التفت إلي النادل وقال لي: هل تصدق أنه يمكن أن يحدث هذا لشخص ما، وأنا اعتقدت أنه مجرد مجنون يملك بعض المال؟
كانت حكايته قد دفعتني إلى الصمت، لم يكن بمقدوري أن أتكلم، كل ما فعلته هو أنني نظرت إليه بعينين ذابلتين مدة ثم قلت للنادل: قل له إنني أشعر بالأسف لما حدث معه.
مع أنني أعلم أن قولي هذا لا يعني بالضرورة أنني كذلك، فلن أوفيه من الأسف حقه مهما فعلت، وجلست أنظر إلى كل مكان من حولنا وفكرت: «هل هذا ما أقام مجد البشرية؟»
وكان من المؤكد أن ما حدث له، أو ما حدث قبل آلاف السنين، أو حتى ما سيحدث من القصص الغريبة بعد هذا العصر، كل هذا شارك وسيستمر في بناء هذه الحضارة التي تناشد البشر بالحرية والأخوة والمساواة؛ المساواة التي يمنحونها لي وليس لهذا المشرد العربي، الأخوة التي شعر بها مع ذلك السيد الفرنسي، وفي مكان لا يعرف الأخوة، بينما لم يشعر بها حينما عذبه بنو جلدته، الحرية التي سلبوها منه باسم إله يتبرأ منهم، إله آمنوا به لأنه يحمي أسس الحرية ويصونها على خلاف من آمن به. ثم دنوت من النادل وقلت له: اسأله كيف تمكن من الحصول على حريته. - على الأرجح هو فر منهم. - سيدي أنت لم تصغ جيدا، فقط اسأله كيف أصبح حرا.
وباشر النادل الترجمة بعد طرحه للسؤال. - كان ذلك قبل مدة، التقى الشيخ مبارك بجماعة من الفرنسيين، كان قد جلس معهم رفقة رجال من العرب، خمسة فرنسيين وامرأة ترافقهم، وبلغ العرب من القرى ستة عشر رجلا، حضروا الجلسة حتى إن بعض الأطفال كانوا على بعد يراقبون الاجتماع المهم. كان الفرنسيون بحاجة إلى التزود ببعض المؤن لرحلتهم، وقد طلب مني حمل أشيائهم رفقة بعض العبيد ممن يملكهم مبارك، وقد بدوت عاجزا بعض الشيء، فأنا قد كبرت على حمل الأشياء، وتأسف الفرنسيون على ذلك، حتى إنهم طلبوا من مبارك أن يتركني لأعد الشاي لهم فقط، وقد لبثت أخدمهم حتى تقربت مني المرأة الفرنسية، تعجب بشجاعتي، ترى بداخلي السعادة التي نسيتها، ترى الأمل الذي فقده الآخرون، وكانت تقول لي بينما جلس معنا مترجمها. - هل لك زوجة تنتظرك في الديار (تمسك بكأس الشاي بكلتا يديها ). - مولاتي، أنا لا يجب أن أحدثكم (قدمت الشاي للمترجم)، سأموت إن فعلت ذلك (ترجم المترجم كلامي للفرنسية). - أخبره ما يلي: لا تقلق، فإن مبارك صديقنا، وصداقتنا أهم من حديثي إليك بالنسبة له.
نظرت إلى المترجم، ثم فكرت وأنا أراقبها، أضافت على لسانه: إذن هل لك عائلة، اسمك «زنيم»، هذا اسمك؟ - أجل مولاتي. - وهل هي تنتظرك (ابتسمت لي). - لا أعتقد أنه يهم ذلك، أعتقد أنني شخص لا يجب انتظاره.
أخذت وقتا لتفهم ترجمة المترجم، ثم أشارت بيديها لي لأطمئن. - ربما ستتغير الأمور.
ووعدتني المرأة أن تساعدني، فقد أخبرتها حكايتي تلك الأمسية، كنت أجالسها والفرنسيين ليلا، أطبخ لهم بعضا من الخبز والشاي، وأخدمهم خير خدمة، وقد طلب مني الشيخ مبارك أن أفعل ذلك، وأعتقد أن السيدة الفرنسية قد طلبت منه ذلك، كان يود أن يتحصل منهم على صفقة؛ تزويد رجاله بالذخيرة أمر مهم له، لذا كان قد طلب منهم البقاء لليال أخرى، فيحصلون على المؤن ويزودون بالماء ثم يغادرون بعدها، وقد سألت السيدة عنهم: ألا تخشونهم؟ إنهم ثوار.
كانت قد ضحكت وأردفت: مبارك ورجاله من الثوار، هاهاها، إنهم مجرد مرتزقة وقطاع طرق، هم ليسوا أعداء فرنسا، هم أعداء جميع البشر، ولهم مصالح مع فرنسا تدفعهم إلى القضاء على الثوار الحقيقيين إن تطلب الأمر ذلك. أخبرتني أيضا: سأساعدك على المغادرة، زوجتك تنتظرك وقد طال غيابك عنها، وقد طلبت السيدة الفرنسية من الشيخ مبارك أن يبيعني لها، رفض في بداية الأمر، وتحجج بأنني العبد الأغلى سعرا، وأنه لن يبيعني، أذكر أنه عرض عليها عبيدا آخرين، وقد فعل ذلك فقط ليظهر لها مدى أهميتي، لم تكن لي قيمة، لكنه استعملني لرفع السعر، وقد عرضني للبيع على كل العرب، كان قد أخبرها أن العرب هم الأولى بي، وقد رفض كل الأسعار التي عرضتها، سبعون ألف فرنك لم تكن كافية، وجلس ثلاثة وعشرون شخصا يساومون علي، قال الشيخ مبارك: إن هذا العبد أشبه بآلة حديدية، وهو قد بنى كل أيامي، ولن أبيعه مقابل سبعين ألفا.
وقد كنت وسط حلقة من البشر ، أجلس على ركبتي، خافضا رأسي. تحسسني الجميع في مزايدة على السعر، قلب البعض منهم أسناني، وتحسس البعض الآخر ما تبقى من جسدي، كنت أشبه ببهيمة يودون الحصول عليها. - يبدو مسنا. - لكنه يخفي يا سيدي خلف هذا الجسد المسن، قلبا حديديا، إنه لا يتوقف عن العمل أبدا. - لن أدفع فوق خمسة وسبعين مقابله. - إذن لن أبيعك هذا العبد، أنا أفضل قتله على أن أبيعه بخمسة وسبعين.
ومكثوا لساعات يساومون على الأسعار، كنت أنتظر بتلهف أن ينطق الفرنسيون، على الأقل بأي ثمن، أن يظهروا أنهم يودون شرائي، فأنا أكره أن يشتريني العرب، على الأقل فإن الفرنسيين لم يتحسسوا جسدي، كانوا يشعرون أنني ما زلت بشرا، ربما في جزء من روحي، ولبثوا يراقبون الأسعار، وبعد مدة كره العرب أن يشتروني من مبارك، ولتعنته، كرهوا أن يشتروا منه عبدا عجوزا بسبعين ألفا، حتى ذكرت الفرنسية على لسان مترجم محلي اسمه عبد القادر: خمسة وتسعين ألفا. - لو قلت مائة ألف لقبلت بيعه لك.
