रहमान और शैतान
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
शैलियों
2
بعد أن دفع يهوه الإنسان الأول إلى الخطيئة، زرع بين ذريته الشقاق الذي قاد إلى أول جريمة في التاريخ. فلقد ولد لآدم وحواء بعد طردهما من الجنة ولدان هما قايين وهابيل، مما تتابعه رواية سفر التكوين: «فكان هابيل راعي غنم وقايين كان يحرث الأرض. وكان بعد أيام أن قايين قدم من ثمر الأرض تقدمة للرب، وقدم هابيل أيضا شيئا من أبكار غنمه ومن سمانها، فنظر الرب إلى هابيل وتقدمته وإلى قايين وتقدمته لم ينظر.» ولقد أدى سلوك يهوه غير المسوغ والبعيد عن مفهوم العدالة، إلى حقد قايين على أخيه المفضل عند الرب، فراح يتربص به إلى أن قاده إلى الصحراء حيث قتله هناك ودفنه. وبذلك أصل يهوه لأول خطيئة أخلاقية في المجتمع الإنساني بعد أن أصل لأول خطيئة تحريمية في الفردوس.
ثم يتابع يهوه تعامله مع بني الإنسان من موقف غير متعاطف وغير أخلاقي، فعندما أخذ الناس يتكاثرون على وجه الأرض صاروا أمة واحدة تتكلم لسانا واحدا وتعيش في سلام ووئام، ولما هموا ببناء مدينة لهم وبرج عال يرمز إلى وحدتهم وتضامنهم، نظر يهوه إلى ما هم صانعون فخاف أن يؤدي اتحادهم وازدياد قوتهم إلى تحالفهم ضده، فعمل على تشتيت شملهم وتحويلهم إلى مجموعات متنافرة تتكلم لغات مختلفة لا يفهم بعضهم حديث بعض: «وكانت الأرض لسانا واحدا ولغة واحدة. وحدث في ارتحالهم شرقا أنهم وجدوا بقعة في أرض شنعار وسكنو هناك ... وقالوا هلم لنبن لأنفسنا مدينة وبرجا رأسه بالسماء، ونصنع لأنفسنا اسما لئلا نتبدد على وجه الأرض. فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما، وقال الرب: هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل، والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه، هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض، فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض.» إن ما فعله يهوه في حقيقة الأمر هو تحويل الجماعة الإنسانية الواحدة إلى مجتمعات متباعدة ذات ثقافات متغايرة، وهذا ما زرع العداوة بينها، وكان ابتداء الحروب وعدوان أمة على أخرى.
فإذا غادرنا هذه الفترة الافتتاحية من تاريخ الإنسان، إلى العصر الذي حلا فيه ليهوه أن ينتقي من شعوب الأرض كلها شعبا واحدا يكون له أمة كهنة، على حد تعبير النص، استطعنا متابعة سلوك يهوه المتناقض أخلاقيا في كل خطوة من مسيرة علاقته الطويلة مع هذا الشعب، فهو يأخذ البريء بجريرة المذنب، وينتقم من الآباء في أبنائهم ممن لا ذنب لهم، وفي أبناء أبنائهم وصولا إلى الجيل الرابع من نسل المخطئ: «أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء، في الجيل الثالث والرابع من مبغضي» (الخروج، 2: 5). ولهذا شاع في إسرائيل المثل القائل: «الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون» (إرميا، 31: 29 وحزقيال، 18: 2). هذا السلوك من قبل يهوه يتناقض مع قاعدة تشريعية وردت في سفر التثنية تمنع أخذ الابن بجريرة أبيه: «لا يقتل الآباء عن الأبناء، ولا يقتل الأبناء عن الآباء. كل بجريرته يقتل» (24: 6). وهذا يعني أن الإله المشرع في حل من قواعد الشريعة عندما يأتي إلى التعامل مع الإنسان، وأن على الإنسان ألا ينتظر من إلهه التزاما بأية معايير أخلاقية.
