رفع الاشتباه من مسألة المياه
تصنيف الحافظ
زين الدين قاسم بن قُطْلُوبُغَا الحَنَفِي
المتوفى سنة ٨٧٩ هـ
يطبع لأول مرة
حققه وعلق عليه
أبو المنذر مَحْمُود بن مُحمَّدِ بن مُصْطَفَى المِنِياوِي
عفا الله تعالى عنه وعن والديه
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.
أما بعد، ..
فهذا جهد المقل في تحقيق مخطوط "رفع الاشتباه من مسألة المياه" وهو الرسالة الأولى ضمن سلسلة رسائل ألفها الحافظ قاسم بن قطلوبغا الحنفي - رحمه الله تعالى - والنية منعقدة على إخراج باقي رسائل المخطوط بإذن الله تعالى.
عملي في المخطوط:
١ - قام بعض الإخوة بنسخ المخطوط فقمت بتصحيحه ومراجعة النسخ إلا أن بعض الكلمات أو العبارات لم أهتد لوجهها فأثبتها كما هي، وقد أشير في الحاشية إلى الوجه الذي أراه صوابا فيها، كما أنني قمت بإضافة بعض الكلمات حتى تستقيم العبارة ووضعتها بين معكوفتين لتتميز عن صلب الرسالة.
٢ - إثبات ما وجدته من زيادات وحواشي على هامش المخطوط.
٣ - شرح غريب بعض الألفاظ بالرجوع إلى كتب المعاجم، والغريب.
٤ - ترجمت لمعظم الأعلام الوارد أسماؤهم في الرسالة الذين ليس لهم شهرة كبيرة.
٥ - التعريف ببعض الكتب التي ينقل عنها المؤلف.
٦ - تخريج الأحاديث والآثار الواردة في الرسالة مع الحكم على أسانيدها ما أمكنني ذلك.
1 / 2
حول المخطوط:
جاءت هذه الرسالة في صدر مجموع فيه بضع وعشرين رسالة للحافظ ابن قطلوبغا.
بيانات المخطوط (المجموع):
اسم المؤلف: قاسم بن قطلوبغا الحنفي / ت ٨٧٩ هـ.
عدد الأوراق: ١٢٣ ورقة بكل ورقة وجهان، ما عدا الأخيرة فهي وجه واحد وفيها خاتمة الرسالة الأخيرة والمجموع كامل ومكتوب بخط واضح.
وأما رسالتنا موضوع التحقيق فتقع في (١٦) ورقة، وفي كل ورقة وجهان، وكل وجه مكون من (٢٩) سطر وفي كل سطر ما لا يزيد على (١٢) كلمة.
والوجه الأول من الورقة الأولى فيه فهرس للرسائل التي يحويها المجموع، وفي الوجه الأول من الورقة الأخيرة بداية رسالة فيها أجوبة عن بعض مسائل وقعت.
مصدر المخطوط: مكتبة برنستون نيوجيرسي أمريكا.
رقم المخطوط: جاريت ٣٣٩٣
ملاحظة: بآخره رسالة: تعريف المسترشد في حكم الغراس في المسجد لابن أمير حاج حلبي.
صور المخطوطات:
صورة الوجه الثاني من الورقة الأولى:
1 / 3
صورة الوجه الثاني من الورقة الأخيرة:
1 / 4
تحقيق نسبة المخطوط للمؤلف:
والرسالة منسوبة لقاسم بن قُطْلُوبُغا، وذلك كما هو موجود في الصفحة الأولى منها بخط واضح لا طمس فيه، كما نسبها إليه حاجي خليفة في "كشف الظنون" وسماها: "رفع الاشتباه، عن مسيل المياه"، والبغدادي في "هدية العارفين" وسماها: "رفع الِاشْتِبَاه عَن سبل الْمِيَاه"، وغيرهما.
1 / 5
ترجمة المصنِّف (١)
اسمه ونسبه ولقبه وكنيته:
هو: قاسم بن قُطْلُوبُغا بن عبد الله السُّودوني، الجَمالي، المصري، الحنفي.
لقبه: «زين الدين» أو «الزين»، وربما لُقِّبَ «الشَّرَف».
كنيته: أبو العدل.
ونسبته: السودوني، وهي نسبة لمُعتق أبيه سودون الشيخوني نائب السَّلْطنة في ذلك العصر.
مولده ونشأته:
ولد الحافظ ابن قطلوبغا في المحرم سنة اثنتين وثمانمائة بالقاهرة.
ومات أبوه وهو صغير، فنشأ يتيمًا، وحفظ القرآن وكتبًا عرض بعضها على العز بن جماعة، وتكسب بالخياطة وقتًا، وبرع فيها.
_________
(١) وقد قمت بنسخ الترجمة التي أعدها الشيخ: شادي بن محمد بن سالم آل نعمان في صدر تحقيقه لكتاب "الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة" للمؤلف، وهذا توفيرا للوقت وللاستفادة من الجهود السابقة مع الأمانة العلمية في عزو الأقوال لقائليها، وقد عزا الترجمة للمصادر التالية: «الضوء اللامع لأهل القرن التاسع»: (٦/ ١٨٤ - ١٩٠، ٢٢٣) و«البدر الطالع»: (٢/ ٤٥ - ٤٧) و«شذرات الذهب»: (٧/ ٣٢٦) و«بدائع الزهور»: (٣/ ٦٧) و«عنوان الزمان»: (٢/ ٤٧٠) و«الفوائد البهية»: (ص٩٩) و«فهرس الفهارس»: (٢/ ٩٧٢) و«الأعلام»: (٥/ ١٨٠) و«معجم المؤلفين»: (٢/ ٦٤٨) و«هدية العارفين»: (١/ ٨٣٠) و«معجم المطبوعات»: (١/ ٢١٦) و«تاريخ الأدب العربي»: (٦/ ٣٢١).
