إلا إذا كانت اللقمة في المعدة تفعل شيئا!
فهز رأسه في أسف، وعاد يقول: أنت مخطئ، لقد ظل حيا كما يعلم الجميع ثلاثة أيام وثلاث ليال، ولكن ماذا فعل في هذه المدة؟ هذا هو موضع الخلاف.
خلص ذراعيه من على صدره وشبكهما خلف ظهره، وأخذ يسير في الغرفة محني الظهر، وهو يقول: البعض يقول: إنه بمجرد أن دخل جوف الحوت، أخذ يفتش عن ركن منعزل يلجأ إليه، وقد تعب بالطبع ساعات طويلة قبل أن يجد هذا الركن البعيد، خصوصا إذا عرفت أنه كان يسير في الظلام ويصدم بأنواع مختلفة من الأسماك وطيور البحر وصخور اللؤلؤ والمرجان.
وفي ركنه البعيد استطاع أخيرا أن يخلو إلى نفسه، ويحاسبها ويراها واضحة كأنه يضعها على كفه، بكى كثيرا ودعا الله أن يريحه ويغفر له، بل ربما توسل إليه أن يعفيه من عمله، ويمكنك أن تتخيل أنه برغم بكائه وتوسلاته كان في غاية السعادة؛ لأنه وجد أخيرا المكان الذي يستريح فيه راحة مطلقة من العالم والبشر والتاريخ، بل إذا شئت أيضا من السماء ومن الله نفسه، ولكن ربما لا يعجبك هذا الرأي، فأقول لك: إن هناك فريقا آخر يرى رأيا مختلفا، ماذا تظن أنت؟
فقلت وأنا أدعو الله أن ينجيني من هذه الليلة، وأتلفت حولي لأبحث عن باب أو شباك يمكن أن أفلت منه إذا اضطرم الأمر: لا أدري يا سيدي، ولكن ربما كان متعبا مثلا فنام ولم يشعر بشيء.
ولم تفد هذه الإشارة ، بل زادته حماسا في بيان وجهة النظر التي لم أعرفها بعد: غلط! هذا خطأ يقع فيه مثلك أغلب الناس، فيونس لم يكن في موقف يسمح له بأن يغمض عينيه لحظة، على الرغم من أنه لو فتحهما فلن يرى شيئا في الظلام، لقد مضى في رأي بعض الشراح يختبر المكان ويفحصه بكل حواسه، وكان اعتماده بالطبع على يديه قبل كل شيء آخر، كان أول همه في البداية أن يعثر على جدران الحوت أو سطحه، حتى يعرف طبيعة المكان الذي سيقيم فيه، ولما يئس من العثور على حدوده صرف نظره عن ذلك، وبدأ يبذل جهوده للتعرف على الوسط الجديد؛ لكي يستطيع أن يألفه ويتكيف معه، بالطبع كانت هناك عقبات كثيرة، وكان لا بد له أن يواجهها ويتغلب عليها، أو على الأقل يعترف بها ويستسلم لها، فالأسماك المتوحشة - وبخاصة سمك القرش - التي كانت تسبح في جوف الحوت، لم تكن تخلو من الخطر عليه، وكان لا بد له أن يبحث عن شيء حاد يتسلح به، وكان من السهل عليه أن يعثر عليه أيضا في هذا العالم المعتم المزدحم بكل شيء (طبيعي أنك لن تسألني عن طعامه وشرابه، فالسؤال هنا سطحي جدا؛ إذ لم تكن المشكلة عنده أن يجد الطعام، بل كانت المشكلة الحقيقية أن يختار بين أصناف الطعام الحي والميت التي لا آخر لها، والتي كان يكفي أن يمد يده ليقبض عليها، وطبيعي أيضا أن السؤال عن المكان الذي كان يبيت فيه سؤال تافه أيضا؛ إذ كيف يتعب في البحث عن فراش وثير يمكنه أن يصنعه من الأعشاب أو من أخشاب السفن الغارقة التي كان