مقدمة
الأستاذ الإمام محمد عبده
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمد الله على الهداية، ونعوذ به من الغواية، ونصلي ونسلم على خاتم رسله، وآله وصحبه هداة سبله.
وبعد فقد أتيح لي الاطلاع على رسالة فارسية في نقض مذهب الطبيعيين، من تصنيف العالم الكامل، محيط المعرفة الشامل، الشيخ جمال الدين الحسيني الأفغاني.
أما الشيخ فله من لسان الصدق، ورفيع الذكر، ما لا يحتاج معه إلى الوصف, وأما الرسالة، فعلى إيجازها قد جمعت لإرغام الضالين، وتأييد عقائد المؤمنين، مالم يجمعه مطول في طوله، وحوت من البراهين الدامغة، والحجج البالغة، ما لم يحوه مفصل على تفصيله.
دعاه إلى تصنيفها حمية جاشت بنفسه أيام كان في البلاد الهندية، عندما رأى حكومة الهند الانجليزية تمد في الغي جماعة من سكان تلك البلاد، إغراء لهم بنبذ الأديان، وحل عقود الإيمان، وأن كثيرا من العامة فتنوا بآرائهم، وخدعوا عن عقائدهم، وكثر الاستفهام منه عن حقيقة ما تدعيه تلك الجماعة الضالة، وممن سأله عن ذلك حضرة الفاضل مولوي (¬1) محمد واصل، مدرس الفنون الرياضية بمدرسة الأعزة بمدينة حيدرآباد الدكن من بلاد الهند، فأجابه الشيخ برقيم صغير يعده فيه بإنشاء رسالة في بيان ما كثر السؤال عنه.
وقد حداني (¬2) علو الموضوع، وسمو منزلة الرسالة منه، إلى الاجتهاد في نقلها من لغتها إلى اللغة العربية، فتم لي ذلك بمساعدة عارف أفندي الأفغاني (¬3) ، تابع الشيخ المؤلف، ورجونا بذلك تعميم الفائدة، وتكميل العائدة إن شاء الله.
وإنا نذكر ترجمة الرقيمين، مبتدئين برقيم مولوي محمد واصل، وهو:
पृष्ठ 2
رقيم مولوي محمد واصل
19 محرم سنة 1298 ه، 22 ديسمبر سنة 1880 م بعد رسوم المخاطبة.
يقرع آذاننا في هذه الأيام صوت «نيتشر» ... «نيتشر» (¬1) ! وإنه ليصل إلينا من جميع الأقطار الهندية، فمن الممالك الغربية والشمالية، و«أوده» و«بنجاب» و«بنجاله» و«السند» و«حيدرآباد الدكن» (¬2) ، ولا تخلو بلدة أو قصبة من جماعة يلقبون بهذا اللقب، ينمو عددهم على امتداد الزمان، خصوصا بين المسلمين، ولقد سألت أكثر من لاقيت من هذه الطائفة: ما حقيقة النيتشرية؟ وفي أي وقت كان ظهور النيتشريين ؟ وهل من قصد هذه الطائفة بمسلكها الجديد عندنا أن تقوم عماد المدنية، ولا تعدو هذا المقصد، أو لها مقاصد أخرى؟ وهل طريقتهم تنافي أصول الدين المطلق، أو هي لا تعارضه بوجه ما؟ وأي نسبة بين آثار هذا المشرب وآثار مطلق الدين في عالم المدنية، والهيئة الاجتماعية الإنسانية؟
فإن كانت هذه الطريقة من النحل القديمة، فلم لم تنشر بيننا؟ ولم لم نعهد لها دعاة إلا في هذه الأوقات؟ وإن كانت جديدة، فما الغاية من إحداثها؟ وأي أثر يكون عن الأخذ بها؟
ولكن لم يفدني أحد منهم عما سألت بجواب شاف كاف، ولهذا ألتمس من جنابكم العالي، أن تشرحوا حقيقة النيتشرية والنيتشريين، بتفصيل ينقع الغلة (¬3) ويشفي العلة، والسلام.
पृष्ठ 3
جواب جمال الدين
وهذا رقيم السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني، جوابا عن الرقيم السابق:
محبي العزيز:
«النيتشر» : اسم للطبيعة، وطريقة «النيتشر» : هي تلك الطريقة الدهرية التي ظهرت ببلاد اليونان في القرن الرابع والثالث قبل ميلاد المسيح، ومقصد أرباب هذه الطريقة محو الأديان، ووضع أساس الإباحة، والاشتراك (¬1) في الأموال والأبضاع (¬2) بين الناس عامة.
وقد كدحوا لإجراء مقصدهم هذا، وبالغوا في السعي إليه، وتلونوا لذلك في ألوان مختلفة، وتقلبوا في مظاهر متعددة، وكيفما وجدوا في أمة أفسدوا أخلاقها، وعاد عليهم سعيهم بالزوال.
وأيما ذاهب ذهب في غور مقاصد الآخرين بهذه الطريقة، تجلى له ألا نتيجة لمقدماتهم سوى فساد المدنية، وانتقاض بناء الهيئة الاجتماعية الإنسانية؛ إذ لا ريب في أن الدين - مطلقا - هو سلك النظام الاجتماعي، ولن يستحكم أساس للتمدن بدون الدين البتة، وأول تعليم لهذه الطائفة إعدام الأديان وطرح كل عقد ديني.
وأما عدم شيوع هذه الطريقة، وقلة سلوكها مع طول الزمن على نشأتها، فسببه أن نظام الألفة الإنسانية - وهو من آثار الحكمة الإلهية السامية - كانت له الغلبة على أصولها الواهية، وشريعتها الفاسدة، وبهذا السر الإلهي انبعثت نفوس البشر لمحو ما ظهر منها، ومن هذا لم يبق لهم ثبات قدم، ولم تقم لهم قائمة أمر، ولا شأن لهم في وقت من الأوقات.
ولتفصيل ما ذكرنا، نتقدم لإنشاء رسالة صغيرة، أرجو أن تكون مقبولة عند العقل الغريزي لذلك الصديق الفاضل، وأن تنال من ذوي العقول الصافية نظرة الاعتبار.
