134

तुराथ से मूल्य

قيم من التراث

शैलियों

فليست الفلسفة - أيها السيدات القارئات والسادة القارئون - ليست لغوا من اللغو، ولا هي أشباح تطير مع دخان المداخن في الهواء، إنما هي تبدأ مما يجري على ألسنة الناس كلاما وكتابة، هنا على هذه الأرض، نعم إنها تبدأ مما يجري على ألسنة الناس في بيوتهم، وفي مزارعهم ومتاجرهم، وفي ركوعهم وسجودهم، وفي سياستهم وفي أوقات فراغهم. أليس الناس في كل شئونهم يتكلمون عن الحق والعدل والجمال والخير والحب والسلم والعلم والفن والصداقة والانتماء والفرد والمجتمع والإيمان والطبيعة؟ ومن هذه المعاني وأمثالها - أيها السيدات القارئات والسادة القارئون - تبدأ الفلسفة سيرها، أو قل إن أولئك الذين شاء لهم ربهم أن يكونوا بفطرتهم ذوي شغف بمعرفة هذه المعاني وأمثالها لا من أسطحها الظاهرة، بل من مضموناتها الدفينة في أجوافها، وهؤلاء هم الفلاسفة، وأن هؤلاء الفلاسفة إذا ما تناولوا هذه الخيوط المتفرقة تحليلا وتمحيصا وفهما، فهم لا يقفون عند هذا الحد، بل يحاولون بعد ذلك أن يلتمسوا طريقا لنسج هذه الخيوط في ديباجة واحدة، فإذا وفقوا كان المرسوم على تلك الديباجة هو صورة الكون عند هذا الفيلسوف أو ذاك!

وأما الكثرة الغالبة من الناس فهم برغم شعورهم بأهمية تلك المعاني الأساسية المحورية، فهم يكتفون منها بأسطحها المرئية بالعين من بعيد، ومن هنا كانت العلة في أنهم يختصمون حولها. فالجميع يريد الحرية، لكنهم يتفرقون أحزابا وشيعا في معنى الحرية التي يريدون، وقل هذا في كل المعاني الأخرى التي من هذا القبيل. وبعض السبب في أنهم متفقون على مظهر المعنى المعين في جملته، ولكنهم مختلفون في حقيقته وتفصيله، هو أنهم يكتفون من كل فكرة بملمسها الخارجي ولا يغوصون إلى الجوف وما يحويه. وأما إذا شاء الله لأحدهم ألا يكتفي من الفكرة المعينة بملمسها، ويلح في أن يبقر جوفها ليعرف ما هو كامن فيه، فذلك هو الفيلسوف.

إننا جميعا نتساوى عند النظر إلى جبل وهو بعيد، فكلنا يراه في شكله الخارجي العام عند الأفق النائي، ولكن الذي يقترب منه حتى يلمسه بأصابعه، هو وحده القادر على أن يحكي لنا بعد ذلك عما رآه هناك من أنواع الصخور والنبات والحيوان والحشرات وكل شيء، ومثل ذلك الرجل في دنيا الأفكار هو الفيلسوف. وإذا كانت هذه هي خصائصه، فهل ترون أنه رجل لم تعد حياة الناس في حاجة إليه؟

إن تلك الفاعلية العقلية التي يحاول بها الإنسان أن يفهم حياته وما ترتكز عليه في علمها وفي إيمانها، وفي غاياتها، بل وفي هواجسها وأحلامها، إنما هي فاعلية ننشط بها جميعا، في لحظات متفرقة وعلى درجات تتفاوت فينا ارتفاعا وانخفاضا. وهي في أرفع درجاتها تكون عند من نطلق عليهم «فلاسفة» لأن هؤلاء إذ ينشدون ذلك الفهم الذي ننشده جميعا. نراهم وقد أسعفتهم قدرتهم القادرة، وعقولهم الذكية النافذة لا يقتصرون على فهمهم لمعان متفرقة ومحدودة المجال، بل يبسطون أجنحتهم العريضة حتى تحتوي في حماها على الكون بكل ما فيه، يدرجونه كله تحت فكرة رئيسية واحدة منها تتفرع كل التفسيرات المطلوبة لتعليل الجوانب المختلفة التي تصادفنا وتثير اهتمامنا.