طلبه للعلم وشيوخه:
-أقبل الحافظ ابن قطلوبغا على الاشتغال مبكرًا، فسمع تجويد القرآن على «الزراتيتي».
- وبعض التفسير على «العلاء البخاري».
- وأخذ علوم الحديث عن «التاج أحمد الفرغاني النعماني» قاضي بغداد، و«الحافظ ابن حجر».
- والفقه وأصوله عن «السراج»، و«المجد الرومي»، و«النظام السيرامي»، و«العز عبد السلام البغدادي»، و«عبد اللطيف الكرماني»، و«العلاء البخاري»، و«الشرف السبكي».
- وأصول الدين عن «العلاء»، و«البسطامي»، وكذا قرأ على «السعد بن الديري» في سنة اثنتين وثلاثين شرحه لـ «عقائد النسفي».
- والفرائض والميقات عن «ناصر الدين البارنباري» وغيره، واستمد فيها وفي الحساب كثيرًا بالسيد علي تلميذ ابن المجدي.
- والعربية عن العلاء، والتاج، والمجد، والسبكي.
1 / 6
- والصرف عن البسطامي.
- والمعاني والبيان عن العلاء، والنظام، والبسطامي.
- والمنطق عن السبكي.
- وبعضهم في الأخذ عنه أكثر من بعض.
- واشتدت عنايته بملازمة ابن الهمام بحيث سمع عليه غالب ما كان يقرأ عنده في هذه الفنون وغيرها، وذلك من سنة خمس وعشرين حتى مات، وكان معظم انتفاعه به ومما قرأه عليه الربع الأول من «شرحه للهداية» وقطعة من «توضيح صدر الشريعة» وجميع «المسايرة» من تأليفه.
- وطلب الحديث بنفسه يسيرًا فسمع على الحافظ ابن حجر، وابن الجزري، والشهاب الواسطي، والزين الزركشي، والشمس بن المصري، والبدر حسين البوصيري، وناصر الدين الفاقوسي، والتاج الشرابيشي، والتقي المقريزي، وعائشة الحنبلية، والطبقة.
- ونظر في كتب الأدب ودواوين الشعر فحفظ منها شيئًا كثيرًا.
رحلاته:
- ارتحل الحافظ ابن قطلوبغا مع شيخه التاج النعماني إلى الشام بحيث أخذ عنه «جامع مسانيد أبي حنيفة» للخوارزمي، و«علوم الحديث» لابن الصلاح، وغيرهما، وأجاز له في سنة ثلاث وعشرين.
- وكذا دخل إسكندرية وقرأ بها على الكمال بن خير، وقاسم التروجي.
- وحَجَّ غير مرة.
- وزار بيت المقدس.
تصديه للتدريس والإفتاء، ونبذة عن تلاميذه:
- تصدى الحافظ ابن قطلوبغا للتدريس والإفتاء قديمًا.
- وأخذ عنه الفضلاء في فنون كثيرة.
- وأسمع من لفظه «جامع مسانيد أبي حنيفة» بمجلس الناصري ابن الظاهر جقمق، بروايته له عن التاج النعماني، عن محيي الدين أبي الحسن حيدرة بن أبي الفضائل محمد بن يحيى العباسي مدرس
1 / 7
المستنصرية ببغداد سماعًا، عن صالح بن عبد الله بن الصباغ، عن أبي المؤيد محمد بن محمود بن محمد الخوارزمي مؤلفه.
- وكان الناصري ممن أخذ عنه واختص بصحبته بل هو فقيه أخيه الملقب بعد بالمنصور.
- وكذا قرئ الجامع المذكور ببيت المحب بن الشحنة وسمعه عليه هو وغيره وحمله الناس عنه قديمًا وحديثًا.
- وممن أخذ عنه السخاوي ﵀ فقال عن نفسه: صحبته قديمًا، وسمعت منه مع ولدي المسلسل بسماعه له على الواسطي، وكتبت عنه من نظمه وفوائده أشياء، بل قرأت عليه «شرح ألفية العراقي».
- وممن كتب عنه من نظمه ونثره البقاعي.
مكانته العلمية بين أبناء عصره:
- عُرِفَ الحافظ ابن قطلوبغا بقوة الحافظة والذكاء وأشير إليه بالعلم، وأَذِنَ له غير واحد بالإفتاء والتدريس.
- ووصفه ابن الديري بالشيخ العالم الذكي.
- والحافظ ابن حجر بالإمام العلامة المحدث الفقيه الحافظ.
- ووصفه كذلك بالشيخ الفاضل المحدث الكامل الأوحد.
- ووصفه الزين رضوان بقوله: من حُذَّاق الحنفية، كَتَب الفوائد واستفاد وأفاد.
- وقال السخاوي: هو إمام، علامة، قوي المشاركة في فنون، ذاكر لكثير من الأدب ومتعلقاته، واسع الباع في استحضار مذهبه وكثير من زواياه وخباياه، متقدِّم في هذا الفن، طلق اللسان، قادر على المناظرة وإفحام الخصم، لكن حافظته أحسن من تحقيقه.
- وقال السخاوي كذلك: قد انفرد عن علماء مذهبه الذين أدركناهم بالتقدم في هذا الفن، وصار بينهم من أجلة شأنه ... وقُصِدَ بالفتاوى في النوازل والمهمات فبلغوا باعتنائه بهم مقاصدهم غالبًا؛ واشتهر بذلك.