وهذه هي الرسالة:
पृष्ठ 4
الفصل الأول
حقيقة مذهب النيتشرية والنيتشريين وبيان حالهم
بسم الله الرحمن الرحيم
(فبشر عبادي الذين يستمعون القول، فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب) (¬1) .
الدين قوام الأمم وبه فلاحها، وفيه سعادتها وعليه مدارها.
«النيتشرية» جرثومة الفساد، وأرومة الإداد (¬2) وخراب البلاد، وبها هلاك العباد. شاع لفظ «النيتشرية» حتى طبق البلاد الهندية في هذه الأيام، وأصبحت هذه الكلمة دائرة في المحافل، سيارة في المجامع، وللعامة والخاصة فيها مذاهب وهم، وطرائق وهم (¬3) ، فالغالب منهم يخبط على بعد من حقيقتها، في غفلة عن أصل وضعها.
لهذا رأيت من الحق أن أشرح مفهومها، وأكشف المراد منها، وأرفع الستار عن حال النيتشريين من بداية أمرهم، وأعرض للناظرين شيئا من مفاسدهم، وما الحقوا بالنوع الإنساني من المضار التي خبث أثرها، وساء ذكرها، مستندا في ذلك على التاريخ الصحيح، آخذا من البرهان العقلي بدليل يثبت أن هذه الطائفة على اختلاف مظاهرها، لم يفش رأيها في أمة من الأمم إلا كان سببا في اضمحلالها وانقراضها.
أثبت ثقات المؤرخين: أن حكماء اليونان انقسموا في القرن الرابع والثالث قبل المسيح إلى فئتين:
ذهبت إحداهما إلى وجود ذات مجردة عن المادة والمدة (¬4) ، مخالفة للمحسوسات في لوازمها، منزهة من لواحق الجسمانية وعوارضها، وأثبتت أن سلسلة الموجودات مادية ومجردة، تنتهي إلى موجود مجرد واحد من جميع الوجوه، مبرأ الذات عن التأليف والتركيب، ومحال عند العقل تصور التركيب فيه، وجوده عين حقيقته، وحقيقته عين وجوده، وهو المصدر الأول، والموجد الحقيقي، والمبدع لجميع الكائنات، مجردة كانت أو مادية.
पृष्ठ 5
واشتهرت هذه الطائفة بالمتألهين «الخاضعين لله» ، ومنهم: فيثاغورث، وسقراط، وأفلاطون، وأرسطو ومن أهل مذهبهم كثير.
وذهبت أخرى الطائفتين إلى نفي كل موجود سوى المادة والماديات، وأن وصف الوجود مختص بما يدرك بالحواس الخمس لا يتناول شيئا وراءه، وعرفت هذه الطائفة بالماديين. ولما سئلوا عن منشأ الاختلاف في صور المواد وخواصها، والتنوع الواقع في آثارها، نسبه الأقدمون منهم إلى طبيعتها، واسم الطبيعة في اللغة الفرنسية «ناتور» ، وفي الانجليزية «نيتشر» ، ولهذا اشتهرت هذه الطائفة عند العرب بالطبيعيين، وعند الفرنسيين باسم «نتوراليسم» ، أو «ماتييراليسم» ، الأول من حيث هي طبيعية، والثاني من حيث هي مادية.
ثم اختلف هؤلاء بعد اعتماد أصلهم هذا في تكوين الكواكب، وتصوير الحيوانات، وإنشاء النباتات:
فذهب فريق منهم إلى أن وجود الكائنات العلوية والسفلية، ونشأة المواليد على ما نرى، إنما هو من الاتفاق وأحكام المصادفة،. وعلى ذلك فإن إتقان بنائها، وإحكام نظامها، لا منشأ له إلا المصادفة، كأنما أدت بهم سخافة الفهم إلى تجويز الترجيح بلا مرجح، وقد أحالته بداهة العقل.
ورأس القائلين بهذا القول «ديمقراطيس» ، ومن رأيه أن العالم أجمع أرضيات وسماويات، مؤلف من أجزاء صغار صلبة متحركة بالطبع، ومن حركتها هذه ظهرت أشكال الأجسام وهيئاتها بقضاء العماية المطلقة.
وذهب فريق آخر إلى أن الأجرام السماوية، والكرة الأرضية، كانت على هيئتها هذه من أزل الآزال، ولا تزال، ولا ابتداء لسلسلة النباتات والحيوانات. وزعموا أن في كل بذرة نباتا مندمجا فيها، وفي كل نبات بذرة كامنة، ثم في هذه البذرة الكامنة نبات، وفيه بذرة، إلى غير نهاية. وعلى هذا زعموا أن في كل جرثومة من جراثيم الحيوانات حيوانا تام التركيب، وفي كل حيوان كامن في الجرثومة، جرثومة أخرى، يذهب كذلك إلى غير نهاية...!
وغفل أصحاب هذا الزعم عما يلزمه من وجود مقادير غير متناهية، في مقدار متناه، وهو من المحالات الأولية.
पृष्ठ 6
وزعم فريق ثالث: أن سلسلة النباتات والحيوانات قديمة بالنوع، كما أن الأجرام العلوية وهيئاتها قديمة بالشخص، ولكن لا شيء من جزئيات الجراثيم الحيوانية والبذور النباتية بقديم، وإنما كل جرثومة وبذرة هي بمنزلة قالب يتكون فيه ما يشاكله من جرثومة وبذرة أخرى.
وفاتتهم ملاحظة أن كثيرا من الحيوانات الناقصة الخلقة، قد يتولد عنها حيوان تام الخلقة، كذلك الحيوان التام الخلقة، قد يتولد عنه ناقصها أو زائدها.
ومال جماعة منهم إلى الإبهام في البيان، فقالوا: إن أنواع النباتات والحيوانات تقلبت في أطوار ، وتبدلت عليها صور مختلفة بمرور الزمن وكر الدهور، حتى وصلت إلى هيئاتها وصورها المشهودة لنا، وأول النازعين إلى هذا الرأي «أبيقور» (¬1) أحد أتباع «ديوجينس الكلبي» (¬2) ومن مزاعمه: أن الإنسان في بعض أطواره كان مثل الخنزير، مستور البشرة بالشعر الكثيف، ثم لم يزل ينتقل من طور إلى طور، حتى وصل بالتدريج إلى ما نراه من الصورة الحسنة والخلق القويم، ولم يقم دليلا، ولم يستند على برهان فيما زعمه من أن مرور الزمان علة لتبدل الصور، وترقي الأنواع.