نطق أحد الرجال للشيخ مبارك بينما اندهش الجميع: سيدي بعه لها، لن تجد أحدا يقدم مبلغا كهذا.
فكر الشيخ مبارك، بينما استغرب العرب أمر الشيخ. رفعت رأسي أراقبها، كانت متأكدة أنها ستشتريني، لذا لم تضف كلمة أخرى، كانت تود ذلك بشدة.
لا أدري.
وفكرت: «هل أنا بقيمة مائة ألف فرنك؟ أخلقت لهذا السعر؟»
وقام الرجل بوخز الشيخ مبارك، فقد كان يرى أن بيعي أهم بكثير من تعنته، وقال: اللعنة على هذا العبد، سيموت بعد أيام، وستخسر كل شيء، ستخسره وستخسر التسعين ألفا. بعه بهذا السعر، واشتر للرجال ذخيرة أخرى؛ القوافل تتوغل، والفرنسيون يقتربون منا، حتى الثوار أصبحوا تهديدا لنا.
كان الشيخ قد فكر بقول صاحبه مدة، ثم قال: حسنا، خذيه بخمسة وتسعين ألفا.
وأضاف المترجم: بشرط أن تتم مرافقته إلى أقرب مدينة من هنا، سيدتي ستدفع ألف فرنك لمن يرافقه إلى المدينة.
كانت تلك الفرنسية قد اشترت حريتي، وقدمت لي المال، طبخت لها الشاي لآخر مرة، وكلمتها مرة أخرى، كان دورها لتقص لي حكايتها، حكاية أخيرة، وجلس معنا المترجم، ككل مرة، جلستنا الأخيرة، قالت لي في آخر كلمات لها، آخر كلمات أذكرها عنها: ابحث عن عائلتك، أنت رجل حر الآن، مثل كل وقت، لا تتوقف عن البحث، ولا تنظر خلفك.
لم أنبس ببنت شفة، انخفضت على ركبتي أبكي، كانت قد وضعت يدها على رأسي تخبرني أن كل شيء على ما يرام، ثم انخفضت بانخفاضي، رفعت رأسي إليها، قبلت جبيني، كانت تبكي بدورها، تبكي مبتسمة وهي تقول: أخبره، اجعل كلماتي حقيقية، أخبره ما يلي: جعلتني أبكي أيها العربي (ترجم المترجم عنها). - آسف سيدتي (بصعوبة ترجم كلامي). - فقط، عد إليها (كان قد قالها بصفة أخرى).
واتجهت تلك الفرنسية رفقة قافلتها نحو مكان ما، وعدت إلى هذا المكان لأبحث عن عائلتي، فقد غادروا قريتنا قبل زمن، وتأكدت أقوال العرب؛ كان ذلك المكان باب الجحيم في الأرض، لكنهم أخطئوا في شيء واحد؛ لم يكن الله من أنزل ذلك الباب، كان الشيطان من أقامه، لم تكن تلك أسطورة باب أنزل من الجحيم أو رفع منه، كانت تلك حقيقة بشر أقاموا بابا للشيطان، وتحدثوا باسم الرب لتغطية أعمالهم، وتصور لهم الشيطان في صفة الرب، والرب غني عن التصور بأي صورة. افترقت عن أصدقائي، ربما مات السيد الفرنسي، أو هو أكمل التوغل في الصحراء وحده يبحث عما يؤمن به، ربما صادف قطاع طرق آخرين، لكنني أعلم أنه على الأقل اكتشف شيئا من هذه الرحلة، لا أعلم إن استمر في رحلته أو هو بدأ رحلة جديدة، وتلك السيدة الفرنسية لا أعلم إن هي لقيت مرادها، وكان مرادها أبسط شيء سمعته، والأكثر تعقيدا، ولا أعلم أين هي عائلتي في هذا العالم، وها أنا أبدأ رحلتي، أعظم رحلة، رحلة كنت لأخبر بها والدي، ولأول مرة فهمت لما قال لي والدي يوم وفاته أن تلك رحلته المقدسة، كان يلاحق حبه، كان يتبع عائلته، وها أنا اليوم أخوض رحلة أشبه بتلك، ها أنا أبحث عن عائلتي، مثل والدي، ها أنا ألاحق حبي الوحيد. ومرة أخرى صدق والدي فيما علمني، ومرة أخرى أكتشف أن والدي وككل الأيام التي عشتها إلى جانبه، كان والدي على حق، ككل مرة.
القسم الأخير
في ذلك المساء رافقت ذلك العربي، نحو أرجاء المدينة، بحثا عن عائلته، سألنا عن اسم زوجته ابنة الغزالي، وكنت أراقبه وهو ينظر بحب إلى كل شيء، كان يراقب كل الموجودات، كان يتلهف لرؤية تلك الأمور البسيطة التي لا نراها عادة، اشترى الحلوى لجميع الأطفال الذين صادفناهم أثناء بحثنا، وزع العديد من القطع النقدية على كل شخص، كان أشبه بطفل صغير يلج هذا العالم في دهشة، وما كان بمقدور أحد أن يفسر أفعاله تلك، اعتقد الجميع أنه مجنون آخر، لكنني آمنت بأنه رجل حر، يستمتع بحريته، بكونه سيدا للمرة الثانية، يعيشها كفرصة يعرف قيمتها أكثر من أي وقت مضى، كأنه ولد من جديد، كان متفائلا بإيجاد عائلته، أخبرني أنهم ينتظرونه في مكان ما، كان يثق في ذلك، فقد أخبرني أنه، إن هو قضى كل هذه السنين في العبودية ليتمكن بعدها من اكتساب حريته، إن كان قد تحول ما رآه يوما مستحيلا إلى حقيقة، فإن إيجاد عائلته أبسط من ذلك، وأنه سيجدها إن هو انتظر مرور الوقت، مثلما انتظر في عبوديته، إن هو بحث دون توقف، أخبرني أن مشاكلنا رهينة الزمن، وأنه لا شيء يتمكن من هزيمة الزمن، حتى آلامنا هي فقط ستندثر بمرور الوقت، وبحثنا عن زوجته في كل مكان، كنا نستعمل اسمها للبحث، اسم عائلتها. علم هو من بعض الأشخاص في القرية أنها بالمدينة هنا، أنها غادرت القرية قبل مدة، وبحثنا في كل مكان وبعد مدة، لم نجدها.
