रहमान और शैतान
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
शैलियों
12
والآلهة الرافدينية تصنع الخير مثلما تصنع الشر، وليس بمقدور الإنسان التنبؤ بردود أفعالها لأنها لا تلتزم القواعد الأخلاقية ولا تجعل من سلوكها قدوة في هذا المجال لبني البشر، وغالبا ما اتسمت مواقفها بالفطرية ورد الفعل الآني والبعد عن الإحساس بالمسئولية ، ففي أسطورة الطوفان البابلية يقرر مجمع الآلهة تدمير شوريباك وبقية المدن الإنسانية الأولى بغير سبب أو جريرة. نقرأ في مطلع القصة كما وردت في ملحمة جلجامش: «قال أوتنابشتيم لجلجامش: سأكشف لك أمرا كان مخبوءا، وأبوح لك بسر من أسرار الآلهة، شوريباك مدينة أنت تعرفها، لقد شاخت المدينة والآلهة في وسطها، فحدثتهم نفوسهم أن يرسلوا طوفانا، كان بينهم آنو أبوهم، وإنليل مستشارهم، وننورتا ممثلهم، وإينوجي وزيرهم، وننجيكو الذي هو إيا كان حاضرا أيضا.» وفي النص السومري المعروف بعنوان «هلاك مدينة أور» يتخذ مجمع الآلهة برئاسة إنليل قرارا بتدمير مدينة أور وإهلاك أهلها، قدرا من السماء وأمرا مقضيا، يبتدئ النص ببكائية للإلهة ننجال إلهة مدينة أور تندب فيها مدينتها، ثم نجد الإلهة تسعى يائسة لدفع الكارثة عن أور وتستعطف مجمع الآلهة الذي انعقد لاتخاذ القرار الحاسم «... ثم توجهت بتصميم إلى المجمع قبل انفضاضه، بينما كان آلهة الأنوناكي جلوسا يتعاهدون. جرجرت قدمي، فتحت ذراعي، ذرفت الدموع أمام الإله آن، بكيت بحرقة أمام الإله إنليل، قلت لهما: عسى أور لا تدمر، عسى مدينتي أور لا تدمر قلت لهما. ولكن آن لم يعط دعائي أذنا، وإنليل لم يثلج صدري بكلمة، بل أصدرا الأمر بهلاك المدينة، أصدرا الأمر بهلاك أور، وسيفنى أهلها وفق القضاء النافذ.»
13
ويتضح موقف الألوهة المتناقض والمتناوس بين الخير والشر، بشكل خاص في شخصية وأفعال الإله إنليل رئيس البانثيون الرافديني، ففي ملحمة أتراحاسيس، وبعد خلق الإنسان لخدمة الآلهة، يتكاثر البشر وتكثر ضوضاؤهم التي تقض مضجع إنليل وتحرمه الرقاد، فيضع خطة شريرة لإنقاص عددهم حتى يخلد إلى الراحة: «لم يمض ألف ومئتا عام، توسعت الأرض كثر الناس، الأرض تخور كثور هائج، اضطرب الآلهة من ضجيجهم. إنليل سمع ضوضاءهم، قال للآلهة الكبرى: ضجة البشر ثقلت علي، من ضجتهم أفتقد الرقاد، اقطعوا المئونة عن الناس، لجوعهم ليقل الزرع، ليكف الإله أداد مطره عنهم، عسى ألا يخرج فيض من الأعماق. لتعصف الرياح، ولتجف الأرض، ليقلل الحقل غلته، لتحجب نيسابا إلهة الغلال والمحاصيل صدرها الخصب، عسى ألا يصل الفرح إليهم. يا ليتني أخرب الأرض.» قام الآلهة بتنفيذ أوامر إنكي، لم ينزل المطر من الأعلى ولم يفض ماء الينابيع من الأسفل، أغلق رحم الأرض، يبس الزرع والحقول السود ابيضت، الأرض الواسعة ملئت ملحا ومرض الطاعون تفشى، ثم يتابع النص: «سنة واحدة أكلوا العشب، سنة ثانية علتهم الحكة، في السنة الثالثة تغيرت هيئاتهم من الجوع، عاشوا الحياة في عذاب، خضراء بدت وجوههم، بانحناء يمشون في الشار، أكتافهم العريضة ضاقت، أرجلهم الطويلة قصرت.»
14
وعندما لم تنفع كل هذه الأساليب في إنقاص عدد الناس قرر إنليل إرسال طوفان عظيم يفنيهم عن آخرهم، وأقنع مجمع الآلهة بالموافقة على القرار، عدا الإله إنكي الذي نقل الخبر إلى حكيم القوم أتراحاسيس وأمره ببناء سفينة وفق مخطط معين، ليحمل عليها أهله وما يستطيع إنقاذه من حيوان البر وطير السماء، من أجل استمرار الحياة الجديدة بعد الطوفان.
ومع ذلك فإن الجانب الخير في شخصية إنليل يطغى على جوانبه الغضوبة المدمرة، في أحيان كثيرة، نقرأ هذه المنتخبات من ترتيلة سومرية طويلة في مدح الإله: «لولا إنليل الجبل العظيم، لم تبن المدن ولا القرى، ولم يفض البحر بكنوزه الوفيرة، ولم يضع السمك بيوضه بين أجمات القصب، ولم تصنع طيور الجو أعشاشها. لولاه لم تفتح الغيوم الماطرة في السماء أفواهها، ولم تمتلئ الحقول والمروج بخيرات الحبوب، ولم تطلع الحشائش والأعشاب بهية في الوادي، ولم تحمل الأشجار في البساتين ثمرها. لولا إنليل الجبل العظيم لم يكن لبقرة أن تضع عجلها في الإسطبل، ولم يكن لغنمة أن تنجب حملها في الحظيرة. إن أعمالك البارعة تثير الروع، ومراميها عصية كخيط متشابك لا يمكن فكه.»