* * *
ولما كشف علوم الجيولوجيا «طبقات الأرض» عن بطلان القول بقدم الأنواع، رجع المتأخرون من الماديين عنه إلى القول بالحدوث، ثم اختلفوا في بحثين:
الأول: بحث تكون الجراثيم النباتية والحيوانية، فذهبت جماعة الى أن جميع الجراثيم على اختلاف أنواعها، تكونت عندما أخذ التهاب الأرض في التناقص، ثم انقطع التكون بانقضاء ذلك الطور الأرضي، وذهبت أخرى إلى أن الجراثيم لم تزل تتكون حتى اليوم، خصوصا في خط الاستواء حيث تشتد الحرارة.
وعجزت كلتا الطائفتين عن بيان السبب لحياة تلك الجراثيم حياة نباتية أو حيوانية، خصوصا بعد ما تبين لهم أن الحياة فاعل في بسائط الجراثيم، موجب لالتئامها، حافظ لكونها، وأن قوتها الجاذبة هي التي تجعل غير الحي من الأجزاء حيا بالتغذية، فإذا ضعفت الحياة، ضعف تماسك البسائط وتجاذبها، ثم صارت إلى الانحلال.
पृष्ठ 7
وظن قوم منهم: أن تلك الجراثيم كانت مع الأرض عند انفصالها عن كرة الشمس، وهو ظن عجيب، لا ينطبق على جهلهم من أن الأرض عند الانفصال، كانت جذوة نار ملتهبة، وكيف لم تحترق تلك الجراثيم، ولم تمح صورها في تلك النيران المستعرة؟!
والبحث الثاني من موضع اختلافهم: صعود تلك الجراثيم من حضيض نقصها إلى ذروة كمالها، وتحولها من حالة الخداج «النقص» إلى ما نراه من الصور المتقنة، والهيئات المحكمة، والبنى الكاملة.
فمنهم: قائل بأن لكل نوع جرثومة خاصة به، ولكل جرثومة طبيعية تميل بها إلى حركة تناسبها في الأطوار الحيوية، وتجتذب إليها ما يلائمها من الأجزاء الغير الحية ليصير جزءا لها بالتغذية، ثم تجلوه بلباس نوعه.
وقد غفلوا عما أثبته التحليل الكيماوي، من عدم التفاوت بين نطفة الإنسان، ونطفة الثور والحمار مثلا، وظهور تماثل النطف في العناصر البسيطة، فما منشأ التخالف في طبائع الجراثيم مع تماثل عناصرها؟
ومنهم: ذاهب إلى أن جراثيم الأنواع كافة - خصوصا الحيوانية - متماثلة في الجوهر، متساوية في الحقيقة، وليس بين الأنواع تخالف جوهري، ولا انفصال ذاتي، ومن هذا ذهب صاحب هذا القول: إلى جواز انتقال الجرثومة الواحدة من صورة نوعية إلى صورة نوعية أخرى بمقتضى الزمان والمكان، وحكم الحاجات والضرورات، وقضاء سلطان القواسر الخارجية.
पृष्ठ 8
قول داروين: «إن الإنسان كان قردا»
ورأس القائلين بهذا القول «داروين» (¬1) وقد ألف كتابا في بيان: «أن الإنسان كان قردا» ... ثم عرض له التنقيح والتهذيب في صورته بالتدريج على تتالي القرون المتطاولة، وبتأثير الفواعل الطبيعية الخارجية، حتى ارتقى إلى برزخ «أوران أوتان» ، ثم ارتقى من تلك الصورة إلى أول مراتب الإنسان، فكان صنف اليميم (¬2) وسائر الزنوج، ومن هناك عرج بعض أفراده إلى أفق أعلى وأرفع من أفق الزنجيين، فكان الإنسان القوقاسي.
وعلى زعم «داروين» هذا يمكن أن يصير البرغوث فيلا بمرور القرون وكر الدهور، وأن ينقلب الفيل برغوثا كذلك.
فإن سئل «داروين» عن الأشجار القائمة على غابات الهند، والنباتات المتولدة فيها من أزمان بعيدة لايحددها التاريخ إلا ظنا، وأصولها تضرب في بقعة واحدة، وفروعها تذهب في هواء واحد، وعروقها تسقى بماء واحد، فما السبب في اختلاف كل منها عن الآخر في بنيته وشكل أوراقه، وطوله وقصره، وضخامته ورقته، وزهره وثمره، وطعمه ورائحته، وعمره؟ فأي فاعل خارجي أثر فيها، حتى خالف بينها مع وحدة المكان والماء والهواء؟ أظن [أن] لا سبيل إلى الجواب سوى العجز عنه..
وإن قيل له: هذه أسماك بحيرة «أورال» وبحر «كسين» مع تشاركها في المأكل والمشرب، وتسابقها في ميدان واحد، نرى فيها اختلافا نوعيا، وتباينا بعيدا في الألوان، والأشكال والأعمال، فما السبب في هذا التباين والتفاوت؟ لا أراه يلجأ في الجواب إلا إلى الحصر (¬3) ..
पृष्ठ 9
وهكذا لو عرضت عليه الحيوانات المختلفة البنى - جمع بنية - والصور والقوى والخواص، وهي تعيش في منطقة واحدة، ولا تسلم حياتها في سائر المناطق، أو الحشرات المتباينة في الخلقة، المتباعدة التركيب، المتولدة في بقعة واحدة، ولا طاقة لها على قطع المسافات البعيدة لتجلو إلى «تربة» تخالف تربتها، فماذا تكون حجته في علة اختلافها، كأنها تكون كسفا لا كشفا؟
بل إذا قيل له: أي هاد هدى تلك الجراثيم في نقصها وخداجها (¬1) ؟ وأي مرشد أرشدها إلى استتمام هذه الجوارح والأعضاء الظاهرة والباطنة ووضعها على مقتضى الحكمة، وأبدع لكل منها قوة على حسبه، وأناط بكل قوة في عضو أداء وظيفة، وإيفاء عمل حيوي؛ مما عجز الحكماء عن إدراك سره، ووقف علماء الفسيولوجيا دون الوصول إلى تحديد منافعه؟ وكيف صارت الضرورة العمياء، معلما لتلك الجراثيم، وهاديا خبيرا لطرق جميع الكمالات الصورية والمعنوية؟ لا ريب أنه يقبع قبوع القنفذ، وينتكس بين أمواج الحيرة يدفعه ريب، ويتلقاه شك، وإلى أبد الآبدين.
