रहमान और शैतान
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
शैलियों
خلاصة
لقد قاد هذا التصور الديني للعلاقة بين أركان الثالوث الأساسي في الوجود وهي: الإله - الكون - الإنسان، إلى تصور للزمن على أنه سيالة متدفقة أبدا من لحظ الخلق وحتى آفاق غير منظورة في الأبدية، وإلى تصور لتاريخ الإنسان على أنه سلسلة من الأحداث المتكررة المتشابهة التي تتتابع في حركة خطية، لا تنبئ عن معنى ولا تهدف إلى غاية. سيبقى هنالك بشر طالما بقي هنالك آلهة، وسيبقى هؤلاء البشر أسرى الشرط الأولي الذي أحاط بخلقهم. جيل يمضي وجيل يأتي، والشمس تشرق كل يوم وتسرع إلى مغربها، على حد قول كاتب سفر الجامعة في التوراة، والذي يعبر أبلغ تعبير عن مفهوم الربوبية والتاريخ المفتوح: «الريح تذهب إلى الجنوب وتدور إلى الشمال، تذهب دائرة دورانا، وإلى مداراتها ترجع الريح. كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن، إلى المكان الذي جرت منه الأنهار إلى هناك تذهب راجعة ... من كان فهو ما يكون، والذي صنع فهو الذي يصنع، ليس تحت الشمس من جديد. إن وجد شيء جديد يقال عندها: انظر هذا جديد، ولكنه منذ زمان كان، في الدهور التي كانت قبلنا. ليس ذكر للأولين، والآخرون أيضا الذين سيكونون لا يكون لهم ذكر عند الذين من بعدهم ... وجهت قلبي للسؤال والتفتيش بالحكمة عن كل ما عمل تحت السماوات، هو عناء رديء جعلها لبني البشر ليعنوا فيه. رأيت كل الأعمال التي عملت تحت الشمس، فإذا الكل باطل وقبض الريح» (سفر الجامعة: 1).
روح البشرية خالدة، على ما يفيدنا به نص ملحمة أتراحاسيس، لأن البشر والآلهة طرفان في معادلة واحدة. نقرأ في مشهد خلق الإنسان: «لتمزج الإلهة ننتو الطين، ليجتمع الإله والإنسان معا في الطين، لنسمع الطبل إلى آخر الأيام، ولتكن الروح البشرية من جسد الإله، ولتعلمه أن الحياة أضحت رمزه، ولتكن الروح البشرية خالدة في الاجتماع، آلهة الأنوناكي مقررو المصائر، أجابوا نعم. في اليوم السابع، وفي اليوم الخامس عشر من الشهر، جهزوا مكانا طهورا، ذبحوا الإله دي-إبلا في اجتماعهم، وبلحمه ودمائه عجنت ننتو الطين، لآخر الأيام سمعوا الطبل، وجدت الروح البشرية من جسد الإله، وعلمته أن الحياة أضحت رمزه، وجدت الروح البشرية إلى الأبد.»