لم يتخل ذلك الرجل عن بحثه عن زوجته، غادرته ذلك اليوم إلى ابنتي، لم أتغير معها، أو مع أي شخص آخر. ومرت الأيام، مرت ثمانية عشر شهرا، كانت زوجتي قد عادت رفقة رجل آخر، زوج يشبهني في كل شيء، إلا طباعي الغريبة، أخذت ابنتنا معها وغادروا الجزائر، كانت قرب طائرة أكبر حصلت عليها من مراكش وخلقت لحظة الوداع ، قالت لي يوم مغادرتها: ستبقى الرجل المفضل لدي (توقفت قليلا لتأخذ نفسا)، سأحبك دوما، حتى إن عشت أنا برفقة رجل آخر، حتى إن كنت تشبه جدك مثلما أخبرتني؛ دي لا بوت. - سأشتاق إليك، لكنني سأنسى ذلك، مثلما نسي دي لا بوت، بعد زمن سأنسى أن أشتاق إلى أحد (نظرت إلى الطائرة في الخلف). - عزيزي (بصعوبة). - نعم عزيزتي (بصوت خشن يخفي خلفه بكاء داخليا قويا). - أنت لن تتغير! صحيح؟ (ابتسمت.) - الأمر خارج عن سيطرتي (بكبرياء غريبة وقوية)، لا للأسف. - تعلم أنني أحببتك (قبلتني قبلة طويلة)، أتمنى لك حياة سعيدة (تكلمت عند شفتي) أتمنى أن تحاول أن تحب القدر (قبلتني للمرة الأخيرة وابتعدت). - غير ذلك (أحرك أصابعي وأرتجف)، متى سأرى ابنتي؟ (محاولا الثبات.) - عزيزي سنجول العالم (ابتسمت) لكنني أعدك أن الجزائر ستكون محطتنا المفضلة، ربما يوما ما سنزورك (نظرت إلى الخلف حيث الطائرة)، وإلى ذلك اليوم، إلى اللقاء. - إلى اللقاء (بصعوبة).
ثم غادر الجميع، وأصبحت الجزائر مكانا فارغا، اختفت فرنسا، اختفى العالم من الجزائر، وأصبحت الجزائر للعرب مرة أخرى، لم أتزوج بعد ما حدث، ونسيت ذلك تماما، مثلما نسيت أن أبحث عن المشرد لأخبره أنني وجدت زوجته، ثم مرت سنوات كنت خلالها ألتقي ابنتي، أو تراسلني إن تعذر ذلك، ثم توفيت أنا في إحدى المزارع البعيدة بسبب العضال وغادرت تلك الحياة.
وها أنا هنا أجلس وحيدا في هذا المكان، أردت أن أبكي بشدة، تشجعت مرة أخرى، وجلست هادئا كنت أنتظر محاكمتي، وقد مر وقت على جلوسي بهذه الغرفة الخشبية المتسعة، كانت محكمة لا أذكر كيف دخلتها أو لأي سبب، دخلتها في يوم من الأيام، ربما في أول مرة أخلد فيها، وكل ما كنت أعلمه أنه ما كان يجب أن أغادر مكاني إلا إذا سمح لي بذلك، مثلما حدث في القاعة الأخرى أين تحدث إلي العديد من الرجال، ثم دخل علينا القاضي ويتبعه قضاة آخرون، كان الجميع يحمل دفاتر بيضاء يسيرون في انفراد، وبعضهم يتهامس عما كتب في تلك الدفاتر، لم أقف احتراما لهم، بينما فعل الحشد من خلفي ذلك، فلم تكن هذه محكمة تقليدية، فلا يهم إن احترمت القاضي أو لم أفعل، ففي كل الأحوال أنا في نظره، بشر لا يعي معنى الاحترام، بيد أنهم جلسوا بعد أن جلس الحشد من خلفي، نظر القاضي إلي مدة ثم قال: ششششش، هدوء، لو تفضلتم وتوقفتم عن التحدث والضحك.
ثم طرق على الطاولة ونظر يوجه إلي الكلام: أنت تعلم لم أنت هنا، وأنت تعلم ما حدث معك؛ لذا ربما سنمنحك فرصة أخرى، لكن هل تعلم ما حدث معك كما نراه نحن؟ (خفض رأسه ليراني.) - أجل (ترددت قليلا)، أخبروني بذلك في قاعة أخرى. - آه ممتاز، يجب أن تفهم أن ما حدث معك كان أكبر من أن تفهمه يومها. - أجل ربما سأتذكر أن أفعل (التفت إلى كل الزوايا). - استدعيناك لأننا وجدنا لك فرصة جديدة؛ فرصة من نسلك. - وإذا؟ (في تساؤل.) - لا نعلم إن كنت ستستمر في فعل ذلك! استهلكت الكثير من الفرص، والأهم أن تعلم أن ما نفعله هنا جدي، أن تؤمن شرط لنا، يجب أن تؤمن، ليس كآخر مرة، ستؤمن بالقدر فقط ... سيد! هل تذكر اسمك الأول؟
وقبل أن أجيب تذكرت ما أخبروني به في القاعة الأخرى (في حياة كنت قد عشتها، لا أذكرها حقا، فقد عشت الكثير من الحيوات، كانت هذه إحداها، هكذا أخبروني، أنا لا أصدقهم)، حقيقة لا أذكر بداية الأمر، إلا أنني كنت أجلس قرب طاولة حديدية ووضع عليها مدونة بيضاء وقربها يستقر عدد من الأوراق المتناثرة، وأول ما أذكره أنني كنت أنظر إلى تلك الأوراق الغريبة، كانت تذكرني بمكتبي القديم، فقد وضعت بشكل ما، شكل دفعني إلى الإحساس أن هذا قد حدث من قبل، ثم رفعت رأسي إلى الجدران الأربعة التي تحيط بي، جدران بيضاء متماثلة في كل شيء وبكل جدار باب أشبه بالجدار الذي بجانبه وحتى أشبه بالجدار الذي يقابله، فلا يدرك الداخل إلى الغرفة أي باب دخل منه، فلا بداية للغرفة ولا نهاية، وتماثل كل شيء في الغرفة؛ سقف أشبه بالأرضية، والجدار أشبه بما تبقى من الجدران؛ فصعب علي التفكير في شيء آخر، التفت إلى كل مكان، إلى كل زاوية، ودرت ببطء أراقب كل باب، ولما بلغت آخر حائط وجدت عند الباب رجلا ببذلة سوداء، كان يقف ساكنا ينظر إلي. - أين أنا؟
ثم أجابني صوت لم يكن صوت الرجل الواقف عند الباب، لكنه كان أقرب بكثير لدرجة أنه خيل لي أنه معنا بالغرفة. - اطرح الأسئلة الصحيحة رجاء، ههههههه (ضحك مستهزئا) ربما، دعني أفكر، ماذا عن: ما الذي تودونه مني؟ هذا سؤال جيد. وقبل أن أجيب، فاجأني صوت مدونة تسقط على الطاولة فاستدرت آليا إليها، ورفعت رأسي إلى رجل آخر ببذلة سوداء، يقف أمامي عند الطاولة يبتسم لي، كان صاحب الصوت، ثم أضاف قائلا: لن تود أن تطرح الأسئلة الخاطئة هنا. - ماذا عن ... (قاطعني يشير بيده لي.) - بعد تفكير، لن تطرح أيا من أسئلتك البشرية، فلا يهم ذلك الآن (ثم دخل رجل آخر من باب آخر، وباشر الحديث وكأنه كان معنا قبل هذه اللحظة).
ما يهم، أن تصغي مثلما أصغينا لك كل هذه السنوات.
التفت إليه بينما اقترب على بعد ما يقف وقفة أشبه بوقفة الآخرين، وقال لي: حسنا، لنقل ...
