الإهداء
تصدير
حدود المعرفة وتقسيمها على مقتضى كفايات العقل الإنساني1
قصة الطوفان وتطورها
مقارنات
الإهداء
تصدير
حدود المعرفة وتقسيمها على مقتضى كفايات العقل الإنساني1
قصة الطوفان وتطورها
مقارنات
अज्ञात पृष्ठ
قصة الطوفان
قصة الطوفان
تأليف
إسماعيل مظهر
قصة الطوفان وتطورها في ثلاث مدنيات قديمة هي: الأشورية البالية والعبرانية والمسيحية وانتقالها باللقاح إلى المدنية الإسلامية.
الإهداء
إلى أحرار الفكر أهدي هذا الكتاب.
تصدير
أتى العلامة «إدورد كيرد» في أول كتابه المعروف عن فلسفة «كانت» بجمل نقلها عن «كانت» نفسه تمهيدا للكلام فيه وفي فلسفته، لم نر بدا من أن ننقلها هنا تمهيدا للكلام في موضوع الكتاب، قال:
يمكن أن نصف هذا العصر بأنه عصر النقد؛ النقد الذي اضطر كل شيء إلى الخضوع له. فالدين على عرش القداسة، والقانون على عرش العظمة، قد حاول كلاهما مرات أن يفلتا من الخضوع لهذه الضرورة، غير أنهما بما يحاولان في هذا الشأن إنما يقيمان في الأذهان شكا في ما يعضدهما من الأسس والقواعد، كما أنهما يعدمان بهذا كل ما يحبو العقل غيرهما به من الأشياء التي أثبتت قدرتها على الثبات أمام البحث الحر.
अज्ञात पृष्ठ
وليس لنا أن نزيد حرفا على ما كتب «كانت»، فإن هذه الأسطر القليلة العدد الكبيرة المعنى كافية عندي لأن تكون أكبر مبرر للنحو الذي أنحوه في هذا البحث.
غير أني أرى أن التعقيب على هذا ببحث في حدود المعرفة وتقسيمها، والمبادئ التي أعتقد بصحتها في هذا الشأن أمر ضروري، أقل ما فيه من الفائدة أن يتريث بعده الناقدون في مذاهبهم. وأن يصد بعض الذين يحاولون الذهاب بحرية الرأي في مذاهب وعرة عن غايات أعتقد بأن الوصول إليها خطر مكروه.
على أن «حدود المعرفة وتقسيمها» على مقتضى كفايات العقل الإنساني، إن كان بحثها ضرورة ألجأتنا إليها ظروف الأحوال، فلا أقل من أن نصرح برأينا في أن هذه الضرورة سوف تزول عما قريب، وأن الباحثين سوف يفسح أمامهم مجال القول، من غير احتياج إلى تمهيد وإلى مقدمات، أعتقد أنها كثيرا ما أثرت في لب الموضوعات تأثيرا صرفها عن القصد، وذهبت بها في مذاهب أنحتها عن الغرض الأصلي الذي من أجله وضعت، والذي من أجله أعنت في سبيلها الكاتبون قواهم وعقولهم. وأظن أنني بلغت بهذه الكلمات غرضا لم أجد إلى التعبير بغيرها عنه سبيلا.
حدود المعرفة وتقسيمها على مقتضى كفايات العقل الإنساني1
الكفايات التي هي أظهر من غيرها أثرا في حياة الإنسان العقلية ثلاث، والظاهر أن هذه الكفايات هي الكفايات الأساسية التي تقوم عليها المعرفة وهي:
أولا:
كفاية الاعتقاد.
ثانيا:
كفاية التأمل.
ثالثا:
अज्ञात पृष्ठ
كفاية الإثبات.
وعن هذه الكفايات الثلاث تنتج ثلاث صور من المعرفة. فعن كفاية الاعتقاد ينتج الدين، وعن كفاية التأمل تنتج الفلسفة، وعن كفاية الإثبات ينتج العلم؛ إذن فالدين والفلسفة والعلم ثلاثة اصطلاحات وضعت لتدل على ثلاث صور معينة من صور المعرفة الإنسانية، بحيث يفصل بينها في الاعتبار العقلي حدود موضوعة، ولا تجتمع إلا في حيز واحد؛ إذ ترجع برمتها إلى أنها نتاج للعقل الإنساني.