20
ولكن الخلود المعني هنا ليس خلود النفس الفردية بل خلود الجنس البشري مما يقتضيه مفهوم التاريخ المفتوح. أما الأفراد فيسيرون نحو نهاية محتومة في العالم الأسفل، بعد حياة قصيرة يجزون خلالها على خدمتهم للآلهة، ثوابا أم عقابا، بطريقة مادية بحتة، فتطول بهم الأيام ويجنون الثروة ونعمة الصحة والبنين وما إلى ذلك، أو يبلون بالآلام والأمراض والموت المبكر، فلا بعث ولا نشور وما من حياة ثانية ترتقي بالفرد إلى وجود يسمو على وجوده السابق، وحتى العدالة الأرضية مشكوك بتحقيقها، فقد ترى من خدم الآلهة بكل إخلاص تقصر به الأيام بعد مرض وألم وفقر، ومن أدار ظهره للآلهة يمتد به العمر ويزداد صحة ووفرة وغنى. وعلى حد قول كاتب سفر الجامعة: «وأيضا رأيت تحت الشمس موضع الحق هناك الظلم، وموضع العدل هناك الجور، قلت في قلبي: الله يمتحن البشر ليريهم أنه كما البهيمة هكذا هم؛ لأن ما يحدث للبهيمة يحدث لبني البشر، وحادثة واحدة لهم، موت هذا كموت ذاك، ونسمة واحدة للكل. ليس للإنسان مزية على البهيمة لأن كليهما باطل، يذهب كلاهما إلى مكان واحد. كان كلاهما من التراب وإلى التراب يعود كلاهما. من يعلم، روح البشر هل تصعد إلى فوق؟ وروح البهيمة هل تنزل إلى أسفل الأرض؟ حادثة واحدة للصديق وللشرير، للصالح وللطاهر وللنجس، للذابح وللذي لا يذبح، الخاطئ كالصالح، الحالف كالذي يخاف الحلف ... الكلب الحي خير من الأسد الميت، لأن الأحياء يعلمون أنهم سيموتون، أما الموتى لا يعلمون شيئا وليس لهم أجر بعد، لأن ذكرهم قد نسي، ومحبتهم وبغضتهم وحسدهم هلكت منذ زمان، ولا نصيب لهم بعد إلى الأبد في كل ما عمل تحت الشمس ... كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك؛ لأنه ليس من عمل ولا اختراع ولا معرفة ولا حكمة في الهاوية التي أنت ذاهب إليها» (الجامعة، 3: 16-22، و9: 2-9).
وأخيرا، فإن افتقاد المعنى في المفهوم الرافديني للتاريخ، قد جعله بعيدا عن تلمس مفهوم عام عن «الإنسانية» و«المجتمع الإنساني»، وعن فهم قوانين تطور هذا المجتمع وارتقائه نحو تحقيق غاية ما، وحتى في العبادات التموزية التي طورت تدريجيا مفهوما للخلاص الروحي نحو عالم أفضل، فإن المخلص الإلهي بقي مخلصا فرديا، وبقيت عملية التحرر والخلاص مرتبطة بالطقس السحري الذي يوحد العابد بإلهه، أكثر من ارتباطها بمفهوم مجرد عن الخير والشر، ودور الإنسانية الإيجابي في تاريخها الخاص وتاريخ العالم. كما أن غياب المعنى عن مفهوم التاريخ المفتوح، وغياب فكرة العدالة الإلهية، وفكرة النعمة الإلهية التي تحرر الإنسان من شرطه الأرضي دون قيد أو شرط، من شأنها مجتمعة أن تجعل التساؤل حول الحرية والجبرية أمرا لا معنى له، لأن كل عمل للإنسان، سواء بذل عن حرية أم عن جبرية، لن تكون له أية قيمة خلاصية، لا على مستوى الفرد ولا على مستوى الكون. (5) الحلولية والمفهوم الدوري للتاريخ (5-1) الهندوسية نموذجا
تطالع الهندوسية دارسها لأول وهلة بمزيج من المعتقدات التي لا يربطها رابط ولا تجمعها جامعة، كما يبدو العدد الهائل من آلهتها التي تملأ أرض الهند وسماءها، عصيا عن الانتظام في مجمع واحد يضم شتاتها، ولعل السبب كامن وراء ذلك التاريخ الطويل من التطور البطيء الذي تجره وراءها هذه الديانة التي تعود بأصولها إلى ما وراء الألف الثاني قبل الميلاد، ولكن هذه المعتقدات ما تلبث حتى تنتظم أمام الدارس الصبور تحت عدد قليل من الأفكار والمفاهيم الدينية، وعدد أقل من التصورات الما ورائية. أما حشد الآلهة فلا يلبث حتى تظهر حقيقته النسبية عندما تبدو نصيات الإلهية بلا قوام أو جوهر حقيقيين، وتسفر عن وجهها ككائنات تشارك البشر بؤس الحياة والموت في عالم السمسارا، عالم تناسخ الأرواح والدورة الكونية الأزلية.
