لم يجب إبرهيم على كلام صديقه، إما لأنه وجده مصيبا أو لسبب آخر لم يرد إظهاره، وصمت رشيد أيضا؛ لأنه كان عليه أن يستعد للمبارزة، ودخل الاثنان إحدى الغرف حيث نزع رشيد ثيابه المدنية، ولبس بدلا منها ثوبا بسيطا تسهل معه حركة جسمه واحتذى نعلا خفيفة، ثم أخرج من حقيبة مستطيلة كان يحملها معه سيفا وترسا يبدو حالا من مظهرهما أنهما خصوصيان، فجرد السيف وجعل يمتحن حده وأداره في الهواء عدة مرات لتمرين ذراعه، وأعاده على الأثر إلى غمده، وتأبطه وحمل الترس والتفت إلى صديقه وقال: «ها أنا حاضر للقتال فكيف تراني؟» - «أراك نشيطا وفي حالة حسنة، ولكنك لم تقل لي إلى أي حد من الخطر ستبلغ المبارزة.» - «إلى الحد الأخير.» - «وهل هذا التصميم نهائي لا رجوع عنه؟» - «إنه نهائي إلى النهاية.» ونظر إلى ساعته وقال: «هيا بنا فقد حان الميعاد.» وخرج من الغرفة وتبعه إبرهيم صامتا، ولما بلغا الساحة المعينة وجدا أنهما الأولان للقدوم، ولم يكن هنالك جمع غفير فجعلا يتمشيان ذهابا وإيابا، ويتكلمان عن أشياء تافهة وأمور لا محل لها، قتلا للوقت، إلى أن قدم الاثنان الآخران فاستقبلاهما وتفاهموا على بعض النقط المتعلقة بالأصول المتبعة في الجلاد بالسيف، ثم اتخذ كل من الخصمين مركزه مقابل الآخر، واتخذ الحكم موقفه، ووقف إبرهيم في طرف الساحة عند متوسطها، وأعطى الحكم الإشارة فتناول المتنازلان سيفيهما وترسيهما، وشرعا يتجاولان من بعيد تمهيدا للالتحام.
ما كاد سيفا المتبارزين يلمعان على ضوء القنديل ويقبقبان على الترسين حتى أقبل الجمع وضربوا نطاقا عند مدار الساحة، وشعر القوم على السطوح بما يجري فأشرفوا من كل مكان مناسب واشرأبت الأعناق، وأمسى المتضاربان قبلة الأنظار، وكان الناس يظنون أنهما يلعبان بالسيف من قبيل اللهو.
تجاول الخصمان حتى سبر كل منهما غور الآخر، ثم تقاربا والتحما وسمع لسيفيهما طرق متكرر على الترسين، ولكن لم ينل أحدهما من الآخر منالا فأشار الحكم بالتراجع فتراجعا، ثم عادا إلى التجالد بين كر وفر، وفي هذه الأثناء أصاب سيف جرجس صدر رشيد فجرحه، ولاحظ إبرهيم أن جرجس يستعمل في التسايف ضروبا لا يستعملها من عنده شيء من كرامة وآداب السيف، بعكس رشيد الذي كان نزيها في كل أبوابه، يجيب على ضربات الغش المسددة نحوه بضربات صريحة، فصبر على هذه الضربة الأولى، ولكن لم يطل الوقت حتى عاد جرجس فجرح رشيدا في كتفه جرحا بالغا، مستعملا نفس الضروب المعيبة لرجال السيف، فلم يطق إبرهيم صبرا على ذلك، خصوصا بعد أن رأى الحكم لا يتدخل، وصديقه أشرف على حالة حرجة فقفز إلى وسط الساحة وحال بين الخصمين في الوقت المناسب؛ لمنع ضربة أخرى قوية كان جرجس يهيئها وصاح بهذا: «ليس هكذا يستعمل أهل السيف سيوفهم.»
فاستاء جرجس جدا من حئول إبرهيم بينه وبين خصمه وأجابه: «إذا كنت تدعي معرفة استعمال السيف أحسن مني فجرب نفسك!»