وما نعني بالعقل الإنساني إلا ذلك الشيء الغامض المبهم، الذي فيه من الفطرة ومن الكسب مزيج ينتج تكوينا نسميه العقل. وما دام العقل - كما سنرى بعد - أحد الأشياء التي نسلم بها ولو عجز العلم عن إثبات وجودها بأساليبه الموضوعة، اضطررنا إلى القول بأن تعريف العقل وحده مستعص إلى حد بعيد. ولكن يكفي أن نعرف من العقل أنه المصدر المكون من فطرة وكسب، والذي ينتج عنه مجموعة المعرفة الإنسانية. (1) كفاية الاعتقاد ونشوء الدين
في الحياة الإنسانية ظاهرة من الجائز أن تكون قد سبقت بالوجود أول مدارج الاجتماع. تلك ظاهرة الاعتقاد، فكما أن الإنسان كائن اجتماعي بالطبع، فهو كذلك كائن معتقد بالطبع؛ أي إنه ذو عقيدة في صحة شيء وبطلان آخر.
فالحاجة - حاجة الإنسان إلى الاحتفاظ بكيانه وحياته - جرته إلى الموازنة بين الحالات المحيطة به، مقودا بفطرته مسوقا بمقتضى غريزته إلى الاعتقاد بصحة عدد من الحقائق المرجحة، التي تحف به ظاهراتها وتحوطه نتائجها.
عاش الإنسان الهمجي عيشة الفطري الساذج في جوف الطبيعة، يتلمس أوجه الحقيقة ليزيح عن عينيه وشاح الجهل والعماية التي جرته إلى عبادة الأوثان والعناصر، ومضى يتأمل نواحي الطبيعة ليقع على قبس من نور الحق يجلو به ظلمة الشك القاتل، الذي يحوط بماضيه ويحف بمستقبله وينهك قواه في حاضره، فلم يجد سوى الوهم والتخيل يحبوهما الخوف من جهل بالمستقبل، فراح يضرب مع أوهامه في فلوات الفكر القصي، يأخذ بيده الخيال وتنجده كلما زلت قدمه في مزالق الوهم، تصورات ما نزل بها من سلطان.
تلك حالات تطمئن إليها النفس، ويسكن إليها العقل الفطري، ما دامت آتية من ناحية الفكر منتهية بالإنسان إلى صورة من صور الاعتقاد بصحة شيء ما، مهما كان ذلك الشيء في ذاته باطلا.
فالإنسان إذن كائن معتقد بطبعه، وما كان للإنسان أن يتبدل بمعتقده معتقدا آخر، قبل أن تصح عنده مقدمات تسوق إليه، وما كان له أن يثبت على معتقدين متناقضين أو متضادين تلقاء شيء بذاته، في زمان بذاته؛ ذلك لأن للعقل الإنساني طبيعة لا تسع إلا اعتقادا في شيء بعينه في زمان بعينه.
من هنا نقول بأن الاعتقاد الفطري في الإنسان تكأة الدين، كما أن الخوف والجهل منشؤه. قال المؤرخ ليكي في كتابه: «تاريخ حرية الفكر في أوروبا» ص16 جزء أول طبعة 1913 ما يلي:
نجد في حياة الإنسان الفطرية الأولى أن الاعتقاد بالسحر كان عاما، بل غالبا ما ظهر ذلك الاعتقاد مصحوبا بضروب شتى من القسوة الغاشمة. والسبب في ذلك ظاهر؛ فإن الفزع كان في كل الحالات الباعث الأول على تصوير الأديان؛ لأن الظاهرات التي كانت تبلغ من عقول المتوحشين أبعد مبلغ من التأثير، ليست هي الظاهرات التي تدخل في حيز الأشياء الطبيعية من الأسباب الموصولة بالمسببات التي تقع تحت التجربة، أو تلك التي تنتج أكثر مظاهر الطبيعة عودا بالنفع والخير على الإنسان، بل هي الظاهرات المهدمة القاسية التي ترى على ظاهرها؛ كأنها خارجة عن النسق العام.
