لقد زعمت لك حتى الآن مزاعم ثلاثة: (1)
فزعمت لك أولا أن الفكر إن هو إلا هذه العبارات التي نقولها منطوقة مسموعة أو مرقومة مرئية. (2)
وزعمت لك ثانيا أن كل عبارة من هذه العبارات لا بد أن تجيء جوابا لسؤال سابق عليها - صريح أو ضمني. (3)
ثم زعمت لك ثالثا أن هذا السؤال نفسه مستحيل إلقاؤه بغير حقيقة صدقها مفروض عند المتكلم والسامع على السواء.
لكنني لا أريد بهذا أن أقول إن كل ناطق بعبارة يكون على وعي بهذا كله؛ فالكثرة الغالبة من الحالات هي أن يتكلم المتكلمون وهم لا يدرون ما تنطوي عليه عباراتهم من فروض، وإنما يحتاج الأمر إلى تحليل يبرز لنا تلك الفروض المتضمنة في كل عبارة منطوقة، وفي هذا يكون الفرق الأكبر بين التفكير السائب العابر والتفكير العلمي المنظم؛ ففي الصنف الأول تجري أفكارنا معقدة الأطراف ملتفة الفروع متداخلا بعضها في بعض، ولما كنا نفكر تفكيرا علميا فإننا نحاول أن نحل هذه العقد الملتفة المتشابكة ونحللها خيطا خيطا، ثم نرتب هذه الخيوط الفكرية ترتيبا يجري على نسق منظم يبين ما بينها من علاقات، فهذا خيط سابق وذلك خيط لاحق وهكذا.
على أنك لا تستطيع أن تمضي في تحليل الفكرة على هذا النحو إلى غير نهاية تقف عندها؛ لا تستطيع أن تتناول فكرة معينة قائلا: هذه الفكرة تتضمن سؤالا سابقا هو كذا، وهذا السؤال بدوره يتضمن حقيقة مفروضة هي كيت، ثم هذه الحقيقة المفروضة نفسها لا بد أن تكون جوابا لسؤال سابق عليها هو كذا، والسؤال السابق هذا يتضمن حقيقة أخرى مفروضة هي كيت ... إلى ما لا نهاية له، بل لا بد أن تقف السلسلة عند فروض أولية لا يحتمل الناس أن يسألوا عنها؛ لأنهم يجعلونها «بديهيات» فكرية يبنون عليها بناءهم الفكري كله؛ ويصح أن نطلق على هذه الفروض الأخيرة التي ينتهي بنا التحليل إليها والتي لا يسع الناس إلا أن يجعلوها بداية ولا يطيقون أن يخطو أحد وراءها بسؤال، اسم الفروض المطلقة؛ لأننا نتخذها أساسا للتفكير دون أن تكون هي نفسها موضعا للتفكير. ولو أمكنك أن تحلل أفكار الناس في عصر من العصور، بحيث تردها إلى هذه الفروض الأولى، فقد وضعت يدك على محاور التفكير في ذلك العصر الذي أنت بصدد تحليل الفكر فيه، لكننا سنرجئ القول في الفروض المطلقة لنمضي في الحديث.
3
يتبين مما أسلفناه أن الوحدة الكاملة التي ينحل إليها الفكر، هي مركب من جواب وسؤاله؛ فالفكرة الواحدة - كما قدمنا - هي دائما جواب لسؤال متضمن فيها؛ وليست الفكرة بالوحدة الكاملة إذا ما عزلناها عن سؤالها الضمني؛ لأننا لا نستطيع أن نحكم على فكرة بأنها صواب أو خطأ إلا إذا عرفنا السؤال الذي جاءت تلك الفكرة جوابا عنه؛ إذ قد تكون الفكرة المعينة الواحدة صوابا بالنسبة إلى سؤال وخطأ بالنسبة إلى سؤال آخر؛ فلو قلت لي مثلا: «إن مصر كائن واحد» كان قولك صوابا إذا كنت تجيب به عن السؤال: «كم أمة في مصر؟» لكنه خطأ إذا كنت تجيب به عن السؤال: «كم عدد الكائنات الأفراد في مصر؟»
بل إن هذا نفسه ليهدينا سواء السبيل في نقد الآثار الفنية نقدا سليما عادلا، فلا يجوز - مثلا - أن أحكم على تمثال بأنه جميل أو قبيح إلا إذا عرفت أولا ماذا أراد الفنان أن يعبر عنه بهذا التمثال؛ فربما حكمت على تمثال امرأة بأنه غير متناسب الأجزاء، وبأنه لذلك تمثال قبيح، مع أن الفنان ربما أراد به أن يصور القبح الماثل في امرأة غير متناسبة الأجزاء، وبهذا يكون التمثال من هذه الناحية جميلا موفقا فيما أراد أن يعبر عنه.
وهكذا يقال في أحكامنا عن المفكرين الأقدمين؛ فليس من العدل أن تحكم على مفكر فيما أنتجه من فكر، إلا إذا عرفت أولا ما السؤال الذي أراد المفكر أن يجيب عنه بفكره ذاك، فافرض مثلا أن مفكرا قديما كان من رأيه أن تكون لشيخ القبيلة الكلمة العليا في أفراد القبيلة جميعا، ثم أردت أن تحكم على هذا الرأي بصواب أو خطأ، فانظر أولا إلى المشكلة التي أراد المفكر القديم أن يحلها برأيه ذاك، وبعدئذ تقول عن الرأي إنه صواب أو خطأ بمقدار توفيقه في حل المشكلة التي أريد حلها.
अज्ञात पृष्ठ