وإله التوراة ولوع برؤية الدماء وغضبه لا يهدأ إلا بها. فبعد أن عبد الشعب العجل في سيناء، أمر الرب كل من لم يخطئ إليه بعبادة العجل أن يستل سيفه ويقتل صاحبه وابنه وأخاه من المخطئين ليحصل على بركة الرب: «فقال لهم موسى كذا قال الرب إله إسرائيل: ليتقلد كل واحد سيفه، واذهبوا وارجعوا من باب إلى باب في المحلة، وليقتل كل واحد أخاه وصاحبه وقريبه ... فسقط من الشعب في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل، وقال موسى: كرسوا اليوم أيديكم للرب، كل واحد حتى بابنه وأخيه فتعطوا اليوم بركة» (الخروج، 32: 27-29).
3
وإذا كان هذا شأنه مع شعبه المختار، فإن ولعه بسفك دماء الشعوب الأخرى لا يمكن تصنيفه تحت أي مصطلح مرضي في قاموس الطب النفسي الحديث، وأخبار حملات الإبادة الجماعية للأطفال والنساء والشيوخ تملأ صفحات الأسفار الخمسة، إضافة إلى سفر يشوع الذي ما زالت رائحة الدم تفوح من ثناياه إلى يومنا هذا. وهذه أخبار إحدى حملات موسى التي وجهها إلى مديان: «فتجندوا على مديان كما أمر الرب وقتلوا كل ذكر، وملوك مديان قتلوهم فوق قتلاهم ... وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم ونهبوا جميع بهائمهم وكل أملاكهم، وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم ... فخرج موسى لاستقبالهم إلى خارج المحلة، فسخط موسى على وكلاء الجيش وقال لهم: هل أبقيتم كل أنثى حية؟ فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت رجلا بمضاجعة ذكر اقتلوها، لكن الأطفال من الإناث اللواتي لم يعرفن مضاجعة ذكر أبقوهن لكم حيات» (العدد 32: 8-18).
ووفق قاعدة «التحريم» التي استنها يهوه لقادة جيوشه، يتوجب على هؤلاء في بعض الحالات إفناء كل نفس حية بما في ذلك المواشي والبهائم، ولا يجوز لهم الاحتفاظ بأسرى أو سلب المواشي والممتلكات، لأن كل ما في المدينة من حي وجامد يلقى للموت والدمار والحريق إرضاء ليهوه. وهذا ما حصل لمدينة أريحا على يد يشوع: «فحرموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ حتى البقر والحمير والغنم بحد السيف ... وأحرقوا المدينة مع كل ما بها في النار» (يشوع، 6: 21). وهذا ما حصل لمدينة عاي: «فكان جميع الذين سقطوا ذلك في اليوم من رجال ونساء اثني عشر ألفا هم جميع أهل عاي. ويشوع لم يرد يده حتى حرم جميع سكان عاي» (يشوع، 8: 23-24). وعندما اختار الرب شاؤل ليكون أول ملك على إسرائيل، وراح هذا يحرر شعبه من قمع الفلسطينيين وتسلط الممالك المجاورة، ما لبث أن غضب عليه وأعطى الملك إلى داود، لأنه لم يلتزم قاعدة التحريم. نقرأ في سفر صموئيل الأول الأمر الذي أعطاه الرب لشاؤل بضرب شعب العماليق مع تطبيق قاعدة التحريم: «الآن اذهب واضرب عماليق وحرموا كل ما له، ولا تعف عنهم بل اقتل رجلا وامرأة، طفلا ورضيعا، بقرا وغنما، جملا وحمارا» (15: 3). فحمل شاؤل على العماليق وأفناهم جميعا، ولكنه عفا عن ملكهم المدعو أجاج وجاء به أسيرا، كما أنه لم ينحر كل المواشي بل احتفظ بالصحيح والسمين منها لكي يقدمه قربانا للرب على المذبح. فغضب الرب على شاؤل وأرسل عليه روحا شريرا تلبسه فصارت تنتابه حالات اكتئاب، إلى أن سقط قتيلا في معركة جلبوع وسمره الفلسطينيون مع أولاده الثلاثة على سور مدينة بيت شان.