* * *
وكأني بهذا المسكين ما رماه في مجاهل الأوهام ومهامه (¬2) الخرافات إلا قرب المشابهة بين القرد والإنسان، وكأن ما أخذ به من الشبه الواهية ألهية يشغل بها نفسه عن آلام الحيرة، وحسرات العماية، وإنا نورد شيئا مما تمسك به:
فمن ذلك أن الخيل في سيبيريا وبلاد الروسية أطول وأغزر شعرا من الخيل المتولدة في البلاد العربية، وإنما علة ذلك الضرورة وعدمها.
ونقول: إن السبب فيما ذكره هو عين السبب لكثرة النبات وقلته في بقعة واحدة، لوقتين مختلفين، حسب كثرة الأمطار وقلتها، ووفور المياه ونزورها، أو هو علة النحافة ودقة العود، في سكان البلاد الحارة، والضخامة والسمن في أهل البلاد الباردة بما يعتري البدن من كثرة التحلل في الحرارة، وقلته في البرودة.
ومن واهياته ماكان يرويه «داروين» : من أن جماعة كانوا يقطعون أذناب كلابهم، فلما واظبوا على عملهم هذا قرونا، صارت الكلاب تولد بلا أذناب، كأنه يقول: حيث لم تعد للذنب حاجة كفت الطبيعة عن هبته...
وهل صمت أذن هذا المسكين عن سماع خبر العبرانيين والعرب، ومما يجرونه من الختان ألوفا من السنين، ولا يولد مولود حتى يختن، وإلى الآن لم يولد واحد منهم مختونا إلا لإعجاز؟!
पृष्ठ 10
ولما ظهر لجماعة من متأخري الماديين فساد ما تمسك به أسلافهم، نبذوا آراءهم وأخذوا طريقا جديدة، فقالوا: ليس من الممكن أن تكون المادة العارية من الشعور، مصدرا لهذا النظام المتقن، والهيئة البديعة والأشكال المعجبة، والصور الأنيقة، وغير ذلك مما خفي سره وظهر أثره، ولكن العلة في نظام الكون علوية وسفلية، والموجب لاختلاف الصور والمقدر لأشكالها وأطوارها، وما يلزم لبقائها، تتركب من ثلاثة أشياء: «متيير» ، و«فورس» ، و«انتليجانس» ؛ أي مادة، وقوة، وإدراك.
وظنوا أن المادة بما لها من القوة، وما يلابسها من الإدراك، تجلت وتتجلى بهذه الأشكال والهيئات، وعندما تظهر بصورة الأجساد الحية - نباتية كانت أو حيوانية - تراعي بما لابسها من الشعور، ما يلزم لبقاء الشخص وحفظ النوع، فتنشئ لها من الأعضاء والآلات ما يفي بأداء الوظائف الشخصية والنوعية، مع الالتفات إلى الأزمنة والأمكنة، والفصول السنوية.
هذا أنفس ما وجدوا من حيلة لمذهبهم العاطل، بعد ما دخلوا ألف جحر، وخرجوا من ألف نفق، وما هو بأقرب إلى العقل من سائر أوهامهم، ولا هو بالمنطبق على سائر أحوالهم، فإنهم يرون - كسائر المتأخرين - أن الأجسام مركبه من الأجزاء الديمقراطيسية، ولا ينطبق رأيهم الجديد في علة النظام الكوني على رأيهم في تركيب الأجسام.
पृष्ठ 11
وذلك لأنه يلزم على القول بشعور المادة، أن يكون لكل جزء ديمقراطيسي (¬1) شعور خاص، كما يلزم أن تكون له قوة خاصة ينفصل بها عن سائر الأجزاء؛ إذ لا يمكن قيام العرض الواحد - وحدة شخصية - بمحلين، فلا يقوم علم واحد بجزءين ولا بأجزاء، وبعد هذا فإني أسائلهم: كيف اطلع كل جزء من أجزاء المادة - مع انفصالها - على مقاصد سائر الأجزاء؟ وبأية آلة أفهم كل منها باقيها ما ينويه من مطلبه؟ وأي برلمان «مجلس الشورى» ، أو أي سنات «مجلس الشيوخ» عقدت للتشاور في إبداع هذه المكونات العالية التركيب، البديعة التأليف؟! وأنى لهذه الأجزاء أن تعلم - وهي في بيضة العصفور - ضرورة ظهورها في هيئة طير يأكل الحبوب، فمن الواجب أن يكون له منقار وحوصلة لحاجته في حياته إليها؟! وإذا كانت في بيض الشاهين والعقاب، فمن أين لها العلم بأنها تقوم طيرا يأكل اللحوم، فلا بد له من منسر ومخلب يصول بهما في الصيد؛ لاقتناص ما يحتاج إليه من حيوان، ثم ينسر لحمه ليأكله؟!
ومن أين لها أن تعلم، وهي في مشيمة الكلبة، أنها ستكون على صورة أنثى الجرو، ثم تكبر حتى تبلغ حد الإدراك، ثم تكون حبلى لوقت من الاوقات، وقد تلد جراء متعددة في زمن واحد، فهى تهيئ لطبيها (¬1) حلمات كثيرة على حسب حاجة جرائها؟!
ومن لهذه الأجزاء المتبددة أن تدرك حاجة الحيوانات إلى القلب والرئة، والمخ والمخيخ، وسائر الأعضاء والجوارح؟!
