بيانات الكتاب
عنوان الكتاب: الرد على من قال بفناء الجنة والنار وبيان الأقوال في ذلك
تأليف: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (٧٢٨هـ)
دراسة وتحقيق: محمد بن عبد الله السمهري
الناشر: دار بلنسية الرياض
الطبعة: الأولى١٤١٥هـ - ١٩٩٥م
عدد المجلدات: [١]
مصدر الكتاب: موقع المكتبة الرقمية
(*) تم الحفاظ على ترتيب الصفحات
اعتنى به أسامة بن الزهراء - عفا الله عنه - عضو في ملتقى أهل الحديث
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المحقق:
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد ...
فقد شاع واشتهر على ألسنة كثير من الدارسين لمسائل العقيدة القول بأن شيخ الإسلام ابن تيمية يميل إلى القول بفناء النار، وأن له في ذلك رسالة، وأن ما كتبه تلميذه العلامة ابن القيم في كتابه: "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" في الباب السابع والستين حول هذه المسألة -مسألة فناء النار - قد استقاه من كلام شيخه ابن تيمية في تلك الرسالة (١) .
وأثناء بحثي في مخطوطات دار الكتب المصرية عثرت على نسخة خطية لرسالة مخطوطة في هذا الموضوع وقد تبيين لي - كما سيأتي - أنها هي رسالة شيخ الإسلام المشار إليها (٢)، وقد رغبت في تحقيقها وإخراجها وذلك لعدة أسباب أجملها فيما يلي:
أولا: أن هذه الرسالة لم تنتشر حتى الآن ضمن مؤلفات الشيخ المطبوعة.
ثانيا: أن هذه النسخة نادرة، مع أن بعض العلماء حرصوا على الحصول عليها، يقول الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: "ولقد كان أملي كبيرا أن أجد
_________
(١) انظر "ص١٥" من هذا البحث.
(٢) انظر "ص١٢".
1 / 5
رسالة ابن تيمية هذه مطبوعة في "مجموع الفتاوى" التي جمعها الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم في خمسة وثلاثين مجلدا، ولكني - مع الأسف - لم أجد لها أثرا في شيء منها، بعد تقليبي لها كلها، والاستعانة بالفهارس التفصيلية الموضوعة لها ... " (١) .
ثالثا: كثرة السائلين عن رأي شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة فناء النار، فلعل في نشر هذه الرسالة إجابة لذلك.
رابعا: أن خصوم شيخ الإسلام جعلوا من هذه الرسالة ذريعة للنيل منه والطعن فيه منذ عصره، وعلى رأس هؤلاء الشيخ علي بن عبد الكافي السبكي المتوفى سنة ٧٥٦هـ، فقد ألف رسالة بعنوان "الاعتبار ببقاء الجنة والنار" (٢) وهي رد على رسالة الشيخ التي هي موضوع البحث، وقد تحامل السبكي في هذه الرسالة في الرد على شيخ الإسلام ولم ينصفه، ثم شقت رسالته تلك طريقها إلى عالم المطبوعات، وصارت منشورة بسعي خصوم شيخ الإسلام المعاصرين ومن سار في ركابهم، فكان لابد من وضع الأمر في نصابه، كما سيأتي إن شاء الله (٣) .
خامسا: أن ندرة نسخ هذه الرسالة جعلت الآراء تتضارب في إثباتها ونفيها بالنسبة لشيخ الإسلام كما نراه في كلام الدكتور علي الحربي، في رسالة له مطبوعة متداولة (٤) .
_________
(١) مقدمة كتاب: "رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار" للصنعاني تحقيق وتعليق الشيخ الألباني "ص١٤".
(٢) طبع هذا الكتاب بمطبعة الترقي بدمشق عام ١٣٤٧هـ وتوجد منه نسخة خطبة، مكتبة جستريتي بدبلن بهلوندا ضمن مجموعة برقم ٣٤٠٥/٦.
(٣) "١٩-٢٣".
(٤) هي رسالة بعنوان: "كشف الأستار لإبطال ادعاء فناء النار" طبع سنة ١٤١٠هـ وسيأتي مناقشة بعض ما فيها عند دراسة الكتاب إن شاء الله "ص١٩-٢٥".