وعند هذه النقطة أنتقل بالقارئ إلى رسالة جاءتني من السيد فيكتور وليم ميخائيل، أسوقها هي نفسها مثلا يبين لنا كيف أن الإنسان مهما كانت مهنته في حياته العملية، لا يخلو أن ينشغل حينا بعد حين بمسألة تمس الحياة في صميمها، فيصب عليها تلك الفاعلية العقلية لفهمها، على نحو ما أسلفت القول. وليس المهم هو أن نطلق على رجل يحاول مثل هذه المحاولات اسم «فيلسوف» أو لا نطلقه، لكن المهم هو أن ذلك النوع من النشاط الذهني الراغب في الفهم، شيء لن يكون عنه غنى في عصرنا ولا في أي عصر حتى يرث الله الأرض وما عليها. فالسيد فيكتور قد شغلته فكرة العلاقة داخل الإنسان بين المسائل العلمية والمسائل الدينية، وأراد لنفسه أن تطمئن أن ثمة توافقا بين الخطين بالرغم من اختلافهما الظاهر من حيث المصدر ومن حيث المضمون، فهداه الله إلى فكرة لها وجاهتها وهي فكرة التناغم بين جانبين مختلفين، تناغما يجعل أحد الجانبين يتأثر بمثل ما يتأثر الجانب الآخر، بالرغم من وقوع المؤثر على أحد الجانبين فقط دون الآخر، ويضرب لذلك أمثلة، فيقول إن الموقف عندئذ يشبه: «وترين مشدودين متساويين متجانسين متجاورين، فإذا وضع ركاب من ورق على أحدهما، وهززنا الوتر الآخر شاهدنا الركاب يهتز بنفس القدر، وما ينطبق على الوترين ينطبق على الشوكتين الرنانتين المتشابهتين.»

ويريد بأمثلته تلك أن يقول إنه إذا تشابهت البنية الأساسية في مجالين، فالمؤثر الذي يؤثر في أحد المجالين، يجد صداه في المجال الثاني أيضا. ومن هنا أمكن للفرد من الناس أن يتلقى ما يتلقاه من علوم ومن رسالات دينية موحى بها من عند الله، إذا كان عند ذلك الفرد المتلقي بنية ذهنية أو قلبية تتماثل وتتناغم مع ما يتلقاه.

هكذا أراد السيد فيكتور أن يفهم جانبا من جوانب حياته الإدراكية فبذل الجهد العقلي ليفهم، فهل نقول له: لا، أقلع عن التفكير فلا حاجة بك ولا بنا إلى فهم؟

وهذا ينقلنا إلى الحديث عن «المواهب» استجابة لرسالة السيد سعيد سلام، الذي أرسل يقول: «نريد أن نناقش قضية الموهبة ما هي، وما قيمتها الإنسانية والحضارية؟ وما ضمانات بقائها ونمائها؟ ثم ما الآثار المترتبة على تنميتها ورعايتها أو على طمسها وإهدارها؟»

فكما هو واضح من اسمها في العربية - ومن اسمها في الإنجليزية أيضا - فكل موهبة هبة من الخالق جل وعلا، نفحها لمن يحملها من عباده، ولا فضل لصاحبها في قيامها، ولا لوم على فاقدها، وتتعدد المواهب نوعا، وتتفاوت قدرا، بتعدد الموهوبين وتفاوتهم؛ فهذا موهبته في فن من الفنون، موسيقى أو شعر أو ما شئت، وذاك موهبته في حدة الذكاء الذي قد يظهر في القدرة على الاستدلال الرياضي أو العلمي بصفة عامة، وثالث موهبته في مهارة يديه ورابع في سرعة العدو، وخامس، وسادس، وسابع ... والتعليم والتدريب يصقلان الموهبة، ولكنهما لا يوجدانها من العدم. وإذا بلغت الموهبة ذروة عليا كانت هي ما نسميه بالعبقرية.

هذا كلام معروف ومفهوم، لكن الذي قد نجهله أو نتجاهله هو أن أصحاب المواهب العليا في شتى فروعها، هم قلة قليلة جدا بالنسبة إلى سواد الناس. ولما كانت الموهبة في آخر التحليل، إنما هي القدرة على «الإبداع» أي القدرة على إيجاد الجديد الذي يضاف إلى ما هو كائن، أو الذي يغير ما هو كائن، كانت تلك القلة الموهوبة هي وحدها القادرة على تجديد حياة الناس اتجاها وارتفاعا. وأما الكثرة الغالبة من جمهور الناس فهي تتبع. وإننا لنضلل أنفسنا إذا تعمدنا ألا نفهم فهما جيدا واضحا ماذا يراد حين يقال إن القيادة والريادة والإبداع إنما هي للشعوب لا لفرد معين أو لقلة من أفراد، فحقيقة الأمر في ذلك هي أن الشعب في مجموعه قد تتأزم به الحياة في إحدى نواحيها، فيكون من شأن ذلك أن تتجه الموهبة في أحد أفراده نحو ما قد تأزم به فيجيء على يديه الحل الجديد. فإذا كانت قمة الجبل هي من طبيعة الجبل، لكنها «قمته»، وإذا كانت ذروة الموجة العالية هي من طبيعة الموجة، لكنها «ذروتها» فليس ثمة من تناقض بين أن يكون الموهوب قطعة من النسيج العضوي للشعب الذي هو فرد من أفراده، وبين أن يكون ذلك الفرد الموهوب ذا مكانة خاصة بالنسبة لسائر الأفراد.

अज्ञात पृष्ठ