अज्ञात पृष्ठ
والحب والعطف أقل في الواقع من الخوف في النفس أثرا؛ لذلك نرى أن أقل خروج في الطبيعة على أوجه تجانسها الظاهر مدعاة إلى إحداث انفعالات نفسية في الإنسان، أمعن في النيل من شعوره من أبعث مظاهر الطبيعة على الروعة الهادئة والإعجاب الساذج. فإذا وقع في عقل الهمجي من آثار الطبيعة أبلغها في الشدة والعتي، أو إذا أصابه من الأمراض مهلكها، أو من أخطار الطبيعة ما يؤدي به إلى العدم، فهنالك يستمد الهمجي من تلك الحوادث أسبابا يبني عليها اعتقاده في الشياطين والأرواح الشريرة. ففي ظلام الليل الحالك أو في حدوث العواصف الشديدة العاتية وترديد الوديان والجبال صدى تلك الرياح المتناوحة، أو في ظهور مذنب عظيم يضيء الليل بوهجه وضيائه، أو في حدوث خسوف أو كسوف تظلم معه جوانب الطبيعة بعد إشراقها، أو في وقوع قحط يذهب بالحرث ولا يبقي النسل، أو في أي مرض يكون له تأثير ما على قوام العقلية السليمة، بل في كل ما يسوق إلى شر أو ينتج ضرا، مبعث في نفس الهمجي على الشعور بشيء يتخيله مما وراء الطبيعة.
وهو إذ يعيش معرضا إلى قواسر الطبيعة وأعاصيرها، جاهلا سلسلة الأسباب التي تصل بين أطرافها المشعبة، يقضي الهمجي عيشه في خوف مستمر، متخيلا أن هالة من الأرواح تحيط به، وأن جوا من الشر يؤويه.
ذلك يدل على أن منبت الدين الأصلي اعتقاد فطري، ينزل منزلة الضرورات التي يرجع أصلها إلى الغرائز، جرت إلى تشكيله حالات أحاطت بالإنسان، فاختلفت نظراته في المعتقد الديني باختلاف تلك الحالات. (2) كفاية التأمل ونشوء الفلسفة
إذا خرجنا من عالم الاعتقاد ولجنا عالم التأمل. ويحسن بنا أن نبين هنا أن الإنسان كما هو معتقد بالطبع واجتماعي بالطبع، هو كذلك متأمل بالطبع، ولن يكون تأمل بلا اعتقاد ولا فلسفة بلا تأمل.
يبدأ الإنسان بالاعتقاد من غير أن يكون له اختيار في أن يتأمل في حقيقة ما يعتقد به، فإذا داخل الإنسان الشك في حقيقة شيء مما يعتقد به، بدأ يتأمل في ما يقوم عليه اعتقاده من المقدمات، وفيما يمكن أنه يصح لدى العقل من النتائج التي تؤدي إليها هذه المقدمات. فإذا صح لديه من طريق ما أن الحقائق التي اعتقد بها بديا لا تلائم ما وصل به إليه التأمل ، أخذ من ثم يتلمس طريقا يوفق به بين معتقده واستنتاجه؛ أي بين دينه وفلسفته. غير أنه غالبا ما يعز عليه أن يلغي الدين، كما يعز عليه أن يلغي الفلسفة، فيحاول من ثم المزج بينهما مزجا أخرج لنا كل صور الدين العليا، وكل مذاهب الفلسفة اللاهوتية التي قامت على مدى الأزمان. (3) كفاية الإثبات ونشوء العلم
من الاعتقاد ومن التأمل ممزوجين تتولد حالة ثالثة، هي من حيث الأصل فطرية في الإنسان. على أن هذه الحالة لن تنشأ إلا مع الشك؛ فإن الإنسان إذا شك في معتقده ثم شك في استنتاجاته التأملية، نزع ضرورة إلى الإثبات، فإذا كملت لديه هذه النزعة الإثباتية نشأ مع كمالها الأسلوب العلمي في أول مدارجه، فإذا تدرج في طريق الإثبات تحيزت الطريقة العلمية الإثباتية على الأسلوب الحديث، فأصبحت عبارة عن وحي الحواس، تحديدا لها عن وحي المعتقد ووحي التأمل.