لو عقلت هذه الطائفة ما رمى إليه سؤالي هذا لارتكست (¬2) في أفكارها، وانقلبت إلى تيهور (¬3) من الحيرة، لا ترفع منه رأسا، ولا تحير جوابا، إلى أن يتخبطهم شيطان الجهل، فيقولون ولا يعون: إن لكل جزء من هذه الأجزاء الديمقراطيسية، علما بجميع ما كان وما يكون، وبجميع ما في العالم من الأجزاء، علويا كان أو سفليا، ولكل منها حرص على مراعاة نظام الكون وأركانه، فيتحرك كل منها للانضمام إلى الآخر، عل وفق ما يريده من المصلحة؛ حتى لا يقع الخلل في شيء من نظم العالم، عاما كان أو خاصا، وبهذا قام العالم على ناموس واحد.
فإن أفضت بهم العماية إلى هذا القول قلنا:
أولا: يلزمهم أن كل جزء ديمقراطيسي يحتوي على أبعاد غير متناهية، وهو في صغره لا يدرك ولا بالميكروسكوب «النظارة المعظمة» .
وبيان اللزوم: أن العلم عندهم، إنما هو بارتسام الصور المعلومة في ذات العالم، وهو مادي في موضوعنا، فكل صورة معلومة تأخذ منه بعدا بمقدارها، والصور العلمية على هذا الزعم غير متناهية، وكلها يرتسم في مادة الجزء العالم، فيكون في كل جزء - وهو متناه إلى غاية الصغر - أبعاد غير متناهية للصور غير المتناهية، وهذا مما تبطله بداهة العقل.
पृष्ठ 1
ثانيا: إن كانت الأجزاء الديمقراطيسية بالغة من العلم هذا المبلغ، وهي من القوة على نحوه؛ إذ لا قوة إلا بها على رأيهم ، فلماذا لم تبلغ الكائنات وهي هي غاية ما يمكن لها من الكمال؟ ولم تنزل بذواتها الآلام والأوصاب، ثم تعاني العناء في احتمالها أو التخلص منها؟ ولماذا قصر إدراك الإنسان، وإدراك سائر الحيوانات - وهو عين إدراك هذه الأجزاء على هذا المذهب - عن اكتناه حالها أنفسها، وعجز عن حفظ حياتها؟
وأعجب من هذا أن المتأخرين من الماديين بعد ما صافحوا كل خرافة لتأييد مذهبهم، حاصوا (¬1) إلى الحيرة في بعض الأمور فلم يستطيعوا تطبيقها على أصل من أصولهم الفاسدة؛ لا أصل الطبع، ولا أصل الشعور، وذلك عندما رأوا شيئين يختلفان في الخواص، وعناصر هما تظهر عند التحليل متماثلة، ولم يجدوا المحيص عن الوقفة - بعد ما قدموا من الترهات - إلا بالحكم على الأجزاء الديمقراطيسية رجما بالغيب، بأنها ذوات أشكال مختلفة، وعلى حسب الاختلاف في الأشكال والأوضاع كان الاختلاف في الآثار والخواص.
وبالجملة: فهذه عشرة مذاهب اختلف إليها منكرو الألوهية، الزاعمون ألا وجود للصانع الأقدس، وهم المعروفون بين شيعهم أو عند الإلهيين بالطبيعيين، والماديين، والدهريين، وإن شئت قلت: نيتشريين، وناتوراليسميين، وماتيرياليسميين.
وسنأتي على تفصيل مذاهبهم، ودحض حججها بالبينات العقلية، في رسالة أوسع، ولا يظن ظان أنا نقصد من مقالنا هذا تشنيعا بهؤلاء «البياجوات (¬2) الهنديين» . .. كلا إن هؤلاء لا نصيب لهم من العلم، بل ولا من الإنسانية، فهم بعيدون من مواقع الخطاب، ساقطون عن منزلة اللوم والاعتراض.
نعم لو أريد إنشاء تياترو «ملهى» أو «كطبتلى» (¬3) ؛ لتمثل فيه أحوال الأمم المتمدنة، مست الحاجة إلى هؤلاء لإقامة هذه الألاعيب، وإنما غرضنا الأصلي إعلان الحق وإظهار الواقع.
والآن نعتمد الشروع في بيان المفاسد التي جلبها الماديون «النيتشريون» على نظام المدنية، والمضار التي تضعضع لها بناء الهيئة الاجتماعية، وكان منشؤها فشو «ذيوع» أفكارهم.
पृष्ठ 2
الفصل الثاني
بيان المفاسد التي جلبها الماديون على نظام المدنية، ومظاهر الماديين ومقاصدهم، وما أفاده الدين من العقائد والخصال
تخالفت مظاهر الماديين في الأمم والأجيال المختلفة، فتخالفت أسماؤهم، فكانوا تارة يسمون أنفسهم بسمات الحكماء، وينتحلون «الحكيم» لقبا لأفرادهم، وأحيانا كانوا يتسمون بسيما: «دافع الظلم ورافع الجور» ، وكثيرا ما تقدموا لمسارح الأنظار تحت لباس «عراف الأسرار وكشفة الحقائق والرموز، والواصلين من كل ظاهر إلى باطنه، ومن كل بارز إلى كامنه» .
وقد كانوا يظهرون في أوقات بدعوى السعي في تطهير الأذهان من الخرافات، وتنوير العقول بحقائق المعلومات، وتارات يتمثلون في صور «محبي الفقراء، وحماة الضعفاء، وطلاب خير المساكين» ، وكثيرا ما تجرؤوا على ادعاء النبوة، ولكن لا على سنن سائر المتنبئين الكذبة.
كل ذلك توسلا لإجراء مقاصدهم، وترويج مفاسدهم... كيفما ظهر الماديون، وفي أي صورة تمثلوا، وبين أي قوم نجموا، كانوا صدمة شديدة على بناء قومهم، وصاعقة مجتاحة لثمار أممهم، وصدعا متفاقما في بنية جيلهم، يميتون القلوب الحية بأقوالهم، وينفثون السم في الأرواح بآرائهم، ويزعزعون راسخ النظام بمساعيهم، فما رزئت بهم أمة، ولا مني بشرهم جيل، إلا انتكث فتله، وسقط عرشه، وتبددت آحاد الأمة، وفقدت قوام وجودها..
