الجزء الاول المقدمة : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الزمخشري (٤٦٧- ٥٣٨ هـ) نسبه: هو محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الخوارزمي الزمخشري، أبو القاسم، الإمام الكبير في التفسير والحديث والنحو واللغة وعلم البيان. ولد يوم الأربعاء السابع والعشرين من رجب سنة ٤٦٧ هـ بزمخشر من قرى خوارزم في عهد السلطان جلال الدين والدنيا أبي الفتح ملكشاه، الذي ازدهرت في عهده التجارة والصناعة، وزهت الآداب والفنون، وكان يعاونه في إدارة شؤون المملكة نظام الملك (قتل سنة ٤٨٥ هـ) . وهو أقدر وزراء الإسلام في عصره عصره: عاش الزمخشري في فترة ضعف الخلافة العباسية وانحلالها، وعاصر من الخلفاء العباسيين: ١- عبد الله المقتدي بالله ابن محمد بن القائم (٤٦٧- ٤٨٧ هـ) . ٢- أحمد المستظهر بالله ابن المقتدي (٤٨٧- ٥١٢ هـ) . ٣- الفضل المسترشد بالله ابن المستظهر (٥٢٩ هـ) . ٤- المنصور الراشد بالله ابن المسترشد (٥٢٩ هـ) .

1 / 5

٥- محمد المقتفي بالله ابن المستظهر (٥٢٩- ٥٥٥ هـ) . وتعاقب في الاستيلاء على السلطة والنفوذ في بغداد كل من آل بويه والأتراك السلاجقة، وظهرت دولة الخوارزمية، من خراسان إلى ما وراء النهر، ثم الدولة الفاطمية في مصر والشام (٢٩٧- ٥٦٧ هـ) ودولة المرابطين في المغرب والأندلس (٤٤٨- ٥٤١ هـ) ثم كانت الحملة الصليبية التي انتهت بسقوط مدينة القدس سنة ٤٩٢ هـ. عاش الزمخشري في مجتمع يسوده الدين الإسلامي وتسيطر فيه اللغة العربية لكنه لم يخل من أقليات غير إسلامية لم تتخلّ عن تراثها الخاص وشخصيتها التقليدية ومزاجها المختلف ممّا أدّى إلى ظهور عادات لم يألفها المسلمون كانت سبقتها مناخات أسهمت في خلقها حركة الترجمة والتيارات الثقافية التي انعكست بمجملها على الفكر الديني في الإسلام وخروجه من بيئته الحضارية الخاصة واشتباكه بحضارات مجاورة كان لها تأثيرها المتفاوت في ظهور العديد من الفرق الإسلامية ممّا أدّى إلى كثير من الفتن والمحن التي أضعفت حركة التجارة وهدّدت الأمن والاستقرار فانتشرت الفوضى وعمّ الاضطراب الإجتماعي. وعلى الرغم من هذه الحالة المزرية التي عاشها الزمخشري كانت تلوح في الأفق حركات علمية ونهضات أدبية تجلّت في بناء المدارس بتشجيع من بعض الملوك والأمراء والوزراء، والإهتمام بالكتب والمكتبات، والإنصراف إلى حلقات التدريس في المساجد ومجالس الجدل والمناظرات، وظهور علماء وأدباء أفذاذ كانوا أئمة في العلوم النقلية والعقلية، في القراءات والتفسير والحديث وعلوم التاريخ واللغة والجغرافيا والرحلات والفلسفة والشعر والأدب والمنطق ناهيك عن الفقه والفقهاء الذين كان لهم دور كبير في تفصيل المذاهب وتطويرها وتهذيبها. اسرته: نشأ الزمخشري في عصر ازدهرت فيه الآداب والعلوم حيث بسط فيه

1 / 6

نظام الملك حمايته ورعايته للعلماء والأدباء وأهل الفضل- في قرية زمخشر ضمن عائلة فقيرة تقية ورعة نالت قسطًا من العلم والأدب على ما يظهر لنا من أبيات الزمخشري الآتية التي يرثي بها أباه: فقدته فاضلًا فاضت مآثره ... العلم والأدب المأثور والورع لم يأل ما عاش جدًا في تقاه يرى ... إنّ الحريص على دنياه منخدع صام النهار وقام الليل وهو شج ... من خشية الله كابي اللون ممتقع من المروءة في علياء متّسع ... صدرًا وإن لم يكن في المال متّسع وفي وفيات الأعيان، أن إحدى رجليّ الزمخشري كانت ساقطة بسبب قساوة الثلج وشدّة البرد، وفي أنباه الرواة أنه لما دخل بغداد واجتمع بالفقيه الحنفي الدامغاني سأله عن سبب قطع رجله فقال: «دعاء الوالدة، وذلك إني في صباي أمسكت عصفورًا وربطته بخيط في رجله، وأفلت من يدي، فأدركته وقد دخل في خرق، فجذبته فانقطعت رجله في الخيط، فتألمت والدتي لذلك وقالت: قطع الله رجل الأبعد كما قطعت رجله، فلما وصلت إلى سن الطلب رحلت إلى بخارى لطلب العلم، فسقطت عن الدابة فانكسرت رجلي وعملت عليّ عملًا أوجب قطعها» . وعلى الإجمال فأسرة الزمخشري كانت أسرة متدينة ملتزمة بآداب الشرع وتعاليمه وهو ما أشاد به هو نفسه في الأبيات التالية: هات التي شبهت ظلمًا بشمس ضحى ... لو عارضتها لغطّتها بإشراق استغفر الله أني قد نسبت بها ... ولم أكن لحميّاها بذوّاق ولم يذقها أبي قبلًا ولا أحدًا ... من أسرتي واتفاق الناس مصداقي مراحل حياته: إذا كانت كتب التاريخ الأدبي قد أهملت أخبار الزمخشري ببعض مراحل حياته، فهو نفسه قد سدّ هذا النقص وسجّل بشعره أحداث حياته ومنها نعرف أنه نشأ فقيرًا في قريته زمخشر ثم انتقل إلى بخارى أو خوارزم لطلب العلم عندما بلغ سنّ الطلب فأخذ علوم عصره من منابعها الوافرة