15
إن عدم توصل الألوهة إلى حسم مسألة الخير والشر في شخصيتها وسلوكها، ينعكس على علاقتها بعالم الإنسان والمجتمعات البشرية، فالآلهة الرافدينية لم تكن أخلاقية من جهة ولم تستن لعبادها شرائع أخلاقية يتبعونها، بل لقد ترك المجتمع الرافديني يسير شئونه الاجتماعية بنفسه، ويتعامل أفراده وفق اللوائح الأخلاقية المتعارف عليها والمؤسسة منذ القدم، وقد كان حكماء المجتمع يعيدون صقل هذه اللوائح والتذكير بها في كل مناسبة، وهذا ما تطلعنا عليه نصوص الحكم والوصايا التي وصلنا منها العديد، وأهم ما يميز نصوص الحكمة الرافدينية أنها لم تكن تجري على لسان كهان مرسومين ينطقونها وحيا من السماء، بل على لسان حكماء صالحين خبروا الحياة وأفادوا من عبرها، وعرفوا مسالك الحق والباطل، ولم يكن لينتقص من قيمة لوائح الأخلاق الاجتماعية ووصايا حكماء الحياة الدنيا كون هذه اللوائح والوصايا ذات طبيعة دنيوية لا سماوية، وأن مؤيداتها تأتي من ضمير الجماعة لا من مشيئة الآلهة. لا أدل على ذلك مما نلمسه من الحساسية الخلقية العالية للإنسان الرافديني وسيادة القانون الأخلاقي الوضعي على علاقات الأفراد والجماعات، يضاف إلى ذلك ما نشأ من تشريعات زمنية رافدينية راقية منذ أواخر العصر السومري، بنيت على القانون الأخلاقي القديم وزادت في تشعيبه ووسعت من مجالاته. ولقد استمر الفصل بين الدين والأخلاق منذ البدايات الأولى للحضارة الرافدينية وحتى نهايتها، وبقي السلوك الديني للأفراد وسلوكهم الأخلاقي بمثابة خطين متوازيين لا يتداخلان ولا يلتقيان. تشترك الحضارة الرافدينية في هذه النظرة إلى الأخلاق مع الحضارة الإغريقية، وبقية الحضارات التي تقوم معتقداتها الدينية على المفهوم الربوبي، وتنظر إلى التاريخ باعتباره سيالة مفتوحة على اللانهاية، وذلك على عكس حضارات أخرى طورت تدريجيا مفهوما دينيا للأخلاق، مثل الحضارة المصرية التي سنقف مطولا عند معتقداتها الدينية في فصل قادم.
ويتصل بمفهوم الخير عند الآلهة مفهوم العدالة، فإذا كانت الآلهة لا تقيم وزنا للخير في سلوكها مع الإنسان، ولا تطلب منه بذل الخير كعنصر لازم في العلاقة بينهما، فإنها بالتالي ليست معنية بالخير يبذله الفرد تجاه أخيه ومجتمعه أو بالشر يفعله بهم، طالما أنه ملتزم بالصيغة الطقسية الشعائرية التي من خلالها وحدها يتم الجمع بين الإنسان وإلهه، كما أنها ليست معنية بثواب الإنسان وعقابه على أعماله، وفق مرجعية أخلاقية سماوية، ناهيك عن عنايتها بخلاصه إلى عالم آخر يعوضه عن بؤس التاريخ وشقائه، وبما أنه لا يوجد إلا هذا العالم، وما من خطة هناك لإصلاحه أو تطهيره أو تحويله إلى عالم أسمى وأرقى، فإن تاريخ الإنسان مفتوح ودونما نهاية منظورة، أما تاريخ الفرد فمغلق حيث ينتقل بعد الموت وشقاء الحياة إلى عالم الظلمات السفلي حيث تعيش الأرواح وجودا شبحيا ظليا لا معنى له ولا نكهة، لا فرق في ذلك بين أمير وفقير وبين من قدم حسنة ومن قدم سيئة، رغم أن اتباع طقوس الدفن الصحيحة وتقديم القرابين الدورية عند القبور لراحة أرواح الموتى قد تخفف من معاناتها هناك. نقرأ في أكثر من نص بابلي عن أحوال العالم الأسفل وأهله، ومنها ما تنقله لنا ملحمة جلجامش على لسان إنكيدو الذي يحتضر على فراش الموت ويرى أحوال ذلك العالم بأحلامه، لقد جاءه قابض الأرواح واقتاده إلى هناك: «ظهر أمامي رجل معتم الوجه، وجهه كوجه طائر الزو ومخالبه كمخالب العقاب، أمسك بخصلات شعري فتمكن مني، قام بتحويل شكلي فغدت ذراعاي مكسوتين بالريش كما الطيور، غاص بي وقادني إلى بيت الظلام مسكن الإلهة إرجالا، إلى دار لا يرجع منها داخل إليها، إلى درب لا يرجع بصاحبه من حيث أتي، إلى مكان لا يرى أهله نورا وفي الظلمة يعمهون، التراب طعام لهم والطين معاش، لباسهم كالطير أجنحة من ريش، وفي بيت التراب حيث دخلت رأيت الملوك وقد نزعت تيجانها، تلك التيجان التي حكمت البلاد ومنذ القدم ...»
अज्ञात पृष्ठ