1 / 8
- وقال البقاعي: كان مفننًا في علوم كثيرة: الفقه، والحديث، والأصول، وغيرها، ولم يُخَلَّف بعده حنفيًا مثله. ثم بالغ في أذيته بما ذكره السخاوي.
إقباله على التأليف والتصنيف:
أقبل الحافظ ابن قطلوبغا على التأليف من سنة عشرين وثمانمائة، أي عندما كان في الثامنة عشرة من عمره، وهلم جرا.
مؤلفاته:
برع الحافظ ابن قطلوبغا في علوم شتى وكانت له يد في التصنيف والتأليف في غالب الفنون، ورأيت أن أقتصر هنا على ذكر أهم مصنفاته الخاصة بعلم الرجال لأنبه على مدى اعتنائه بهذا الفن ونبوغه فيه:
١ - «الإيثار برجال معاني الآثار».
٢ - رجال «الموطأ» لمحمد بن الحسن.
٣ - رجال «الآثار» لمحمد بن الحسن.
٤ - رجال «مسند أبي حنيفة» لابن المقري.
٥ - ترتيب «الإرشاد» للخليلي، في مجلد.
٦ - ترتيب «التمييز» للجوزقاني، في مجلد.
٧ - ترتيب «أسئلة الحاكم» للدارقطني.
٨ - من روى عن أبيه عن جده، في مجلد.
٩ - الاهتمام الكلي بإصلاح ثقات العجلي، في مجلد.
١٠ - زوائد رجال «الموطأ» على الكتب الستة.
١١ - زوائد رجال «مسند الشافعي» على الكتب الستة.
١٢ - زوائد رجال «سنن الدارقطني» على الكتب الستة.
١٣ - الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة، وهو الذي بين يديك.
١٤ - تقويم «اللسان في الضعفاء»، في مجلدين.
1 / 9
١٥ - حاشية على «المشتبه» للحافظ ابن حجر.
١٦ - حاشية على «التقريب» للحافظ ابن حجر.
١٧ - تاج التراجم.
الوظائف التي تولاها:
لم يَلِ الحافظ ابن قطلوبغا مع انتشار ذكره وظيفة تناسبه بل كان في غالب عمره أحد صوفية الأشرفة، إلى أن استقر في تدريس الحديث بقبة البيبرسية.
المؤاخذات عليه:
وصف السخاويُّ الحافظ ابن قطلوبغا بأنه مغرم بالانتقاد ولو لمشايخه حتى بالأشياء الواضحة، والإكثار من ذكر ما يكون من هذا القبيل بحضرة كل أحد ترويجًا لكلامه بذلك، كثير الطرح لأمور مشكلة يمتحن بها وقد لا يكون عنده جوابها، ولهذا كان بعضهم يقول: إن كلامه أوسع من علمه، قال السخاوي: أما أنا فأزيد على ذلك بأن كلامه أحسن من قلمه.
صفاته الخُلُقية:
وصف السخاويُّ الحافظَ ابن قطلوبغا بأنه كان غاية في التواضع، وطَرْح التكلف وصفاء الخاطر جدًا، وحُسْن المحاضرة، لا سيما في الأشياء التي يحفظها، وعدم اليبس والصلابة، والرغبة في المذاكرة للعلم، وإثارة الفائدة، والاقتباس ممن دونه مما لعله لم يكن أتقنه.
وقال السخاوي: ربما تفقده الأعيان من الملوك والأمراء ونحوهم فلا يدبر نفسه في الارتفاق بذلك بل يسارع إلى إنفاقه ثم يعود لحالته وهكذا مع كثرة عياله وتكرر تزويجه، وبالجملة فهو مقصر في شأنه.
وذكر أنه لما عُرض عليه السكن بقاعة مشيخة المؤيدية لضيق منزله وارتفاعه لم يقبل.
نظمه:
مما نظمه الحافظ ابن قطلوبغا ردًا لقول القائل:
إن كنت كاذبة التي حدثتني ... فعليك إثم أبي حنيفة أو زُفَر
1 / 10
الواثبين على القياس تمردًا ... والراغبين عن التمسك بالأثر
فقال:
كذب الذي سب المآثم للذي ... قاس المسائل بالكتاب وبالأثر
إن الكتاب وسُنَّةَ المختار قد ... دلَّا عليه فدع مقالة من فشر
مرضه ووفاته:
تَعَلَّلَ الحافظ ابن قطلوبغا مدة طويلة بمرض حاد وبعسر التبول والحصاة وغير ذلك، وتنقل لعدة أماكن إلى أن تحول قبيل موته بيسير بقاعة بحارة الديلم بالقاهرة، فلم يلبث أن مات فيها في ليلة الخميس رابع ربيع الآخر سنة (٨٧٩هـ).
وصُليَ عليه من الغد تجاه جامع المارداني في مشهد حافل، ودفن على باب المشهد المنسوب لعقبة عند أبويه وأولاده، وتأسف الناس على فقده.
1 / 11
(ق١/ ب) رفع الاشتباه من مسألة المياه
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر ولا تعسر يا كريم رب تمم بالخير
الحمد لله وبه اكتفي، وسلام على عباده الذين اصطفى
وَبَعْدُ ..
فإن سيدنا وشيخنا صاحب التقرير والتحرير منقح أغصان الفروع والأصول ومعدل عنوان (١) المعقول والمنقول أبو المعاني زين الملة والدّين: شرف الدين قاسم بن قطلوبغا الحنفي عامله الله بلطفه الخفي وأدام النفع به بمحمد (٢) وآله (٣) ..
