وليتها فعلت كما صنع نبتيون في الكتاب العشرين حينما أنقذ إبنياس من رمح أخيل مرتين حتى لا يغضب زيوس كبير الآلهة على بطل الإغريق.
10
هوميروس يزخرف الإلياذة بمثل تلك الأساطير ليقطع تسلسل المعارك وليتقي سأم السامعين وليجدد حماستهم، وهو في ذلك أستاذ أرباب المسرح من أمثال شيكسبير وأضرابه، وهو لا تعييه حيلة في اختراع ما يخفف وطأة الحزن إذا استعرت نيرانه في قلوب الناس حوله ، فلا بأس عنده إذن من أن يترك جثمان بتروكلوس ويقيم حفلا أولمبيا للألعاب يشترك فيه أبطال الحرب، فينافس بعضهم بعضا، فيتسابقون ويتلاكمون ويصطرعون ويقذفون القرص ويرمون الطوق ويحملون الأثقال ويسابقون على الخيل، وتكون حفلة باهرة كأحسن ما يشهد العالم الحديث في حفلات أولمبياد، ثم ينهض أخيل المحزون المرزأ في إثر كل مباراة فيوزع الجوائز السنية على الفائزين (الكتاب الثالث والعشرين).
وقارئ الإلياذة يتولاه العجب وتأخذه الدهشة لبراعة هوميروس الأعمى في الوصف، فكأس نسطور في الكتاب الحادي عشر ودرع هكتور في الكتاب السادس، والنقوش الأخاذة التي حفرت في درع أخيل والستر الأزرق الجميل في قصر ألكينوس، وشروق الشمس وغروبها وتكاثف الضباب والنقع المثار فوق المعمعة، كل هذه آيات من الوصف الدقيق الذي يشهد لهوميروس بملكة فنية قوية تتجلى في أكثر أنحاء منظومته، وتربك المترجم خاصة؛
11
حتى يستعصي عليه أن يساير هوميروس - ملك الشعراء - الذي تراه فيما ينظم مصورا ورساما وقائد جيوش وإلها وسحابا وبرقا ورعدا وحدادا، ثم جزارا وشواء، ثم راهبا وواعظا وما شئت من فنون الحياة التي لا حصر لها.
لقد يتهم الإنسان لغته وهو يترجم هوميروس؛ فهو لا يدري كيف ينقل كلامه وهو يصف الرجل يتل الشاة ثم يذبحها ثم يسلخها ثم «يوضبها!» ثم يشعل النار ثم يؤججها ثم ينثر فيها أعواد الند والرند والصندل، ثم يلقي فيها بالقراميد، ثم بقطع اللحم، ثم ينتشر القتار (رائحة اللحم المشوي)، ثم ... ثم ...
حقا إن في كتب فقه اللغة ما يعين المترجم على كل هذا، لكن المترجم يغازل الذوق العام للقراء وهو ينقل آثار الأعاجم، وهو إذا قسا على هذا الذوق أعرض عنه ولم يلتفت إليه، وذوق القراء عندنا ذوق كسول لا يجب أن يرهق بما حشد في كثب فقه اللغة؛ لأن أكثر ما في هذه الكتب حوشي وقد هجر استعماله، والمترجم لا يستعمله إلا إذا ضاقت به الحيل، ولم يستطع أن ينحت من الكلمات الحديثة السائغة ما ينزل بردا وسلاما على قلوب القراء . •••
وبعد، فأي الملحمتين أثرت في نهضة الأدب المسرحي اليوناني أكثر من الأخرى، الإلياذة أم الأوديسة؟
لقد أشرنا إلى ما قيل من أن هوميروس قد نظم الإلياذة للرجل كما نظم الأوديسة للمرأة الإلياذة التي تفيض بذكر الحروب ووصف المعامع ومقادير الأبطال في أولئك جميعا، والأوديسة التي هي قضية زوجة وفية غاب عنها زوجها حتى ظن أنه غير آيب وحتى طمع فيها كل طامع؛ لأنها تفردت بين نساء زمانها بالحسن الذي لا يغيره مرور الأيام ولا ينال منه تطاول الزمان.
अज्ञात पृष्ठ