وانتقل الكلام على يساري فالتفت إلى رجل آخر لم يكن موجودا، يكمل كلام سابقه: لنقل أنك يجب أن تخبرنا بالحقيقة، الحقيقة المطلقة لا غير، لأنك تدرك جيدا مثلما ندرك أن الأمر خرج عن سيطرتك، وأنه يجب إصلاح بعض الأمور.
ما استطعت أن أجيب أحدا منهم، بل استمررت في صمتي أنظر إلى الجميع وهم يتكلمون إلي وكأنهم ذات واحدة، حتى جلس إلي آخر رجل ولج الغرفة من بابها الرابع، كان يشبه شخصا أعرفه، ربما كان يشبه أشخاصا أعرفهم، ربما لن أستطيع شرح كيف حدث ذلك بلغة أملكها، لكنه كان يشبه الجميع، يشبهني، يشبه جدي، يشبه والدتي، يشبه خبازا رأيته مرة واحدة قبل وفاتي، يشبه فتاة رأيتها تبكي أثناء محاولتي لفحصها، يشبه العجوز التي لم أبلغها يوما لأنقذها، يشبهك أنت من تقرأ هذه الكلمات، يشبه شخصا تكرهه، ويشبه أشخاصا تحبهم، هو يشبه جميع البشر، ورأيت وجوه جميع الناس بوجهه، ثم حدثني يخبرني عن حياتي، وتحدث بقية الرجال بتحدثه، وأخبروني بأمور كثيرة، وأخبروني أنني من فعل كل شيء. كنت قد أنكرت أنني فعلت كل ذلك وأن القدر هو ما حاك القصة، ضحكوا حينما أخبرتهم بذلك، استغربوا كيف لم ألاحظ أنني من فعلت كل شيء وأن القدر كان فقط يجسد اختياراتي فقط، وقال الذي استجوبني قبل أن يخبرني أن أتجه إلى الباب المزدوج: غريب؛ كيف تنكر أن تلك مسئوليتك (ابتسم يرفع أحد جوانب شفتيه إلى الأعلى)، تذكر أنك التقيت محمدا، الفتى العربي، في طفولتك، ابن متجول اسمه علي العلاوي، زوجه والدك بابنة أحد الشيوخ، وفعل ذلك بعد أن ترككم، ولو لم يترككم لما تزوج محمد. - اختار والدي أن يتركنا، لم أدفعه لفعل ذلك. - ههههه (ضحك)، ومن دفع والدتك لتنتحر، ربما أنا من لعب تلك اللعبة، لعبة دي لا بوت، هل تعتقد أن والدك كان ليترككم لو بقيت والدتك على قيد الحياة؟ أو إن هي لم تجن؟ (فكرت دون قول كلمة.)
محمد العلاوي، هههههه، كان ضحية اختياراتك، ككل الضحايا. (نظرت إليه في صمت.)
أنا محتار قليلا، هل علي أن أدعوك بسيدي الطبيب؟ آوه، ماذا عن لورد دي لا بوت، أو شارل، أو قابيل؟ ههههههه، لك أسماء عدة، ولا أعرف أي واحد تفضل. - أخبرني إن أنت انتهيت كي أتوجه إلى القاضي (بجدية تامة). - إذن أنت تعلم أنه يجب أن تتوجه إلى القاضي؟! (نظر إلى البقية.) (نظرت إلى الأوراق على الطاولة دون قول كلمة.) - اتجه إلى الرواق الرمادي مباشرة ستجد الباب المزدوج (ابتسم ثم توقف للحظات ويده على فمه ثم أضاف). لم أخبرك؟ أنت تعلم ذلك مسبقا.
اكتشفت أنه في اليوم الذي توفيت فيه تلك العجوز اتضحت كل القصة، كنت قد تعطلت يومها عن ركوب الحافلة الأولى بسبب المشرد، محمد العلاوي، وقبل تعطلي بمدة كافية كانت فتاة شابة تنزل من غرفتها، وفي يوم حار ، كانت تنزل إلى الطابق السفلي، إلا أن حرارة ذلك اليوم وأهواء تلك الفتاة الغريبة دفعتها إلى التفكير بارتداء قبعة، ربما شيء آخر دفعها إلى التأخر، بل حتى وضع مرهم للشمس أيضا، ربما تخيلت ذلك فقط، لكن الأهم أنه ما كان يجب أن تعود إلى غرفتها لتفعل ذلك، ما كان يجب أن تتأخر لأي سبب من الأسباب، المرهم، القبعة أو حتى خصام عائلي، لكنها فعلت، تأخرت تلك الفتاة العربية. هي وضعت وهي صغيرة عند مدخل منزل فرنسي، وضعها رجل من قرية بعيدة، رجل عربي، لذا من المؤكد أنها عربية، وكبرت بذلك المنزل، كبرت فرنسية، وعلمتها تلك العائلة ارتداء القبعات، علموها عادة ستتسبب في مقتلها، ما كان يجب أن تتأخر لترتدي القبعة، ولو أنها كبرت بمنزل عائلتها العربية، لما حدث ذلك، لما توفيت. كانت ابنة شريفة؛ ابنة العجوز التي لم أستطع إنقاذها؛ ابنة أخذت منها قبل زمن، لكن الفتاة لم تكبر رفقة والدتها؛ ولهذا صدمها سائق الحافلة، السائق الذي أخرج سيجارة ذلك اليوم، سيجارة أشبه بتلك التي جعلت قلبه يتوقف بعد زمن من قتل تلك الفتاة، في إحدى الحانات أصيب بسكتة قلبية حينما كان يلوم نفسه على قتل الفتاة، كان قد تعلم أن يخفي أحزانه خلف السجائر، وكانت تلك عادة سيئة، تعلمها بعد أن فقد كل شيء في غارة تعرض لها بالجنوب في إحدى رحلاته، وقبل ذلك كان قد التقى والدي وطلب منه رجلا يرافقه إلى الصحراء، وقد اختار والدي محمدا العلاوي، فقد كان ابن متجول مرموق، وقد علم من والده سر التجول، وقد شعر والدي أن محمدا يحتاج إلى رحلة إلى الجنوب؛ لذا نصح رفيقه بأخذ محمد معه، حتى أنه عرض عليه أن يتكلم معه شخصيا شرط أن يرافقهم إلى نصف الطريق، وقد أخذ سائق الحافلة معه محمدا العلاوي، ثم عاد إلى هنا بعد أن أنقذه هذا الأخير، عاد على ظهر ناقة باعها ليبدأ من جديد، عاد ليدخن السجائر، سجائر ستجعله يتأخر فيصدم تلك الفتاة، وعاد ليبدأ من جديد، عمل كسائق للحافلة، فكر أنه مجرد عمل مؤقت، ريثما يستعيد