_________
(١) كذا بالأصل، والأنسب للمعنى: ميزان.
(٢) والراجح عدم مشروعية التوسل بذات النبي ﷺ، أو بجاهه بعد موته؛ لعدول الصحابة ﵃ عنه، مع وجود المقتضي، وانتفاء الموانع، وتوسلهم بدعاء العباس ﵁ للاستسقاء، فدل هذا على أن التوسل المشروع عندهم هو التوسل بدعائه، وبشفاعته، لا السؤال بذاته، ولا بجاهه، ومما يؤكد ذلك دعاء النبي للرجل الأعمى الذي توسل به ﷺ ليرد الله له بصره. وانظر في التوسل: "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" لابن تيمية، و" التوصل إلى حقيقة التوسل" لمحمد نسيب الرفاعي، و"التوسل أنواعه، وأحكامه" للشيخ الألباني، و" صيانة الإنسان" للسهسواني، فقد أجاد في بيان أنواع التوسل المشروع، والممنوع، ولولا طول كلامه، وخشية الإطالة لنقلته برمته.
(٣) وهذا أولى بالمنع من سابقه، وقد اختلف العلماء في المراد بالآل على أقوال كثيرة ذكرها ابن القيم في جلاء الأفهام (ص/٢١٠)، وما بعدها، وغيره، وأقوى الأقوال عندى ما رحجه الشيخ: عبد المحسن ابن حمد العباد البدر في رسالته: "فضلُ أهل البيت وعلوُّ مكانتِهم عند أهل السُّنَّة والجماعة"حيث قال: (القولُ الصحيحُ في المرادِ بآل بيت النَّبِيِّ ﷺ هم مَن تَحرُم عليهم الصَّدقةُ، وهم أزواجُه وذريَّتُه، وكلُّ مسلمٍ ومسلمةٍ من نَسْل عبدالمطلب، وهم بنُو هاشِم بن عبد مَناف؛ قال ابن حزم في جمهرة أنساب العرب (ص:١٤): «وُلِد لهاشم بن عبد مناف: شيبةُ، وهو عبدالمطلب، وفيه العمود والشَّرف، ولَم يبْقَ لهاشم عَقِبٌ إلاَّ مِن عبدالمطلب فقط».
1 / 12
قال: لما منع علماؤنا ﵃ من كان له أهلية النظر من محض تقليدهم على ما رواه الشيخ الإمام العالم العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف (١) قال: حدثنا أبو يوسف (٢) عن أبي حنيفة ﵀ أنه قال: "لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعرف من أين قلناه" (٣)، وتتبعت مآخذهم وحصّلت منها بحمد الله تعالى على الكثير ولم أقنع بتقليد ما في صحف
كثيرة من المصنفين فاتفق وقوع كلام على مسألة البئر مع بعض فذكرت شيئًا من إثبات تحقيق
_________
(١) هو إبراهيم بن يوسف بن ميمون بن قدامة البلخي أبو إسحاق الباهلي الفقيه عرف بالماكياني نسبة إلى جده وهو الإمام المشهور كبير المحل عند أصحاب أبي حنيفة وشيخ بلخ وعالمها في زمانه لزم أبا يوسف حتى برع وروى النسائي عن إبراهيم هذا وقال ثقة ذكره ابن حبان فى الثقات توفي سنة إحدى وأربعين، في أولها، وقيل: سنة تسع وثلاثين ومائتين، رحمه الله تعالى. وانظر ترجمته في الجواهر المضية في طبقات الحنفية (١/ ٥١)، الطبقات السنية في طبقات الحنفية (١/ ٧٥)، سير أعلام النبلاء (٩/ ١١٧)، وغيرها.
(٢) هو الإمام المجتهد العلامة المحدث قاضي القضاة أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن حبيش بن سعد بن بجير بن معاوية الأنصاري الكوفي حدث عن أبي حنيفة ولزمه وتفقه به وهو أنبل تلامذته وأعلمهم تخرج به أئمة كمحمد بن الحسن ومعلى بن منصور وهلال الرأي وابن سماعه وعدة، وقال هلال الرأي: كان أبو يوسف يحفظ التفسير ويحفظ المغازي وأيام العرب كان أحد علومه الفقه، توفي سنة اثنتين وثمانين، وترجمته في طبقات الحنفية ١/ ٥١٩، والسير ٨/ ٥٣٥، وطبقات الفقهاء ١/ ١٤١.
(٣) رواه بنحوه ابن عبد البر في "الانتقاء في "فضائل الأئمة الثلاثة" (ص/٢٦٧) وقد روى هذا الأثر من طريق كثيرة بألفاظ متقاربة، وانظر مقدمة صفة صلاة النبي (١/ ٢٤).
1 / 13
المناط (١)، فلم يكن عند المتكلم معي شعور بحقيقة الحال ورأى أن أحدًا في هذا العصر لا يصح منه قلت الصحيح (٢) فنظر في كتب الأصحاب وتتبع أمكنة فعله، ثم جاء محتجًّا عليَّ بقول صاحب الاختيار (٣): "والأصل أن الماء القليل ينجس بوقوع النجاسة فيه والكثير لا، ولقوله ﵇ في البحر "هو الطهور ماؤه" (٤) واعتبرناه فوجدناه مما لا يخلص بعضه إلى بعض (٥)، فنقول: كل ما لا يخلص بعضه إلى بعض لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، فهذا معنى قولهم لا يتحرك طرفيه بتحريك الطرف الآخر، واعتبر المشايخ الخلوص بالمساحة، فوجدوه عشرًا في عشرٍ، فقدروه بذلك تيسيرًا، وقال أبو مطيع (٦): إذا كان خمسة عشر في خمسة عشر لا يتخلص، أما عشرين في عشرين لا أرى في
_________
(١) أي متعلقات الحكم، والمناط هو العلة فمعنى تحقيق المناط تحقيق العلة في الفرع.
