رب لحد قد صار لحدا مرارا
ضاحك من تزاحم الأضداد
فالموقع الواحد من الأرض، على امتداد الزمن قرونا ذكر عشرات بعد عشرات، لا بد أن يدفن فيه إنسان بعد إنسان إلى ما شاء الله من عدد الأناسي الذين يدفنون في لحد واحد ، وأي أناسي هؤلاء؟ إنهم مختلفون صنوفا وأشكالا، فهذا تقي ورع عاش حياته عابدا متبتلا، جاء بعده شقي عربيد قضى عمره جموحا عاصيا، وثالث ورابع، عرفتهما الحياة عدوين لدودين، فإذا هما يلتقيان هنا فيرقدان جنبا إلى جنب، وهكذا وهكذا مع توالي السنين، فلا يجد اللحد إزاء هذه الأضداد البشرية التي كتب عليها أن تتجاور في تلك الحفرة الضيقة، تجاورا لصيقا لا يدع لأي منهم فرصة ليستريح، أقول إن اللحد الذي يشهد هذا كله، لا يجد مفرا من الضحك المتعجب الساخر.
ولما كانت عقول الجبابرة - مهما اختلفت مواطنهم وعصورهم - تتشابه، فكثير ما تتلاقى على فكرة واحدة أو صورة بعينها، فلقد وقعت على الصورة نفسها التي تخيلها شاعر العربية أبو العلاء المعري، لأضداد الناس يتنافرون أحياء، ثم يتلاقون أمواتا في لحد واحد، عند الروائي الروسي دستويفسكي في إحدى رسائله المجموعة وكل الفرق بين الأديبين هو أن أبا العلاء ضغط الصورة كلها في بيت واحد من شعره، وأما دستويفسكي فقد استرسل في تفصيلات الاعتراك بين الأضداد في قبرهم المشترك إذ أخذوا يتنابذون بالشتائم، ويتدافعون بعظام الأرجل والأيدي على أن صورة التضاد عندهما معا كانت مقصورة على الموتى.
لكن ضربا آخر من التضاد الباعث على الضحك السافر نراه عند شكسبير، وهو هذه المرة بين الأحياء والموتى، فإذا صادف الشاعر إنسانا فقيرا، يقضي حياته في كوخ متواضع، ثم يثقب له ثقب في جدار كوخه تهجم منه الرياح المثلوجة مدوية بصفيرها، فيعد لها صاحب الكوخ كرة من الطين يسد بها الجدار المثقوب، فهنا يلقي الشاعر بسؤاله: ألا تكون هذه الكرة من الطين التي حجبت عن صاحبنا المسكين هجمة الهواء ببرده وصفيره، جزءا من رفات ملك كان في زمانه صاحب عرش وصولجان؟
وإن هي إلا خطوة قصيرة تخطوها بعد تضاد الأموات والأموات، ثم تضاد الأحياء والأموات لتصل إلى ما يملأ علينا الأرض من تضاد بين أحياء وأحياء، وهو تضاد يتسع ليشمل العالم كله في عصرنا هذا، ثم يضيق ليشمل مصر فيما شمل، وأما أرجاء العالم فقد تكون مفتوحة الأعين على أضدادها، وأما نحن في مصر، فلا أظننا على بينة واضحة بما تشهده أرضها من تزاحم الأضداد، ولو تنبهت لكان الأرجح أن تعالج أمرها بما يعود بها إلى صورة الحياة المتناسقة المنغومة التي ألفتها فيما مضى من تاريخها.