पृष्ठ 3
كان الإنسان ظلوما جهولا، وخلق الإنسان هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا... جبل الإنسان على الحرص، وكأنه منهوم لشرب الدماء، لم يحرم الإنسان من لطف مبدعه، فكما أبدعه ألزم الدين وجوده، فتمسك الناس منه بأصول، وانطبعوا به على خصال، توارثها الأبناء عن الآباء في قرون بعد قرون. ومهما غيروا وبدلوا كانت بقايا ما ورثوه لا تزال تشرق على عقولهم بأنوار من المعرفة، يهتدون بها إلى سعادتهم ويقيمون في ضوئها أساس مدنيتهم، ولم يبطل أثرها في تعديل أخلاقهم، وكف أيديهم عن التطاول إلى الشرور والمفاسد، وبهذا كان للأقدمين من أهل القرون الأولى، ما كان لهم من نوع الثبات والبقاء.
وطائفة النيتشرية كلما ظهرت في أمة سعت في قلع تلك الأصول، وإفساد تلك الخصال، حتى إذا لمع لها بارق من النجاح، وهت أركان الامة، وانهارت إلى هوان الاضمحلال والعدم. وهذه الطائفة هي الآن - كما كانت - تسلك منهج أسلافها الأولين، وإنا نوضح ذلك بمجمل من البيان.
ما أفاد الدين من العقائد والخصال
أكسب الدين عقول البشر ثلاث عقائد، وأودع نفوسهم ثلاث خصال، كل منها ركن لوجود الأمم، وعماد لبناء هيئتها الاجتماعية، وأساس محكم لمدنيتها، وفي كل منها سائق يحث الشعوب والقبائل على التقدم لغايات الكمال، والرقي إلى ذرى السعادة، وفي كل واحدة وازع قوي يباعد النفوس عن الشر، ويردعها عن مقارفة الفساد، ويصدها عن مقاربة ما يبيدها ويبددها.
العقيدة الأولى: التصديق بأن الإنسان ملك أرضي، وهو أشرف المخلوقات.
العقيدة الثانية: يقين كل ذي دين بأن أمته أشرف الأمم، وكل مخالف له فعلى ضلال وباطل.
العقيدة الثالثة: جزمه بأن الإنسان إنما ورد هذه الحياة الدنيا؛ لاستحصال كمال يهيئه للعروج إلى عالم أرفع وأوسع من هذا العالم الدنيوي، والانتقال به من دار ضيقة الساحات كثيرة المكروهات، جديرة بأن تسمى «بيت الأحزان وقرار الآلام» إلى دار فسيحة الساحات، خالية من المؤلمات، لا تنقضي سعادتها، ولا تنتهي مدتها.
ولا يغفل العاقل عما يتبع هذه العقائد الثلاث من الآثار الجليلة في الاجتماع البشري، والمنافع الجمة في المدنية الصحيحة، وما يعود منها بالاصلاح على روابط الأمم، وما لكل واحدة من الدخل في بقاء النوع، والميل بأفراده لأن يعيش كل منهم مع الآخر بالمسالمة والموادعة، والأخذ بهمم الأمم للصعود في مراقي الكمال النفسي والعقلي.
पृष्ठ 4
لكل عقيدة لوازم وخواص
العقيدة الأولى:
من البين أن لكل عقيدة لوازم وخواص لا تزايلها، فما يلزم الاعتقاد بأن الإنسان أشرف المخلوقات يرفع المعتقد - بحكم الضرورة - عن الخصال البهيمية، واستنكافه عن ملابسة الصفات الحيوانية، ولا ريب أنه كلما قوي هذا الاعتقاد، اشتد به النفور من مخالطة الحيوانات في صفاتها، وكلما اشتد هذا النفور سما بروحه إلى العالم العقلي، وكلما سما عقله أوفى على المدنية، وأخذ منها بأوفر الحظوظ، حتى قد تنتهي به الحال إلى أن يكون واحدا من أهل المدنية، يحيا مع إخوانه الواصلين معه إلى درجته على قواعد المحبة، وأصول العدالة، وتلك نهاية السعادة الإنسانية في الدنيا، وغاية ما يسعى إليه العقلاء والحكماء فيها.
فهذه العقيدة أعظم صارف للإنسان عن مضارعة الحمر الوحشية في معيشتها، والثيران البرية في حالتها، ومضاربة البهائم السائمة، والدواب الهاملة، والهوام الراشحة لا تستطيع دفع مضرة، ولا التقية من عادية، ولا تهتدي طريقا لحفظ حياتها، وتقضي آجالها في دهشة الفزع ووحشة الانفراد.
هذه العقيدة أشد زجرا لأبناء الإنسان من التقاطع المؤدي لافتراس بعضهم بعضا، كما يقع بين الأسود الكاسرة، والوحوش الضارية، والكلاب العاقرة، وأشد مانع يدفع صاحبها عن مشاكلة الحيوانات في خسائس الصفات، وهذه العقيدة أحجى حاد للفكر (¬1) في حركاته، وانجح داع للعقل في استعمال قوته، وأقوى فاعل في تهذيب النفوس وتطهيرها من دنس الرذائل.
إن شئت فارم بنظر العقل إلى قوم لا يعتقدون هذا الاعتقاد، بل يظنون أن الإنسان حيوان، كسائر الحيوانات، ثم تبصر ماذا يصدر عنهم من ضروب الدنايا والرذائل، وإلى أي حد تصل بهم الشرور، وبأي منزلة من الدناءة تكون نفوسهم، وكيف أن السقوط إلى الحيوانية يقف بعقولهم عن الحركات الفكرية.
पृष्ठ 5
العقيدة الثانية:
ومن خواص يقين الأمة بأنها اشرف الأمم، وجميع من يخالفها على الباطل، أن ينهض آحادها لمكاثرة الأمم في مفاخرها، ومساماتها في مجدها، ومسابقتها في شرائف الأمور، وفضائل الصفات، وأن يتفق جميعها على الرغبة في فوت جميع الأمم، والتقدم عليها في المزايا الإنسانية، عقلية كانت أو نفسية، ومعاشية كانت أو معادية.
وتأبى نفس كل واحد عن إعطاء الدنية، والرضا بالضيم لنفسه، أو لأحد من بني أمته، ولا يسره أن يرى شيئا من العزة أو مقاما من الشرف لقوم من الأقوام، حتى يطلب لأمته أفضله وأعلاه.