(٢) حذف فعل القول وذكر المقول، والمقصود أنه لا يصح للمتأخرين التصحيح والخروج عن ربقة التقليد.
(٣) هو عبد الله بن محمود بن مودود بن محمود الموصلي، الحنفي (أبو الفضل، مجد الدين). فقيه. ولد بالموصل في شوال ٥٩٩هـ، وولي القضاء بالكوفة، وتوفي ببغداد في ١٩ المحرم ٦٨٣ هـ. من تصانيفه: شرح الجامع الكبير للشيباني، المختار في الفتوى، الاختيار لتعليل المختار. انظر ترجمته في: الجواهر المضية للقرشي (١/ ٢٩١)، تاج التراجم لمؤلفنا (ص/٢٣)، الأعلام للزركلي (٤/ ١٣٥)، معجم المؤلفين لكحالة (٦/ ١٤٨).
(٤) صحيح: أخرجه أبوداود، والترمذي وقال: «حسن صحيح»، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد (٢/ ٢٣٧، ٣٦١)، وغيرهم - كلهم - من طريق مالك عن صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة عن المغيرة بن أبي بردة عن أبي هريرة ﵁. وفي إسناد هذا الحديث اختلاف، وقد صححه جماعة من العلماء، فنقل ابن حجر في التلخيص (١/ ١٠ - ١١) تصحيحه عن: البخاري فيما حكاه عنه الترمذي، وابن منده، وابن المنذر، والبغوي، وصححه أيضا الشيخ الألباني في «الإرواء»، وصحح إسناده الشيخ الأرناؤوط في هامش المسند.
(٥) المقصود بيان أن القليل ما تصل النجاسة فيه من الجزء المستعمل إلى الجانب الآخر، وإلا فكثير.
(٦) هو: أبو مطيع البلخي: الحكم بن عبد الله بن مسلمة بن عبد الرحمن، الإمام العالم العامل، أحد أعلام هذه الأمة، ومن أقر له بالفضائل جهابذة الأئمة. كان من كبار أصحاب أبي حنيفة، وهو راوي " الفقه الأكبر "، ولي قضاء بلخ، وكانت مدة ولايته على قضاء بلخ ستة عشر سنة، يقول بالحق ويعمل به، وقدم بغداد غير مرة، وحدث بها، وتلقاه أبو يوسف، وتناظر معه، ومن تفرداته، أنه كان يقول بفرضية التسبيحات الثلاث في الركوع والسجود، وقيل كان من رؤوس المرجئة، وقال أبو داود تركوا حديثه لأنه كان جهميا وتوفي ببلخ سنة تسع وتسعين ومائة. وانظر ترجمته في: الجواهر المضية (٢/ ٢٦٥)، تاج التراجم (١/ ٣٣١)، الطبقات السنية (١/ ٢٦٣)، وغيرها.
1 / 14
نفسي منه شيئًا وإن كان له طول ولا عرض له، فالأصح أنه لو كان بحال لو ضم طوله إلى عرضه يصير عشرًا في عشرٍ فهو (١) (ق٢/ أ) كثير، والمختار في العمق ما لا ينحسر أسفله بالغرف (٢)، ثم إذا كانت النجاسة مرئيَّة (٣) لا يتوضأ من موضع الوقوع المتيقن بالنجاسة برؤية عينها، وإن كانت غير مرئية فلو توضأ منها جاز لعدم التيقن بالنجاسة؛ لاحتمال انتقالها، ومنهم من قال: لا يجوز أيضًا؛ لأن الظاهر بقاؤها في الحال" (٤). انتهى
فذكرت له ما في هذا من الفساد فأجاب بأن هذا رجل متقدم مصنف، فاختصرت الكلام عند ظهور المقام، ثم سألني من تتعين إجابته أن أكتب له ما صدر مني في بيان فساد الكلام المتقدم، وما لي في المسألة من تحقيق، وما كنت ذكرت له من مسألة الماء المستعمل، وقلت مستعينًا بالله ﷾ إنه حسبي ونعم الوكيل:
قوله: "والكثير لا" باطل بإجماع الأمة (٥) على الماء الكثير إن تغير بنجس ينجس.
_________
(١) وبعض هذه العبارة مكرر في الأصل.
(٢) أي لا ينكشف بالاغتراف باليد؛ لأنه إذا انحسر ينقطع الماء بعضه عن بعض ويصير الماء في مكانين فتخلص إليه النجاسة، قال ابن نجيم في "البحر الرائق" (١/ ٨١): "حتى لو انكشف ثم اتصل بعد ذلك لا يتوضأ منه".
(٣) كجيفة ميتة ونحوها.
(٤) انظر الاختيار (١/ ١٤ – ١٥).
(٥) والإجماع نقله ابن المنذر حيث قال في "الإجماع" (ص: ٣٥): (وأجمعوا على أن الماء القليل، والكثير إذا وقعت فيه نجاسة، فغيرت للماء طعما، أو لونا، أو ريحًا: أنه نجس ما دام كذلك). وقال ابن حزم في "مراتب الإجماع" (ص/١٧): (واتفقوا أن الماء الراكد إذا كان من الكثرة بحيث إذا حرك وسطه لم يتحرك طرفاه ولا شيء منهما فانه لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو رائحته).