1 / 7

الصافية، ونعرف من شعره أنه فقد، في مرحلة التحصيل العلمي هذه، والده الذي كان يعينه فقال من قصيدة: وإن ممّا قراني حسرة وأسى ... وضاقني الكرب من جرّاه والوجع أن عاقني شحط دار عن تفقّده ... حتى مضى وهو عن ذكراي ملتذع يا حسرتا إنني لم أرو غلّته ... وغلّتي بزمان فيه نجتمع قد كنت أشكو فراقًا قبل منقطعًا ... وكيف لي بعده بالعيش منقطع هذه المرحلة، مرحلة التحصيل العلمي، كانت من أهم مراحل حياته العلمية الحافلة، حيث نضج فيها عقله، وقويت ملكاته، ووضحت شخصيته، وحصّل الكثير من العلوم الإسلامية فنبغ في الأدب: شعره ونثره حيث طارت فيها شهرته، فاتّصل بالملوك والوزراء ورجالات الدولة يمدحهم ويتقرّب إليهم لينال منصبًا يضمن له المال والجاه لكنه مني بالخيبة وتحسّر من هذه الدنيا التي تضع العالم وترفع الجاهل فقال: يا حسرتا من لي بصفقة رابح ... في متجر والفضل رأس المال يا ويح أهل العلم كيف تأخروا ... والسّبق كل السّبق للجهّال فإلى إلهي المشتكى وبصنعه ... دون الأنام منوطة آمالي بعد أن تكاملت شخصية الزمخشري العلمية، بدأ بتطوير صلاته الإجتماعية التي بدأها بالتقرب من رجالات الدولة ثم أتبعها برحلاته إلى مكة واليمن وأكثر أنحاء الجزيرة والشام ليعود بعدها إلى وطنه وقد استفاد من أهل العلم والفضل وأفاد، ونستخلص من شعره أنه عاش في هذه الفترة حياة استقرار نسبي فتزوّج، غير أنه لم يوفّق في زواجه فقال: تزوّجت لم أعلم وأخطأت لم أصب ... فيا ليتني قد متّ قبل التزوّج فوالله ما أبكي على ساكني الثرى ... ولكنني أبكي على المتزوّج وقد استبدل مكتبه وتلاميذه بالحياة الزوجية فقال: وحسبي تصانيفي وحسبي رواتها ... بنين بهم سيقت إليّ مطالبي

1 / 8

ولعلّ الزمخشري لم يجد في وطنه ما تتوق إليه نفسه فتوجه ثانية، نحو سنة ٥١٦ هـ إلى بيت الله الحرام ليؤدي فريضة الحج وليقضي البقية الباقية من عمره بجوار بيت الله، وفي طريقه إليه نظم قصيدته الرائيّة التي تنضح بالزهد والتقوى والتنسّك والتمسّك بحبل الله فقال من قصيدة: سيري تماضر حيث شئت وحدّثي ... إني إلى بطحاء مكة سائر حتى أنيخ وبين أطماري فتىً ... للكعبة البيت الحرام مجاور والله أكبر رحمةٍ، والله أك ... ثر نعمةٍ، وهو الكريم القادر يا من يسافر في البلاد منقبًا ... إني إلى البلد الحرام مسافر إن هاجر الإنسان عن أوطانه ... فالله أولى من إليه يهاجر سأروح بين وفود مكّة وافدًا ... حتى إذا صدروا فما أنا صادر حسبي جوار الله حسبي وحده ... عن كل مفخرةٍ يعدّ الفاخر لقد استقرّ الزمخشري في مكة يصنف ويؤلف الكتب ويدرسّ بين زمزم والمقام؛ والحقيقة أن هذه المرحلة من حياته تعدّ مرحلة عطاء وإنتاج حيث كتب أشهر مؤلفاته وأنفعها، بعد أن تغيّرت نفسيته الطموحة الحاقدة الثائرة إلى نفس مطمئنة راضية قد انبسط عليها سلطان الدين الإسلامي ونقّى طبيعتها وصفّى مزاجها من كل حقدٍ وغيّ وتهالكٍ على المجد معتبرًا نفسه بأنه لم يخلق إلّا للدين الإسلامي ولم يعش إلّا لخدمته، فتحلّق حوله فتيان مكة ورحّب به الأمير أبو الحسن علي بن حمزة بن وهاس ومدّ له يد العون بعد أن عرف قدره، وقصده طلاب العلم من أرجاء العالم الإسلامي يأخذون عنه حتى قال قائلهم: أمكّة هل تدرين ماذا تضمّنت ... بمقدم جار الله منك الأباطح به وإليه العلم ينمي وينتهي ... وفيه لأرباب العلوم المناجح محطّ رحال الفاضلين فلم يزل ... يحطّ إليه الرّحل غاد ورائح ولكن، على الرغم من الهدوء النفسي، وعلى الرغم من مجاورته بيت الله، وأمنه عاديات الزمن، وما حقّقه من آمال بمكة، بقي الزمخشري

1 / 9