إن ما يميز المعتقد الهندوسي «أو المعتقدات الهندوسية» عن المعتقد الشرقي الأوسطي، هو بالدرجة الأولى لا مركزية فكرة الله؛ فالهندوسية تبدي تحررا واضحا من أية دوغمائية تتعلق بطبيعة الإله، وجوهر الدين لديها لا يقوم على الاعتقاد بوجود الإله أو عدمه، أو على تعدد الآلهة أو التقائها في واحد. فمن الممكن للهندوسي أن يعد مؤمنا وملتزما بدينه، سواء آمن بإله واحد أم بآلهة متعددة، أم لم يؤمن بالآلهة طرا، لأن هذه المسألة لم تكن أبدا بمثابة حجر زاوية للديانة الهندوسية. وفي المقابل، فإن الطوائف الهندوسية تشترك بعدد من الأفكار والمعتقدات الأساسية التي لا يصح دين الهندوسي بغيرها، أول هذه المعتقدات ورأسها هو الإيمان بتناسخ الأرواح، يليه معتقد الكارما الذي يرتبط به أشد الارتباط، والكارما تعني في الأصل الفعل، ولكنها في السياق الأيديولوجي المعني هنا، تعني الفعل وجزاؤه ثوابا كان أم عقابا، على أن ما يميز فكرة الثواب والعقاب في الهندوسية عن نظيرتها في الديانات الشرقية الأوسطية، هو أن الجزاء غير مفروض من قبل شخصية إلهية تتصف بالعدل، بل يتم بشكل أوتوماتيكي من خلال قانون الكارما الكوني، وهو قانون غفل غير مشخص وغير متصل بواحد من الشخصيات الإلهية. فما تراكمه الروح من كارما في تجسدها الحالي سوف يؤثر على سلسلة تناسخاتها التالية ، مثلما أن وضعها الحالي محكوم بكارما التناسخات الماضيات، وهكذا تتابع الروح الفردية تجسداتها في دورة سبية أزلية لا تنتهي تدعى بالسنسكريتية سمسارا، وهي دورة لا بداية لها ولا نهاية، تتجاوز عالم الإنسان لتطال عالم الظواهر المادية بأكمله، كل شيء واقع في إسار الزمن وفي إسار الرغبة في إتيان الفعل «كارما»، والزمن نفسه عبارة عن عجلة تدور على نفسها، كلما بلغت دورة منتهاها عادت إلى نقطة البداية، دون أن تنشد غاية أو تسعى إلى هدف، ومع ذلك فإن الانعتاق (= موكشا) من هذه الدورة ممكن التحقيق، وهو بؤرة الحياة الدينية للهندوسي، والنهاية التي يطمح إليها من كدحه الروحي، إلا أن الطوائف الهندية تختلف في كيفية تحقيق هذا الانعتاق، وفي الحالة التي تصير إليها الروح المتحررة بعد انعتاقها.
من هنا يدعو الهنود دينهم بالدهارما الخالدة، أي سنة الكون الأبدية، والكلمة تستخدم بمعنيين، فهي تدل من جهة على مجمل الكتابات المقدسة وشروحاتها، ومن جهة أخرى على القانون الأبدي الثابت الذي يحكم الكون برمته. وبالمعنى الثاني فإن سنة الكون تتطابق مع ما نفهمه اليوم من مصطلح القانون الطبيعي الذي تجعل منه العلوم حقلا لدراستها، ولكن مع فارق هام، وهو أن هذا القانون الطبيعي بالنسبة للهندوسي لا يقوم بذاته، وإنما يستند إلى مستوى أعمق للوجود، هو الأرضية غير المتغيرة لكل عرض متغير، ويدعى براهمن: القاع التحتي غير المشخص للوجود، الذي صدر عنه الناس والآلهة ومظاهر الوجود طرا. ولبراهمن نفس تدعى أتمان وهي منبثة في جميع الكائنات الحية من آلهة وبشر، وفي كل ما يدب على الأرض أو يطير في الهواء أو يسبح في الماء. فالنفوس رغم تجزئتها الظاهرية وتباينها هي في حقيقة الأمر نفس واحدة، وإلى هذه النفس الواحدة ترجع النفوس المتحررة المنعتقة لتذوب فيها.
وبهذا يتحصل لدينا سبعة مفاهيم أساسية تشكل أساس العقيدة الهندوسية وهي: (1)
अज्ञात पृष्ठ