136

तुराथ से मूल्य

قيم من التراث

शैलियों

لقد التقيت في رحلتي الأخيرة بصديق مصري على درجة ممتازة من الثقافة، فكان بين ما سمعته منه أن الشباب المصري فقد ثقته بمصر وثقافتها، هكذا قال صديقي بنبرة تدل على أنه هو أيضا قد فقد الثقة، فسألته: أحقا ما تقول؟ أجاد أنت حين تزعم أن شبابنا قد فقد الثقة بثقافة مصر؟ إنه لو زعم لي ذلك لما صدقته؛ لأن سلوكه عندئذ يفضح ادعاءه؛ إذ ما هي «ثقافة مصر» تلك التي تتحدث عنها وتوهمني بأن شبابنا قد أدار لها كتفيه؟ إن ثقافة البلد المعين إنما هي بأعينها قائمة على أرض ذلك البلد، وارتبطت بها قلوب المواطنين، فليست «ثقافة مصر» هذه سحابة صيف تظهر في السماء حينا وتختفي، إنما هي في ثوابت رواسخ ضوارب بجذورها في الأرض، تراها العين، وتسمعها الأذن، وتمسكها الأيدي، فهل أصبح شبابنا اليوم يخجل أن يرى الهرم ومعبد الكرنك ووادي الملوك؟ هل يخجل شبابنا اليوم أن يرى أديرة الزاهدين في الصحراء «ومنها ما كان أول ما عرفته المسيحية في تاريخها من أديرة منذ قرونها الأولى» أم يخجل أن يرى مساجد آل البيت وأولياء الله؟ هل يخجل شبابنا اليوم أن يرى الجامع الأزهر، وأن يعلم الدور الذي أداه؟ ولندع هذا التاريخ القديم، لنلقي نظرة عجلى على تاريخنا الحديث، فبأي المشاعر - يا ترى - يشعر شبابنا إذا ما ذكرنا أمامه طائفة من رواد الثقافة المصرية الحديثة محمد عبده، قاسم أمين، لطفي السيد، طه حسين، عباس العقاد، الدكتور هيكل، أحمد شوقي، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ. بأي المشاعر - يا ترى - يشعر شبابنا إذا شهد تماثيل مختار، ولوحات محمود سعيد، وإذا ما تسمع أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب؟ وبأي المشاعر - يا ترى - يشعر شبابنا إذا ما ذكرنا أمامه ثورات عرابي وسعد زغلول وجمال عبد الناصر؟

لا يا صديقي، إن أحدا من المصريين لم يفقد الثقة في مصر، حتى وإن توهم ذلك. لقد سمعت السيدة تاتشر «رئيسة وزراء بريطانيا» تخطب في قومها لترفع من روحهم المعنوية، فكان مما قالته، إن بريطانيا تفخر بأشياء كثيرة، وأخذت تضرب لهم الأمثلة، فكانت كلها مخترعات علمية، كالثلاجة وطائرة الكونكورد وما أشبه ذلك، فسألت نفسي وأنا أسمع: ماذا تقول عن مصر إذا ما كنت لتخاطب الناس ذاكرا لهم مآثرها الحديثة، ودع عنك مآثر عدة آلاف من السنين. وأجبت لنفسي جوابا رضيت عنه بعقلي وبقلبي معا. إنني أقول إن مصر - أيها السادة - هي التي استطاعت بثورتها الأخيرة أن تبث روح الثقة بالنفس بين الفئات العاملة. كان الفلاح، وكان العامل يكاد لا يشعر لنفسه بكرامة أمام صاحب الأرض أو صاحب العمل، كانت العلاقة بين الطرفين علاقة الأعلى بالأدنى، علاقة السيد بالمسود، فأصبحت - على الأقل - علاقة ندين متعاقدين، إن لم يكن للعاملين فوق الآخرين درجة، فكان انقلابا ما كان ليتحقق بغير ثورة، ولك أن تعده صفحة من صفحات الثقافة المصرية المعاصرة.

ومرة أخرى أسأل: أصحيح أن شبابنا قد فقد الثقة بثقافة مصر؟ إنه لو كان قد فعل، لتنكر لأهم الخصائص التي جعلت المصري مصريا، وفي مقدمة تلك الخصائص «الشعور الديني»، فمصر هي أقدم بلد في الدنيا بأسرها امتلاء بذلك الشعور الديني، ومن طول المدة التي أشرب فيها المصري بوجدانه الديني، أصبح ذلك الوجدان جزءا من كيانه، يلازمه ملازمة اللون الأسمر لجلده. وإنني في هذه المناسبة من سياق الحديث، لأكاد أزعم بأن الصفة التي تميز الإنسان من حيث هو إنسان، هي صفة التدين، فلقد شاع بيننا أن العقل هو ما يميزه، لكن هذا «العقل» إذا ما حللناه إلى آخر المدى، وجدنا منه جانبا كبيرا مشتركا بينه وبين سائر الحيوان، وأما الصفة التي لن تجد منها ذرة عند حيوان فهي صفة التدين، وإنها لصفة أغزر في المصري منها في أي إنسان آخر، ولئن كنت قد ألححت جهدي - وما زلت ألح - على ضرورة اهتمامنا بالجانب الفعلي من حياتنا؛ فذلك لأنه تضاءل إلى حد مخيف، ثم أعود فأسأل: هل رأيت شبابنا يتنكر لهذه الخاصة من مصريته؟ اللهم لا. فما الذي حرك ألسنة البهتان والزور بهذه الأكاذيب عن مصر، تتدفق في أحاديثهم بعضهم لبعض، وفيما يذيعونه ويكتبونه؟ إنه شيء واحد لعين، هو «الحالة الاقتصادية»، وليس هو بالشيء الذي يستهان به، فالناس - قبل كل شيء - تريد الطعام والثياب والمأوى.