فلننظر إلى العالم في عمومه أولا، ثم إلى مصر في خصوصها ثانيا، لعلنا ندرك سر هذا التضاد الذي تزاحم فملأ الأرض والسماء، فما من صحيفة يومية تقرؤها أو نشرة إخبارية تسمعها إلا وجدتها منبئة عن قنابل انفجرت فقتلت ودمرت وطائرات خطفت ومدافع أطلقت فهدمت وهشمت. والذي يزيد من أسى المأساة أن ذلك العنف الذي أصبح طابعا للعصر لا تقتصر أسبابه على اختلاف حول شئون الدنيا، بل إن تلك الأسباب لتمتد، حتى يكون جزء كبير منها متصلا باختلاف الناس في الدين: فالمسيحي الكاثوليكي والمسيحي البروتستانتي، كما هي الحال في أيرلنده والمسلم الشيعي والمسلم السني، كما حدث في إيران وفي سوريا واليهودي من ناحية والمسلم والمسيحي معا في ناحية أخرى كما هي الحال بين إسرائيل والعرب؟ فماذا وراء هذه الشحناء التي أصبحت تثير غبار الكراهية في كل بقعة من بقاع الأرض لأسباب تنوعت أشكالها؟
إنه لئن كان القرن الماضي قد نعم باستقرار اجتماعي في معظم أنحاء العالم، فقد كان هو نفسه القرن الذي أفرز مجموعة من الأفكار الكبرى، التي أسلمها إلى القرن العشرين ليتولى نشرها وهضمها وتطبيقها، وهي أفكار قلبت الصورة العلمية والثقافية رأسا على عقب وباطنا لظاهر، وكان من غير الطبيعي أن تظهر تلك الأفكار، وتختفي لا تترك أثرها في حياة الناس. والحق، إنها لظاهرة تلفت النظر في تاريخ الحياة العقلية، وأعني أن يلد القرن الماضي: هيجل، وماركس، ودارون، ونيتشه، وشوبنهاور، وفرويد، وأينشتين ليضيفوا إلى الدنيا ثمارا فكرية هي من أغنى ما شهدته في تاريخها من ثمار. فمن هيجل كان التحول من النظرة السكونية الآلية تجاه الكون إلى النظرة الدينامية الحيوية، ومن ماركس جاء لفت الأنظار إلى وجوب التغير الجذري في علاقة العامل بناتج عمله، ومن دارون جاءت فكرة التطور التي من شأنها - على الأقل - أن تبين أن الحياة لا تجمد على صورة واحدة من الأزل إلى الأبد، ومن نيتشه وشوبنهاور (على المستوى الفلسفي) وفرويد (على المستوى السيكولوجي) جاءت اللفتة إلى طبيعة الإنسان على حقيقتها، وهي أنه كائن تسيره - إلى جانب المنطق العقلي - فطرة لا تسير وفق ذلك المنطق، ومن أينشتين تغيرت صورة العالم من حتمية إلى نسبية احتمالية، فتغيرت صورة العلم تبعا لذلك.
لكن القرن الماضي وقد أنجب هؤلاء الجهابذة جميعا لم يكتب له أن يكون هو العصر الذي يشهد نتائج تلك التحولات الفكرية على صعيد الحياة العملية، بل كان ذلك نصيب القرن العشرين، غير أن انتقال شحنة فكرية كهذه من المستوى النظري إلى أرض الواقع العلمي لا يتم بين يوم وليلة، بل ها هو ذا قد استنفد معظم أعوام القرن، ولم يصل بعد إلى غايته المستقرة الثابتة. ولم يخطئ قادة الفكر في العالم - عند أوائل هذا القرن - حين تنبئوا بأن المرحلة التاريخية التي كانت الدنيا يومئذ مقدمة عليها ستكون متميزة بضروب من الثورة لم تكن مألوفة من قبل؛ لأنها ثورات تشمل شرائح كبرى من البشر، متخطية الحدود الإقليمية الفاصلة بين الأقطار المختلفة، وذلك ما قد كان.
فأولا تحققت نبوءة «دي بوا» التي تنبأ بها أن القرن العشرين سيتميز بأنه عصر ثورة الشعوب الصفراء، الصين واليابان، لكن الثورة اللونية لم تقف عند حدود اللون الأصفر، بل تعدتها إلى سائر الشعوب الملونة كما يسمونها، وثانيا شهد العصر ما يصح تسميته بثورة الأيدي العاملة، فبعد أن كانت السيادة على تلك الأيدي لأصحاب الجباه العالية (وهو وصف لطبقة المثقفين) أصبح للأيدي العاملة مكانة إن لم تكن هي العليا فلا أقل من أنها مساوية لأصحاب الرءوس، سواء في ذلك رءوس الفكر أو رءوس المال. وثالثا شهدت هذه الفترة من التاريخ ثورة المرأة، فإذا لم تكن قد ظفرت بالمساواة المطلقة بالرجل، فهي توشك أن تكون، ولنا أن نضيف إلى تلك الثورات الشاملة ثورة الشباب في سبيل أن يكون لهم حق المشاركة بالرأي فيما يتصل بحياتهم وهكذا . وهكذا شملت ثورات هذا القرن جميع أهل الأرض فئات فئات، وتفرع عنها بالطبع ثورات إقليمية في بلدان العالم المختلفة كل يطالب بحقه السليب سياسيا كان أو غير سياسي.
अज्ञात पृष्ठ