وقد تجولت حول العالم، من القطب الجليدي إلى القطب الجليدي المقابل، أو عبر المحيطات الساخنة تحت أشعة الشمس الحارقة. سبحت تحت الأجراف الجليدية، وفي الأنفاق البحرية والشقوق، مطبقة أنيابها على أجنحة طائر قطرس وهو يغوص في الماء، باصقة الفراء المتشابك لصغير فقمة سمين. سبحت في مستنقعات المنجروف، بين متاهة الجذور النامية في الوحل، والتقطت السرطانات الكمانية وأسماك نطاط الطين، باصقة الصدف في فوضى كثيفة من الوحل، وبقايا الأوراق، والأعشاب البحرية. استلقت في الوحل محدقة إلى الأعلى، وشاهدت أشكال البشر، وهم يسكبون السم على السطح بحيث تختنق الأسماك، وتتصلب، وتطفو إلى أعلى. فقامت بحركات كسولة وابتلعت كلا من الأسماك السمينة والسم.
لم تتوقف عن السباحة، وفي طريقها قابلت أسرابا من قناديل البحر الطافية التي امتدت لأميال، بمظلاتها الشفافة النابضة، مفرزة خيوطا سامة رفيعة، ولكنها كانت تبتلعها جميعا، بلا تمييز. ولم يؤذها السم. لكنه تجمع في أكياس خلف أنيابها؛ وسرى كالزئبق في دمها. كانت تبصق سمها في عيون خنازير البحر وفقمات الراهب، مما يصيبها بالعمى، فتبتلعها، وتبصق الأشياء غير المهضومة التي تغرق ببطء وتتأرجح في تيارات المياه. ذات مرة، غاصت وطاردت سمكة رقيطة، وهي عبارة عن وحش عريض مسطح وداكن، ولها ذيل كالسوط وعينان شبه مخفيتين. ولكن شيئا ما في حركة هذه السمكة جعلها تتوقف، بينما رأسها مهيأ للهجوم، وفشلت السمكة، لفترة وجيزة، في الاحتفاظ بشكلها الأنيق. ذلك حيث تلاشت إلى ظلال داكنة كالحبر، الذي يشبه الحجب، ثم أعادت تشكيل نفسها على هيئة سمكة قرش صغيرة، مبتسمة، لونها رمادي مائل إلى البترولي، فعرفت أنه والدها.
في إحدى المرات، ومن قبيل المصادفة، وهي تشق طريقها عبر غابة عشب البحر، صادفت «راندراسيل» وحدائقها النامية تحت الماء. من المحتمل أن شجرة البحر لم تكن دائما في المكان نفسه؛ فقد اجتازت الأفعى الضخمة طبقات الحشائش مرات عديدة، ولم تر الأوراق الذهبية، أو الساق الكهرمانية، أو الجذور الثابتة الهائلة الحجم. كانت الأفعى في هذه المرة الأولى، بحجم الأناكوندا في المستنقعات، أطول وأبدن أناكوندا يمكن أن توجد على الإطلاق. وعلى مسافة غير بعيدة من «راندراسيل» ضربت العواصف سطح الماء. بالقرب من «راندراسيل» نفثت الفوهات الموجودة تحت الماء أحجارا بركانية قرمزية وحمراء ودخانا أسود كثيفا. ولكن كل شيء هنا كان كما هو، كل شيء موجود بوفرة. الإسفنج، وشقائق النعمان، والديدان، وجراد البحر، والحلزونات بمختلف ألوانها؛ الياقوتي، والطباشيري، والأسود الفاحم، والأصفر الزبدي، والرخويات البحرية المخططة والمرقطة المبهرة الجمال، وهي تمتص الهلام من الأوراق السرخسية. كانت كائنات أذن البحر تستقر حول جذور «راندراسيل» الثابتة القوية، بالإضافة إلى حشود من القواقع الوردية، والحمراء، والخضراء، والبيضاء الناصعة بشدة. كانت قنافذ البحر، المليئة بالأشواك الحية الدقيقة، ترعى في الطحالب الكثيفة وأطلت