ولكننا نخلط الأمور خلطا فاحشا إذا ما خلطنا بين «قيمة» الإنسان من حيث هو كائن ذو تاريخ حضارة وعلم وأدب وفن ودين، من جهة، ومقدار المال الذي يحمله في جيوبه من جهة أخرى، فالغنى والفقر يتناوبان فيظهر أحدهما ويختفي الآخر في مرحلة، ثم يختفي الظاهر، ويظهر المختفي في مرحلة تالية. إن حدثا واحدا كاكتشاف البترول قد بدل الأمر بين عشية وضحاها في أصقاع كثيرة من الأرض، كانت أفقر الأصقاع بالأمس فباتت أكثرها ثراء. والعكس صحيح أيضا، فقد يتحول البلد الموغل في ثرائه، بلدا فقيرا نتيجة الحرب أو لغيرها من عوامل التحول، أما صفة التحضر فليست مما يولد في يوم وليلة.

ألا ما أسرع الإنسان إلى الوقوع في الخطأ عندما تختلط عليه الصفات ويتشابه البقر، فعندئذ قد تبدو في عينيه دماثة المتحضر ووداعته وعذوبته، ذلة وخنوعا، ومن أراد أن يعلم عن المصري في وداعته الظاهرة أهي ذلة أم هي دماثة خلق، فعليه أن يحلل ثقافة المصري تحليلا أعمق وأدق، ليميز فيها بين ما يعده المصري هاما في حياته، وما يعده أمرا عابرا قليل الخطر. ومن أهم المهم في ثقافته: عقيدته الدينية، وانتماؤه الأسري والقومي، فها هنا إذا ما أصيب المصري بسوء، رأيت أي أسد هصور قد انبثق من جلد ذلك الدمث الوديع.

أما بعد، فلقد كنت من أشد الناقدين نقدا للقيم كما هي سائدة اليوم في مصر، ومن شاء فليقرأ كتبي «جنة العبيط» و«شروق من الغرب» و«الكوميديا الأرضية» وغيرها، لكنه نقد صاحب البيت الذي يعرف للسجادة النفيسة نفاستها، فيثور بالغضب إذا ما رآها قد تعفرت لغفلة حراسها.

لك أنت الولاء يا مصر

لا بد لي من أن أضع بين يدي القارئ مقدمات، تمهد له الطريق إلى الفكرة التي أنوي عرضها، فهي على بساطتها من الوجهة النظرية، تراها من الوجهة الواقعية معقدة الأطراف متشابكة الخيوط، وعندما خطر لي أن أكتب فيها - لبالغ أهميتها في حياتنا - حاولت أن التمس إليها سبيلا ممهدة تيسر وصولها إلى عقل القارئ وقلبه، فلم أجد سبيلا، فأويت إلى فراشي، قائل لنفسي: اترك أمرها حتى الصباح، فالصباح رباح كما يقولون، لكن أمرها لم ينتظر حتى الصباح كما أردت له، بل عاجلني في نومي حلما منسقا واضحا، لا يحتاج مني عند اليقظة إلا إلى أن أثبت صورته على الورق، وتلك هي أولى المقدمات التي قلت إنه لا بد لي من أن أضعها بين يدي القارئ.

فأحلامي ليست كلها أضغاثا، ولا أبالغ إذا قلت إن كثرتها الغالبة صور متماسكة ناصعة، حتى ليجوز لي القول بأن حياتي الفكرية والعاطفية مقسمة بين يقظة النهار ورؤى الليل، ولطالما تمنيت أن أسجل في ساعات الصحو ما أراه في أحلام النوم، لكنني قلما فعلت، ولأن تلك هي حقيقتي، لم أجد عسرا في فهم ما يقوله ماثيو آرنولد - الشاعر الإنجليزي - عن طبيعة الشعر، إذ يقول: إن طبيعته هي نفسها طبيعة الأحلام، فالأحلام تجسد المعاني في رموز كما ينبغي للشعر أن يفعل، والأحلام تقيم بقوة الخيال تركيبة ليست هي التي نراها في الواقع الصاحي، لكن بينها وبين هذه الواقع موازاة يستطيع «التأويل» كشفها، وهذا هو نفسه ما يحدث للتركيبة الشعرية إذا ما تناولها ناقد قدير. ولقد اعترف ماثيو آرنولد بأن شعره كله هو من هذا القبيل، فهو يرى الحلم الناصع المتماسك، بحيث لا يبقى عليه إلا أن يهذب أطرافه بعض التهذيب، عندما يصبه في الإيقاع الشعري.

وعلى أية حال، فليس لي شأن بماثيو آرنولد وحقيقة شعره، فسواء أكانت كما وصفها أم لم تكن، فإن هذه هي حقيقتي مع أحلامي التي كثيرا جدا ما تجيء بناءات صلبة متسقة واضحة ناصعة الوضوح برموزها، حتى لكأني أعيش في حياتي حياتين، ومن تلك الأحلام القوية الجلية الدالة، ما رأيته عندما أويت إلى فراشي يائسا من أن أجد سبيلا ميسرة لعرض الفكرة الشائكة التي أشرت إليها في مستهل هذا الحديث، فهناك في عالم الأحلام جاءني الحل.

अज्ञात पृष्ठ