ذلك أنه بهذا الاعتقاد يرى أبناء قومه أليق وأجدر بكل ما يعد شرفا إنسانيا، فإن جادت صروف الدهر على قومه فأضرعتهم (¬1) أو ثلمت مجدهم، أو سلبتهم مزية من مزايا الفضل، لم تستقر له راحة، ولم تفتأ له حمية، ولم يسكن له جيشان، فهو يمضي حياته في علاج ما ألم بقومه حتى يأسوه، أو يموت في أساه.
فهذه العقيدة أقوى دافع للأمم إلى التسابق لغايات المدنية، وأمضى الأسباب بها إلى طلب العلوم، والتوسع في الفنون، والإبداع في الصنائع، وإنها لأبلغ في سوق الأمم إلى منازل العلاء، ومقاوم الشرف، من غالب قاسر، ومستبد قاهر عادل.
وإن أردت فالمح بعقلك حال قوم فقدوا هذا اليقين.. ماذا تجد من فتور في حركات آحادهم نحو المعالي؟ وماذا ترى من قصور في هممهم عن درك الفضائل؟ وماذا ينزل بقواهم من الضعف؟ وماذا يحل بديارهم من الفقر والمسكنة؟ وإلى أى هوة يسقطون من الذلة والهوان، خصوصا إذا بغى عليهم الجهل، فظنوا انهم أدنى من سائر الملل، كطائفة «الدهير» و«مانك» ؟
العقيدة الثالثة:
ومن مقتضيات الجزم بأن الإنسان ما ورد هذا العالم إلا ليتزود منه كمالا يعرج به إلى عالم أرفع، ويحل به إلى دار أوسع، وجناب أمرع (¬2) ؛ ليمرع واديه وتجنى حلبه.
पृष्ठ 6
إن من أشربت هذه العقيدة قلبه، ينبعث بحكمها وينساق بحاديها لإضاءة عقله بالعلوم الحقة، والمعارف الصافية؛ خشية أن يهبط به الجهل إلى نقص يحول دون مطلبه، ثم ينصرف همه لإبراز ما أودع فيه من القوة السامية، والمدارك العقلية، والخواص الجليلة، واستعمالها فيما خلقت له، فيتجلى كماله من عالم السكون إلى عالم الظهور، ويرتقي من درجة القوة إلى مكانة الفعل، فهو ينفق ساعاته في تهذيب نفسه وتطهيرها من دنس الرذائل، ولا يناله التقصير في تقويم ملكاته النفسية، وينزع لكسب المال من الوجوه المشروعة، متنكبا طريق الخيانة، ووسائل الكذب والحيلة، معرضا عن أبواب الرشوة، مترفعا عن الملق الكلبي، والخداع الثعلبي، ثم ينفق ما كسب في الوجه الذي يليق، وعلى الوجه الذي ينبغي، وبالقدر الذي ينبغي، لا يأتي فيه باطلا، ولا يغفل حقا عاما أو خاصا.
فهذه العقيدة أحكم مرشد وأهدى قائد للإنسان إلى المدنية الثابتة، المؤسسة على المعارف الحقة، والأخلاق الفاضلة، وهذا الاعتقاد أشد ركن لقوام الهيئة الاجتماعية، التي لا عماد لها إلا معرفة كل واحد حقوقه وحقوق غيره عليه، والقيام على صراط العدل المستقيم.
هذا الاعتقاد أنجح الذرائع لتوثيق الروابط بين الأمم؛ إذ لا عقد لها إلا مراعاة الصدق، والخضوع لسلطان العدل؛ في الوقوف عند حدود المعاملات.
هذا الاعتقاد نفحة من روح الرحمة الأزلية، تهب على القلوب ببرد السكون والمسالمة، فإن المسالمة ثمرة العدل والمحبة، والعدل والمحبة زهر الأخلاق والسجايا الحسنة، وهي غراس تلك العقيدة التي تحيد بصاحبها عن مضارب الشرور، وتنجيه من متائه الشقاء، وتعاسة الجد، وترفعه إلى غرف المدينة الفاضلة، وتجلسه على كرسي السعادة.
وقد يسهل عليك أن تتخيل جيلا من الناس حرم هذه العقيدة، فكم يبدو لك فيه من شقاق، وكذب ونفاق، وحيل وخداع، ورشوة واختلاس.
وكم يغشى نظرك من مشاهد الحرص والشره، والغدر والاغتيال وهضم الحقوق والجدال والجلاد. وكم تحس من جفاء للعلم، وعشوة عن نور المعرفة.
पृष्ठ 7
الخصال الثلاث
وأما الخصال الثلاث التي توارثتها الأمم من تاريخ قد لا يحد قدما، وإنما طبعها في نفوسهم طابع الدين.
فإحداها: خصلة الحياء:
وهو انفعال النفس من إتيان ما يجلب اللائمة، وينحى عليها بالتوبيخ، وتأثرها من التلبس بما يعد عند الناس نقصا، وفي الحق أن يقال: إن تأثير هذه الخلة في حفظ نظام الجمعية البشرية، وكف النفوس عن ارتكاب الشنائع، أشد من تأثير مئين من القوانين، وآلاف من الشرط والمحتسبين؛ فإن النفوس إذا مزقت حجاب الحياء، وسقطت إلى حضيض الخسة والدناءة، ولم تبال بمايصدر عنها من الأعمال، فأي عقاب يردها عن المفاسد التي تخل بنظام الاجتماع، سوى القتل؟! وقد لاحظ ذلك «سولون» (¬1) حكيم اليونان حيث جعل القتل جزاء كل عمل قبيح، حتى الكذبة الواحدة.
وخلة الحياء يلازمها شرف النفس، وهو مما تدور عليه دائرة المعاملات، وتتصل به سلسلة النظام، وهو مناط صحة العقول، والتزام أحكامها، ومعصم الوفاء بالعهود، وهو رأس مال الثقة بالإنسان في قوله وعمله.
وشيمة الحياء هي بعينها شيمة الإباء، وسجية الغيرة، وإنما تختلف أسماؤها باختلاف جهاتها وآثارها في ردع النفس عن شيء، أو حملها على عمل.