1 / 15
قوله: "كل ما لا يخلص بعضه إلى بعض لا ينجس بوقوع النجاسة فيه". هذا باطل (١) بما تقدم (٢) ومنقوض بما ذكره بعد من قوله: "ثم إن كانت النجاسة مرئيّة لا يتوضأ من موضع
الوقوع للتيقن بالنجاسة برؤية عينها"، ومما ذكره بعد ذلك أيضًا من قوله: "ولو وقعت جيفة في نهر كبير لا يتوضأ من أسفل الجانب الذي فيه الجيفة"، وهذا أبلغ؛ لأنه مع الكثرة جاز قوله: "وهذا معنى قولهم لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر" يتوقف بيان فساده على مقدمته، وهو أن الكلام ليس في بيان نهاية الكثرة؛ لأن أكثر ما لا يخلص بعضه إلى بعض وأكثر ما لا يتحرك أحد طرفيه بتحرك الطرف الآخر، إنما تحقق في نحو الطرفان بل الكلام في أقل ما لا يخلص بعضه إلى بعض؛ ليكون مبتدأ حد الكثرة ويتحقق مقابلة الذي هو نهاية حد القلة، وأنه قد روي في اعتبار التحريك ثلاث روايات إحداها: عدم التحريك بالاغتسال
(ق٢/ ب) وهي رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة. ثانيها: عدم التحريك بالوضوء هي رواية محمد عن أبي حنيفة. ثالثها: عدم التحريك الكتب (٣) إذا عرف هذا فيقال: إن كان أقل ما لا يخلص بعضه إلى بعض هو أقل ما لا يتحرك بالاغتسال يكون بالضرورة أقل ما لا يتحرك بالتوضؤ مما يخلص فيكون في حد القلة، والرواية مبدأ حد الكثرة، وكذا أقل ما لا يتحرك بالتوضؤ يكون مما يتحرك بالاغتسال بالضرورة، وكذا أقل ما لا يتحرك بغسل اليد يكون ما لا يتحرك بالتوضؤ فلا يتصور أن يكون أقل ما لا يخلص بعضه إلى بعض هو أقل ما لا يتحرك أحد طرفيه بتحرك الطرف الآخر على اعتبار الروايات كلها للتنافي، وإن كان على اعتبار التحريك بأحد الروايات، فليس في الكلام ما يفيده ولا يصح له وجه؛ لأنه امتحان أمرٌ حسّيّ بأمر حسّيّ.
قوله: "وامتحن المشايخ الخلوص بالمساحة، فوجدوه عشرً في عشرٍ" يتأتى في فساد ما تقدم؛ لأنهم إن كانوا امتحنوا ما لا يخلص بحركة الاغتسال ورد عليه رواية التوضؤ، وغسل اليد .. الخ ما قدمناه، وفيه مخالفة لما ذكروه في عامة الكتب المطولات عن محمد ﵀ أنه سئل عن الغدير العظيم،
_________
(١) بالأصل زيادة: "بإجماع الأمة" إلا أنه مضروب عليها.
(٢) أي بالإجماع السابق.
(٣) كذا بالأصل: والصواب: " باليد "، وهو الموافق للروايات المذكورة في المذهب، وهو الموافق أيضا للسياق.
1 / 16
فقال: قدر مسجدي هذا فذرع (١)، فكان عشرًا في عشرٍ من خارج الجدار إلى آخره، ولما قاله نوح الجامع (٢) في جامعه عن محمد ﵀ – أنه كان يوقت بعشرًا في عشرٍ، ولفظ المشايخ في عرفهم يراد به من بعد أبي حنيفة وصاحبيه، وإذا كانت المسألة
منصوصة عن أحد الثلاثة لا يقال فيها امتحن المشايخ .. الخ.
قوله: "وقال أبو مطيع: إذا كان خمسة عشر في خمسة عشر لا يخلص". يقال للمصنف: لو كان امتحان المشايخ على ما ذكرت لم يتصور أن يقع فيه خلاف لأن ما وجد علي كمية مخصوصة لا يعقل مخالفته، وإن كان قول أبي مطيع على اعتبار التحريك بالاغتسال
(ق٣ / أ) وقول المشايخ الذي نسب إليهم الامتحان بعشر على اعتبار غير الاغتسال نفي قوله، وهذا معنى قولهم لا يتحرك إلى آخره ... (٣) وعلى هذا فالخمسة عشر أعلى الاعتبارات، فما معنى قوله بعد ذلك: "أما العشرون في العشرين، فلا أجد في نفسي منه شيئًا".
قوله: "وإن كان له طول ولا عرض له فالأصح أنه لو كان بحال لو ضم طوله إلى عرضه يصير عشرًا في عشرٍ فهو كثير" مبني على أن الكثرة أثرًا، وسيأتي ما يظهر به فساده. قوله: "والمختار في العمق ما لا ينحسر أسفله بالغرف" مقابل هذا المختار ذراع، وشبر، وعرض ... (٤)، وما يستر وجه الأرض
_________
(١) أي قيس بالذراع، والذراع هي بسط اليد ومدها، وأصله من الذراع وهو الساعد، وهو ما بين طرفي المرفق إلى طرف الأصبع الوسطى، ومقداره في المذهب الحنفي (٣٧٥،٤٦) سم، وانظر رسالة المكاييل والموازين الشرعية (ص/٥٠).
