سألني أستاذ جامعي جليل، وكنا في ندوة عامة تحدثت فيها عن ضرورة أن تكون الكلمة الأولى والأخيرة للتفكير العلمي وحده ما دام الأمر المعروض من شأن العقل ومنهجه، أقول سألني زميل جليل عندئذ فقال: ضد من توجه هذه الدعوة الملحة للعقل؟ فأجبته قائلا: ضد نفسي يا سيدي، فأنا مصري منقوع في الثقافة المصرية، وأحس من داخلي كم أميل بقلبي نحو مواقف بعينها في تضاد مع ما يأمر به منطق العقل فلا ينقذني إلا أن ألح على نفسي بضرورة الاهتداء بأحكام العقل ما دمنا في ميدانه، وأحسب أن هذا الذي أقوله عن نفسي يصدق بدرجات متفاوتة على سائر المواطنين.
أهو احتجاج على أنهم أحياء؟!
لم تكن لي سابق صلة بالوالد وابنه الشاب، وإنما هي مصادفة الطريق في رحلة صيف. ولقد حرصت معهما أن أظل مستمعا لما يتبادلانه من حديث، أكثر جدا مما أكون مشاركا فيه. والحق أني لحظت فيهما مثالا نادرا لوالد وولده، لا أظنه شائعا في الأسرة المصرية، إذ رأيت الوالد يخاطب ولده كما يخاطب الصديق صديقه، لا يستخف به في عرض الرأي، ولا يستصغره حين يجعل الأمر بينهما شورى، فيها الأخذ والعطاء، وأما ابنه الشاب، فقد رأيته بدوره يبادل أباه فكرة بفكرة في ثقة متزنة بنفسه، وفي غير خوف من سطوة الوالد وسلطانه، وهو نمط من العلاقة الأبوية البنوية جميل ومحمود، لم أكن قبل ذلك أراه في الأسرة المصرية. وكان مما زاد الحوار بينهما جذبا لسمعي، أنهما جامعيان مختلفان في التخصص، فالوالد أستاذ في إحدى كليات العلوم، وابنه طالب في إحدى كليات الآداب، مما كان له انعكاسه على زاوية النظر عند كل منهما.
وطال بنا الجلوس ذات مساء في بهو الفندق الذي أقمنا فيه معا أثناء مرحلة من مراحل الطريق، وطرح موضوع الحوار بينهما عرضا وبغير تدبير مقصود، لكنه جاء موضوعا بعيد الأغوار، متشعب الجوانب، متعدد الأبعاد، قابلا لأن تختلف فيه الآراء، بدأه الطالب الشاب بسؤاله لأبيه: كيف يفسر ظاهرة متكررة في حياة الشعب المصري، وهي أنه برغم أنه شعب عريق وغزير الخبرة لامتداد وجوده الحضاري منذ بدأ فجر التاريخ، نراه يتملق السلطان، فلا يفصح عن حقيقة رأيه فيه، إلا بعد أن يزول عنه سلطانه، والأغلب ألا يزول ذلك السلطان إلا مع موته؟ فأجابه أبوه قائلا: ذلك لأنه - كما قلت - شعب عريق غزير الخبرة، فلقد علمته تلك الخبرة أن كل سلطان إلى زوال، فلماذا لا يصبر عليه حتى يزول؟ وزواله وشيك مهما طالت إقامته. إن الشعب المصري لطول تاريخه وغزارة خبرته، لا يقيس الأحداث بالمقاييس الزمنية التي يقيسها بها الأفراد، فإذا كان العام الواحد أو بضعة الأعوام مهمة في حياة الفرد الواحد، وفي حياة الشعب حديث الولادة، فهي ليست بتلك الأهمية كلها إذا قيست بآلاف السنين.
أسرع الطالب الشاب إلى الرد على أبيه بنبرة هادئة واثقة بنفسها، فقال: كان ينبغي في هذه الحالة أن تكون لرؤية الأفراد أولوية على رؤية الجماعة، فإذا كانت السبعون عاما ليست بذات وزن في حياة شعب عمره آلاف السنين، فهي بالنسبة إلى كل فرد على حدة كل عمره، فلماذا يغض طرفه عن ظلم يمتد معه ما امتدت به الحياة؟ تلك واحدة ، والأخرى هي أنه إذا كان الشعب في مجموعه على باطل فمن الذي يغيره سوى أفراده؟
قال الوالد: أراك تفرق بشيء من المبالغة بين الفرد من حيث هو فرد قائم بذاته، وبينه من حيث هو مواطن في مجموعة الشعب، وحقيقة الأمر هي أن حياته فردا ومواطنا، إنما هي حياة واحدة، لا يستقل فيها جانب عن جانب، وانظر إلى حديثك هذا نفسه؛ فهل تقول ما تقوله باعتبارك فردا، أو تقوله باعتبارك مصريا؟ لأننا إذا قلنا إنك «مصري» يتكلم، فكأننا قلنا إنك تتكلم من حيث أنت واحد من مجموعة شعبك، فرؤية الشعب لموقف معين، هي حاصل جمع لرؤى أفراده حين التقت تلك الرؤى في نقطة واحدة.