1 / 6
هذا، وقد جعلت خطة البحث بعد تلك المقدمة على النحو التالي:
القسم الأول: دراسة الكتاب ومنهجي في تحقيقه، والتعليق عليه، ووصف ما اعتمدت عليه من نسخ الكتاب ويشمل على المباحث التالية:
١ - المبحث الأول: تسمية الكتاب.
٢ - المبحث الثاني: نسبته للمؤلف.
٣ - المبحث الثالث: موقف شيخ الإسلام من مسألة فناء النار وآراء العلماء في ذلك وموقفهم من نسبة هذه المسألة إلى شيخ الإسلام.
٤ - المبحث الرابع: بيان منهجي في تحقيق الكتاب والتعليق عليه.
٥ - المبحث الخامس: وصف ما اعتمدت عليه من نسخ الكتاب.
القسم الثاني: نص الكتاب محققا ومعلقا عليه ثم الفهارس.
1 / 7
المبحث الأول: أسباب تحقيق الرسالة
القسم الأول: "دراسة الكتاب، ومنهجي في تحقيقه والتعليق عليه، ووصف ما اعتمدته في التحقيق من نسخه" ويشمل عدة مباحث:
المبحث الأول: تسمية الكتاب
لم أقف لهذه الرسالة على تسمية معينة من مؤلفها شيخ الإسلام ابن تيمية.
نعم قال تلميذه العلامة ابن القيم: "وكنت سألت شيخ الإسلام - قدس الله روحه - فقال لي هذه مسألة عظيمة كبيرة ولم يجب فيها بشيء، فمضى على ذلك زمن، فكتب فيها مصنفه المشهور - عليه رحمة الله (١) ".
لكن هذه ليست تسمية اصطلاحية كما ترى ... ولهذا تعدد عنوانها، فنسخة المكتب الإسلامي جاء في بدايتها ما نصه: "قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية - رحمه الله تعالى - في رسالته في "الرد على من قال بفناء الجنة والنار" "ما نصه ... " (٢) .
وهذا العنوان يوافق ما ذكره الإمام ابن عبد الهادي حيث ذكر من مؤلفات الشيخ "قاعدة في الرد على من قال بفناء الجنة والنار" (٣) .
أمَّا نسخة دار الكتب المصرية (٤) فكتب فوق بدايتها من الجهة اليمنى
_________
(١) شفاء العليل "٤٣٥".
(٢) صورة الصفحة الأولى من نسخة المكتب الإسلامي كما في مقدمة "رفع الأستار" "٥٣".
(٣) انظر: "العقود الدرية" "٦٧".
(٤) سيأتي التعريف بها "ص٢٩".
1 / 9
للصفحة ما نصه: "فصل في فناء الجنة والنار، وقد تنازع الناس في ذلك على ثلاثة أقوال". وذكر الثلاثة (١) .
وهذا العنوان مطابق لمضمون الكتاب.
ولكن جاء في بداية الرسالة بعد البسملة والحمدَلَة ما نصه "مسألة في الرد على من قال بفناء الجنة والنار وعلى من قال (٢) . كالفارابية وذكر اختلاف الناس".
وجاء مقابل هذا الهامش الأيسر للنسخة ما نصه "حاشية" "مسألة في الرد على من قال بفناء الجنة والنار وبقائها، وبيان الصواب من ذلك" ثم كتب عقب ذلك ما نصه: "هذا في نسخة". ومقتضى ذلك أن هذه الرسالة اختلفت عناوين نسخها بناء على فهم لمضمون الرسالة عند نسخها.
وأما أحد خصوم الشيخ ومعاصره وهو: الشيخ علي بن عبد الكافي السُبكي المتوفى سنة ٧٥٦ هجرية، فقد ألف رسالة بعنوان "الاعتبار ببقاء الجنة والنار" وهي رد على رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية قال فيها: "وبدأنا بالنار، لأنا وقفنا على تصنيف لبعض أهل العصر في فنائها" (٣) .
وقال الدكتور علي الحربي: إن الرسالة "رد على من قال بفناء النار" وإنها لهذا لا يصح استدلال الخصوم بها على أن ابن تيمية يقول بفناء النار، لأنها حجة عليهم لا لهم، كما هو صريح عنوان الرسالة المزعومة (٤) .
ومما تقدم يظهر لنا أن الكتاب تعددت تسميته فيما توفر لدينا من نسخة الخطية، وفي بيان بعض العلماء والباحثين لموضوعه.
_________
(١) نسخة دار الكتب المصرية ١/أ.
(٢) بياض في النسخة.
