لماذا - إذن - لم ينقل العرب عن اليونان أدبهم المسرحي؟ التعليل الصواب عند أديبنا توفيق الحكيم هو «أن التراجيديا الإغريقية ما كانت حتى ذلك الحين تعتبر أدبا معدا للقراءة ... إنها لم تكن وقتئذ شيئا مما يقرأ مستقلا كما تقرأ جمهورية أفلاطون؛ فقد كانت تكتب لا للمطالعة بل للتمثيل ...» (ص21)، «لم تخلق الرواية المسرح ... ولكن المسرح هو الذي خلق الرواية ... وما دام المترجم العربي قد أيقن أنه أمام عمل لم يجعل للقراءة ففيم ترجمته إذن؟» (ص23).
في رأي الأستاذ توفيق الحكيم - إذن - أن العرب لم ينقلوا الأدب المسرحي من اليونان، ولا قلدوهم فيه؛ لأنه لم يكن لديهم مسرح، ولم يكن للعرب مسرح؛ لأنهم بدو رحل لا يستقرون في مكان، وطنهم «متنقل على ظهور القوافل يجري هنا وهناك خلف قطرة غمام ... وطن يهتز فوق الإبل ... كل شيء في هذا الوطن المتحرك كان يباعد بينه وبين المسرح ... لأن المسرح يتطلب أول ما يتطلب: الاستقرار» (ص24).
لكني لا أرى رأي أديبنا في ذلك؛ فأولا: لم ينقل العرب عن اليونان سائر علومهم حين كان «وطنهم يهتز فوق الإبل»، بل نقلوا عنهم حين استقروا في بغداد وغيرها من أرض مستقرة ثابتة، وثانيا - وهو المهم عندي الآن - لم يقتصر النفور من الأدب المسرحي على العرب، حتى على فرض أن الحضارة العربية كلها كانت «متنقلة على ظهور القوافل»، ولكنه كاد يشمل الحضارات الشرقية كلها، وفيها مصر والهند والصين؛ كان الناس في مصر، وفي الهند وفي الصين، لا تضطرهم ظروف البيئة إلى «الجري هنا وهناك خلف قطرة غمام»، بل كانوا مزارعين يضربون بجذورهم في مكان بعينه لا يكادون يتحولون عنه مدى الحياة، فلماذا لم تظهر المسرحية في أي منها كما ظهرت في اليونان؟ أأقول إن الأدب المسرحي طور لا بد أن يسبقه طور الأدب الغنائي وأن يلحقه أدب التفكير؟ لكن ذلك إن صح في مصر على اعتبار أن حضارتها القديمة كلها بدأت وانتهت في طور الطفولة الأدبية، فهو لا يصدق بالنسبة إلى الهند أو الصين؛ لأن الحضارة فيهما امتدت حتى عاصرت اليونان وما بعدهم.
الرأي عندي هو أن الأدب المسرحي - والقصصي أيضا - يستحيل قيامه بغير التفات إلى تميز الشخصيات الفردية بعضها عن بعض؛ لو نشأ الكاتب في جو ثقافي لا يعترف للأفراد بوجود، ويطمسهم جميعا في كتلة واحدة من الضباب الأدكن، فلا سبيل إلى تصويره هؤلاء الأفراد يصطرعون في مأساة، والشرق كله - في رأيي - قد طمس الفرد طمسا ولم يترك له مجالا يتنفس فيه؛ الأفراد في الثقافة الهندية كلها «مايا»؛ أي وهم لا وجود له، والموجود الحق هو الكون كلا واحدا لا تفرد فيه ولا تكثر، وقل مثل هذا في الصين وفي كل بلاد الشرق بصفة عامة؛ الحضارات الشرقية كلها تغفل شأن الفرد وتجعله جزءا من شيء أعم منه، فهو عند العرب - وهم الآن موضوع بحثنا - جزء من القبيلة، فلا وزن له إلى جانبها ولا قيمة له بالقياس إليها، ولا كذلك اليونان؛ فالفرد عندهم هو محور التفكير، حتى الآلهة عندهم أفراد لهم مميزاتهم ومشخصاتهم، ومن هاتين النزعتين المختلفتين، نشأ الدين في الشرق والعلم في الغرب؛ لأن معظم الديانات أساسها التوحيد بين تلك الظواهر المختلفة، وأما العلم فأساسه التمييز بين تلك الظواهر ما دام فيها ما يميزها، لم يعرف الشرق أشخاصا، فلم يعرف المسرحية ولا القصة.
