نعم، لولا أن أصابني الشرر، لما همني ذلك البحر اللجي المائج بالمعاني الغامضة المتداخلة التي يحياها الناس، وهم في شبه غيبوبة عقلية. والفرق بعيد بين موقف تتبناه من الوجهة النظرية، فترى فيه أي رأي تشاء، وموقف آخر يمس حياتك الفعلية مسا يجاوز سطح الجلد ليغور في الأعماق. ولست أنسى في هذا الصدد رجلا كان عضوا في المحكمة التي حكمت على جان دارك بالموت حرقا، وتنفيذا لذلك الحكم أشعلت النار عالية اللهب، وعلقت جان دارك بحيث يحتويها ذلك اللهب، وبينما هي تحترق، شاءت مصادفة أن يمر ذلك الرجل من هناك، فيشهد المرأة القديسة في محنتها، فكاد يصاب بالإغماء فزعا مما يرى، ولما أسرعوا به بعيدا عن مشهد الرعب، سأله رفيقه: ألم تكن عضوا في المحكمة التي قضت بهذا القضاء؟ ففيم هذا الجزع إذن؟ فأجابه الرجل: الفرق بعيد يا صاحبي بين أن أحكم حكما وأنا آمن في غرفتي، وبين أن أرى بعيني نتيجة هذا الحكم بعد أن أصبحت واقعا .
ومع الفارق بين الحالتين فلا أنا بما كتبت وما قلت شبيها بجان دارك، ولا الذين خلطوا في فهم ما كتبته وما قلته يشبهون القضاة الذين قضوا بإحراقها، فإنني أشعر بأنني ربما لم أكن لأهتم كل هذا الاهتمام بحياة الغموض الفكري الذي نحياه اليوم، لولا أن مسني منه شرر. وكيف كان ذلك؟
لقد أراد لي توفيق الله، منذ بدأت حياتي العقلية المنتجة، أن أقع على طريق من طرق التفكير الفلسفي، رأيته وكأنما خلقت له وخلق لي، ثم رأيته وكأنه أنسب ما أقدمه في عالم الفكر لأمتي؛ لأنه إذا كان الغموض والخلط بين المعاني، أحد الأمراض العقلية التي أصابت أمتي، فتلك الطريقة من طرق التفكير هي من أنجع وسائل العلاج، وأما تلك الطريقة التي أشير إليها، فهي - بكل بساطة ووضوح - أننا إذا كنا في مجال «العلم» (وأود أن أكرر هذه اللفظة ألف مرة، العلم العلم العلم، وعلى القارئ هنا أن يكمل لنفسه المرات الألف) أقول إننا إذا كنا في مجال «العلم» فلا بد أن يجيء القول الذي نقوله مما يطابق الواقع عند التطبيق، وبالتالي فهو لا بد أن يكون مما يصلح عليه اختبار الصدق، مما هو معروف في مناهج البحث العلمي، أما مجالات القول الأخرى، التي ليست من العلوم، فلكل مجال منها معياره الخاص.
إلى هنا والكلام مقبول ولا اعتراض عليه، لكن تبدأ الدهشة، ويبدأ الاعتراض، عندما نطبق هذا المعيار العلمي في بعض مجالات القول في عالم الفلسفة، ولماذا أشير إلى عالم الفلسفة هنا دون سواه؟ أفعل ذلك؛ لأنه هو العالم الذي كان علي أن أعيش فيه، بحكم كوني أستاذا للفلسفة في الجامعة. فهنالك في عالم الفلسفة فرع اسمه «الميتافيزيقيا» أو «ما بعد الطبيعة». ويهمني جدا في هذا الموضع أن أوضح للقارئ لماذا أطلقوا عليه هذا الاسم، فالأمر في هذه التسمية جاء مصادفة، وذلك أن أتباع الفيلسوف اليوناني أرسطو، حين أرادوا - بعد عهده - أن يرتبوا مؤلفاته ويصنفوها، وكان من بينها كتاب «الطبيعية» وجدوا عدة فصول في مادة لم يتبينوا موضوعها بوضوح، فأسموها بموضعها من ترتيب المؤلفات، وكان موضعها - مصادفة - بعد كتاب الطبيعة، فقيل عنها ما بعد الطبيعة بناء على ذلك، وذلك هو معنى كلمة «ميتافيزيقا» التي يستعملها دارسو الفلسفة.