وهنا يجب علينا أن نرجع إلى الفلسفة الإثباتية
؛ لنقول بأن ما وضع أوغست كونت من القواعد في تقسيمها يلائم تمام الملاءمة تقسيم المعارف الإنسانية على حسب الكفايات العقلية في الإنسان. فإن دراسة الإدراك الإنساني من كل ناحياته تدلنا على وجود قانون ضروري يخضع له العقل، نتبينه من أثره في النظام الاجتماعي والتجاريب التاريخية الثابتة.
إن كل فكراتنا الأولية ومدركاتنا، وكل فرع من فروع معرفتنا، لا بد من أن يمر بالتوالي على ثلاث حالات مختلفة: الأولى اللاهوتية وهي التصورية التخيلية، والثانية المتنافيزيقية الغيبية وهي التأملية المجردة، والثالثة الإثباتية - أو تجاوزا - اليقينية الواقعة، هذا هو الأساس الذي تقوم عليه الفلسفة الإثباتية؛ أي فلسفة «كونت» الحديثة، وعليها يقوم التقسيم الأخير الذي اعتمد عليه الباحثون في تمييز العلوم بمقتضى الكفايات العقلية في الإنسان. أما الحالة الإثباتية فهي التي ينشأ فيها العلم الصحيح.
إن من أخص ما نحتاج إليه في تحديد معنى العلم أن نظهر الفرق بين نزعة العلم ونزعة الدين؛ أي الفرق بين ما تنتج نزعة الاعتقاد ونزعة الإثبات في الإنسان من المظاهر.
अज्ञात पृष्ठ
أما الدين فنزعته ذاتية
Subjective
محدودة في أنها تنسب أو تحاول أن تنسب قيمة ذاتية خاصة لحادثات الحياة وظواهرها، وهي في أهم وجوهها عبارة عن معرفة الوجود بشكل عام مطلق مستمد من الرغبات والضرورات الراجعة إلى الشعور أو القلب الكامن وإلى روح الإنسان؛ إذ ترتد إلى النظر في حياتها الداخلية أكثر من نظرها في عالم الطبيعة الخارجي. أما نزعة العلم فيفخر العلماء بأنها غير ذاتية بل موضوعية عامة
Objective .
يصل الدين إلى العالم الخارجي المنظور مزودا بمطالب، يحاول من طريقها أن يخلق جوا ملائما لمجموعة من الرغبات والانفعالات الخاصة. أما العلم فيظهر خلوا من كل شيء، ولا يصل إلى العالم إلا ليعرف الكون من طريق النظر الحسي في طبيعته.
يترك العلم الطبيعة حرة في أن تلقي في روع كل إنسان سرها وروايتها بلغتها الخفية وبلغتها الحقة. أما الدين فلا يرضى للطبيعة أن تتكلم بلغتها، فيضع لها لغة ويتنحي لها أسلوبا من البلاغة مخالفا لبلاغتها. ثم يرجع في كل الظواهر إلى استيفاء أغراضه الأولية، لا إلى الترجمة عن حقائق الكون كما تريد الطبيعة أن تلقيها في روعنا.
هذه هي الحدود الموضوعة للكفايات العقلية الثلاث وما ينتج عنها من صور المعرفة. فلنحاول من ثم تحديد العلاقة الواقعة بينها. (4) العلاقة بين الدين والفلسفة والعلم
2
لقد حدد الأستاذ «تيودور مرتز» هذه العلاقة تحديدا قويما؛ لهذا نعتمد عليه في شرحها وبيانها؛ قال:
هنالك أشياء كثيرة تقوم في عقلية كل فرد من الأفراد: شخصية في طبيعتها ذاتية في مبعثها، ولهذه الأشياء في أنفسنا من الشأن والخطر ما لغيرها من مطالب الحياة وحاجاتها، ومن هذه الأشياء تتكون المادة الحقيقية التي يتركب منها الفكر الخارج عن ميدان العلم، وهي في جوهرها ومظهرها مناظرة للعلم الإثباتي؛ أي إنهما طرفا تناظر. وفي هذا الشطر من الفكر لا يستطيع شخص بذاته أن يقوم بعمل ينتفع به الكثيرون على نفس الطريقة التي تحتذى في العلم. فالأخذ بالبرهان في ذلك الشطر من الفكر مستحيل، والإجماع على شيء فيه لا يضم تحت لوائه إلا عددا قليلا من الناس، وذلك هو الدين.