(٣) "ص٦٧" من رسالة المذكورة.
(٤) "كشف الأستار" "ص٨٢".
1 / 10
وخلاصة ذلك: أنه تارة أطلق على الكتاب أنه "رد على من قال بفناء الجنة والنار".
وتارة أطلق عليه أنه: "تصنيف في فناء النار".
وتارة أطلق عليه "فصل في فناء الجنة والنار، وقد تنازع الناس في ذلك على ثلاثة أقوال".
وهذا الإطلاق الأخير هو المطابق لمضمون الكتاب فعلا.
أما الإطلاق الأول: وما رتب عليه الدكتور الحربي فغير مسلَّم، لأن هذا العنوان ليس من صنع المؤلف وهو شيخ الإسلام ابن تيمية، وليس متفقا فيما توفر لدينا من نسخ الكتاب الخطية، كما أنه ليس مطابقا لواقع مضامين الكتاب كما تقدم.
أما الإطلاق الثاني: فهو صادر من خصم في معرض الرد والانتقاد لشيخ الإسلام، فاقتصر في عنونة الكتاب على بعض مضامينه، التي يريد الرد عليها، مع أن مضامين الكتاب أعم من ذلك، كما صرح به السُبكي نفسه في كتابه المتقدم الإشارة إليه فقال: "وقد وقفت على تصنيف المذكور وذكر - يعني شيخ الإسلام - فهي ثلاثة أقوال في فناء الجنة والنار" (١) .
وعلى ذلك يكون العنوان المطابق لواقع الكتاب هو: "الرد على من قال بفناء الجنة والنار، وبيان الأقوال في ذلك".
وهو أقرب شيء لأحد عناوين نسخة دار الكتب المصرية كما سبق ذكره.
ولهذا جعلته عنوانا للكتاب، والله الموفق للصواب.
_________
(١) الاعتبار ببقاء الجنة والنار للسبكي "ص٦٧ ".
1 / 11
المبحث الثاني: نسبة الكتاب إلى المؤلف
تعتبر نسبة هذا الكتاب إلى مؤلفه شيخ الإسلام ابن تيمية أمرا هاما، نظرا لما وقع في ذلك من اختلاف بين الباحثين والمفهرسين، وشمل الخلاف المؤيدين للشيخ والمعارضين له، ووصل الأمر إلى حد إنكار وجود هذا التأليف لشيخ الإسلام، والحكم بوهم من نسبه إليه، وإن كان الذي نسبه من ألصق الناس وأخبرهم به، وهو تلميذه ابن القيم وبيان ذلك:
أن النسخة التي وجدت من هذا الكتاب في دار الكتاب المصرية (١) لم يذكر فيها نسبتها إلى شيخ الإسلام، وبناء على ذلك تردد المفهرسون في نسبتها للمؤلف، فقالوا عند فهرستها: يظن أنها لشيخ الإسلام ابن تيمية (٢) .
وتبعا لذلك ذكر الدكتور عوض الله حجازي في كتابه "ابن القيم وموقفه من التفكير الإسلامي" (٣) أن تلك الرسالة مجهولة المؤلف، لكنه اتبع ذلك بقوله: "ويظهر أنها من مؤلفات ابن تيمية".
أما الدكتور علي بن علي جابر الحربي، فتعدد إنكاره لوجود قول لشيخ الإسلام بفناء النار، أو وجود تأليفه له في هذا الموضوع، وذكر أن ابن القيم وابن الوزير قد وهما في نسبة ذلك إلى شيخ الإسلام، ثم راح يلمتس لهما عذرا بأن
_________
(١) سيأتي التعريف بها "ص٢٩".
(٢) كذا في بطاقة فهرسة النسخة بدار الكتب المصرية.
(٣) "ص٣١٠".
1 / 12
الكمال لله وحده وأن ذلك من الوهم اليسير الذي لا يخرج العالم عن حد الثقة (١) .
وفي بعض المرات ذكر أن ما صرح به ابن القيم من أن شيخه شيخ الإسلام صنف في هذه المسألة مصنفه المشهور لكنه لم يصل إلينا -حسب علمي - ولو نشر لأقام الدنيا وأقعدها خصومه (٢) .
وفي موضع ثان قال: "ويغلب على ظني عدم وجوده" (٣) .
وفي موضع آخر قال: "إن الرسالة المزعومة" (٤) .