والإباء والغيرة: هما مبعث حركات الأمم والشعوب لاستفادة العلوم والمعارف، وتسنم قمم الشرف والرفعة، وتقوية الشوكة وبسط جناح العظمة، وتوفير مواد الغنى والثروة.
وكل أمة فقدت الغيرة والإباء حرمت الترقي؛ وإن تسنى لها من أسبابه ما تسنى، فهي تعطي الدنية، ولا تأنف من الخسه، وتضرب عليها الذلة والمسكنة حتى ينقضى أجلها من الوجود.
وخلة الحياء تنتهي إليها روابط الألفة بين آحاد الأمة في معاشراتهم ومخالطاتهم، فإن حبال الألفة إنما يحكمها حفظ الحقوق، والوقوف عند الحدود، ولا يكون ذلك إلا بهذه الملكة الكريمة.
पृष्ठ 8
هذه سجية تزين صاحبها بالآداب، وتنفر به عن الشهوات البهيمية، وتفيض روح الاعتدال على حركاته وسكناته وجميع أعماله.
وهذا هو الخلق الفرد الذي ينهض بصاحبه لمجاراة أرباب الفضائل، ويتجافى به عن مضاجع النقائص، ويأنف به عن الرضا بالجهل والغباوة، أو الضعة والضراعة.
هذا الوصف الكريم، هو منبت الصدق، ومغرس الأمانة، وهما معه في قرن (¬1) . هذا الوصف هو آلة المعلمين والقائمين على التربية، والدعاة لمكارم الأخلاق، والمولعين بترقية الفضائل - صورية ومعنوية - يستعملونها في نصائحهم، يذكرون بها الغافل، ويحرضون الناكل، ويوقظون النائم، ويقعدون القائم؛ ألا ترى المعلم الحكيم كيف يعظ تلميذه بقوله: «ألا تستحي من تقدم قرينك عليك، وتخلفك عنه» ؟! فإن لم تكن هذه الخصلة فلا أثر للتوبيخ، ولا نفع للتقريع، ولا نجاح للدعوة، فانكشف مما بينا: أن هذه الخلة مصدر لجميع الطيبات، ومرجع لكل فضيلة، وسلم لكل ترق.
ويمكن لنا أن نفرض قوما هجر الحياء نفوسهم، فماذا نرى فيهم، سوى المجاهرة بالفحشاء، والمنافسة في المنكر، وشوس الطباع (¬2) وسوء الأخلاق، والإخلاد إلى دنيات الأمور وسفاسف الشؤون، وكفى بمشهدهم شناعة أن نرى تغلب الشهوات البهيمية عليهم، وتملك الصفات الحيوانية لإرادتهم وتسلطها على أفعالهم.
والخصلة الثانية: الأمانة:
ومن المعلوم الجلي أن بقاء النوع الإنساني قائم بالمعاملات والمعاوضات في منافع الأعمال، وروح المعاملة والمعاوضة إنما هي الأمانة، فإن فسدت الأمانة بين المتعاملين بطلت صلات المعاملة، وانبترت حبال المعاوضة، فاختل نظام المعيشة، وأفضى ذلك بنوع الإنسان إلى الفناء العاجل.
ثم من البين أن الأمم في رفاهتها، والشعوب في راحتها وانتظام أمر معيشتها، محتاجة إلى «الحكومة» بأي أنواعها؛ إما جمهورية، أو ملكية مشروطة، أو ملكية مقيدة.
पृष्ठ 9
والحكومة - في أي صورها - لا تقوم إلا برجال يلون ضروبا من الأعمال، فمنهم حراس على حدود المملكة، يحمونها من عدوان الأجانب عليها، ويدافعون الوالج في ثغورها، وحفظة في داخل البلاد، يأخذون على أيدي السفهاء، ممن يهتك ستر الحياء، ويميل إلى الاعتداء من فتك أو سلب أو نحوهما .
ومنهم حملة الشرع وعرفاء القانون، يجلسون على منصات الأحكام لفصل الخصومات والحكم في المنازعات.
ومنهم أهل جباية الأموال، يحصلون من الرعايا ما فرضت عليهم الحكومة من خراج، مع مراعاة قانونها في ذلك، ثم يستحفظون ما يحصلون في خزائن المملكة، وهي خزائن الرعايا في الحقيقة، وإن كانت مفاتيحها بأيدي خزنتها.
ومنهم من يتولى صرف هذه الأموال في المنافع العامة للرعية مع مراعاة الاقتصاد والحكمة، كإنشاء المدارس والمكاتب، وتمهيد الطرق وبناء القناطر، وإقامة الجسور، وإعداد المستشفيات، ويؤدي أرزاق سائر العاملين في شؤون الحكومة؛ من الحراس والحفظة وقضاة العدل وغيرهم حسبما عين لهم.
وهذه الطبقات من رجال الحكومة الوالين على أعمالها، إنما تؤدي كل طبقة منها عملها المنوط بها بحكم «الأمانة» ، فإن خربت أمانة أولئك الرجال - وهم أركان الدولة - سقط بناء السلطة، وسلب الأمن، وزاحت الراحة من بين الرعايا كافة، وضاعت حقوق المحكومين، وفشا فيهم القتل والتناهب، ووعرت طرق التجارة، وتفتحت عليهم أبواب الفقر والفاقة، وخوت خزائن الحكومة، وعميت على الدولة سبل النجاح، فإن حزبها (¬1) أمر سدت عليها نوافذ النجاة.
ولاريب أن قوما يساسون بحكومة خائنة، إما أن ينقرضوا بالفساد، وإما أن يأخذهم جبروت أمة أجنبية عنهم، يسومونهم خسفا (¬2) ، ويستبدون فيهم عسفا (¬3) ، فيذوقون من مرارة العبودية ما هو أشد من مرارة الانقراض والزوال.
ومن الظاهر أن استعلاء قوم على آخرين، إنما يكون باتحاد آحاد العالين، والتئام بعضهم ببعض، حتى يكون كل منهم لبنية قومة كالعضو للبدن، ولن يكون هذا الاتحاد، حتى تكون الأمانة قد ملكت قيادهم، وعمت بالحكم أفرادهم.
पृष्ठ 10