अज्ञात पृष्ठ
أما الصفة التي تلازم ذلك الشطر من الفكر فكونه فرديا ذاتيا، في حين أن العلم مهما كانت صبغته ومهما كان أصله عام موضوعي - أي غير ذاتي - يرجع إلى الموضوع لا إلى الذات التي تفكر في الموضوع وتفحص عنه. فإذا مثلت الفكر بشيء ذي طرفين متناظرين، ألفيت أن العلم الرياضي في أحد طرفي الفكر، وأن الدين في الطرف الآخر، وتجد أن التجانس والاتفاق في الطرف الأول صفة ملازمة كالاختلاف في الطرف الثاني. تلحظ أن وحدة الفكر صفة ثابتة في الطرف الأول، في حين أنك لن تقع لها على ظل في الطرف الثاني. إن وحدة الفكر لم تعرف في الدين ولن تعرف.
فيما بين هذين الطرفين تقع على مسافة كبيرة من الخلف تصل بينهما. إن هذه المسافة يغشاها من الفكر صورة تصل بين الطرفين، فتبرز حينا في هيكل من المعرفة وآخر في مثال من الإيمان، فيختلط فيها قليل من الأشياء المحققة بكثير من الإيمان والاعتقاد المبهم، تلك المسافة الكبيرة وهذه المفازة المترامية الأطراف، والتي تتوارد عليها صور التغاير والاختلاف سريعة متعاقبة، هي سكن الفلسفة الحقيقي ومنبتها الأصلي، الفلسفة التي تتناول الحقائق ولا تأنف من الإيمان. الفلسفة أصل المعرفة ومنبع المعتقدات واليقين. الفلسفة حلقة الوصل بين الطرفين المتناظرين: طرف العلم الإثباتي وطرف الدين. (5) استعمال اصطلاح «العلم» استعمالا مجازيا
بعد أن قطعنا هذا الشوط من البحث، يجب علينا أن نبين أن اصطلاح العلم كثيرا ما يستعمل مجازيا، فيدل على المعرفة، فإن الغالب عند كل من يحاول أن يعرف شيئا من حقائق الكون، أو قضايا المنطق الجدلية، أو القياس، أو أصول الدين، أو التشريع أو النفس أو الأدب، أن يسمي هذا «علما». والكل معذور في أن يستعمل هذا الاصطلاح في هذا المعنى المجازي الواسع؛ لأن كل ما وصل إلينا من مذاهب الفلسفة أو مبادئ العلوم أو أصول الشرائع من العالم القديم سمي علما؛ ذلك لأن تقسيم المعرفة على مقتضى كفايات العقل الإنساني وليد العصور الحديثة؛ ولهذا تجد من أصعب الأشياء أن تناقش شخصا لم تتحيز في عقليته الفروق الموضوعة بين أقسام المعرفة على مقتضى الكفايات التي تستمد منها في تكوين العقل؛ ذلك لأنه يعتقد أن الدين علم، وأن الفلسفة علم، وأن العلم علم، في حين أن الاصطلاح الجامع لهذه الصور الثلاث هو «المعرفة».
فالدين معرفة، والفلسفة معرفة، والعلم معرفة، ومن مجموعها تتكون المعارف الإنسانية. ولا جرم أننا من غير أن نميز بين الفروق الموضوعة بين هذه الصور نضرب في ليل من الفوضى حالك السواد؛ لهذا نحدد صور المعرفة بما يأتي: (1)
الدين
Religion - اعتقاد
Belief - ذاتي
Subjective . (2)
الفلسفة
- تأمل
अज्ञात पृष्ठ
Meditation - لا ذاتي صرف ولا موضوعي صرف
Neither Purely subjective nor purely objective
أو استنتاج
Deduction . (3)
العلم
Science - إثبات استقرائي تام
- موضوعي
Objective ، وبين هذه الصور الثلاث يجمع اصطلاح واحد هو: (4)
المعرفة
Knowledge .