مكانته ليبدأ الرحلة من جديد، بحثا عن أسطورة والدي في الجنوب؛ والدي الذي انتظرهم في نصف الطريق بإحدى المزارع، انتظر طويلا حتى توفي، انتظر عودتهم بالأسطورة؛ الأسطورة التي فكر والدي أنها ستسترجع والدتي، لكن السائق لبث وقتا طويلا في هذا العمل، ثم مر زمن جعله يكره هذا العمل، واعتاد على السجائر لينسى ما يكره، كان يدخن سيجارة قبل أن يركب حافلته لهذا تأخر، ما كان يجب أن يتأخر وبمدة ستكفي تلك الفتاة لتلبس قبعتها، وتنزل إلى الشارع، تسير قليلا، وتقابله في لحظة ومكان اختيرا بدقة، كان قد التفت إلى رجل يبكي على الرصيف، كان قد التفت إلى والد سيلين وعلى بعد ما سيصدم ابنة العجوز؛ ابنة المربية؛ ابنة أخذت منها حينما غادرها محمد العلاوي للقيام بالرحلة؛ رحلة رفقة هذا السائق الذي سيقتل ابنة محمد ويتسبب في تأخري عن إنقاذ زوجته، ما كان على محمد أن يرافق السيد الفرنسي في رحلته تلك، ما كان عليه أن يرافق والدي إلى القرية، ما كان ليتزوج هناك، ثم إنه كانت لتكون تلك القافلة بخير، كانت لتصل إلى وجهتها، ما كان يجب أن يكون محمد هناك ليسهر رفقة السيد الفرنسي، بل توجب على الجنديين أن يبيتا حول نار المراقبة، أن يريا تلك النيران التي رآها محمد، أن يخبرا السيد الفرنسي، كان ليجد حلا، أن تغادر القافلة المكان مثلا وقبل أن يصل قطاع الطرق، لكن محمدا العلاوي كان بتلك الليلة رفقة السيد، نام الجميع وحصل قطاع الطرق على القافلة. كل ذلك لأن محمدا رافق القافلة، كان بإمكانه أن يعيش بسلام رفقة زوجته شريفة، لم تكن لتكون مربية، وما كانت لتفقد ابنتهما، لم تكن ابنتهما لتلبس القبعات التي تقتلها، وما كان بإمكاني أن أتأخر عن كلتا الحافلتين، ما كنت لألتقي به وما كان ليحدث شيء، الأهم ما كان ليحدث شيء.
قد يتساءل الجميع عن دخلي بالقصة؛ عما حدث حقا، لم يخبروني بذلك في القاعة الأخرى، لكنني اكتشفت ذلك بنفسي ، وقبل وفاتي بزمن، راسلت زوجتي، كانت قد أعادت إلي المال، وفي الرسالة أخبرتها أن الأموال التي أخذتها مني لم تغيرني مثلما وعدت، لكنها كتبت لي أن سبب المشكل لم يكن يوما بعيدا عني، وأنني من يجب أن يجد حلا لذلك فالأموال لن تنفع أبدا، وكتبت في جزء من رسالتها:
عزيزي، إن لم تغيرك تلك الأموال التي قدمتها لي، فإنها ساعدت في تغيير إنسان آخر، تغيير قدر رجل آخر؛ أنت اشتريت حرية رجل آخر بتلك الأموال، لقد منحته فرصة ليرى عائلته.
وتذكرت محمدا العلاوي، تذكرت الشاب الذي قابلته في طفولتي حينما حضر عربي إلى منزل والدي الإسباني، حينما وجده قرب كلبة أخرى، هو توفي وهو يبحث عن زوجته، كنا قد استعملنا اسمها للبحث عنها، لكنها سمت نفسها بشريفة العلاوي، اسم لو ذكرناه لتوقف عن البحث. كنت نسيت ذلك، لم أعتقد يوما أن تكون شريفة التي يبحث عنها هي شريفة التي تأخرت عن إنقاذها، وهكذا كان جهلي للقدر أكبر حجة له في استعبادي.
وفي المحكمة
كنت أجلس وحيدا بين ضحكات الحضور خلفي ونظرات القضاة أمامي، كان الرفاق من الموتى يضحكون باستمرار، يضحكون كعادتهم على غرابتي، كان اعتقادهم بأنني مجنون في محله، فقد ضحكوا على الرجل الذي لا يمكن تحريكه، أو هذا ما اعتقدت.
رفعت رأسي، ما كان بإمكاني التحدث، ثم رفع القاضي الأكبر صوته يخاطبني: سنمنحك فرصة أخرى، لكنك ستنسى ما كنت عليه سابقا، ستنسى الرجل الذي لا يمكن تحريكه، ستنسى فلسفتك في الحياة، وستعيش بشرا كباقي البشر، وأن تحترم ما فوق البشر.
وقف في اعتدال وبوقوفه دفع الجميع إلى الفعل بالمثل، ثم قال بجدية: يمكنك المغادرة.
ثم رفع القاضي الجلسة وحملوني لأتجه إلى الباب، وفي ذلك اليوم الذي غادرت فيه تلك الجلسة، فتح الباب لأول مرة وولج ضوء أنار القاعة حتى إنه كاد يختفي كل شيء في بياض ذلك النور. رافقني الرجل الأسود إلى غاية المخرج. سمعت أثناء ذلك أصواتا غير مفهومة وأحسست بالاختناق وأنا أخرج من المكان، ولشدة خوفي صرخت ولم أفهم صراخي، كان أشبه ببكاء طفل، لكنني نسيت ذلك، ورأيت وسط ذلك البياض، الذي بدأ يندثر ببطء، بشرا عمالقة، أكبر حجما بكثير، أشبه بأطباء عمالقة، وكانوا يحملونني من المخرج، بينما أنا أبكي مغادرتي المحكمة إلى مكان ما، مكان به عمالقة. كان البعض يبتسم، ولم أسمع شيئا سوى صراخي، وكانت شفاههم تتحرك من دون أن أسمع ما يقولون، قبلني الجميع، ضحك آخرون، وجعلتني امرأة أقترب من ثديها لأمسكه بشفتي وقد كنت أتضور جوعا فأنا لم آكل شيئا لتسعة أشهر، وهي كانت تجهل ذلك، إلا أن غريزتها دفعتها إلى فعل ذلك، كما جعلتها تبكي، وفي ذلك اليوم ولدت ابنتي ابنا يشبهني، يشبه جده، ابننا تنتظره حياة غريبة في عالم غريب، سيكبر الصبي بين عائلته وسيلاحظ الجميع مقدار الشبه بينه وبيني.