مئات العيون المحدقة من بين الأوراق السرخسية الكبيرة التي تأويها وهي تتمايل في التيارات المائية البطيئة. تحركت صغار أسماك الأنقليس مثل الإبر عبر طحالب السرجس الوثيرة. التقطت «يورمنجاندر»، وهي مستلقية بكسل، وتحدق ببهجة، الأسماك التي تسكن طحالب السرجس، والتي لها ذيول لحمية كالرايات الملونة التي لا يمكن تمييزها عن الأعشاب البحرية، ولكنها كانت تتمكن من تمييزها، عبر عيونها اليقظة، التي تشبه رأس الدبوس بين الأعشاب. كانت هناك تنانين البحر، التي تختبئ في الأجمات المتمايلة؛ وهناك أسماك عشب بحر عملاقة، لها أجسام نصلية تشبه الأوراق السرخسية السميكة نفسها. أما بالأعلى على سطح الماء، فقد صنعت الكائنات أعشاشا من عشب البحر نفسه. طفت الطيور البحرية على وسائد طحلبية، بينما اضطجعت ثعالب الماء ذات الفراء الناعم في أراجيح عشبية كثيفة، وهي تدير أذن البحر في أيديها الماهرة، وتمتص الفتات.
وقفت «يورمنجاندر»، للمرة الأولى، ترصد المشهد بشيء من الحزن. فقد كانت شديدة البدانة والوزن بالفعل، بحيث إنها لم تستطع دخول هذه الأجمة السحرية. كانت كالمتفرجة التي تشاهد من خلال نافذة شارع وتحدق من الظلام والرطوبة في كنز دفين ونفيس مبهر اللمعان. ومن ثم تراجعت. وحنت رأسها الوحشي واستدارت بعيدا. وعندما ترى الشجرة فيما بعد ستكون قد تغيرت تماما.
لقد كبرت وازداد حجمها. ولم تعد بحجم أي ثعبان موجود. أصبحت بطول مصب نهر أو طريق عبر المستنقعات. وهي بحاجة إلى المزيد من الطعام. فكانت تمتص قريدس الكريل، وعلى غرار الحيتان الكبيرة، تبتلع أسرابا من أسماك الرنجة الهاربة. وغاصت نحو المياه المظلمة. وفي قاع المحيط تعيش حبارات وحشية بلون الجيفة وحيتان العنبر التي تمزقها بفكوكها الضخمة الثقيلة. ولم تكن هي مستعدة لمواجهة الحيتان، وعلى الرغم من ذلك كانت تأكل اللحم المتبقي من جثة أحدها، وتبتلع مع دهنه ذي المذاق المميز مستعمرات كاملة من الأسماك المخاطية، التي تشق برءوسها في الوحش الميت. كانت على استعداد لمواجهة الحبار الطويل المتدفق، وتمزيق مجساته، ودفع أنيابها في أعينه الشاحبة، مرتشفة ومبتلعة وسط سحابة من الحبر في الماء الداكن الخالي من الضوء.
كانت تأكل في تلك الأثناء بدافع الجشع. وأصبحت تضاهي نهرا ضخما من حيث الطول والعرض. دارت حول جبل جليدي ووجدت نفسها تلاحق وحشا غامضا مرتجفا اتضح أنه هي، لقد كانت تتبع نفسها. وأصبح رأسها الذي كان أملس يزداد خشونة وتكتلا. طاردت مجموعة من حيتان الأوركا، التي كانت تطارد سربا من الدلافين، وكانت جميعها تصنع موجات مقوسة في الماء البارد. كان أحد حيتان الأوركا، الذي ابتعد قليلا عن مجموعته، لامعا ومصقولا على نحو غير عادي، بلونيه الأسود والأبيض، فبدا كالرخام الرطب. كما بدا فمه الضخم وكأنه يضحك، وكان يضحك فعلا، وكانت عينه ساخرة وهو ما كان مستبعدا. حيا الشيطان وابنته أحدهما الآخر، حيث حيته هي بهز تاجها الثعباني، بينما حياها هو بصفير وطقطقة وبلطم ذيله بقوة.