فلما رأى الدكتور الحربي أن الشيخ الألباني ذكر قطعة من نسخة خطية، وجدت لدى المكتب الإسلامي ومصرح فيها بنسبة الكتاب إلى شيخ الإسلام كما سيأتي توضيحه (٥) لما رأى الدكتور ذلك وحاول دفع نسبتها لشيخ الإسلام فقال: "وأما الورقات الثلاث التي ذكر الألباني أنه وجدها في دشت ضمن مخطوطات المكتب الإسلامي، وصورها في مقدمته لكتاب "رفع الأستار" للصنعاني، وأنها لكاتب مجهول من خطوط القرن الحادي عشر الهجري من رسالة لابن تيمية في الرد على من قال بفناء الجنة والنار، فلا تعتبر من مصنفات ابن تيمية، لانتفاء الشروط المتبعة في مناهج البحث والتحقيق المعروفة عند أهل هذا الشأن، ومن ذلك جهالة الكاتب" (٦) .
_________
(١) "كشف الأستار لإبطال ادعاء فناء النار" للدكتور علي الحربي "١٦-١٧-٢٨-٣٠-٣١-٣٤-٤١-٥٨-٥٩-٦٩-٧٠-٧١-٧٧-٨٢-٨٣.
(٢) المرجع السابق "ص٨٢".
(٣) المرجع السابق "ص٤٥".
(٤) المرجع السابق "ص٥٩".
(٥) المرجع السابق "ص٨٢".
(٦) المرجع السابق "ص٨٢".
1 / 13
وقال: "شهادته - يعني ابن القيم - بأن شيخه في هذه المسألة مصنفه المشهور الذي لم يظهر منه شيء سوى لصفحات الثلاث المشار إليها سابقا بأنها مجهولة الناسخ والتاريخ، مفتقرة للشروط المتبعة في مناهج البحث والتحقيق، ومعلوم عند أهل هذا الشأن ما يترتب على ذلك من عدم الثبوت" (١) .
ويمكن الجواب عن هذا بما يلي:
أولا: أنه طالما صرح في هذه القطعة بنسبة الكتاب لشيخ الإسلام، فلا يطعن في ذلك جهالة تاريخ النسخة، ولا جهالة ناسخها، محاولة الاستناد في دفع الثبوت إلى الشروط المتبعة في مناهج البحث والتحقيق، بناء على جهالة الناسخ وتاريخ النسخ، فهذا غير مُسَلَّم، حيث لم يعرف في تلك المناهج والقواعد أن جهالة الناسخ، وجهالة التاريخ للنسخة مما يقدح أيُّ منهما في نسبتها لمؤلفها المصرح به في صدر النسخة (٢) .
ثانيا: أننا لو جعلنا جهالة الناسخ وتاريخ النسخ يقدحان في النسبة المصرح بها للمؤلف لترتب على ذلك أن نقدح في نسبة كثير من المؤلفات المخطوطة مما لم يوجد عليها اسم الناسخ، ولا تاريخ النسخ، كما يعرف ذلك من مراجعة فهارس المخطوطات، على أنه قد توفرت نسخة ثانية كاملة للكتاب وأثبت في آخرها اسم الناسخ، ومقابلته لها بأصلها.
ثالثا: ومما يؤيد صحة نسبة هذه الرسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية ما تضمنه من نصوص وإحالات. تتطابق مع النقول والمؤلفات التي تثبت نسبتها لشيخ الإسلام كما يتضح ذلك من مراجعة النص المحقق وتوثيقه والتعليق عليه (٣) .
_________
(١) المرجع السابق "ص٥٨".
(٢) "رفع الأستار" للصنعاني تحقيق الألباني "ص٨-٩-٥٣"
(٣) انظر من أمثلة ذلك "ص٤٤" هامش ٥، "ص٤٥" هامش ٣، "ص٤٩"، هامش ١"هامش ٤.
1 / 14
رابعا: أنه قد صرح بنسبة هذا الكتاب للمؤلف من لا يشك في خبرته بالشيخ، وولائه له ولاعتقاده السلفي، ألا وهو العلامة ابن القيم.
فقد قرر أن لشيخه ابن تيمية تصنيفا مشهورا في مسألة فناء النار (١) وشهادته دليل قاطع.
بل إن ما ذكره في كتابه "حادي الأرواح" حول هذه المسألة قد اعتمد فيه على رسالة شيخه ابن تيمية التي هي بصدد التحقيق، فإنه أحيانا يصرح بالنقل وأحيانا ينقل بتصرف وقد أشرت إلى ذلك في الهامش أثناء التحقيق.
