نسيت أعرفكم ببعض، حضرته الأستاذ حسني، مخرج فيلمي الجديد مصرع العشاق، أليس كذلك يا حسونة؟ أو نسميه اسما آخر لا فيه موت ولا دم؟ مصرع الأحباب مثلا؟ اسم شيك، أو أقول لك: نسأل الأستاذ ميشلينيا، حضرته الأستاذ صابر، صابر محمد مرزوق، زميلي في التمثيل، أيام زمان (ومدت في الميم إلى حد أخاف صابر، حتى خيل إليه أنها شدته من رأسه، فخشي أن يصطدم بالسقف)، أليس كذلك يا ميشو؟ (وهنا خيل لصابر أنها تنادي على كلب) عن إذنكم، أغير هدومي، لحظة واحدة، اقعدوا مع بعض.
وجلس صابر على كرسي أشار إليه الأستاذ حسني، لم يرفع وجهه إليه فقد كان لا يزال مبهورا بالجو البلوري الذي وجد نفسه فيه فجأة كأنه في قصر مسحور، مأخوذا بالثراء والفخامة في كل شيء، وغارقا إلى أذنيه في كلمات سامية، التي نزلت كالمطر فوق رأسه فلم يدر هل هي تجامله أم تسخر منه، وقبل أن يفيق جاءه صوتها، صوت بريسكا المحبوبة الذي أصبح خليعا وجريئا وغير مبال: مثل والنبي يا ميشو، قل له يا حسونة.
حتة صغيرة من أهل الكهف، كان اسمها أهل الكهف، بتاعة الحكيم، أليس كذلك؟ علشان خاطري، أنا سامعة.
وقبل أن يفيق مرة أخرى جاءه صوت الأستاذ حسني الهادئ الناعم، الذي خيل إليه أنه يشم له رائحة العطر: «لو تكرمت يا أستاذ، ولو سطرين ثلاثة، تأكد أنني أقدر المواهب ، وربما يكون لك نصيب تشتغل معنا، أنا أخرجت لسامية ثلاثة أفلام، وأمامنا الآن فيلم».
لم يدر صابر بماذا يرد، تكوم على نفسه كأنه يدافع عنها ضد هجوم مدبر خسيس، ولما عاد الأستاذ حسني يلح عليه في صوت حاد، لم يخطئ فيه نغمة صادقة تشجعه، ألقى بظهره على المسند الناعم، وقال في هدوء: معذرة، بعد أن يحضر الشاي.
وصرخت سامية من وراء باب غرفة النوم الموارب تلعن أم محمد وتستعجلها وتهددها في نفس واحد، وجاءت صينية زجاجية تزينها خطوط ذهبية وفوقها أكواب الشاي. مد صابر يده فتناول كوبه وأحس بنشوة الدفء بعد الجرعة الأولى، نشوة يكاد يغرق فيها تعب اليوم كله، وأغمض عينيه، وتمنى لو يستطيع أن يتمدد ويستريح وينسى كل شيء، وقبل أن يغفو جاءه صوت سامية من وراء الباب: نسيت أسألك يا ميشو، أين كنت الآن؟ قال وهو يغالب النعاس: كنت أتسوق من الموسكي، سألت من جديد: هدوم مثلا؟ قال في صوت لا يخفي ضيقه: لا، بقالة للدكان، سمن وزيت وصابون وتوابل من كل الأصناف، أصلي أنا الآن أعمل مكان أبي. سألت للمجاملة: يعني تاجر؟ أجاب كأنه يؤكد حزنه على المصير الذي انتهى إليه: نعم، على قد الحال، والدي مات وأنا في التوجيهية، حضرتك كنت انتقلت من البلد مع البيك الحكمدار، ترك لي ثلاثة بنات وولدين، كان لا بد من وجودي معهم لأباشر الأرض وأقعد في الدكان، سألت من جديد في استهتار تعجب كيف تقدر عليه: وعندك أولاد يا ميشو؟ فأجاب في حسرة ولكن في استسلام: خمسة، بيبوسوا إيديك.
فاجأته صيحة من الأستاذ حسني: اسكت أنت! الرجل يريد أن يمثل، ياللا يا أستاذ، قل لنا قطعة على الماشي.
قال صابر معتذرا وقد أعجبه اهتمام الأستاذ حسني به: ولكنني لا أذكر شيئا. ألح الأستاذ حسني: أي شيء. قال صابر في إخلاص كاد أن ينفجر له حسني ضاحكا، لولا أنه تحكم في نفسه: الحقيقة أنني نسيت أغلب دوري مع الست هانم، كانت دنيا وراحت. سأل حسني في عطف وكأنه يتمنى لو يستطيع أن يبكي: كان دور ميشلينيا نفسه؟ فأحس صابر أن الإلحاح عليه زاد عن حده، وأنه من الجحود وقلة الذوق أن يقابله بالصمت والجمود، فتحامل على نفسه وشد عضلاته ووقف في وسط الصالة، أطاح رأسه بهزة واحدة إلى الخلف وكشر ملامحه، عقد جبينه وزم شفتيه بكل قوته ومد ذراعيه إلى الأمام كالمستجدي، وقال: «نهاية الفصل الثالث، بهو الأعمدة، الوقت ليل والمكان مضيء»، ثم انفجر في صوت فوجئ به حسني، وذعرت أم محمد فأسرعت تجري من المطبخ، ووقفت خلفه تنظر إليه في ذهول: نعم، نعم، الوداع، يا، يا، لست أجسر! الآن أرى مصيبتي وأحس بعظم ما نزل بي، لا مرنوش ولا يمليخا رزآ بمثل هذا، إن بيني وبينك خطوة، بيني وبينك شبه ليلة، فإذا الخطوة بحار لا نهاية لها، وإذا الليلة أجيال، أجيال، وأمد يدي إليك وأنا أراك حية جميلة أمامي، فيحول بيننا كائن هائل جبار: هو التاريخ!
ويبدو أن لم يكن قد انتهى حين أطلت سامية فجأة من الباب، بقميص نوم وردي شفاف، ومدت ذراعيها ضاحكة ضحكة رنت في أذنه، كوقع وعاء نحاسي يرتطم فجأة بالبلاط: الوداع يا ميشلينيا!
لا يدري صابر حتى الآن ماذا حدث له في تلك اللحظة: تراخت عضلاته، تفكك جسده، انهار على الأريكة كأنه تمثال من القش، لم يستطع أن يثور، لم يستطع أن يبكي، لم يفكر أيضا لا في الثورة ولا في البكاء، بل ربما لم يفكر في أي شيء بالمرة.
अज्ञात पृष्ठ