إذن لتسمح لي يا والدي أن أعود إلى سؤالي الذي بدأت به أول الحديث: بماذا تفسر تلك الظاهرة في شعبنا المصري؛ ظاهرة سكوته على خطأ يراه، إلى أن يزول المخطئ عن الدنيا، فيمتنع عندئذ سؤاله عما فعل لعله يجيب؟ إذا كان جوهر الحياة وسرها في الكائن الحي، هو تفرد شخصيته تفردا يشتمل فيما يشتمل عليه عند الإنسان أن يرى الرأي فيعلنه، ثم يعمل على هداه إذا لم يتبين أنه خاطئ ففيم سكوت الشعب بكل أفراده عن إعلان ما يرونه صوابا؟ أهو احتجاج منهم على أنهم أحياء؟ أقول: لماذا ، وهو شعب عريق الأصول، غزير الخبرة، ثابت العقيدة؟
لم يجبه أبوه، فالتفت إلي الشاب بسؤاله، قائلا: أعندك جواب يا عمي؟ فأجبته متلعثم اللسان: إنني أعترف لك عن نفسي بحقيقة أمقتها في نفسي، ولكن مقتي إياها لا يمنع أن تكون صفة من صفاتي، وهي أني على طول ما عشته من سنين رأيت نفسي في عشرات المواقف، في مئاتها، أتلقى ما لست أرضاه، ثم أعجز عن رد الاعتداء بمثله، وألوذ بالصمت، ولا تسلني ماذا يحدث لي بعد ذلك، فالجرح تزداد مع الأيام ضراوته، أحس آلامه في صحوي وفي نومي، وتتحول به أحلامي إلى كوابيس تخنق الأنفاس، وتسألني: ولماذا لم تنطق عند اللطمة الأولى؟ فأجيبك بأنني لا أدري لماذا، إنه طبع نشأت عليه، ثم أضيف: ألا يجوز أن يكون شعبنا في مجموعه قد نشأ على ذلك الطبع نفسه؟ فما جاز عند فرد واحد يجوز عند ملايين الأفراد، على أني كلما تذكرت الموقف الذي تلقيت فيه العدوان، ولم أجب عليه بعدوان مثله، أراني أرد على الإساءة في خيالي، كمن يريد أن يعوض بأحلام النوم، أو أحلام اليقظة تقصيرا أو قصورا أصيب به في الحياة الواقعة. ومرة أخرى أسأل: ألا يجوز أن تكون هذه هي حقيقة شعبنا كذلك فيه من الخجل ما يمنعه عن التحدي والتصدي مباشرة، فينتظر إلى أن تزول عنه عوامل الحرج والحياء؟ أقول ذلك - يا بني - ولا أدافع عنه.
شكرني الشاب على إجابتي، شكر من لا يوافق، ثم اتجه نحو أبيه مرة أخرى بسؤال جديد، الله أعلم ما الذي دار في ذهنه، فأثار فيه هذا السؤال:
قل لي يا أبي: ماذا كانت الدنيا لتنقصه، إذا لم أكن قد ولدت؟ فأجابه أبوه بقوله: كانت لتنقص نمطا فريدا من أنماطها التي أشرت أنت إليها، حين حدثتنا عن طبيعة الكائنات الحية. إن الموقف عندئذ كان ليكون شبيها بديوان المتنبي محذوفة منه إحدى قصائده.
قال الشاب: هذا جميل، وفيه فصل المقال، فما دمت إنسانا، وجب أن تكون لي أخص خصائص الإنسان، وهي أن يفكر في طرائق عيشه، فيرى فيها الرأي، فيعلنه ليحيا - ويحيا معه الناس - على هداه.
ونهض الفتى مستأذنا، ليقضي بعض شئونه، ونظر كلانا - والده وأنا - أحدنا إلى الآخر، بعيون متسائلة، وشفاه باسمة.
قلت لوالد الفتى: كان ابنك محقا فيما عرضه أمامنا من وجهة النظر، وأجاب الوالد: نعم، كان على حق، ولئن أخذت أحاوره، فما كان ذلك إلا لأستزيده، فخورا به.
قلت: إذا كنا جميعا على رأي واحد - شيوخا وشبابا - في وجوب المصارحة بالرأي الحر المخلص الشجاع، فيما يخص الوطن وقضاياه، أليس عجيبا أن نظل على ما نحن عليه من كتمان، ولا نغير من أنفسنا شيئا؟!
مفلسون في ثياب الأغنياء
هو شاب أديب، له في النقد نظرات ثاقبة، أخذنا معا نتحدث في الثقافة والمثقفين، ندور بالحديث من الشرق إلى الغرب، ومن الماضي إلى الحاضر، ثم نرتد به من الغرب إلى الشرق، ونقيس الحاضر إلى الماضي. وكان محورنا الرئيسي - بالطبع - هو مصر في حياتها الثقافية الحاضرة. هذا الأديب وذلك، هذا الكتاب وذاك، موقف النقد من نتاج الأدب والفن وأمثال هذه الموضوعات التي لا يفرغ لنا حديث فيها، وقد كنا متقاربين في الأحكام برغم أننا ننتمي إلى جيلين متعاقبين لولا أنه يكثر في حديثه من ذكر الرواسم (الكليشيهات) التي أشك في مدى إلمامه بالأبعاد والمعاني التي تنطوي عليها تلك الرواسم، فالكلاسية، والرومانسية وردتا في حديثه مائة مرة، والواقعية، والمعادل الموضوعي، والرمزية، وغير ذلك من أسماء صماء، أخذت تتناثر في عباراته حيث يكون لذكرها داع من سياق الحديث، وحيث لا يكون، حتى لقد خيل إلي أن أهم فارق بينه وبيني، هو أنه يحفل بأمثال تلك الأسماء أكثر جدا مما يحفل بمضمون الأعمال ذاتها. وأما أنا فأكثر اهتماما بما قاله فلان في كتابه الفلاني، وكيف قاله، وما حسناته وما أوجه قصوره. أكثر جدا مما اهتم بتنميطه كلاسيا أو رومانسيا أو غير ذلك. واختصارا فقد كان الفارق بينه وبيني هو في منهج النظر، فبينما هو يهبط من تعميم نظري وعاه في ذاكرته، إلى ذكر الأحكام التفصيلية عن فلان وعلان، كنت أنا أميل إلى الصعود من تفصيلات الحياة الثقافية كما هي حادثة بالفعل على أرض الواقع، إلى ما يمكن أن يجمع تلك التفصيلات من تيارات واتجاهات.
अज्ञात पृष्ठ