الهجرة؟ النجومية؟ الانحراف؟ الماضي؟ الله؟ الثورة؟ ... المهم أن ينجو من الواقع الكئيب، واتفق في ذلك الوقت أن أهداه الأب إبراهيم حجرة جديدة عصرية بطاقمها المكون من الفراش والدولاب والشيفونيرة والتواليت وسجادة فرنسية. قال له: تغيير الجو يجب أن يساير تغيير الشخصية.
فغمغم: أي شخصية؟!
وفكر في ثمن الحجرة، فاستعاد شكوكه بمرارة جديدة، وقرأ الأب صفحة وجهه فاستشف معاني أخرى، فقال: الهجرة آتية فاصبر قليلا.
الصبر جميل لكنه مر، ولم ينقطع عن التفكير في البدائل المتاحة، وسمع زميله «عبد اللطيف محمود» ينصح ضيفا بالانضمام إلى حزب الأغلبية، ولم يكن يفرق بين جده ومزاحه، ولكنه أنصت إليه وهو يقول للرجل: الانضمام يضمن لك التمتع بحقوق الإنسان!
فكر أنه بوسعه أن ينضم ولو إلى لجنة الحي، ولكنه حزب ضخم يحوي الملايين وهيهات أن ينتشله من ضياعه، أو يخرجه من شرنقة التفاهة، فرق كبير بين أن تركب سيارة ولو صغيرة، وبين أن تنحشر في أتوبيس ... في الوقت ذاته فإنه من الجنون أن يسعى إلى أهل الدين أو أهل المادة فيعرض نفسه للهلاك! كلا ... إنه لم يخلق لذلك، ولم يبق أمامه إلا الهجرة أو الفن! وانبعثت في نفسه وثبة متحدية ذات مساء وهو يحتسي قليلا من النبيذ في تافرنا ... رقصت النشوة في رأسه فانساب طموحه الحائر، فقرر أن ينفلت من قبضة الأحلام وأن يفعل شيئا، سعى إلى مقابلة بعض المخرجين وعرض عليهم نفسه كقانوني يهوى التمثيل، مستمدا من شكله وحجمه ثقة وأملا. قال له المخرج: لا يمكن تشغيلك إلا إذا كنت متخرجا في المعهد.
فقال بثبات: يمكن كوجه جديد مرشح للبطولة!
ودعي إلى الاختبار، ولولا اليأس ما تغلب على ارتباكه ... وكان يترك عنوانه ويذهب، وينتظر ثملا بأحلام اليقظة بعد أن حل البلاتوه محل الجهاد والفردوس الأرضي، ولكنه لم يرده خطاب ... وطال انتظاره حتى شطب فرق الفن في سجل آماله المتهاوية أسوة بالنشاط السياسي كله، فلم يبق إلا «الخارج» كأمل أخير، وسأل أباه ذات مساء: لا أخبار عن الهجرة؟
فأجابه بوجوم: انتظر الوقت المناسب!
التقط إحساسه المشحوذ بسوء الظن نبرة جديدة في صوت أبيه، نبرة توحي بالهزيمة، انظر جيدا، ليس الرجل كعادته، ولا أمه ... إنهما يعانيان قهرا مجهولا تبدى في نظرة العين، وشهية الطعام، والحديث. وقال لنفسه: «هل يتلاشى الأمل الأخير؟ سيقع شيء غير سار.» وصدق حدسه، فأعلن أبوه أنه طلب إحالته على المعاش لسوء حالته الصحية، ولحقت به أمه في نفس الأسبوع معتلة بنفس العلة! ذهل عبد الفتاح، وهمس له سوء ظنه بالحقيقة الخفية، لا شك أنهما اضطرا إلى ذلك اضطرارا وتفاديا من عاقبة أسوأ ... الصحة بريئة تماما، كانا من أحسن الناس عافية ومرحا، وجاراهما فتظاهر بالقلق على صحتهما، واستمع إلى حديث طويل عن الضغط والطبيب، وقال بحرارة مصطنعة: الصحة أهم من العمل والمال.
وتوقفت حياة الترف المعهودة، انطفأت الشعلة، وبدوا كئيبين واجمين، وانتهت ليالي الولائم، وخيم على البيت جو غريب من الإثم والعقوبة، واختفى أصحاب المنفعة والانتهازية، فخلا المسكن إلا من المنبوذين ... وأمسى للنقود قيمة جديدة، فلم تعد تنفق إلا بحساب، وتردد ذكر الغلاء مصحوبا بلعن الانفتاح وذم المتاجرين بأرزاق الشعب! ولم يخدع عبد الفتاح بهذا الصوت الوطني الطارئ وعرف سره ... إنه يكتسب كل يوم خبرة في مكتب التحقيقات أثرت رؤيته وأفعمته بسوء الظن، لن يخدعه نقد المنحرفين إذا حيل بينهم وبين الانحراف ... وامتنعت المعونات التي كان يحظى بها من والديه، وتضاعف قلقه عندما سمع أباه، وهو يقول: لا مفر من بيع بعض التحف لمواجهة الغلاء!
अज्ञात पृष्ठ