اصطاد الحوت والأفعى معا. التقطا الأسماك الكبيرة كأسماك القد السمينة، والبطيئة، والكسولة، التي يضاهي بعضها في حجمه حجم الإنسان. كانا مسرفين في تناول الطعام؛ حيث يقتلعان الأكباد والبيض، ويتركان الزعانف والعظام. ربما كانت أكثر الأنواع متعة في مطاردتها هي أسماك التونة الزرقاء، بدمائها الدافئة، وجلدها الأملس، وسرعتها الفائقة، وأعينها الساطعة، وهيئتها التي تشبه درعا باللونين الأرجواني واللؤلئي. وقد قابلا فخاخا بشرية نصبت لصيد هذه الوحوش، ومساحات شاسعة من الشباك، ذات المداخل المعقدة، والممرات والحجرات الداخلية التي تقود إلى اتجاه واحد، ألا وهو المسلخ. مزق كلاهما هذه الحجرات بأنيابهما وأسنانهما وعضلاتهما، مستمتعين باندفاع الأسماك المحررة، وهما يبتسمان لبعضها، ويبتلعان بعضها الآخر. قادا الأسراب والتقطا الأسماك على جانبي جسميهما. واصطادا الفقمة كما تصطادها حيتان الأوركا، كان الوحش الباسم ذو اللونين الأبيض والأسود يقفز ليفحص ما حوله، وهو منتصب في الماء، ثم يرفع ذيله، ويضربه على الماء، فتجرف المياه المضطربة الفقمات التي تتغذى على سرطان البحر، وفقمات النمر، التي تتشمس على الصخور المسطحة، نحو فم أفعى البحر المفتوح.
لعبا معا ولكن لعبهما كان ينتهي بالدماء والخنق.
استمرت طوال هذا الوقت في النمو. وأصبحت بطول جيش زاحف على الأرض. وبعرض الكهوف الممتدة تحت الماء، عميقا في الظلمات. قضت المزيد والمزيد من الوقت في أحلك الأعماق، التي لا يصلها ضوء الشمس؛ حيث كان الطعام شحيحا ومضاء بغرابة بألوان حمراء متوهجة وزرقاء كوبالتية. قابلت سلاسل جبال في الماء، ومداخن نافثة وأعمدة غاز ساخن. كانت تمتص الجمبري الأبيض الشفاف الموجود هناك، وتلتقط الديدان المهدبة من شقوقها. لم يرها أي مخلوق وهي قادمة، وهذا لأنها كانت شديدة الضخامة للغاية بحيث لم تستطع حواسهم تقدير حجمها أو توقعها. كانت بحجم سلسلة من ألسنة اللهب، وكان وجهها كبيرا مثل غابة من عشب البحر، ومغطى بأشياء تتشبث بزوائدها؛ جلود وعظام وأصداف، وخطافات ضائعة، وخيوط صيد منهوشة. كانت بالغة الثقل. زحفت عبر طبقات المرجان الوردي والأخضر والذهبي، ساحقة المخلوقات، وتاركة وراءها سطحا مسحوقا، طباشيريا، وشبحيا. (8) «ثور» يصطاد السمك
صعدت من الأعماق ذات يوم ورأت رأسا بشعا مثل رأسها؛ رأسا ذا قرون بعيون زجاجية شفافة ورقبة دامية، رأسا بحاجب كثيف وفتحتي أنف واسعتين. رفعت نفسها، متأرجحة مثل حوت الأوركا وهو ينتصب في الماء ليرى ما حوله، وابتلعته. وكان داخل حلق الثور خطاف ثقيل، يستخدم لتعليق القدور. لقد ابتلعته قبل أن يتاح لها الوقت لرؤيته. فجذبها بعنف، وسحبها، فصعد الرأس الميت إلى أعلى، وتبعه رأس الأفعى، مندفعا عبر سطح البحر، محدثا نافورة من الرذاذ النتن.
अज्ञात पृष्ठ