अज्ञात पृष्ठ
على هذا نجد أن العلم محدود تحديدا تاما بسيطا وكذلك الدين. فإذا لم نراع هذه الحدود وإذا لم نراع الدقة في استعمال هذه المصطلحات، لم نستطع أن نحدد التفكير، وبذلك تختلط علينا المقاصد في العلم والفلسفة والدين، بل نعجز عن أن نحدد الأغراض التي ترمي إليها، ونبالغ في تقسيم الحاجات الفكرية والمادية مبالغة قد تصل إلى حد الإفراط حينا أو التقصير حينا آخر، بل لا نخطئ إذا قلنا إن كل المناقشات التي تقوم حول المباحث العقلية، تصبح خليطا من صور الفكر، لن تؤدي إلى نتيجة ولن نصل معها إلى غاية. وبذلك نفسح المجال للجدل المنطقي الذي ذاعت مع ذيوعه مذاهب السفسطة في العصر اليوناني.
لا جرم أن بحثنا هذا يظل ناقصا إذا لم نظهر الباحث على أشياء عديدة يشتبك فيها العلم مع الفلسفة اشتباكا كبيرا. وعلى هذا نبدأ بالكلام في «الفرض»، وليس غرضنا أن نحدد ما هو «الفرض» في المنطق أو ما هو «الفرض» في الفلسفة القديمة، بل نقسم الفرض إلى قسمين: أولهما الفرض الضروري وثانيهما الفرض الإمكاني. ثم نمضي في بيان الفرض الضروري لنستطيع بذلك أن نميزه عن الفرض الإمكاني. أما الفرض الضروري فهو ما يقبله العلم على ما حددناه من قبل. وأما الفرض الإمكاني فلا مكان له إلا في عالمي الفلسفة والدين. (6) تعريف الفرض الضروري «الفرض الضروري هو عبارة عن الحكم الذي يقسر العقل على التسليم به بمقتضى ما في العقل من ألفة؛ لأنه لا يمكن الاحتفاظ به إلا من طريق التسليم بذلك الفرض. في حين أن «العلم»
Science
يضطر إلى التسليم مع العقل بصحة ذلك الفرض، ولو أنه يعجز عن إثباته بالطرق العلمية الموضوعة.» (7) تعريف الفرض الإمكاني «هو الفرض الذي يستوي فيه حدا الوجود والعدم، أو الذي يحتمل أن يكون له حقيقة موجودة، كما يحتمل أن لا يكون له أية حقيقة في الخارج. ومعنى هذا أن العقل إذا سلم بالفرض الإمكاني أم لم يسلم، فإنه يظل محتفظا بألفته كاملة. في حين أن العلم يرفض التسليم بالفروض الإمكانية رفضا باتا تاما، ما لم تثبت صحتها ثبوتا قاطعا بالأساليب العلمية المعروفة.» (8) شرح المذهب في الفرض الضروري
الطريقة العلمية تقوم على وحي الحواس؛ ولذلك يقول الباحثون في الأسلوب العلمي: «كل ما لا تثبته الحواس لا يمكن أن يكون صحيحا.» بهذا قال سبنسر، وجاراه في ذلك الكثيرون. على أن الحواس التي يفقد الإنسان بفقدانها كل ذاتية عقلية فيه ناقصة، لا تؤدي إلينا من الإدراك إلا ما يقوم مقام الفرض الصرف في كثير من الحالات. ولقد عدد فلاسفة العلماء حقائق كثيرة نحن مجبرون على الاعتقاد بصحتها، في حين أن العلم يعجز عن معرفتها وإثبات وجودها بطرقه الموضوعة. وإليك مثال من ذلك:
وجود عالم خارج عن حيزنا
خذ مثلا التكأة التي تكتب عليها، كيف تعرف أنها خارجة عن حيزك؟ وبالأحرى كيف يمكن أن تثبت علميا أنها خارجة عن حيزك؟ إنك إذا نظرت إليها أو لمستها أو وقعت تحت حسك بحال من الأحوال، فكل ما في مستطاعك أن تعرف منها ليس سوى مدركات حواس كائنة فيك، وليست خارجة عن حيزك، لا في لونها وصورتها فحسب، بل أيضا في صلابتها وقوتها. والدليل على هذا أن فقد أعصاب البصر يمنع عينك أن تراها، وأن فقد أعصاب اللمس يمنع عينك أن تحس بها، وأن فقد الحواس جميعها يمنع عينك أن تدرك أنها موجودة البتة.