يبتلعها الحوت). هذان هما الرأيان المتصلان بحياة يونس في جوف الحوت، أما إذا كنت تريد أن تسأل سؤالا يستحق الاستماع إليه، فيمكنك أن تسأل عن صلته بالعالم الخارجي، وكيف كانت تتم، هنا أعترف لك بأن المسألة تزداد صعوبة، ولكن الراجح على كل حال أنه لكي يعرف الزمن مثلا، أو ليتنفس هواء نقيا منعشا، أو ليطمئن على أن النور ما يزال يسطع في الخارج كلما طلعت الشمس - كان ينتظر حتى يفتح الحوت فمه من حين إلى حين - وقد تمتد المسافة بين كل فتحة وأخرى أياما أو شهورا، بل قد تمتد في رأي البعض سنين طويلة، فيلقي نظرة على العالم الخارجي أو يفكر جديا في الخروج من جوف الحوت، وإن كان تفكيره كما تعلم يظل تفكيرا فحسب. أما عن الحوت نفسه فالآراء مختلفة جدا في شأنه، حتى لتستطيع أن تقول: إن هناك مدارس عديدة تقف لبعضها البعض بالمرصاد، وتتحمس إلى حد قد يصل إلى إراقة الدماء من أجل هذا الرأي أو ذاك، فالبعض يقول: إنه كان حوتا عاديا مثل الحيتان في بحار الدنيا ومحيطاتها، والبعض الآخر يقول: إن الحوت هنا مجرد رمز، وإنه في الحقيقة كان يعيش في أعماق العالم نفسه حين كان يعيش في جوف الحوت، لا بل يذهب البعض إلى حد القول بأن الحوت هو الله نفسه، ابتلع يونس لا لكي ينتقم منه أو يمتحن صبره أو يعذبه؛ بل لأن ذلك كان أمرا طبيعيا لا بد أن يحدث ذات يوم، وأنه لم يبتلعه ويدخله في جوف حوت؛ إلا لكي يؤكد له بصورة ملموسة أنه مثل غيره من الناس، يعيش دائما داخل حوت هائل لا يمكنهم أن يهربوا منه.
تلك يا صديقي هي بعض الآراء في هذه المسألة، وهناك بالطبع آراء أخرى كثيرة مفصلة ومدعمة بالحجج والأسانيد.
لا أريد أن أشرحها لك حتى لا أطيل عليك، فالظاهر أنك تريد أن تنام وأنك، ويظهر أنني كنت بالرغم من مقاومتي الطويلة قد نمت بالفعل، فأحسست بيد تهز ضلوع صدري كأنها تريد أن تخترقه: يونس ... يونس!
فتحت عيني المحمرتين، وفركتهما طويلا قبل أن أميز القاضي الذي كان محنيا علي، كأنه يستمع إلى دقات قلبي ويصيح: يونس! قلت لك: أنت يونس نفسه! يونس في بطن الحوت!
لا أدري إلى الآن ماذا فعلت، كل ما أذكره أنني صرخت صرخة حادة، مفاجئة، مفزوعة كصرخة المقتول وهو يحس بالسكين القاضية تخترق صدره، قبل أن تصل إلى القلب ، وقبل أن أغيب عن الوعي خيل إلي أن الأبواب المجاورة لنا تفتح عنوة، وصوت أقدام مسرعة تصعد السلم، وأناسا كثيرين تزدحم بهم الحجرة، ويتعالى صياحهم وضجيجهم كأن كل واحد يزعق في بوق، بل لا أخفي عليكم أنني - وأنا ما زلت راقدا في المستشفى أعالج من أثر الصدمة - لا أعرف الآن إن كان ذلك كله قد حدث لي في حجرة الفندق، أم أن ذلك الشخص الذي ظننته القاضي محمود كان مجنونا اقتحم غرفتي، أو كان مجرد كابوس ثقيل جثم على صدري لحظة وأنا في عز النوم، إنني على كل حال ما زلت أعالج من الصدمة.
अज्ञात पृष्ठ