لكن نظرة فاحصة مدققة في تلك الحريات بكل فروعها، كفيلة أن تكشف عن حقيقة لها خطرها، وهي أن أهدافنا من تلك الحريات، كادت تنحصر في الجانب السلبي وحده، بمعنى أن تكون المطالبة بالحرية مقصورة على «التحرر» من قيود تكبلنا في هذا الميدان أو ذاك، كالتحرر من الاحتلال البريطاني، وتحرر المرأة من طغيان الرجل، وتحرر العامل الزراعي من استبداد مالك الأرض، وتحرر العامل الصناعي من تحكم صاحب رأس المال، وتحرر كذا من كيت. بعبارة أخرى أوشكت كل جهودنا المبذولة طلبا للحرية، أن تنحصر في الأغلال وتحطيم القيود، وهو أمر واجب ومطلوب.
لكن الأغلال كلها إذا فكت، والقيود جميعها إذا حطمت، يبقى بعد ذلك أهم جانب من جوانب الحرية، وهو الجانب الإيجابي، الذي يتصل بقدرة الإنسان على أداء عمل معين؛ إذ ترتبط تلك القدرة ارتباطا وثيقا بمقدار ما عند العامل من «معرفة» بما يريد أن يؤديه.
لقد رأينا في المحاورة الأفلاطونية التي قدمنا خلاصة لها، أن الفتى «ليزيس» لم تطلق له الحرية في ركوب جواده إلا في حدود ما يشير به سائس الجياد. وتتم المفارقة هنا، حين نعلم أن ذلك السائس كان «عبدا» - يملكه والد الفتى بين من يملك وما يملك - فمن هو «عبد» من الناحية الاجتماعية والشرعية، كان هو نفسه «حرا» فيما يخص الجياد وساستها، كما أن من كان «حرا» من الناحية الاجتماعية والشرعية في ذلك الموقف نفسه - وأعني الفتى «ليزيس» - كان في منزلة العبد الذي لا حول له ولا قوة ولا رأي، فيما يختص بالجياد وطرائق استخدامها. وبهذه المفارقة تبرز أمام أعيننا الفوارق التي تميز حرية العمل التي هي من حق العارف بأسرار المجال الذي يتم فيه ذلك العمل، عن ضروب أخرى من الحريات يكون مدارها مجرد التحرر من أغلال وقيود تميزها.
ولست أظن أن التحرر من الأغلال والقيود، في مستطاعه وحده أن يذهب بالمتحرر منها شوطا بعيدا؛ لأنه في حقيقته لا يزيد على أن يفتح باب السجن لينطلق السجين «حرا» بالمعنى السلبي للحرية، أي أنه لم يعد مغلول الحركة مقيد الخطى. ولكن ماذا بعد ذلك، ماذا «يصنع» ليحيا؟ ها هنا تبدأ الحرية بمعناها الإيجابي، الذي لا بد فيه من «قدرة» الإنسان على أداء عمل ما، ولا قدرة في أي ميدان إلا لمن عرف حقيقة ذلك الميدان وما يتعلق به.
قارن طفلا أمامه ورقة وفي يده قلم، ظفر بهما بعد بكاء عنيد، قارنه بفنان أمامه لوحة وألوان وفي يده الفرشاة، فالطفل «حر» في أن يخط بالقلم ما شاء أن يخطه على الورقة، والفنان «حر» في إقامة بنائه اللوني على اللوحة، لكن ما أبعد الفرق بين حرية وحرية! لقد أزيلت الموانع التي كانت تحول دون حصول الطفل على ورقة وقلم، فلما بلغ مراده وكان حرا، انطلقت تلك الحرية المجنونة «تشخبط» الخطوط على الورقة بلا هدف، وأما الفنان العارف بأسرار فنه، فقد استطاع بحريته «المقيدة» بقواعد الفن وأصوله، أن يبدع ما قد يضاف إلى كنوز الجمال.
وتسأل الآية الكريمة:
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون
والجواب الذي تمليه البديهة أنهما لا يستويان، على أن من أراد أن يفصل القول في الفوارق بين الجماعتين، ينبغي له أن يذكر بين تلك الفوارق، أن حق الحرية بمعناها الإيجابي المنتج، مقصور على أولئك الذين يعلمون، أو هكذا تقضي الحكمة بأن يكون.
بل من هنالك نبدأ
كان الكاتب الإسلامي التقي النقي، الصادق مع نفسه ومع الناس، المرهف الحس، اليقظان الضمير، الأستاذ خالد محمد خالد، قد أصدر كتابه المعروف «من هنا نبدأ» (1950م) فجاء علامة أخيرة على الطريقة المؤدية إلى ثورة يوليو 1952م. ونستطيع أن نضيف إليه استكمالا لموقف واحد، كتابه الثاني قبل الثورة «مواطنون لا رعايا» فكانت نقطة البدء كما رآها الكاتب، هي - قبل أي شيء آخر - أن يرتفع في حياتنا العامة لواء الحرية والعدالة، ليشعر كل مواطن بأنه ابن لهذا الوطن، وليس «رعية» لذي سلطان.
अज्ञात पृष्ठ