(٢) هو نوح بن أبى مريم، أبو عصمة القرشى قاضى مرو، ويعرف بنوح الجامع سمى الجامع لأنه أخذ الرأى عن أبى حنيفة، وابن أبى ليلى والحديث عن حجاج بن أرطاة ومن كان فى زمانه، وأخذ المغازى عن محمد بن إسحاق، والتفسير عن الكلبى، ومقاتل، وكان مع ذلك عالما بأمور الدنيا، فسمى نوح الجامع كان فقيها واسع العلم وكان له أربع مجالس مجلس للأثر ومجلس لأقاويل أبي حنيفة ومجلس للنحو ومجلس للشعر إلا أنهم كذبوه في الحديث، وَقِيلَ: كَانَ مُرْجِئًا توفي سنة ثلاث وسبعين ومائة. وانظر ترجمته في الجواهر المضية (١/ ١٧٦)، تاج التراجم (١/ ١٤٦)، معجم المؤلفين (١٣/ ١١٩)، وتاريخ الإسلام (٤/ ٧٥٧)، وغيرها.
(٣) كلمة غير واضحة بالأصل.
(٤) كلمة غير واضحة بالأصل.
1 / 17
وفيه دليل على فساد ما تقدم، وذلك أن امتحان الخلوص بالاغتسال لا يتصور في حد العمق، ولا يمكن أن يقال فيه بطريق الفرض؛ لأن الكلام في أنهم امتحنوا ما لا يخلص بنفسه بفعل حسي، وهو الاغتسال على زعمه، ثم ذرعوا ما لا يتحرك، فوجدوه عشرًا في عشرٍ هذا ظاهر كلامه على ما لا يخفى. قوله: "ثم إن كانت النجاسة مرئيّة لا يتوضأ من موضع الوقوع"، يقال له: إذا كان الحكم هذا فأين الأصل الذي هو ادعيته، وهو أن الكثير لا ينجس، وكيف خرج هذا عن دليل الأصل الذي أوردته، وهو الحديث به، فليزمك أحد أمرين: إما عدم صحة الأصل الذي ادعيته، أو عدم صحة دلالة الحديث عليه، أو مخالفة الحديث بالرأي قوله: لاحتمال انتقالها إذا كان فرض المسألة في نجاسة مائعة وقعت في ما راكد فأين تنتقل؟ وهذا لا يجري هذا الاحتمال في البئر إذا وقعت فيها نجاسة مائعة ونزح بعضها. قوله: "ومنهم من قال: لا يجوز أيضًا؛ لأن الظاهر بقاؤها في الحال" ظاهر السوق أن هذا مرجوح بالنسبة إلى المتقدم، وقد صرح بذلك صاحب التحفة والبدائع على مآتي فقال له: قد علم أن الحكم يكون مع الظاهر، إلا أن يقوم دليل يخالفه، فكيف (ق٣ / ب) كان الراجح هنا بخلاف الظاهر بلا دليل، واحتمال الانتقال قد علمت ما فيه، ثم مفهوم قوله: "بقاؤها في الحال" أنه إذا أتى عليها زمان بات يجوز بلا خلاف، ولم يظهر له وجه؛ لأنه متى حكم بنجاسته في الحال للاختلاط لا يحكم بطهارته بعد الاستهلاك، وهذا الكلام وإن كان قد سبق إليه الشيخ علاء الدين السمرقندي (١) في التحفة؛ حيث قال: "وأما إذا كان الماء راكدًا اختلف العلماء. قال أصحاب الظواهر: بأن الماء لا ينجس بوقوع النجاسة فيه كيفما كان؛ لقوله ﵇: "خلق الماء طهورًا لا ينجسه شيء" (٢)، وقال عامة العلماء: إن كان الماء قليلًا ينجس، وإن كان كثيرًا لا ينجس،
_________
(١) هو محمد بن أحمد بن أبي أحمد، الإمام، علاء الدين، أبو منصور، السمرقندي. تفقه عليه الإمام أبو بكر بن مسعود الكاساني، وغيره. وله كتاب "تحفة الفقهاء" واللباب في الأصول، وغير ذلك. توفي نحو (٥٤٠ هـ) وترجمته في الجواهر المضية (٢/ ٦)، الأعلام للزركلي (٥/ ٣١٧)، معجم المؤلفين لكحالة (٨/ ٢٢٨) وغيرها.
(٢) لا أصل له: الحديث بهذا اللفظ لم أقف عليه، وقال ابن حجر في موافقة الخبر الخبر (١/ ٤٨٥) عن حديث: (خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه): الحديث بهذا السياق لا يوجد في شيء من كتب الحديث.