خامسا: هذه الرسالة قد نسبها إلى شيخ الإسلام من خصومه المعاصرين له الشيخ: علي بن عبد الكافي السبكي، حيث ألف رسالة بعنوان "الاعتبار ببقاء الجنة والنار" وفي أثنائها قال: "وبدأنا بالنار لأنا وقفنا على تصنيف لبعض أهل العصر في فنائها" (٢) .
ثم قال: "وقد وقفت على التصنيف المذكور، وذكر فيه ثلاثة أقوال في فناء الجنة والنار" (٣):
أحدها: أنهما تفنيان وقال إنه لم يقل به أحد من السلف.
والثاني: أنهما لا تفنيان.
والثالث: أن الجنة تبقى والنار تفنى (٤) .
وجميع النصوص التي ساقها السُبكي في رسالته موجودة في رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية التي هي موضوع التحقيق.
وبكل حال، فإن الناظر في هذه الرسالة يلحظ سمة بارزة لمنهج شيخ
_________
(١) شفاء العليل "ص٤٣٥".
(٢) "ص٦٦" من الرسالة المذكورة. ضمن مجموع.
(٣) المرجع السابق "ص٦٧".
(٤) المرجع السابق نفسه.
1 / 15
الإسلام من حيث الأسلوب ومناقشة القضايا ولا يختلف أسلوب هذه الرسالة عن سائر مؤلفاته.
وهذا مما يؤيد صحة نسبة هذه الرسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية ﵀
1 / 16
المبحث الثالث:
ويتضمن الآتي:
١ - من تناول مسألة فناء النار غير ابن تيمية.
٢ - موقف شيخ الإسلام من مسألة فناء النار، وآراء العلماء في ذلك ومناقشتها.
وإليك تفصيل:
أولا: من تناول مسألة فناء النار غير ابن تيمية:
قبل الشروع في التعرف على موقف شيخ الإسلام من مسألة فناء النار يجدر معرفة أمر مهم، ألا وهو: بيان من تكلم في هذه المسألة غير ابن تيمية، فإن المتتبع لها في مظانها يجد العلماء السابقين على ابن تيمية واللاحقين له، قد تكلموا فيها تارة بذكر الروايات الواردة عن السلف فيها، وأحيانا بالإشارة إلى هذا القول وذكر الخلاف فيه، وقد أشار إلى ذلك جمع من العلماء منهم:
عبد بن حميد فقد ذكر الروايات في "تفسيره" (١) وعبد الحق بن عطية الأندلسي في تفسيره (٢) والفخر الرازي في تفسيره (٣)، والقرطبي في "التذكرة" (٤)، وابن أبي العز الحنفي في "شرح الطحاوية" (٥)، وابن القيم في "حادي الأرواح" (٦) وهو أوسعهم كلاما، ومحمد الأمين الشنقيطي في كتابه: "دفع إيهام الاضطراب
_________
(١) أورده ابن القيم في "شفاء العليل" "ص٤٣٥".
(٢) "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" ٧/٤٠٢ ط. قطر.
(٣) "التفسير الكبير" للرازي ١٨/٦٣.
(٤) "٥٢٦".
(٥) "ص٤٨٠-٤٨٦".
(٦) "ص٣٤٠-٣٧٩".
1 / 17
عن آيات الكتاب" (١)، وأبو حامد الغزالي في كتابه: "المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" (٢)، وابن الوزير في كتابه: "إيثار الحق على الخلق" (٣)، والإمام الذهبي له مصنف في "صفة النار" يقع في جزأين (٤)، والحافظ بن رجب في كتاب "التخويف من النار" (٥)، والشيخ مرعي بن يوسف له كتاب: "توقيف الفريقين على خلود أهل الدارين" (٦) . والشيخ الصنعاني في كتابه ... رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار" (٧) .