ذلك في حين أنه وإن لم يكن في مستطاعك أن تعرف من وجود تلك التكأة علميا إلا إحساسات كائنة في حيزك، إلا أن تركيب عقلك قد وضع على نظام يجملك على أن تعتقد بأنها كائنة في حيز خارج عنك. فإذا اعتقدت بما يخالف ذلك، وأخذت تؤدي عملك بما يوحي إليك به اعتقادك هذا، كان ذلك دليلا على أن ميزان العقل قد اختل وتفككت ألفته. هذا فرض ضروري يسلم به العقل قسرا عنه، ويسلم به العلم وإن عجز عن إثبات وجود التكأة في عالم خارج عن حيز الإنسان بأساليبه الموضوعية.
في أن وجود المادة يتوقف على وجود قولي في الجذب والدفع
أما أن قوتي الجذب والدفع حقيقتان طبيعيتان، فذلك ما لا سبيل إلى إدحاضه أو التشكك فيه. فإننا إذا أخذنا جسما صلبا وأردنا أن نفصل بعض أجزائه عن بعض فإنه يقاوم مجهودنا، وكذلك هو يقاومنا إذا أردنا أن نضغط بعض أجزائه، مثبتا بذلك أنه إنما يتركب من دقائق تتجاذب وتتدافع في آن واحد. وإلى هذه الحقيقة تعود ظاهرة التفاعل وعدم التفاعل في العلم الطبيعي، بل وفي أجزاء الطبيعة برمتها، ومع كل هذا فإن هذه الحقيقة تعلو الإدراك العلمي في تعليل كيف أن دقيقة واحدة تجذب أخرى في حين أنها تدفعها وتقاومها. وفي ذلك يقول سبنسر: إننا لا نستطيع أن نأتي بقطعة من المادة يظهر فيها أن جزءا يجذب آخر في حين أنه يدفعه، ومع هذا فإن الاعتقاد بذلك إلزامي ضروري.
अज्ञात पृष्ठ
إذن؛ فالتسليم بوجود قوتي الجذب والدفع فرض ضروري، العقل مقسور على التسليم به، وفي ذلك يجاريه العلم كرها، ولو أنه يعجز عن إثبات وجود هاتين القوتين بطرقه المعروفة.
في بقاء القوة
أي في حقيقة أن كمية القوة الموجودة في الكون ثابتة لا تزيد ولا تنقص. يقول العلامة «سبنسر»: إن هذا الاعتقاد أساس كل العلوم الحديثة، وإنه النبع الفائض الذي نستمد منه العلم بكل النواميس الطبيعية. يقول: إن كل النواميس الطبيعية الأخر ليست سوى توابع تعود إلى هذه الحقيقة العظمى، وكل الاستقراء العلمي «يفرض» أن القوة ثابتة؛ لأنها إذا لم تكن كذلك أصبحت أدوات قياس الأبعاد، التي هي في ذاتها عبارة عن قياس القوة الجاذبة، وكل أدواتنا الأخرى التي نحقق بها استنتاجاتنا العلمية تتغاير بين يوم وآخر أو بين ساعة وأخرى. وبذلك تصبح كل المعارف الطبيعية غير ممكنة؛ لذلك كان مبدأ بقاء القوة - ولو لم نستطع أن نثبته علميا - اعتقادا إلزاميا ضروريا.
والعلامة سبنسر يعتقد أن هذا الفرض وإن كان أساس العلم الطبيعي، إلا أن «العلم» يعجز عن إدراكه وإثبات وجوده بطرقه المعروفة التي تعتمد على الحواس. وهذا مثال حق يثبت قاعدة أن كثيرا مما لا يمكن أن يدركه العلم الطبيعي يجب أن يعتقد بوجوده؛ إذ لولا هذا الأمر لتحلل ذلك الهيكل النظامي الذي ترتكز عليه معرفتنا.
