ولقد حدثتك في المقال السابق عن بعض ما جرى من المحن على دولة الخلافة باستبداد عبد الحميد وظلم عبد الحميد، حتى لقد انسلخ عنها في ذلك العهد الأشأم قرابة ثلاثين ولاية، وإن شئت قلت: ثلاثين مملكة.
وقلت لك: إن المصريين لم يحبوا أحدا كما أحبوا عبد الحميد، ولم يدينوا بالولاء لأحد كما دانوا لعبد الحميد، حتى لقد خالط حبه اللحم ولصق بالعظم، وجرى في أعراقهم مجرى الدم، فلم تجر بسوء حكمه على الإسلام محنة إلا جعلوها موضع منة، ولا دب إلى جسم الدولة بظلمه فساد إلا أحالوه على صلاح، فإذا غم عليهم الأمر ولم يهدهم إلى الرأي طول التعسف في التأويل والتعليل، أحالوا الأمر إلى الحكم التي تعلو على أفهام العباد!
وإن من الإنصاف أن نقرر أن أشد الناس كانوا استحماسا في هذا الباب هم سلالة الترك المتمصرين، وكان زعيم هؤلاء جميعا شيخا واسع الغنى يسكن في بعض أطراف القاهرة، ولا أسميه ولا أعين مسكنه لكيلا أدل عليه - رحمه الله وغفر لنا وله.
كان هذا الرجل أو هذا الزعيم العظيم حين أدركناه في حدود السبعين، وكانت داره الواسعة مثابة القصاد ونجعة الرواد، يؤمها في كل ليلة جماعات الظماء إلى أخبار الباب العالي، وما عسى أن يكون قد أجد لدولة الإسلام من مفاخر ضخام!
فإذا كان عيد الجلوس السلطاني رصعت الدار بمصابيح تخطف الأبصار، ووشيت بأذكى الورود وأنضر الأزهار، وصدحت الموسيقات بأحلى الأنغام، وقرب للفقراء أشهى الطعام من لحوم الأنعام، ووقف البك بالباب يستقبل جماعات المهنئين الداعين لجلالة الخليفة بالبقاء على السنين حتى يربو عمره على المئين، وغنى في الليل أعلام المغنين، ونثرت بدر الدراهم على الجماهير المحتشدين من المعوزين وغير المعوزين!
وقلت: إنه يقف بالباب في تلقي الهناء من الوافدين، وإنه ليكافئ هناءهم بالشكر والدعاء، كما يصنع أي امرئ في أسباب مسراته الخاصة وأمزاحه العائلية، وذلك لما يشعر به أو ما يريد أن يشعره الناس من أن له سهما ولو ضئيلا من شئون السلطان أو من شئون الدولة، يهيئ له تقبل الهناء والإثابة عليه بالشكر والدعاء، وكيف لا وقد كثر كل حبه وولائه وإخلاصه على الياديشاه، وهو عند الباب العالي مطلع الرأي ومتنزل السر، على الرغم من بعد الديار وشط المزار!
ولا تظن أن هذا الرجل كان في هذا الباب فذا منقطع النظير في فتح داره لجماعات الاصطمبلليين، فلقد كان نظائره كثيرين وإنما أفردناه بالذكر؛ لأنه كان أكبرهم سنا، وأبعدهم شهرة، وأوسعهم غنى، وأقدرهم على الوصف وتفخيم التصوير.
وبعد، فما يكاد يخيم الغسق حتى تحتشد دار صاحبنا ودور أمثاله بالوافد للاستخبار، والاضطلاع على ما أجد الباب العالي من جلائل الآثار!
واعلم أولا أن كل شيء يجري على الدولة لا بد وأن يكون برأي السلطان وتدبيره، ودهائه وجبروت حيلته ولو بدا لك في هذا الأمر كارثة، ورأيت منه مصيبة واقعة وبلية لاحقة، وهل بعد قوة السلطان قوة أو وراء دهائه دهاء؟
ولعمري، ما جاءت البشرى بانسلاخ ولاية من تلك الولايات الثلاثين، أو وقعت على الدولة بلية من إحدى الدول الغربية، كما احتلت الجنود الفرنسية بعد جماركها أو تذعن لبعض المطالب ما حدث شيء من ذلك ونحوه إلا قال قائلهم: «دي سياسة أفندم!» فيزر صاحبه على إحدى عينيه ويهز رأسه ويقول: «دي سياسة كبير» فيصيح الثالث: أمال أفندم، لازم يا ديشاه هو اللي عاوز كده، إذا كان مش عاوز ما كانش يحصل، إيش عرفنا إحنا؟ دي سياسة فوق عقول!»
अज्ञात पृष्ठ