فأجابه إبرهيم وقد نسي أفكاره السابقة: «حذار يا هذا فإنك تعرض نفسك للإهانة.» «إن من يعرض نفسه للإهانة هو أنت فكن على حذر.» قال جرجس هذا وهز حسامه وتراجع بضع خطوات إلى الوراء داعيا مخاطبه إلى المبارزة، فثار ثائر إبرهيم الذي لم يتفق له فيما مضى أن يصبر على وقاحة وقح إلى هذا الحد، فأخذ رشيدا إلى جانب وهو في حالة خطر شديد وأخذ حسامه منه، وأقبل على جرجس بغير ترس وعيناه تقدحان شررا من شدة الغضب، ثم إنه لاعب سيفه مرسلا منه بريقا كوميض البرق، وحمل على خصمه والتحم معه توا، فدافع هذا عن نفسه بالترس وحاول أن يرد الضربة ضربة، ولكن سرعة دوران سيف إبرهيم عرقلت حركة سيفه وأبطلت أبواب خداعه، وافترق الخصمان وقد أصيب جرجس في كتفه الأيسر وجرح جرحا غير بالغ، وفيما إبرهيم يجول ليعيد الكرة على منازله، إذ حانت منه التفاتة إلى جانب ووقع نظره على الراقصة التي شغلت قلبه وسلبت لبه، وكانت تراقب ما يجري بوجه يدل على مبلغ جزعها، والتحم المتضاربان مرة أخرى وسمع لسيفيهما صليل وقبقبة، وحانت لإبرهيم فرصة يدرك كل من يعرفه أنها قاضية له، ولكنه بدلا من أن يهوي بسيفه على منكشف منازله تباطأ كمن يشعر بارتخاء ساعده، وكان جرجس قد سدد ضربة شديدة إلى عنقه فمال عنها واعترضها بكتفه، فجرحته جرحا بالغا وقبل أن يتمكن الاثنان من العودة إلى الالتحام، ركضت الراقصة ووقفت بينهما وأسرع الناس وكفوهما عن القتال، وأقبلت إحدى راهبات الدير لترى ما الخبر فلما رأت إبرهيم ورشيدا والدم يسيل منهما، قادتهما إلى غرفة وأحضرت راهبتين أخريين ساعدتاها على ضمد جراحهما، ورأت ما حل بإبرهيم بعض النساء اللواتي التقين به في مغارة «أم بزاز»، وحالا سرى بين القوم الاعتقاد بأن القديسة أم بزاز قد اقتصت لنفسها من هذا المتكبر الذي لم يشأ أن يطلب بركتها.
واتصل الخبر حالا برجال الدرك المرسلين خصيصا؛ لحفظ الأمن أثناء العيد فأسرع اثنان منهم للوقوف على جلية الأمر، وكانا أرمنيين لا يحسنان التكلم بالعربية، فأقبلا على الجريحين المضطجعين في سريرين قدمتهما لهما راهبات الدير، واقترب أحدهما من إبرهيم، الذي جعل ينظر إليهما باستياء شديد، وسأله: «مين بيضرب إنت؟» وتقدم الآخر إلى رشيد وسأله: «مين بيضربك إنت؟» فنسي إبرهيم جرحه واستغرق في الضحك، ولم يتمالك رشيد عن متابعته، ولكن لما أعاد الدركيان سؤاليهما نفد صبر إبرهيم فصاح بهما بصوت دوت له الغرفة: «اخرجا حالا من هنا! وإلا ...» وحاول النهوض، ولكن ما كاد الدركيان يسمعان صيحته الشديدة حتى أسرعا بالخروج وعادا إلى المركز، حيث قدما إلى الرئيس السوري تقريرا لم يفهم منه شيئا ولكنه أظهر اكتفاءه به.
بعيد ذلك جاءت رئيسة الدير فتفقدت حالهما وأوصت بالعناية بهما، وقبل أن تترك الغرفة ابتهلت إلى الله أن يرد عنهما الخطر.
أخيرا خلت غرفة الجريحين من الناس فالتفت كل منهما إلى الآخر وهو يبتسم، وقال رشيد: «منذ هنيهة قلت لي يا إبرهيم أن ما قد قمت به لغز، وأنا نفسي كنت أعتقد أنه أعظم لغز، ولكني وجدته لا يستحق الذكر بالنسبة إلى ما قد فعلته أنت، فقد كدت تترك الرجل يقضي عليك في حين أن الضربة كانت لك لا له، وهذا أغرب ما رأيته منك.»
فأجابه إبرهيم: «أولم تقل لي إن للألغاز لذتها، فهل ابتدأت تشعر بها كما أشعر أنا بها الآن؟»
قبل أن يتمكن رشيد من الإجابة فتح الباب ودخلت منه القروية الراقصة، واقتربت ببطء من سريري الجريحين ووقفت عند مضجع إبرهيم، وكان إبرهيم ينظر إليها ساكنا متعجبا؛ لأنه لم يكن ينتظر مجيئها، فنظرت في عينيه وقالت بصوت خافت: «قد رأيت وفهمت ... كيف جرحك؟» - «إنه بالغ ولكنه ليس خطرا.» أجاب إبرهيم وهو لا يزال ينظر في عينيها، كأنه يرى فيهما لغزا يريد أن يستجليه. - «أشكرك وأتمنى لك شفاء سريعا.» قالت ذلك وتحولت إلى رشيد وسألته: «وأنت أيها السيد كيف جراحك؟» - «لا أظن أنها ذات بال شكرا لك.» - «شفاك الله عاجلا.» ثم نظرت إلى إبرهيم طويلا وعادت أدراجها مسرعة، فشيعها الاثنان بأنظارهما إلى أن توارت وراء الباب ولم يعودا ينبسا ببنت شفة.
अज्ञात पृष्ठ