هذا وبناءً على ما تقدم تبيين لي أن الكلام في مسألة فناء النار معروف لدى العلماء قبل عصر ابن تيمية وفي عصره، وبعده كما في عصره، وبعد كما في المصادر السابقة، وعليه ما موقفه من هذه المسألة؟
ثانيا: موقف شيخ الإسلام من مسألة فناء النار، وآراء العلماء في ذلك ومناقشتها:
لا يوجد لشيخ الإسلام - فيما أعلم - نص واضح جلي في هذه المسألة، ولكن له هذه الرسالة التي ألَّفها جوابا عن سؤال وجه إليه، فأجاب بذكر آراء غيره من العلماء في ذلك، وبين الفرق بين الدوام الجنة والنار، وفنائهما، ولم يعقب على ما ذكر من الآراء بقول خاص له هو، ومن هنا اختلفت الآراء والمفاهيم حول موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من المسألة، وذلك على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: تحاملوا على ابن تيمية وجعلوه حامل لواء هذه المسألة، وجعلوا منها غرضا للنيل منه وتضليله، وعلى رأس هذا القسم الشيخ علي بن عبد الكافي
_________
(١) "ص١٢٢-١٢٨".
(٢) "ص٦٢-٦٣".
(٣) "ص٢١٩".
(٤) "رفع الأستار" للصنعاني "ص٦٢".
(٥) وهو مطبوع مشهور
(٦) وهو مطبوع.
(٧) وهو مطبوع بتحقيق الشيخ محمد الألباني.
1 / 18
السُبكي المتوفي سنة ٧٥٦هـ، فإن له رسالة بعنوان "الاعتبار ببقاء الجنة والنار" ألفها ردا على رسالة شيخ الإسلام التي أقوم بتحقيقها، لكن بالمقارنة بين الرسالتين، رسالة ابن تيمية ورسالة السُبكي، نجد أن رسالة السبكي في رسالته تلك قد تحامل على ابن تيمية، سيأتي بيان أوجه ذلك.
القسم الثاني: من أنكر نسبة القول بفناء النار إلى شيخ لإسلام ابن تيمية، وقال إنه بريء منه براءة الذئب من دم يوسف بن يعقوب، ومن هؤلاء الدكتور علي بن علي الحربي اليماني، مؤلف كتاب "كشف الأستار لإبطال ادعاء فناء النار"، المنسوب لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية" وسأعرض وجهة نظره في ذلك (١) .
القسم الثالث: تأملوا النصوص الواردة عن ابن تيمية في هذه المسألة وقالوا: إنه يميل فقط إلى القول بفناء النار انطلاقا من سعة رحمة الله وسيأتي ذكر هؤلاء.
وهذا أوان عرض تلك الآراء ومناقشتها:
أولا: ما كتبه السبكي في رسالته "الاعتبار ببقاء الجنة والنار" فبعد استعراض ما ذكره السبكي في هذه الرسالة التي هي رد على رسالة ابن تيمية، لاحظت أمورا سأشير إلى بعضها بإيجاز:
أولا: عنوان الرسالة "الاعتبار ببقاء الجنة والنار" فهو يشعر بأن ابن تيمية يقول بفناء كل من الجنة والنار كما هو مذهب الجهمية والمعتزلة، وليس الأمر كذلك بدليل أنه يرد على هؤلاء القائلين بفناء الجنة والنار، وإنما الذي نسب إليه مسألة فناء النار فقط.
ثانيا: في هذه الرسالة تطاول السبكي على أن ابن تيمية، وصفه بأوصاف
_________
(١) "ص٢٢".
1 / 19
بشعة. حيث إن من يطلع على رسالة السبكي يفهم أن ابن تيمية هو أول من تكلم في هذه المسألة، والحال أنه مسبوق إلى ذلك، والواجب على السبكي وغيره الإنصاف والعدل وهذا اللائق بمقام العلماء، لكن السبكي أغفل كلام العلماء السابقين على الشيخ وجعل ابن تيمية مبتدعا لها.
وقد ذكر الفخر الرازي المتوفى سنة ٦٠٦هـ القائلين بذلك وساق في "تفسيره" أدلة القائلين بفناء النار من القرآن والمعقول" (١) .
ثالثا: عزى السبكي لابن تيمية أنه يختار القول بفناء النار، وأنه ينسبه للسلف (٢) . بالرجوع إلى رسالة ابن تيمية، نجد أن ما ذكره السبكي ليس مسلما له، وذلك من وجهين:
أ - زعمه أن القول بفناء النار اختيار ابن تيمية، فإن هذا الاختيار لا يوجد في هذه الرسالة ولا غيرها من كتبه - فيما أعلم -.
ب - قوله: "إنه قول السلف"، ليس بصحيح فإن عبارة الشيخ هكذا "وأما القول بفناء النار ففيها قولان معروفان عن السلف والخلف" (٣) .
