रहमान और शैतान
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
शैलियों
يستدعي اتصال الله بالعالم تحويل مفهوم العدالة الأوتوماتيكي الذي يعمل من خلال مبدأ الكارما في المعتقد الحلولي، إلى صفة من صفات الله، فالله عادل، وكما تتجلى عدالته على المستوى الكوني في النظام المتوازن الدقيق الذي يحكم عالم المادة والطبيعة، كذلك تتجلى في النظام الأخلاقي الذي يحكم علاقات الأفراد والجماعات، هذه العدالة هي أهم التجليات العملية لصفة الخير عند الله، فالله خير، بل هو الخير المطلق على ما تنص عليه الآية الكريمة من القرآن:
فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين
وتؤدي عدالة الله وخيره إلى مطلبه الأساسي من الناس الالتزام بحياة أخلاقية قوامها المحبة والعمل الصالح يبذله الإنسان تجاه أخيه. قال يسوع: «قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل، ومن قتل يكون مستوجبا الحكم. وأما أنا فأقول لكم إن كل من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجبا الحكم ... إن قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئا عليك، فاترك قربانك قدام المذبح واذهب أولا اصطلح مع أخيك ... سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم ... لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم؟ أليس العشارون يفعلون ذلك أيضا.» (متى: 5) كما أن مطلب الحياة الأخلاقية الناشئ عن خير الله وعدله، يستدعي بدوره الثواب والعقاب سواء عند نهاية حياة الفرد أم مع نهاية الزمن والبعث العام والحساب الأخير.
وبذلك تقوم الصلة بين الله والناس في المعتقد الألوهي، على ثلاثة عناصر هي الإيمان والأخلاق والعبادات. كما أن العبادات وما يتصل بها من طقوس ليست وسيلة لاتقاء غضب السماء أو نيل مكاسب دنيوية منها، أو لحاجة الألوهة إليها، كما هو الحال في المعتقد الربوبي، لأن «الله غني عن العالمين» وعدالته الثابتة لا تحرفها عن مسارها طقوس شكلية، بل إن العبادات والشعائر هي وسيلة اتصال دائم، وتلمس للحضور الإلهي في العالم، ورغم أهمية هذه العناصر الثلاثة مجتمعة على طبيعة الصلة بين الله وخلقه، وأثرها على خلاص الإنسان، إلا أن الخلاص في النهاية يبقى رهنا بالنعمة الإلهية والمنة العلوية، فالله يمن على العالم بالخلاص وهو ملتزم به.
ننتقل الآن إلى معالجة الرؤية الدينية للتاريخ في صلتها بالأنماط الاعتقادية للثقافات العليا، من خلال ثلاثة نماذج رئيسية. (4) المعتقد الربوبي والتاريخ المفتوح (4-1) بلاد الرافدين نموذجا
تقدم لنا ديانة بلاد الرافدين النموذج الأمثل عن مفهوم التاريخ المفتوح، حيث تستطيع تمييز أربع مراحل للتاريخ المقدس تكشف عنها الأسطورة: المرحلة الأولى هي السرمدية الساكنة عندما كانت الألوهة منكفئة على نفسها مكتفية بذاتها. المرحلة الثانية هي الزمن الكوزموغوني، أو زمن الخلق والتكوين، عندما خرجت الألوهة من كمونها فأطلقت الزمان ومدت المكان وحركت دارة الوجود. المرحلة الثالثة هي زمن الأصول والتنظيم، عندما عمد الآلهة إلى تنظيم شئون العالم والمجتمع الإنساني، من خلال عدد من الفعاليات المبدعة التي نشطت عند جذور التاريخ الإنساني. المرحلة الرابعة هي زمن البشر المفتوح على اللانهاية.
يرسم لنا مطلع أسطورة التكوين البابلية صورة شديدة التأثير عن مرحلة السرمدية الساكنة. قبل ظهور المكان وانطلاق الزمان، كانت دارة الألوهة المنغلقة على نفسها تنطوي على ثلاثة جواهر مائية غير متمايزة هي: تعامة الأم وآبسو الأب وممو الابن، وعلى حد تعبير النص:
عندما في الأعالي لم يكن هنالك سماء،
وفي الأسفل لم يكن هنالك أرض،
لم يكن سوى آبسو وممو وتعامة
अज्ञात पृष्ठ