لبث الابن صامتا بضع ثوان، ثم قال: إنه برغم التداخل الشديد بين وجود الفرد فردا قائما برأسه، ووجوده مواطنا في شعب، فلا بد من إقامة الفواصل الحادة بين الوجودين، وإلا أضعناهما معا، ويصبح وجودنا شبيها بالعدم، واسمح لي بأن أبدأ المسألة من فاتحتها، ليسهل علينا الحكم بعد ذلك.
وفاتحتها هي أن سر الحياة كلها، بادئة من نباتها فصاعدة خلال حيوانها حتى تبلغ إنسانها، هو في «تفرد» الكائن الحي بما يميزه عن جميع ما شهدته الدنيا، وما تشهده، وما سوف تشهده من كائنات حية. إن الكائن الحي - نباتا أو حيوانا أو إنسانا - فرد فريد، حتى بالنسبة إلى سائر أفراد نوعه. إن أشجار الجميز وأشجار البلوط وأشجار السنديان أو ما شئت، وإن أعواد القطن وأعواد القمح وأعواد الذرة أو ما شئت، قد تنقسم فيما بينها أنواعا أنواعا كما ترى، لكن معجزة الحياة هي في استحالة أن تجيء شجرتان من أشجار الجميز، أو عودان من أعواد الذرة أو القمح أو القطن، شبيهين شبها لا يجعل واحدا يختلف عن واحد، فكل شجرة، وكل شجيرة، بل وكل ورقة من أوراق النبات كائنا نوعه ما كان، لها تفردها الفريد الذي لا يتكرر في سواها، وقل ذلك، وأكثر منه، في أفراد الحيوان. وإذا ما بلغت مرتبة الإنسان وجدت تفرد الأفراد قد اشتد ظهورا لكل عين تبصر، وسبحان الله الخالق المصور الباري، جلت قدرته.
فإذا وجدنا تمايز الأفراد في الإنسان أوضح منه في أفراد النوع الواحد من أنواع النبات، أو النوع الواحد من أنواع الحيوان، فذلك - أولا - لأن تفرد الأفراد في الإنسان هو بالفعل أشد وأقوى، وثانيا لأن عنايتنا بأفراد الإنسان أهم من عنايتنا بأفراد النبات والحيوان. وتظهر تلك الأهمية في وجوب أن نطلق على كل فرد من الناس اسما خاصا به يميزه، لكننا في الوقت نفسه نلاحظ أننا كلما اتجه اهتمامنا إلى حيوان بعينه أو إلى شجرة بذاتها، فكثيرا ما نعبر عن هذا الاهتمام بإطلاق الأسماء الخاصة عليها، وذلك واضح في محبي الكلاب والقطط والخيل وغيرها. وقد أتصور حدوث ذلك نفسه في عالم النبات. وهنا التفت الشاب إلي، وطلب مني الرأي، ولعله فعل ذلك تأدبا؛ ليخرجني من صمتي، وليشعرني بوجودي معهما مشاركا.
فقلت: نعم لقد قلت الصواب، حدث لي ذات يوم، وكنت عندئذ في مدينة كولمبيا بولاية كارولينا الجنوبية بالولايات المتحدة، أن مررت - مدعوا - بحديقة ورد، عرف صاحبها ببراعته في رعاية حديقته تلك، وفي توليده لصنوف جديدة من الورود، فأطلعني ذلك الرجل على ما عنده، وإذا هو يتحدث عن أفراد الورد في حديقته كما يتحدث عن أفراد أسرته، إنه لا يخلط بين وردة وأخرى، ولا يجمع الورود كلها في عنوان واحد يطمس فردياتها، بل هو يروي عن كل وردة منها، وكأنها شخصية لها ما يميزها، وقد ربط بالعنق من كل وردة بطاقة صغيرة عليها رقم، وسجل تلك الأرقام في دفتر، جاعلا لكل منها صفحة خاصة، يثبت فيها تسلسل أحداثها وأطوار نموها.
अज्ञात पृष्ठ