ما سيحدث من الأحداث سيستمر في الحدوث
كولونيل دي لا بوت
قبل زمن بعيد، زمن نسيه الجميع، اقترب مجموعة من الرجال من إحدى الغرف وحينما بلغهم دي لا بوت صرخوا صرخة واحدة، واستعدوا لفتح الباب المزدوج، إلا أن الكولونيل طلب منهم التريث، ثم طرق الباب، لم يجب أحد فاضطر إلى فتحه بنفسه ثم دلف إلى الداخل، وقبل أن يأخذ نظرة إلى المكان ركض دي لا بوت إلى إحدى الفتاتين المعلقتين وحملها يمنعها من الانتحار، كانت صديقتها الأخرى تتخبط معلقة جراء الاختناق، بينما حمل دي لا بوت محبوبته يمنعها من السقوط، كانت تتحرك ليتركها تسقط، فقد فضلت أن تموت على أن يأخذها دي لا بوت. صديقتها لم تأخذ وقتا قبل أن تتوقف عن التحرك، سرقها الموت بينما ترك جوانا على قيد الحياة يحملها دي لا بوت، كانت تبكي فوز صديقتها في النجاة من دي لا بوت، كانت تبكي بشدة عدم موتها، كانت تبكي لأن ما ينتظرها رفقة الكولونيل الشاب أسوأ من الموت نفسه، كانت تعلم أنه إن حصل عليها حية فستخلد كخادمة له، حتى وإن أحبها كزوجة له، وفضلت الموت على أن تتزوج به، أخرج الكولونيل سكينته وقطع الحبل، ثم جعل جوانا تجلس أرضا. نظرت إليه وهي تجلس على أرضية الغرفة، نظرت إلى صديقتها المعلقة إلى جانبها، ثم باغتت دي لا بوت وركضت نحوه لتضربه، كان قد أمسك يدها، ثم أدارها بشكل يمنعها من التحرك، قام بشد الخناق عليها، يمنعها من التحرك وهو يقول: ششش، ششششش (كانت جوانا تتحرك في يأس). - اتركني، اتر... (ثم وضع يده يمنعها من التكلم.) - سوف أتركك إن توقفت عن ارتكاب الحماقات (لم تتوقف جوانا عن التحرك محاولة التحرر من قبضته)، ششش، توقفي (بصوت هادئ) إن سمعك الرجال بالخارج سيقتلونك، توقفي، أعدك سيكون كل شيء على ما يرام (تحركت ببطء وكأنها توافق على ما قال)، حسنا، بهدوء، سأتركك الآن.
ترك دي لا بوت الفتاة، ابتعدت عنه أمتارا قليلة ونظرت إليه، ارتكب لحظتها حماقة، لكنه رأى أنه يتوجب عليه أن يفعل ذلك، أخرج سكينته مرة أخرى ورماها بالقرب من جوانا. - خذي، يمكنك أن تحمي نفسك بها.
نظرت جوانا للحظات إلى الكولونيل ثم أسرعت إلى السكينة وأشهرتها بوجهه، أضاف دي لا بوت: قتلي لن يساعدك (ورفع يديه يحاول منعها من التسرع)، يجب أن تصغي.
جوانا كانت تفكر بسرعة، بغضب وبحقد، وما كانت تهتم، ثم وبسرعة وجهت السكينة إلى بطنها، تدافع الكولونيل قافزا إليها ورمى السكينة من يدها. - غبية، ألن تتوقفي عن ارتكاب الحماقات؟ (كانت جوانا تنظر إليه في ذهول) تبا!
أصيب الكولونيل بجرح في يده، واتجه إلى حمل السكينة، والتفت إلى جوانا في صمت، ثم قال: تسمعينني، لن تفعلي شيئا خاطئا ثم إنني ... أعدك أنني لن أسمح لشيء بأن يصيبك بمكروه. - أكرهك، أنت لست سوى وحش آخر. - هههههه، ربما، تذكري إن سمعك الرجال في الخارج ستموتين. - تبا لكم. - غبية أنت. لم تحاولين قتل نفسك؟ - أتعتقد حقا أن ابنتي ستكبر بين أحضانك؟ (تفاجأ دي لا بوت، ما كان بمقدوره أن يفعل شيئا أو أن يقول شيئا ثم نظر حوله يفكر.) - أنت وحش، أتعتقد أن ابنتي ستكبر بين يدي من قتل والدها، أتعتقد أنني سأحبك في يوم من الأيام، كيف لك أن تعتقد أنني سأحب؟ انظر ماذا فعلت. كيف لك أن تعتقد أنني سأحب وحشا مثلك، سوف أقتل نفسي قبل أن تفكر بلمسي حتى، سوف تمنعني مرة، وسأقتل نفسي آلاف المرات، أكرهك، وسأكرهك إلى أبد الآبدين.
أصيب دي لا بوت بصداع شديد، وتكرر برأسه هذا الكلام، جوانا حامل بابنة الرجل الذي تحبه، ستكرهه كل الأيام، سيستيقظ كل يوم ليحبها، وستموت كل يوم لتكرهه، كانت تلك فاجعة بالنسبة له، ولأول مرة أحس أنه خسر؛ أن الرجل الذي لا يمكن تحريكه له نقطة ضعف، أحس أنه مهزوم آخر. ارتفع بجدية، توجه إلى الحبل وأخذه؛ الحبل الذي سيذكره بأن جوانا تفضل الموت على أن تعيش لحظة إلى جانبه، وأشار إلى الخزانة. - اختبئي هناك (ثم استدار إلى الباب ليفتحه).
ثم غادر الجميع تلك القلعة، بكت جوانا هناك في غرفتها إلى منتصف الليل، ثم قامت بحمل ما تركه الرجال مما تحتاجه في رحلتها، كانت تعلم أنه سيأتي رجال آخرون، كان يجب أن تنقذ ما تبقى من حياتها، هي ما زالت تملك هذه الأراضي، حتى وإن فقدت المجوهرات والذهب، ما زالت الأراضي والقرية ملكا لها، لذا امتطت أحد الأحصنة وتوجهت تبحث عن دير ما بالجنوب.
ما حدث مع جوانا ودي لا بوت جهله الجميع سوانا أنا والكولونيل، واحتفظنا بتلك الذكرى لسنوات، أخبروني بعدها في المحكمة أن جوانا اتجهت إلى مكان آخر، أنجبت فتاة اسمتها صوفيا، الفتاة التي ستكون الدليل على أن جوانا لم تكن مقدرة لدي لا بوت، ستكبر صوفيا وستنجب بنين وبنات وسأتزوج أنا إحدى بناتها، فتاة رائعة سرقت قلبي بحبها للحياة، هكذا سيتكرر دي لا بوت في شخصي، وستتكرر جوانا في زوجتي، وسيتزوج دي لا بوت بجوانا، من خلال زواجي بحفيدتها، وستولد صوفي، الهزيمة الوحيدة التي عرفها القدر منذ أن أوجد الوجود وإلى أبد الآبدين.