ورغم أن يهوه قد نهى في شريعته عن القرابين البشرية، إلا أن غضبه لم يكن يهدأ أحيانا إلا بها. فقد انتقم من شاؤل بعد موته بسبعة من أولاده وأولاد ابنته ميكال، تم تقديمهم قربانا له. نقرأ في سفر صموئيل الثاني: «وكان جوع في أيام داود ثلاث سنين. فطلب داود وجه ربه فقال الرب: هو لأجل شاؤل ولأجل بيت الدماء ... فأخذ داود ابني رصفة اللذين ولدتهما لشاؤل وأبناء ميكال ابنة شاؤل الخمسة، وسلمهم إلى الجبعونيين فصلبوهم على الجبل حتى انصب الماء عليهم من السماء» (صموئيل الثاني، 21: 1-10). ولدينا قصة قربان بشري تقشعر لها الأبدان في سفر القضاة. فلقد خرج قاضي إسرائيل المدعو يفتاح الجلعادي لقتال العمونيين، ونذر قبل خروجه للرب أضحية بشرية يرفعها له محرقة إذا نصره على أعدائه، واختار أن تكون هذه الأضحية أول شخص يخرج للقائه بعد عودته منتصرا، فتقبل الرب النذر وحقق له الغلبة على بني عمون، وفيما هو عائد إلى بيته كان أول خارج للقائه والفرح بمقدمه هو ابنته الوحيدة: «وكان لما رآها أنه مزق ثيابه وقال: آه يا بنتي، قد أحزنتني لأني فتحت فمي إلى الرب ولا يمكنني الرجوع. قالت له: يا أبي، هل فتحت فمك إلى الرب؟ فافعل بي كما خرج من فمك بما أن الرب قد انتقم لك من أعدائك.» ولكنها طلبت مهلة شهرين لتذهب إلى الجبال مع صويحباتها وتبكي عذريتها، فأمهلها، وعند نهاية المدة عادت إلى أبيها فنحرها وأحرقها على المذبح، وهي لم تعرف رجلا. فصارت عادة في بني إسرائيل أن تمضي البنات في كل سنة وينحن على ابنة يفتاح أربعة أيام. (القضاة، 11: 30-39).
ومن طبع يهوه الغش والخداع، فقد دفع الملك داود إلى الخطيئة وزينها له، لكي يجعل من خطيئة الملك ذريعة لإنزال العقوبة بالشعب والقضاء على عشرات الآلاف منهم. والخطيئة الموصوفة في هذه القصة ليست خطيئة أخلاقية بل خطيئة تحريمية تتعلق بتابو قديم موضوعه تحريم عد الأنفس. لقد غفر يهوه لداود قتله لجندي مخلص في جيشه لكي يسلبه زوجته (انظر قصة أوريا الحثي في سفر صموئيل الأول: 11 و12) ولكنه لم يغفر له هذه الخطيئة التحريمية التي لا نجد لها معنى إلا مقارنة بالتابو البدائي. نقرأ في سفر صموئيل الثاني: «وعاد فحمي غضب الرب على إسرائيل، فأهاج عليهم داود قائلا له: امض واحص إسرائيل ويهوذا ... فخرج يوآب ورؤساء الجيش من عند الملك ليعدوا الشعب ... وطافوا كل الأرض وجاءوا في نهاية تسعة وعشرين يوما إلى أورشليم ... فجعل الرب وباء في إسرائيل من الصباح إلى الميعاد، فمات من الشعب سبعون ألف رجل، فكلم داود الرب عندما رأى الملاك الضارب الشعب وقال: ها أنا أخطأت وأنا أذنبت، وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا؟» (24: 1-17).
अज्ञात पृष्ठ