رابعا: عرض السبكي في رسالته أكبر قدر من أدلة الكتاب والسنة الدالة على بقاء النار، وابن تيمية لم يكن يجهل هذه الآيات والأحاديث وحاشاه ﵀ أن ينكر ثبوتها ودلالتها على البقاء، وبالتالي فإن اهتمام السبكي باستقصاء ذكر الأدلة لا يضيف شيئا جديدا غاب عن ابن تيمية بل هو تجاهل منه لمعرفة شيخ الإسلام بها ملاحظته والتسليم بها.
وعليه فالإشارة أو التلميح من السبكي بنسبة شيخ الإسلام للتضليل.
_________
(١) "التفسير الكبير" للفخر الرازي ١٨/٦٣-٦٦.
(٢) الاعتبار ببقاء لجنة والنار" "٦٧".
(٣) انظر "ص٥٢".
1 / 20
والتبديع مردود عليه وفي هذا المعنى يقول العلامة ابن القيم "فقولكم إنه من أقوال أهل البدع كلام من لا خبرة له بمقالات بني آدم وآرائهم واختلافهم.." (١) .
ويقول: الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: " ... وغاية ما يقال إنه قول خطأ، أو رأي غير صواب، ولا يقال بدعة، وليس قصدي الدفاع عن هذا القول ولكن قصدي ببيان أنه ليس بدعة ولا ينطبق عليه ضابط البدعة وهو أنه من المسائل القديمة" (٢) التي وقع الخلاف فيها قبل ابن تيمية.
خامسا: ابن تيمية ﵀ نظرا في أدلة بقاء الجنة ودوامها، وأدلة النار ودوامها، فلاحظ أن بعض أدلة النار لا تصرح ببقاء ولكن تكل الأمر إلى مشيئة الله وما يريده بعباده وبعضها تقيده بحد كما في قوله تعالى: ﴿النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ (٣) .
وكما في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ (٤)، وقوله تعالى: ﴿لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾ (٥) .
وعند ذلك رأى أن هذه الأدلة تصلح أن تكون مقيدة لما أطلق من أدلة البقاء الدائم، وأن في تقييد المطلق جمعا بين الأدلة وهو أولى.
وكون تلك الأدلة أقل عددا من أدلة البقاء لا يؤثر، لأن العبرة بالثبوت، ولم
_________
(١) "حادي الأرواح" "ص٣٥٦".
(٢) "نظرات وتعقيبات على ما في كتاب السلفية من الهفوات" لمحمد سعيد رمضان "ص٥٠" بقلم فضيلة الشيخ صالح الفوزان، حفظه الله.
(٣) سورة الأنعام، الآية رقم:١٢٨.
(٤) سورة هود، الآية رقم: ١٠٧.
(٥) سورة النبأ، الآية رقم:٢٣.
1 / 21
يكن ابن تيمية هو الوحيد في هذا الفهم فقد أورده بعض المفسرين عند الآيات السابقة.
سادسا: لاحظ السبكي على ابن تيمية استدلاله ببعض الآثار الدالة على فناء النار وكونها متكلما فيها، ويمكن الجواب عنه:
بأنه ربما لم يكن ابن تيمية وقف على علتها حينذاك، ولهذا اعتذر عنه العلامة الألباني بقوله: "ولعل ذلك كان منه إبان طلبه للعلم، وقبل توسعه في دراسة الكتاب والسنة، وتضلعه معرفة الأدلة الشرعية" (١) وأيضا فلم تكن هذه الآثار هي دليله الوحيد بل استدل كما تقدم بالآيات المقيدة (٢) .
سابعا: علل ابن تيمية ما ذكره في رسالته بأمر مقرر بأصل الشرع وهو سعة رحمة الله تعالى قال الله عنها: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (٣) . وعلق على ذلك الشيخ الألباني بقوله: "إلا أن الحامل له على ذلك إنما كان ثقته البالغة في رحمة ربه وعفوه، وأنها وسعت كل شيء دون ما استثناء، ووافق ذلك منه خلقا كريما وطبعا رحيما جبله الله عليه، عرف به بين أصحابه" (٤) .