سيكون ذلك أشبه بخطة انتقم بها القدر مني، فتركني في حياتي ك «دي لا بوت» لأختار ما أوده من الخيارات، ثم قدر لي أن تتبعني تلك الخيارات ما تبقى لي من الحيوات التي سأعيشها مجددا . اتجهت في إحدى الحيوات إلى غرفة ما وتركت فتاة لتعيش بعيدا عني، منعتها من قتل نفسها، ومنعت نفسي من الحصول عليها، لكنني لم أمنعها من إنجاب صوفي وتسببت في حياة أخرى في قتل والدتي، فاتجه والدي يبحث عن أسطورته من أجل والدتي، أسطورة تسببت في قتل الكثير، أو ربما أنا من تسبب في قتل الكثير، لو أن والدتي على قيد الحياة، لو لم ألعب لعبة دي لا بوت، لما اتجه والدي إلى أسطورته، لما تشرد محمد، لما توفيت ابنته، لما ... إلخ من الأحداث، لما حدث ما حدث، تشابكت نتائج ما فعلته، فارتبطت حياة كنت عشتها بحياة عشتها مرة أخرى، واجتمعت خطايا سابقة بخطايا جديدة، ودفعت بشرا كان يفترض أن أحميهم، دفعتهم إلى الانتهاء، بسبب كل تلك الحيوات التي عشتها ولم أكن سوى كارثة أخرى. ربما سأنكر ذلك يوما ما، مدعيا أنني فعلت كل ذلك من أجل الحب، حب فتاة لم تكن مقدرة لي. سيتعجب العديد مما حدث، لكن، لم يكن الحب يوما بهذا السوء؛ لم يكن مؤلما بهذا الشكل؛ لم يكن أنانيا بهذا الشكل. سيتساءل الجميع: كيف لتصرف رجل واحد أن يؤثر بشكل كبير على أقدار العديد من البشر؟ ثم ستفكر أنت، هل ما ستفعله مستقبلا سيؤثر بشكل ما على الحياة، شخص ما قد يكون بقربك، أو أبعد مما تتصور، أن يكون بهذه الحياة، أو أن يكون الآن مجرد شهوة عابرة، أو هو في العدم منتظرا فرصته في الحياة، أو هو في المحكمة يتحدث إلى الرجل الذي يشبه الجميع. هل ما سيحدث من الأحداث سيتسبب في حدوث المزيد، ثم سأطلب منك أن تتذكر كل تلك القرارات التي قمت بها؛ ألم تؤثر في شيء ما؟ ألم تحدث هزة خفيفة في وتر قيثارة القدر؟ ألا يمكن أن يحدث تصرف منك كما هائلا من التصرفات الأخرى، التي ستنكرها بطبيعة الحال؟ ربما يجب أن تذكر كل الخطايا، كل الخير، كل الأفعال. ربما سيدفعك ذلك لتفكر من جديد، هل حقا ليس لك تأثير علينا؟ هل أنت حقا موجود لأنك تفكر أو إنك موجود لأنك تؤثر؟ ولن يكون هناك سوى شيء لتأكيده، وهو أنه يجب أن يفكر أحدنا بكل قرار يستقر بداخله؛ أن نفكر بنتائج ذلك على البشرية العظيمة؛ لأنه بداخل كل بشري إنسان لا يمكن تحريكه؛ لا عن قراراته ولا عن مبادئه، لكن الأهم ألا ننسى أنه - وفوقنا جميعا، فوق عدم تحركنا عما نؤمن به، فوق عزيمتنا، فوق ما نوده بشدة - تستقر قوة عظيمة تتحكم في أيامنا، ترسمها ببداية ونهاية نجهلها، وتتجرأ فوق جرأتنا، تتعنت فوق تعنتنا، وليس بمقدورنا سوى الخضوع لها والإيمان بها، وانتظار الآتي البعيد بجزء من الأمل لا أكثر؛ فنحن عبيد لتلك السلطة، والرجل بداخلنا ألد أعدائها.
صوفي شيلون
في إحدى الحدائق بمنزل فرنسي، والد يجلس على كرسي متأرجح يقرأ أحد الكتب القديمة، والدة تقترب من ابن لها، وولد غريب يشبهني بشكل مخيف يتمدد على الأرضية العشبية ومن حوله أوراق رسم تحيط به مبعثرة بطريقة غريبة، اقتربت منه والدته مثلما اقتربت مني والدتي في إحدى الحيوات، جلست ككل أم عادية لتراقب ابنها، وتساءلت مثلما تساءلت والدتي، سؤالا بدا اعتياديا، على الأقل في تلك اللحظة، ما كان يجب أن تلاحظ ذلك، لكنه القدر، وقد دفعها إلى ابنها لتراقبه، سألته: عزيزي، ماذا تفعل؟ (تراقب الرسومات واحدة تلو الأخرى.) - أنا أرسم (لم ينظر إليها). - ماذا ترسم عزيزي؟ (تترك الأوراق جانبا وتتجه بتركيزها إلى ما يرسمه.) - عزيزتي دعيه وشأنه (صوت زوجها على بعد منهما). - أوه، أخبرني بني ماذا ترسم؟ (تبتسم.) - ماما، هذا أنا رجل إطفاء (يرفع الرسمة بطريقة طفولية)، أنا أنقذ هؤلاء، وهذا هو القدر يمنعني (وقد رسم القدر على شكل خربشة سوداء وكأنه يجهل شكله). - آه (تمسك الرسمة وتتأملها)، من أخبرك بذلك صغيري؟ القدر لن يفعل ذلك (تلاحظ شيئا أزرق)، إذا أخبرني ما هذه، هنا في هذه البقعة. - ماما إنها مدونتك الزرقاء (قال ذلك وهو يمسك القلم بأسنانه). - عزيزتي هل سمعته يقول مدونة زرقاء؟ (يتدخل الوالد في تساؤل من مكانه) هل تقصين عليه طفولتك ليلا ؟ - عزيزي، ششش (تشير بيدها إلى زوجها)، ششش. - أنت وضعتها هنا، وأنا أرسمك، ستساعدينني في التغلب عليه (يبتسم ابتسامة غريبة، ابتسامة شيطانية). - اللعنة (تسقط الورقة)، هذا أبي (وتتراجع في ذهول، كانت تضع يديها على فمها)، إنه أبي وليس ابني (ترتجف في خوف تنظر من حولها غير مصدقة). - عزيزتي تعلمين أنه لا يتوجب أن تشتمي أمام الصغير (قال من دون أن يرى تصرفات زوجته، منغمسا في قراءة الكتاب). - اللعنة! إنه هو، هذا والدي، هو لم يمت. - ماما هل أخبرتك أنني رجل إطفاء. (بصوت مخيف، صوت يشبه ...) - أبي (ترتمي إلى ابنها تهزه بقوة)، هذا أنت، صحيح؟ إنها أنا ابنتك. (ثم تسقط أرضا.) - عزيزتي هل سمعتك تخاطبين ابننا بكلمة أبي (يلتفت فيرى زوجته أرضا، أسرع إليها)، عزيزتي هل أنت بخير؟ عزيزتي ... صوفي ... صوفي.
كبر ذلك الصبي وجنت ابنتي صوفي، وعلى خلاف والدي؛ زوجها لم يتركها أبدا. بعد سنوات توفي كلاهما وأصبح الطفل رجل إطفاء غريبا، وكانت غرابته أشبه بغرابة أسلافه، أشبه بغرابتي، كان نتيجة طريقة الخلود. وقد كان هو وكل أسلافه مجرد فرص لرجل واحد؛ رجل منح هبة الخلود في هذا العالم لأنه تحدى القدر، وقد استهلك الكثير من الزمن، الكثير من الأرواح ليتعلم، وقد عاش كل القصص، لكنه ومن بين كل تلك الحيوات التي عاشها، هو لم ينس تلك المرة التي جرب فيها، وبيأس، أن يفهم القدر، واكتشف أنه لن يفعل وإن خلد الدهر بأكمله. كان جهله للقدر أشبه بجهل الأطفال للغة الكبار، أشبه بجهل الكبار للغة الأطفال، أشبه بالجهل نفسه، جلس مجددا في تلك المحكمة بعد زمن، كان قد التقى ذلك القاضي مجددا، وقد قال له القاضي: هذا أنت مجددا.