يقول الأستاذ توفيق الحكيم: إنك لو أعطيت المسرح للعرب لكتبوا المسرحية «وكما أن العرب في عهد الإبل كان لسان حالهم يقول: «أعطونا الجواد ونحن نركب!» فإنهم كذلك قد يقولون: «أعطونا المسرح ونحن نكتب!»» (ص29). وهذا في رأينا تفكير دائري؛ لأننا كما نسأل: لماذا لم يكتب العرب مسرحية حين استقر بهم المقام في المدن، نستطيع أيضا أن نسأل: لماذا لم يقم العرب لأنفسهم مسرحا عندئذ؟ أريد أن أقول إن الأستاذ توفيق الحكيم لم يعلل بقوله ذلك شيئا، إنما وضع السؤال الواحد في صيغتين مختلفتين، ولم يأتنا بالجواب.
أراني قد أطلت القول حتى قاربت الغاية التي يجب أن أقف عندها، دون أن أقول كلمة واحدة عن المسرحية ذاتها! وإني لأقلب الآن صفحات الكتاب أمامي وأراها مليئة بالتعليق الذي أردت أن أعرضه، والظاهر أن ليس إلى هذا العرض من سبيل؛ فقد كنت أحب أن أعرض لتصوير الأشخاص، وأثبت رأيي في مدى توفيق الكاتب في ذلك التصوير؛ لأني أراه أبرع فنا في تصوير «جو كاستا» منه في رسم «أوديب»، وكنت أحب أن أسأل سؤالا يتناول الأساس الذي أقام عليه الكاتب بناءه كله، وهو الأساس الديني، فقد أراد أديبنا الفاضل أن يصور الإنسان معتمدا في سلوكه على قوة أعلى منه، لكني لا أكاد أرى اختلافا جوهريا يقع في حوادث المسرحية لو أني جعلت سلوك الإنسان مستمدا من عواطفه ومؤثرات بيئته، فكأن الكاتب قد اشترط لنفسه أساسا، ثم استغنى عنه عندما أراد البناء.
وكنت أريد أن أقول أشياء كثيرة أخرى، لا أوجهها إلى الكاتب ناقدا - فليس إلى ذلك من سبيل - بل أقولها لأعلم بها نفسي.
شيوخ الأدب وشبابه
عندما تلقيت من صديقي الأستاذ أنور المعداوي كتابه «نماذج فنية من الأدب والنقد» وأدرت غلافه لأجده منذ فاتحة الكتاب يعلن الثورة ويتعجل الإصلاح في ميدان الأدب والنقد، شاعت في نفسي النشوة وقلت هامسا: هذا ثائر يلتقي بثائر وساخط يصافح ساخطا؛ فكلانا على السواء «يضيق بأضواء الشموع، هذه الأضواء الضئيلة الهزيلة، التي لا تستطيع أن ترد عادية الظلام.» وكلانا على السواء يريد «هدما للقيم البالية المتداعية يعقبه بناء على ركام الأنقاض.»
فالصديق الأديب قد نظر - كما يقول في مستهل كتابه - إلى أدبنا، فوجده في أكثر حالته «أدب المحاكاة الناقلة، لا أدب الأصالة الخالقة، أدب الترديد والتقليد، لا أدب الإبداع والتجديد؛ ليس له طابع خاص وليست له شخصية مستقلة، وإنما ضاع طابعه واختفت شخصيته في زحمة الجلوس إلى موائد الغير بغية الاقتباس من شتى الطعوم والألوان ...»
अज्ञात पृष्ठ