1 / 18
واختلفوا في الحد الفاصل بينهما، فقال مالك: إن كان بحال يتغير طعمه أو لونه أو ريحه فهو دليل (١)، وإن كان لا يتغير فهو كثير، وقال الشافعي: إذا بلغ الماء قلتين فهو كثير لا يحمل الخبث؛ لورود الحديث (٢)، وقال العلماء (٣) ﵃: وإن كان الماء بحال يخلص بعضه إلى بعض فهو قليل، وإن كان لا يخلص فهو كثير، واختلفوا في تفسير الخلوص. اتفقت الروايات عن أصحاب المتقدمين أنه يعتبر بالتحريك، فإن تحرك طرف منه بتحرك الجانب الآخر، فهذا مما يخلص، وإن كان لا يتحرك فهو مما لا يخلص، ولكن في رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة يعتبر التحريك بالاغتسال، وفي رواية محمد بالوضوء والمشايخ المتأخرين اعتبر بعضهم الخلوص بالصبغ، بالتحريك، بالتكدير (٤) وقال بعضهم بالمساحة إن كان عشرًا في عشرٍ فهو مما لا يخلص، وإن كان دونه فهو مما يخلص، وبه أخذ مشايخ بلخ، ثم إن كانت النجاسة مرئيّة (٥) مثل أن يبول فيه إنسان أو اغتسل فيه جُنُب اختلف المشايخ فيه. قال مشايخ العراق: بأن حكم المرئيّة وغير المرئيّة سواءً، فإنه لا يتوضأ من الجانب الذي وقعت (ق٤/ أ) فيه النجاسة، وإنما يتوضأ من الجانب الآخر بخلاف الماء الجاري، ومشايخنا فصلوا بين ... الأمرين كما قالوا جميعًا في الماء الجاري، وهو الأصح" (٦). انتهى وتبعه الشيخ الإمام أبو بكر الكاساني (٧) في "البدائع" فقال: "فإن كان راكدًا فقد اختلف فيه. قال أصحاب الظوهر: أن الماء لا ينجس بوقوع النجاسة فيه أصلًا سواء كان راكدًا أو جاريًا وسواء كان قليلًا أو كثيرًا تتغير لونه أو طعمه أو رائحته أو لم يتغير، وقال عامة العلماء: إن كان قليلًا ينجس، وإن كان كثيرًا لا ينجس؛
_________
(١) كذا بالأصل: والصواب: "قليل".
(٢) أي حديث القلتين وسيأتي.
(٣) أي من الحنفية، وبالتحفة التي ينقل عنها: "وقال علماؤنا".
(٤) ونص العبارة بالتحفة: (اعتبر بعضهم الخلوص بالصبغ وبعضهم بالتكدير وبعضهم بالمساحة).
(٥) كذا بالأصل: والصواب "غير مرئية" كما في "التحفة.
(٦) تحفة الفقهاء (١/ ٥٧ – ٥٨).
(٧) هو أبو بكر مسعود بن أحمد، علاء الدين الكاساني - الفقيه الحنفي ويعرف بملك العلماء ونسبته إلى كاسان بلدة كبيرة بتركستان خلف سيحون وراء الشاش، ومن أهم مصنفاته: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع وكتاب السلطان المبين في أصول الدين، توفي في ٥٨٧هـ، وترجمته في الجواهر المضية في طبقات الحنفية (٢/ ٢٤٤)، الأعلام للزركلي (٣/ ٧٦ - ٧٧)، سير أعلام النبلاء (٤/ ٣٠٥) ٠
1 / 19
لكونهم اختلفوا في الحد الفاصل بين القليل والكثير. قال مالك: إن تغير لونه أو طعمه أو رائحته فهو قليل، وإن لم يتغير فهو كثير، وقال الشافعي: إذا بلغ الماء قلتين فهو كثير والقلتان عنده خمس قرب
كل قربة خمسون منًّا فيكون جملته مائتين وخمسون منًّا. وقال أصحابنا: إن كان بحال يخلص بعضه إلى بعض فهو قليل، وإن كان لا يخلص فهو كثير، فأما أصحاب الظواهر فاحتجوا بظاهر قول النبي ﷺ: "الماء طهور لا ينجسه شيء" (١) واحتج مالك بقوله ﷺ: "خلق الماء طهورًا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو رائحته" (٢)،
وهو تمام الحديث أو بني العام على الخاص عملا الدليل (٣)، واحتج الشافعي ﵁ بقول النبي ﷺ: "إذا بلغ الماء قلتين لا يحمل خبثًا" (٤) –أي يرفع الخبث عن نفسه- وقال الشافعي: قال ابن جريج: أراد بالقلتين قلال هجر كل قربة تسع فيها قربتين وشيئًا. قال الشافعي: وشيء مجهول، فقدرته بالنصف احتياطًا، ولنا ما روي عن النبي ﷺ
_________
(١) صحيح - أخرجه أبو داود، والترمذي، وقال: حسن، والنسائي، وأحمد: (٣/ ٣١، ٨٦)، وغيرهم من حديث أبي سعيد – ﵁ – به، وقال ابن حجر في التلخيص: (١/ ١٣): "صححه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين".
(٢) إسناده ضعيف بهذا التمام – أخرجه ابن ماجه، والطبراني في "الكبير"، و"الأوسط"، والدارقطني من طريق رشدين بن سعد عن معاوية بن صالح عن راشد ين سعد عن أبي أمامة ﵁ به، وفي إسناده رشدين بن سعد قال عنه في «التقريب»: «ضعيف»، وفي «التلخيص»: «متروك»، والحديث ضعفه الشافعي، والدارقطني، والحافظ، وقال النووي: "اتفق المحدثون على تضعيفه"، إلا أن الإجماع منعقد على معنى هذه الزيادة.
(٣) كذا بالأصل، وفي البدائع: " بالدليلين".
(٤) صحيح: أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد (٢/ ١٢، ٢٦، ٣٨)، والدارمي (١/ ١٨٦ - ١٨٧)، والشافعي في «المسند» (ص٧)، وعبد بن حميد (٨١٧) (ص٢٥٩)، وابن الجارود (٤٤) (ص٢٣)، وابن خزيمة (٩٢) (١/ ٤٩)، وغيرهم من طريق محمد بن جعفر عن عبدالله، وعند بعضهم عبيدالله بن عبدالله بن عمر عن ابن عمر ﵄ به، والحديث صححه الطحاوي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والنووي، وابن حجر، وغيرهم، وأما إعلال البعض له بالاضطراب فإنما ذلك في بعض طرقه الضعيفة.
1 / 20