آه لو كانت الأرض ابتلعتني، فلم أره يضرب أبي أمامي!
أبي ملاحظ عمال البناء، هو الذي يجمع الأنفار، ويوزع عليهم العمل، في السنة الماضية كانوا يبنون سور السكة الحديدية، كنت أذهب إليه وأتفرج على الأنفار، وأشرب معهم الشاي، لم يقل لي أبي: ماذا يبنون في هذا العام؟ هل هو المركز الجديد؟ هل هو المستشفى، أو يا ترى فيلا للعمدة، أو بيت لمهندس التنظيم؟ بنى يبني بناء، قدماء المصريين أيضا بنوا الأهرام، مليونين وثلاثمائة ألف حجر، كل حجر يزن طنين ونصف الطن، مائة ألف نفر في كل عام، ومصر كلها حجر واحد حجر ضخم، مثلث مثل الهرم، قمته ترتفع إلى السماء، وعلى قمته يجلس فرعون وفرعون والسلطان والباشا والخفير سخروا الفلاحين، والرجل الأبيض السمين كان دائما هناك، كان دائما يضرب الأنفار على وجوههم، والشمس كانت دائما تلسع الوجوه وتشوي الأجسام، ونابليون نفسه وقف في الشمس أمام الأهرام، وقال: إن أربعين قرنا تنظر إليكم!
أبي كان ينهنه عندما خرجت من البيت، طول الليل يتأوه ويهذي، أمي تدعو على الظالم، تطلب من الله أن ينتقم منه، والشمس كانت هي السبب، ولهيبها الآن يحرق وجهي، ينضح العرق من جبهتي فيسقط في عيني، يصهر أعصابي، ويشعل النار في جسدي، في حصة الجغرافيا قال لنا المدرس: إن الشمس جرم سماوي هائل متوهج، تدور حولها تسعة أجرام كروية معتمة بذاتها، مضيئة بانعكاس ضوء الشمس عليها تعرف بالكواكب، الأرض تدور حول الشمس مرة كل عام، هل تعرف الشمس أن الأرض تدور حولها؟ هل تعرف أن أبي على الأرض وأن الرجل السمين صفعه على وجهه؟ هل تعرف وهي تدور حول نفسها كل يوم كما يقول مدرس الجغرافيا أنني أنا أيضا أدور عليها أبحث عن الرجل السمين الذي صفع أبي، أفكر في أن أصفعه على وجهه أمام الناس جميعا، أن أسحبه من هدومه وأجعله يعتذر لأبي، يقبل رأسه، يستعطف أمي أن يصفح عنه، لكنني لا أملك سيف أبو زيد الهلالي، ولا مدافع هتلر! لا أقوى حتى على حمل ساقي، والشمس تحرق وجهي، تبدد أفكاري، تشعل الحمى في عروقي، آه لو لم تكن الشمس هناك! آه لو طمرتها السحب! لو غطتها سحابة واحدة، واحدة فحسب.
السكة ما تزال طويلة، الشمس تحيط بي من كل مكان، حتى ظلي أحرقته، من الصباح وأنا تائه في الشوارع، قلت لهم: إنني سأذهب إلى المدرسة، لكنني لم أذهب إلى المدرسة. مررت على البناية ورأيت الأنفار يعملون في الأرض، وعلى السقالات ويغنون، كأن أبي لم يصفعه الرجل السمين أمس، كأنهم لم يغضبوا أو يثوروا في وجهه، كأن صدى الصفعة اختفى من آذانهم، وعندما رأيت كل شيء كما كان، قررت ألا أذهب إلى المدرسة، ماذا أفعل إذا كانت الصفعة لا تزال تطن في أذني؟ ماذا يفيدني إن كانت الشمس تدور حول نفسها من الغرب إلى الشرق، أو من الشرق إلى الغرب، طالما أن أبي الذي لطمه الرجل الأبيض السمين يدور معها أيضا كما تشاء؟ ماذا يفيدني أن (كان) ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، وأن بلادنا مهد الحضارة من آلاف السنين؟ آه يا رب! الرعشة تزداد، رأسي يتفتت، جبهتي شعلة نار.
الدنيا تغيم أمامي، العرق المبلل بالتراب يملأ عيني، سأجري الآن إلى الترعة وأبلل وجهي، لا، سأخلع هدومي وأسقط في الماء، أم أكتفي بغسل رأسي؟ لكن رأسي سينفجر، وأبي رأسه معصوب بمنديل أبيض، وأمي وضعت الثلج على رأسه ، من الذي ينقذه من الحمى؟ من الذي ينقذني من الشمس؟ الشمس تجري ورائي! تحمل سيخ نار في يدها، آه! إنها تصفعني على وجهي، تلقي بي على جانب الطريق، تصفعني كما صفع الرجل الأبيض السمين أبي.
هل سيعثرون علي؟ من الذي سيضع الثلج على رأسي؟
من ينقذ أبي؟
من ينقذني؟
تذكر يا مولاي
هي عبارة قالها مجهول لرجل آخر مجهول في ظروف لا ندري الآن عنها شيئا، ربما سمعناها تروى كنادرة أو مثل، وربما قرأناها في أحد الكتب أو المخطوطات العتيقة، بل ربما جاءت على لسان إحدى عجائزنا كموعظة أو حكمة من السلف الصالح أو الزمن القديم، غير أننا قلما ما نسأل أنفسنا عن قائلها أو عمن قيلت له، ونادرا ما نحاول أن نعرف صيغتها التي قيلت بها أو ندرك معناها ومغزاها، فلنكرر السؤال معا على هذه الصفحات، ولنتذرع بالصبر - ونحن لا نملك سواه - لنكشف عن غموضها، ونفهم جهد الطاقة ما يختفي وراءها. (تذكر يا مولاي أنك ستموت في يوم من الأيام)، هكذا تروى هذه العبارة التي لا تخلو - كما نرى - من بساطة وسذاجة، قالها رجل مجهول كما قدمت لرجل آخر مجهول أمام رجال أو نساء مجهولين في ظروف لا نكاد نعلم عنها شيئا، إنها لا تشير إلى قائلها، ولكنها - لحسن حظنا - تكاد تنطق بأنها قيلت لرجل غير عادي، صحيح أنه لا يزال بالنسبة إلينا مجهولا كما كان، ولكنه كما قلت رجل غير عادي، نحس أنه حاكم أو ملك أو خليفة أو إمبراطور أو أحد القياصرة أو ما شئتم من أسماء.
अज्ञात पृष्ठ