مع كل ذلك ومع عظم المودة التي كانت بيننا كان سليم يخفي في نفسه حبا قويا لفتاة كنت لا أعرفها لذلك الحين، ولكن الحظ أتاح لي التعرف إليها فيما بعد، فإذا بي أرى آنسة ذات نفس جمة اللطف وأخلاق وافرة، وكانت حين تعرفت إليها مكتئبة اكتئابا داخليا عميقا، فكانت كآبتها ستارا يحجب نفسيتها وأطوارها.
لم يطلعني سليم على أمر حبه، ولكني كنت أشعر أن قوة خفية كانت تغذي عواطفه وتوحي إليه أنغامه الموسيقية، ومع كل التكتم الذي أحاط نفسه به، فإن الناس ما لبثوا أن شرعوا يتهامسون بشأنه، ولقد دخلت عليه ذات يوم في غرفته فوجدته طافحا جذلا وحبورا، فابتدرني بقوله: «أظن أني قد قاربت أسعد أوقاتي، وأعظمها شأنا في حياتي الخاصة وحياتي العملية العامة، تعال يا أ. اسمع هذا النغم الذي أوحاه إلي شعوري، إنه عبارة عن قطعة صغيرة بسيطة.»
وجلس إلى البيانو، وجعل يوقع قطعة لم تستغرق أكثر من عشر دقائق، فسمعت أنغاما لطيفة تضاهي أرق الأنغام التي سمعتها في حياتي، ووجدت فيها شعورا جديدا لم أجد في غيرها من الأنغام ما يفوقه قوة وجمالا، فهنأت نفسي بهذا الصديق الذي جاء ليوجد لنا محلا رفيعا في عالم الموسيقى، وأيقنت أن مجهوداته في هذا السبيل غير ذاهبة عبثا.
فلما انتهى التفت إلي وقال: «كيف رأيت؟» قلت: «إني أهنئك من صميم قلبي؛ فإنك قد أجدت النظم والنثر والشعر والأدب.»
وفيما نحن كذلك إذا بالباب يطرق ويدخل السيد ك. فسلم وقال: «جئت أدعو السيد سليما إلى مائدة شاي، ولكن ما دمت أنت أيضا يا سيد أ. هنا، فاسمح لي أن أدعوك إلى مشاركتنا.» فقبلنا الدعوة وخرجنا معا.
ولما بلغنا منزل السيد ك. استقبلتنا ربته، فلاحظت أنها تهتم كثيرا لهذه الزيارة، بل بدا لي أنها تعلق عليها أهمية غير اعتيادية، وأن لها من ورائها غاية، فرحبت بنا ترحيبا كثيرا، وأظهرت سرورا وابتهاجا زائدين.
لم يكن السيد ك. وزوجه سوريين بل أجنبيين، وكان لهما معارف في دائرة معينة من المجتمع السوري، والسيدة ك. تتكلم العربية بلهجة سورية وبدون تكلف، إلا أن أغلاطها غير قليلة ولفظها غير صحيح، وكان عندها في البيت ساعة مجيئنا زائرتان هما الآنسة السورية أسما والسيدة الأجنبية و. وهذه الأخيرة كانت متزوجة رجلا سوريا، ولم يكن قد مضى على وجودها في سورية زمن طويل، فقامت السيدة ك. بتقديمنا إلى هاتين الزائرتين، ثم جلسنا وجعلنا نتحدث والحديث ذو شجون.
وكان من قسمتي أن أستقل والآنسة أسما بحديث طويل، تناول البحث في شئون المرأة العصرية ومركزها في محيطنا.
وأخذت السيدة ك. في مجادلة زوجها في بعض الشئون جدالا حادا، وبقي سليم في مركز لا سبيل معه إلى الاختيار، ولا حظت أنه مرتبك قليلا؛ لأن السيدة و. كانت تطيل النظر إليه وتنتظر أن يحدثها، وكانت إذا تحدث تميل إليه بكليتها، وتظهر بصورة مخصوصة أنها تسمع كل نبرة من نبرات صوته.
أرى أنه لا غنى لي عن وصف هذه الأجنبية السيدة و. الرقيقة العود، اللدنة القوام، المعتدلة القامة، والتي لها وجه صبيح وبشرة بيضاء ناعمة وحاجبان ظاهرة العناية في تزجيجهما حتى صارا كقوسين، ولها في قيامها وقعودها تأنق ودلال، ومع كل أوصاف هذه السيدة الجميلة لم يظهر لي أن سليما شغف بها، ولكنه كان مضطرا اضطرارا إلى مجالستها ومحادثتها.
अज्ञात पृष्ठ