قال هذا وأخرج من جيبه قبضة دنانير وأردف قائلا: ليس ما يمنعني من أن أعطيك هذا المال في الحال، ولكنك أحب إلي وأرفع في عيني من أن أضع في يدك ذهبا، فإنني أجعلك صاحب معمل عظيم، وأهتم كل الاهتمام بمستقبل أولادك فلا ينقصهم شيء حتى بعد موتي، والفضل في ذلك لأنيسة، فإنكم أحسنتم إلى الضريرة وآويتموها، وأكرمتم مثواها، وأحببتموها، فأنا خطيبها أكافئكم عنها فأبرهن بصنيعي هذا على أن الإحسان لا يضيع، لقد أخذتم بناصر أنيسة في الضراء، فيحق لكم أن تشاركوها في السراء، وما كانت أنيسة لتهجركم، يا صاحب المعمل لسنا نفترق عنكم مدى الحياة.
ثم قام وقبض على يد الحائك يصافحها ويهزها بشدة، كما هي عادة الأجانب عند المصافحة، فتبادل الحائك وامرأته نظرة التأثر ولم يقويا على إدراك معناه حق الإدراك، فحاول المسافر أن يزيدهما إيضاحا وإذا ببطرس الصغير جذبه بثوبه، كأنه يرغب في أن يقول له كلاما ذا شأن.
فسأله الرجل: وما لديك يا حبيبي؟
فأجاب الغلام: يا سيدي حنا قد جاءت الساعة التي فيها تعود أنيسة، فهل تريد أن أذهب لملاقاتها فأبشرها بقدومك؟
فأخذ الرجل بيد الصغير وسار به نحو الباب قائلا: هيا وسر أمامي نحوها.
وهكذا خرج مع الصبي وأسرع يوسع الخطى في القرية، فلما شاهده أهل القرية على تلك الحال برزوا من البيوت رجالا ونساء، فرأوا بطرس الصغير مرتديا ثوبه القصير، حافيا حاسر الرأس، يطفر إلى جانب الغريب قابضا على يده يكلمه ويمازحه.
فأخذ منهم العجب مأخذه ولم يكونوا يعقلون ما هي العلاقة بين الصبي وهذا الخواجا الغني الذي عدوه أقلما يكون قنصلا، ومن يصف عظيم اندهاشهم لما رأوا الرجل انحنى نحو الصغير وقبله.
فازدحم الواقفون بالأبواب وكثر الحدس والتخمين، وكان للنساء من الحديث النصيب الأوفر، وذهب القوم مذاهب شتى أقربها إلى الصواب، هو أن هذا الخواجا الغني أو القنصل خطر له أن يتبنى الصبي فسار به ليعتني بتربيته، وذلك أمر ليس بالنادر، والحق يقال: إن بطرس ابن الحائك سركيس كان أجمل صبيان الضيعة، يستميل إليه القلوب بعينيه الزرقاوين، ولوائح الذكاء والنجابة البادية على محياه الصبوح، ولكن بعض العقلاء لاحظوا أنه لمن المستغرب أن يتبنى الخواجا الصبي ويسير به حافيا.
ولم يمض القليل إلا أصبح أهل الضيعة في الطرق لا يشغلهم شاغل عن الحديث في هذا الأمر، وبودهم لو يسألون الغريب إيضاحا، ولكن لم يكن منهم من يجسر على السؤال، فكلهم تهيبوا مما رأوا من طول قامته وكبر قبعته، ولم يخطر لأحد منهم ببال أن الرجل ابن الوطن ...
9
अज्ञात पृष्ठ