وقد تذكر حفيدي المسمى باسمي، تذكرت أنا، تذكر جدي دي لا بوت، تذكر جميع أسلافي، تذكر الرجل الأول الذي قرر أن يخلد في هذه الحياة، تذكر الصبي مجددا وسيتذكر الرجل الذي سنكونه في نهاية هذا العالم، أننا جميعا كنا شخصا واحدا اكتشف بطريقة ما إكسير الخلود الخاص به ، طريقة كان قد نسيها بعد عيشه لكل هذه الحيوات، وقد كان رجلا لا يمكن تحريكه.
والسؤال الذي سأطرحه الآن، ربما سيكون غريبا أن أفكر بشيء كهذا، لكن، فقط فكر للحظة، ماذا لو؟ ماذا لو لم يفعل دي لا بوت ما فعله؟ ماذا لو تأخرت «عن قصد» في الذهاب إلى الغرفة في إحدى الحيوات التي عشتها، ووجدت كلتا الفتاتين معلقتين من دون روح تسكنهما، هل كان ليحدث شيء؟
النهاية
الشخصيات
أنطوان دي لا بوت.
جدة الطبيب:
جاكلين دي لا بوت.
الطبيب:
أنطوان شيلون.
جوانا.
الجدة صوفي:
ابنة جوانا.
زوجة الطبيب:
ماري ابنة صوفي.
ابنة الطبيب:
صوفيا شيلون
محمد العلاوي.
سائق الحافلة:
جوناثان فيليسي.
سيلين:
ابنة شريفة ومحمد العلاوي.
والد سيلين.
والدة سيلين.
والدة الطبيب:
ديانا دي لا بوت.
الميكانيكي:
أنطونيو.
الشيخ مبارك بن إبراهيم.
القسيس روبرت.
شريفة الغزالي.
علي العلاوي.
والد الطبيب:
جاك شيلون.
الكتاب الثاني
مقدمة الكتاب الثاني
الحياة ما بعد الجسر
لا أعلم إن كانت تلك نعمة أو لعنة، لم أعد أستطيع التفريق، لكنني كنت متأكدا، أنها كانت حياتي، ولم أعرف حياة غيرها، لم يكن بإمكاني الاختيار، فقد تم إخباري من قبل باسمي (أنطوان شيلون) أخبروني أيضا بسبب وجودي هنا، أخبروني كذلك بأمور كثيرة، أنني سبق واخترت ما خصص لي من كل الاختيارات، أنني وافقت على هذا، حتى إنهم حددوا لي كل شيء، لم يكن هناك مجال لي، ولا فرصة للتساؤل، ثم إنني لم أعترض على ذلك؛ فأنا أثق ولهذه اللحظة فيما اخترت. وهذه المرة وعلى خلاف آخر مرة تم منحي وظيفة، وظيفة تليق بالشخص الذي أنا عليه الآن، ما كنت لأعترض عليها، حتى إنه لا يوجد فرصة لفعل ذلك، وإن وددت ذلك، وقد كنت أستيقظ كل يوم لأداء تلك الوظيفة، إلا أنها لم تكن كباقي الوظائف العادية، وغرابة وظيفتي تتجسد في عدم معرفتي: لصالح من أعمل؟ إلى أين اتجه إن حدث شيء ما؟ بمن أتصل في تلك الحالة؟ كنت الموظف الوحيد في هذا النوع من الوظائف، على الأقل الوحيد في هذا المكان ، وأنا أجهل إن كان هناك أماكن أخرى أشبه بهذا، وقد كنت أعيش بشقة متواضعة في آخر نقطة ببناية مهترئة، كانت بناية محترقة بالكامل، واحتراقها كان أشبه باحتراق كل الضاحية التي أقطن بها، كنت أعيش وسط دمار غريب؛ دمار هادئ بشكل مخيف، والشيء الوحيد الذي شاركني هذا الدمار هو السكون، لم يكن ليوجد أحد آخر في هذا المكان، ولا أذكر أنني رأيت شخصا من قبل، لم يكن ذلك غريبا، فقد فتحت عيني على المكان، وترسب بروحي أن العالم كله أشبه بهذا، كنت أجهل شكل العوالم الأخرى، والأهم أنني كنت أجهل إن كان هناك عالم آخر، وإن وجد فهل سيكون مغايرا عن هذا؟ وقد كان هذا المكان ثابتا مطلقا لا يتغير فيه حال من الأحوال، كان الصفر الذي أعرفه، وبداخل عقلي لم يكن ليكون للصفر شكل آخر أو معنى آخر، كان فريدا وقد شاركه هذا المكان انفراده العظيم. عشت بضاحية أشبه ببقايا حرب ما، حرب بدت وكأنها انتهت قبل زمن بعيد من بروز علامات الحياة هنا، وأنا أول تلك العلامات التي ظهرت فجأة، كنت أعتقد لفترة أنني البذرة الأولى لهذا المكان، بعد سنوات من الاندثار، أزمنة من التحطم والتلاشي الذي تظهره كل تلك الأشياء هنا، وقد كانت أجزاء المكان التي تكونه تتلاشى ببطء إلا أنها لم تكن تنتهي، وكأن الجزء المتساقط منها يعاد إلى مكانه بعد سقوطه، وكان ينتهي هذا الخراب إلى مكان ما، مكان لم أبلغه من قبل ويستمر كذلك من الطرف الآخر إلى غاية جسر حديدي صدئ، تداعت أطراف إسمنتية منه، لم يكن محترقا كالضاحية، بل كان صدئا، جسر حديدي به سكة حديدية تنتهي إلى مكان آخر بعد البحر، مكان أجهله، مكان محترق آخر على ما يبدو، والجسر هو الجزء الوحيد الذي لم أفكر يوما في تجاوزه، ليس لأنني منعت من ذلك؛ فلا أحد هنا يمنعني من فعل أي شيء، لكنه لم يخطر ببالي يوما أن أفعل ذلك، ولم أعتقد يوما أنه قد يوجد شيء ما هناك، لا شيء بعد الجسر، سوى أنه يمتد وسط البحر إلى ما لا نهاية له، وببساطة كان يبدو أن تجاوز الجسر أمر خاطئ، أشبه بارتكاب ذنب ما، وقد بدا عالمي محصورا بين البناية التي أسكنها والجسر، عالم صغير إن أنا اخترت أن أعيش وسطه، عالم لا متناه إن أنا اخترت أن أكتشف خارجه. وأذكر أن أول ليلة لي هنا، ليلة فتحت فيها عيني على المكان، كانت مرعبة، أكثر رعبا مما يمكن أن أعيشه يوما، كنت قد ركضت عاريا في كل اتجاه، وصرخت أركض لوحدي وسط هذا الدمار، وأذكر أنه لم يكن هناك من مجيب لصوتي. (يتبع ...)
अज्ञात पृष्ठ