وقد بات هذا الاسم يطلق على أي بحث عقلي يريد به صاحبه أن يتعقب موضوعا ما إلى أن يصل إلى ينابيعه الخافية على العين، فمثلا إذا تعقبنا «الأخلاق» إلى الجذور الأولى التي نبع منها ما يسمى بالأخلاق، كان ذلك بحثا في ميتافيزيقا الأخلاق، وإذا تعقبنا العلوم إلى ما قد يكون وراءها من أصول لولا وجودها لما تفرعت لنا العلوم التي نراها بين أيدينا، كان ذلك البحث بحثا في ميتافيزيقا العلوم، وهكذا.
لكن إلى جانب هذه البحوث الميتافيزيقية الفرعية، قد يحاول الفيلسوف - من كبار الفلاسفة على وجه الخصوص - أن يتناول الكون كله بالتفسير، ويقصد بالتفسير هنا أن يفرض الفيلسوف لنفسه «فكرة» أو «مبدأ» يرى أنه من الممكن أن يفسر لنا على ضوئه كل جوانب الوجود، من الحب والصداقة والشجاعة، ونظم الحكم، فصاعدا إلى حركة الأجرام السماوية والحياة والموت والخلود، ومثل هذه المحاولة هي «ميتافيزيقا».
إنني أحاول أن أوضح للقارئ ما وسعني التوضيح، ليسايرني ويشاركني فيما أردت عرضه عليه. أما وقد أنبأته بأن فيلسوفا ما قد يضع لنفسه «مبدأ» يرى أنه مستطيع بمبدئه ذاك أن يفسر كل شيء، فسأضيف له الآن جانبا هاما، وهو أن من حق فيلسوف آخر أن يضع مبدأ آخر، يرى أنه أفضل من مبدأ زميله في تفسير الكون والكائنات، وهذه النقطة أرجو أن ترسخ في ذهن القارئ؛ لأنني سألجأ إليها بعد قليل.
فقد حدث أن نشرت كتابا سنة 1953م، أسميته إذ ذاك «خرافة الميتافيزيقا» (وأعدت طبعه منذ قريب جاعلا عنوانه «موقف من الميتافيزيقا») وطبقت في ذلك الكتاب منهجي الفلسفي في النظر إلى ما ينتمي إلى مجال «العلم»، وبينت كيف أن البناء الفكري الذي يولده الفيلسوف من مبدأ معين، هو بمثابة التوأم للبناء الرياضي الذي يقيمه عالم الرياضة - مثل إقليدس في علم الهندسة - ففي كلتا الحالتين: البناء الميتافيزيقي، والبناء الرياضي، نقول عنه إنه صحيح، إذا وجدنا النتائج مستدلة استدلالا صحيحا من «المبدأ» - في حالة الميتافيزيقا - ومن المسلمات - في حالة الرياضة - أي أن البناء المعين من النوعين لا تتوقف صحته على كونه مطابقا للواقع الطبيعي، فإذا زعم لنا فيلسوف أن بناءه الميتافيزيقي يصف الكون كما هو واقع، عارضناه في ذلك، كما يعارض عالم الرياضة إذا زعم أن صحة نظرياته الرياضية مستمدة من أنها مطابقة للواقع الطبيعي.
فلما نشر الكتاب المذكور، غضب كثيرون، على ظن منهم أنه ما دام الكتاب ينفي أن يكون فيلسوف الميتافيزيقا محقا في جعل بنائه الفكري مطابقا بالضرورة لدنيا الواقع، فكأن الكتاب المذكور ينفي أيضا أن تكون العقيدة الدينية في إله موجود محقة فيما ذهبت إليه!
وأعود هنا بالقارئ إلى الحقيقة التي رجوته أن يحفظها في ذهنه جيدا، وهي أن الفيلسوف إذ يبني بناءه الميتافيزيقي، فإنما يقيمه على مبدأ من عنده، وأن أي فيلسوف آخر من حقه كذلك أن يقيم بناء آخر على مبدأ من عنده، وبذلك تتعدد البناءات الفلسفية بتعدد أصحابها. وأما في حالة الدين فالأمر مختلف أشد ما يكون الاختلاف؛ لأن البناء الديني قائم على وحي منزل، وليس من حق أحد آخر أن يبني دينا على شيء آخر من عنده هو، اللهم إلا إذا كان خارجا على هذا الدين، وعندئذ لا يحسب له حساب، فبينما تتعدد البناءات الفلسفية بتعدد الفلاسفة يظل البناء الديني واحدا لوحدانية الموحي به والموحى إليه. وإذا جعلنا حديثنا هنا مقصورا على الإسلام، قلنا إن شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، تتضمن فيما تتضمنه وحدانية من أوحى بالدين، ومن نزل عليه الوحي، وذلك يستتبع أن يظل البناء الديني عند المؤمنين به واحدا عند الجميع.
अज्ञात पृष्ठ