وكما سبق شيخ الإسلام إلى ذلك من بعض السلف فقد وافقه في ذلك بعض العلماء كالإمام ابن القيم وابن الوزير وغيرهما، بل ذكر مؤلف "كشف الأستار لإبطال ادعاء فناء النار" بأنه نوقشت رسالة ماجستير مقدمة من الباحث: فيصل عبد الله لجامعة أم القرى بمكة بعنوان "الجنة والنار والآراء فيهما" رجح صاحبها القول بفناء النار، وعلل ذلك بأنه يتفق مع رحمة الله الواسعة وكرمه الشامل وعفوه
_________
(١) مقدمة "رفع الأستار" "ص٢٥".
(٢) انظر "ص٢١"..
(٣) سورة الأعراف، الآية ١٥٦.
(٤) مقدمة رفع الأستار للعلامة الألباني "ص٢٢".
1 / 22
الفياض، وحكمته ولكنه لم يتعرض لما نسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية لا نفيا ولا إثباتا" (١) .
القسم الثاني: من أنكر نسبة القول بفناء النار إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، من هؤلاء الدكتور علي الحربي اليماني مؤلف كتاب "كشف الأستار لإبطال ادعاء فناء النار" حيث ادعى فيه أولية السبق في الذب عن شيخ الإسلام في هذه المسألة العظيمة" (٢) .
وقرر في خاتمة البحث "براءة شيخ الإسلام ابن تيمية من القول بفناء النار براءة الذئب من دم يوسف ﵇" (٣) .
هذا، وباستعراض كتابه نجد أن حجته فيما توصل إليه من نتيجة تتلخص في الآتي:
أولا: قام باستقراء وتتبع كتب ابن تيمية فأخرج منها نصوصا من ردود الشيخ على مذهب الجهمية والمعتزلة القائلين بفناء الجنة والنار، علق على تلك النصوص بقوله: "فهل يصح القول بعد هذا أن شيخ الإسلام ابن تيمية يقول بفناء النار" (٤) .
والجواب: أنه ينبغي أن يعلم أن هذه النصوص منصبَّة في الرد على مذهب الجهمية والمعتزلة القائلين بفناء الجنة والنار وهذا لا خلاف فيه ومحل النزاع في المذهب القائل ببقاء الجنة وفناء النار وحدها.
_________
(١) كشف الأستار "ص٢٢".
(٢) "ص١٠-٨٤٠".
(٣) "ص٨٤".
(٤) "ص٧١".
1 / 23
وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم هذه الأقوال (١) .
وعليه فتكون النصوص المذكورة في غير محل النزاع، وبالتالي لا يدفع بها نسبة تلك الرسالة إلى شيخ الإسلام كما سيأتي بيان ذلك.
ثانيا: قال الدكتور الحربي ولو صح إسناده يعني رسالة القول بفناء النار إلى ابن تيمية لأقام الدنيا وأقعدها خصومه واقتطفوا منها الكلام الذي يحتجون به على شيخ الإسلام، ولصاحوا وما سكتوا عن إلزامه من كلامه مع كثرة الخصوم قديما وحديثا (٢) .
والجواب: أن ما نفاه الدكتور الحربي هو ما وقع فعلا فإن خصوم الشيخ أقاموا الدنيا وأقعدوها وذلك في عصر الشيخ وبعده، فالسبكي وهو ممن عاصر الشيخ ونسب إليه تلك الرسالة وتتبع الشيخ - كما سيأتي - وتعقبه فيما جاء بها وراح من خلال ما جاء فيها يلزمه بإلزامات هو منها براء، ورسالة السبكي بعنوان "الاعتبار ببقاء الجنة والنار" كذلك جاء بعده من خصوم الشيخ ممن نسج على منواله وقد ساق الدكتور الحربي في رسالته أمثلة على ذلك" (٣) .
ثالثا: أن الدكتور الحربي تردد موقفه فمرة يقول أن ما ذكره ابن القيم في كتابه: "حادي الأرواح" عن شيخه وهم منه أو أنه رجع عنه (٤) .
وفي موضع آخر قال عن شيخ الإسلام "أنه كان في أول الأمر يميل إلى
_________
(١) وسيأتي ما ذكره شيخ الإسلام "ص٤٢" ضمن الرسالة من هذا البحث، أما ما ذكره ابن القيم فهو في حادي الأرواح "ص٣٤٠" الباب ٦٧.
(٢) المرجع السابق نفسه "ص٥٨".
(٣) المرجع السابق نفسه "ص١٥ ١٦"
(٤) المرجع السابق نفسه "ص٧٠".
1 / 24