170

يحاكونها بأن يبدءوا بصياح مثل صياحهم، ثم عدم الإذن للترانيم بأن تأخذ سمتها، بل المبادرة إلى ليها عن وجهها حتى تصك الأسماع صكا وتطير الأمزجة تطييرا، فإذا بلغت غاية الجهد من الاضطراب ذات اليمين وذات الشمال، وبين فوق وتحت، ووراء وقدام، وصلت بها صرخة تحكي ما يختم الموسيقى الغربية من الأذناب والأذيال، وكذلك تظن جمهرة ملحنينا ومغنينا أنهم يجيئوننا بموسيقى غربية لا يلحقها شك ولا ارتياب، وما شاء الله كان!

وبعد فأما تنكير النغم، وأما ليه عن وجهه، وأما الصراخ في أوله وفي آخره، فذلك مما لا يعنى على أحد؛ لأنه لا يحتاج إلى علم ولا صلة له بفن، ولا علاقة له بذوق، فإذا هو احتاج إلى شيء من فساد الذوق فذلك موفور والحمد لله!

ومن هنا كثر الملحنون في بلادنا كثرة أصبحت تجهد العدد ، فلا تكاد تسمع مغنيا حدثا أو مغنية ناشئة إلا قيل: إن هذه الأغنية من تلحينها أو من تلحينه، وكذلك رخص التلحين وأصبح ميسورا لكل من شاء!

وعلى هذا تفتحت آذان وكذلك استدرجت اسم الموسيقى الغربية أهواء، وأرى الغربيين إذ يكتب عليهم أن يسمعوها إلا أشد تأذيا بها منا نحن المصريين!

تلحين رخيص وموسيقى رخيصة وفن رخيص، أما التحزن والتفجع في هذه التلاحين، وأما التميع وشيوع التخنيث، فذلك ما نسأل الله السلامة منه للرجولة في هذه البلاد!

ولقد تقول للرجل من كبار الملحنين في ذلك، فيجيبك في خجل عظيم: وماذا نصنع، وهذه البضاعة هي الرائجة في سوق الغناء في هذه الأيام؟ وكذلك جعل هؤلاء الملحنون أنفسهم يتبارون في هذا التشويه، يجنون به عامدين على الفن وعلى الأذواق معا ما دام القوت يأتي من هذه السبيل!

ولكي تدرك مبلغ رخص هذه التلاحين وهوانها، لاحظ أنك لا ترى شيئا منها يعيش حتى إلى اليوم الثاني، وكيف لما ولد ميتا أن يعيش؟

أما الذين لا يزال هواهم إلى القديم، فهم في برم دائم وملل لا يريم، فإن ما يسمعونه اليوم هو الذي سمعوه أمس، وسمعوه من سنة خلت ومن عشر سنين مضت، ومن شيوخهم من سمعه من ثلاثين وأربعين من السنين يتردد هذا الدهر الأطول على أسماعهم بنصه وفصه، ولفظه وتلحينه، وكل نبرة وتنغيمة فيه، وكل ذرة للحلق على موقف من مواقفه، وكل تركيشة تختم بها كل فاصلة من فواصله، اللهم إلا ما يدخله عليه المغنون من الخطأ والتشويه!

ليس هكذا أيها السادة يكون إحياء القديم، وليس بهذا التكرير الممل إلى حد الإزعاج ترضون هوى أصحاب القديم إلى القديم.

المراد بالقديم يا أيتها المطابع أو الأسطوانات هو الفن المصري القديم، الفن السلس السهل الذي يتفجر رجولة ويسيل طربا، والذي يتحدث إلى كبد المصري في غير عسر ولا حاجة إلى ترجمان، فيحرك فيه من ألوان العواطف ما شاء الله أن يتحرك، ويثير فيه من الأريحية ما شاء الله أن يثور.

अज्ञात पृष्ठ