أما الأشد غرابة فهو اعتماده أسماء موجودة اليوم بالجزيرة لمواضع وقبائل، يراها هي ذات الأسماء التوراتية، بعد مرور أكثر من ثلاثين قرنا، كانت كافية لتبديل أسماء الموضع التي ذكرها عشرات المرات، ونسيان قديمها وهو أمر معلوم، ومعلوم أيضا أن أسماء المواضع عادة ما تتغير بتغير سكان المنطقة. وهو أمر دائم التكرار في بلاد البداوة القبلية أكثر من المناطق المستقرة؛ وذلك للسعي وراء الكلأ والتحرك للإغارة أو هربا من الإغارة، هذا ناهيك أنه قال بنسيان العالم كله للأصل العسيري العربي للإسرائيليين في عسير، بعد أسر في بابل لم يدم لأكثر من نصف قرن، فما باله يرى جزئيات وتفاصيل أجدر بالنسيان، خلال قرون طويلة، يراها باقية شاهدة على الأصل العسيري للتوراة القديمة وأهلها في بلاد العرب.
وفي موضع آخر من كتابه يلتفت إلى نقاط ضعف يحاول تبريرها، فهو يشير إلى النصوص الأسطورية التي وردت في التوراة، وضرب منها مثلا بقصة «الطوفان»، التي تحتاج غمرا مائيا وبلادا ممطرة ونهرية كأرضية للحادثة، وهو ما لا يتطابق مع حال جزيرة العرب ليؤكد لنا أنه لا يمكن التأكد أين ولدت مثل تلك الأساطير؟ ومن استعارها؟ ومن أصحابها الأصليون؟ ولكنه لا شك يعلم أصولها المصرية والعراقية والشامية، وسر انتقالها إلى الكتاب المقدس وظروف ذلك! وسبق لنا أن قدمنا في ذلك بحوثا نشرناها في كتابنا «الأسطورة والتراث»
38
يمكن للقارئ الرجوع إليها، وهو ما لا يمكن أن يتطابق بحال، مع ما ذهب إليه الدكتور الصليبي.
ثم في موضع آخر يجد شاهدا أركيولوجيا لا يقبل دحضا، يتمثل في «الحجر الموآبي»، الذي عثر عليه شرقي البحر الميت، بلاد موآب القديمة، ويتحدث فيه «ميشع» الملك الموآبي عن حروبه مع إسرائيل، فيتحايل على الأمر برمته، ويقول إن النصب قد أقامه «ميشع» في تلك المنطقة التي حددتها التوراة شرقي فلسطين بعد أن هاجر من عسير بعد حروبه مع إسرائيل في عسير!
ويتمادى فيبالغ ليرى أن حملات المصريين جميعا على البلاد التي كان مظنونا أنها فلسطين وبلاد الشام وجنوب تركيا، إنما كانت جميعا على شبه الجزيرة العربية، وتحديدا ضد عسير، بما فيها حملتا «شيشانق» و«نخاو» المدونتان في التوراة وفي النصوص المصرية القديمة، كذلك حملات البابليين والآشوريين اتجهت بدورها جميعا إلى بلاد عسير، وترك العالم الإمبراطوري بقاع الثروة والخصب، والموقع الفلسطيني الشامي الاستراتيجي العالمي، ليتصارع جميعه في بلاد عسير، ولأجل عيون قرى عسير! وهو أمر نافر تماما ومتكلف، ناهيك عن فقده لأي مصداقية أركيولوجية أو وثائقية إضافة لمخالفته للمدونات القديمة التي تحدثت عن تلك الحملات الإمبراطورية!
نعم لا يكابر أحدا أو يجادل في أن المصريين قد اخترقوا بلاد العرب، وأنشئوا هناك مستعمرات متقدمة، لضمان السيطرة على الطريق التجاري البري الذي ينقل بضائع الهند وأفريقيا الشرقية إلى عالم الشرق الأوسط القديم، وهو أمر سبق أن قدمنا عليه قرائن في أعمالنا المنشورة، (انظر مثلا: النبي إبراهيم والتاريخ المجهول)، لكن أن تكون دولة إسرائيل القديمة قد قامت هناك، وأن كل الصراعات الإمبراطورية قد دارت هناك من أجل تلك الدويلة والتي سيقل شأنها أكثر في حال نقلها من موقعها الاستراتيجي بفلسطين، إلى جبال عسير، فهو الأمر الذي يصعب قبوله تماما.
وما يجعل أمر «عسير» هنا، عسيرا تماما، هو قول «الصليبي» إن الحملات المصرية جميعا لم تكن متجهة من مصر إلى حوض المتوسط الشرقي (فلسطين، سوريا، تركيا، العراق)، بل دوما إلى عسير، حيث إن هناك مراجعات شاملة قد جرت للروايات القديمة بهذا الشأن، خصوصا المدون المصري منها، وهي إن لم تقطع بأمر موقع أو آخر، فهو أمر طبيعي تماما في دراسة القديم، لكن هناك من الشواهد ما يكفي لضمان سلامة تحديد خطوط سير تلك الحملات، فإن نجد - كمثال - نصبا لرمسيس الثاني على مصب نهر «الكلب» بمواجهة البحر المتوسط، بين بيروت وجبيل، يتحدث عن حملته الأولى على بلاد الشام سنة 1297ق.م فإنه سيكون دلالة لا تقبل جدلا ودليلا شاهدا يكمل أي نقص في المعلومات المدونة حول تلك الحملة، وخط سيرها.
39
ومثله عندما تتحدث النصوص عن استيلاء «رمسيس الثاني» على بيروت وجبيل، فنحن نصدقها بهذا الشاهد الأثري، ولا نذهب مع «صليبي» إلى فيافي الجزيرة العربية البلقع لنبحث هناك عن «لبينان»، بل نصدق تماما أن «رمسيس الثاني» قد غطى بحملته نصف الشاطئ الشرقي للمتوسط بتلك الحملة الصغيرة، ثم لا بد أن نصدق مرة أخرى، لوجود عناصر أخرى ترتبط بالحادثة؛ لأن الحملة كانت إنذارا للملك الحيثي «ما تتيوالي» سنة 1306-1282ق.م، ليكف عن تدخلاته في سوريا، ودواعي التصديق هي الحرب التي خاضها «رمسيس الثاني» بعد ذلك مع الملك الحيثي ملك تركيا القديمة، في موقعة قادش على نهر العاصي السوري، والتي انتهت بتوقيع اتفاق سلام من نسختين، نسخة بالمصرية ونسخة بالحيثية، وقد تم العثور على كلتا النسختين واحدة في مصر، والثانية في «بوغازكوي» العاصمة الحيثية القديمة في داخل تركيا، وهو السلام الذي لجأ إليه الملك الحيثي، سعيا وراء مصلحة التفرغ لحماية بلاده، أمام جيرانه «الآشوريين» وقوتهم المتصاعدة في بلاد الرافدين الشمالية، وليس في قرية «أبي ثور» في بلقع عسير.
अज्ञात पृष्ठ