هذه أمثال ثلاثة. وفي مستطاعنا أن نأتي بأمثال أخرى. فالعقل ووجوده في ذوات غير ذواتنا لا يمكن إثباته بالطرق العلمية، وكذلك الأثير والاعتقاد بتفوق العقل على المادة، والشجاعة على حب الملاذ، والاعتقاد بوجود السببية العلمية، كل هذه الأشياء تقسر على الاعتقاد بوجودها عقلا باعتبارها فروضا ضرورية، في حين أن العلم يجاري العقل فيها ولا ينكرها عليه، بل هو مضطر إلى اتخاذها قاعدة يبنى عليها، ولو أنه يعجز عن إثبات وجودها بالأسلوب العلمي.
هذا هو الفرض الضروري. فلنحاول من ثم في تطبيقه على بعض الأشياء التي تقوم عليها معرفتنا؛ لنعرف الفرق بينه وبين الفرض الإمكاني، ولنجعل الفكرة في وجود الله محورا يدور من حوله البحث. (9) الاعتقاد بوجود الله فرض ضروري
يعتقد كثير من أصحاب العقول الراجحة في هذا الزمان أنه ليس في الفلسفة من شيء هو أبعد من ألفة العقل من تلك الفكرة التي يطلق عليها اصطلاح «الناسوتية» أنثروبومورفزم
Anthropomorphism ؛ أي الفكرة القائلة بتزويد الله بشيء من الخصائص الإنسانية. على أن الاعتقاد بأن الخالق مكون على حسب نماذجنا العقلية، أو أنه صورة من صور الفكر الإنساني، هو اعتقاد فيه من الباطل بقدر ما في القول بأن الأرض مركز النظام الشمسي، وأن الإنسان محور العالم.
وعلى الرغم مما في هذا النقد من الصحة ومطابقة الواقع ، فإن محاولة الاعتقاد بأن علة الكون من الممكن إدراكها بما يبعد عن إدراك ذواتنا، أمر بعيد عن الإمكان بحكم الطبيعة، بل قول هراء لا أثر له من الحقيقة.
خذ لذلك مثلا «اسبينوزا»؛ فإنه أبعد الفلاسفة عن الاعتقاد بأن الخالق مكون على نموذج عقله، وقد مضى في فلسفته متخيلا أنه اجتاز هذه العقبة الكئود بأن جعل الخالق عبارة عن «امتداد وفكر»، غير أن دكتور «مارتينو» قد نقض هذه الفكرة متسائلا: «من أين أتى لاسبينوزا فكرة «الامتداد» إلا من النظر في حالات جسمه الطبيعية، ومن أين أتى له أن الله «فكر» إلا من النظر في حالات عقله؟» ذلك لأن الامتداد والفكر ليسا سوى شيئين هما أخص ما تتصف به الأجسام والعقول.
अज्ञात पृष्ठ
وكذلك سبنسر، فإنك - إن نظرت في فكرته في الله - لم تجد أنه تخطى الحد الذي وصله «اسبينوزا». فكما أن الخالق عند سبينوزا لم يكن إلا شبحا إنسانيا أتمثله حالا في مكان - امتداد وفكر - كذلك كان الخالق عند سبنسر عبارة عن تمثل صرف لفكرة غير معينة هي فكرة «القوة»، وهي فكرة مستمدة من أحط الخصائص الإنسانية؛ خاصية إدراك الحس؛ إذ قال بأن الخالق «قوة خفية» تدبر الكون.
وأنت مهما قلبت وجوه الرأي وأنعمت النظر، فإنك تجد دائما أن فكرة القوة كما ثبت من قبل مستمدة من قسم من ذاتيتنا؛ أي من إدراك الحس، إذن نجد أن سبنسر بدلا من أن يجعل الخالق بعيدا جهد البعد عن الذاتية البشرية كما كان يعتقد؛ إذ إنه يتمثله على نموذج مستمد من أحط خصائص الإنسان. على أنه بعد أن حمل على «الناسوتية» لأنها تزود الله بأرقى الخصائص الإنسانية، مستقلا ذلك في جانب الله، رجع فزلت قدمه فيما زلت فيه قدم غيره من الفلاسفة، فزود الخالق بخصائص مستمدة من أحط الصفات التي يشارك فيها الإنسان أدنى الحيوانات، بدلا من أن يتركه مزودا بأرقى الخصائص الإنسانية.
ومن الجلي بعد هذا أننا في كل المباحث التي تتعلق بالنظر في أصل الأشياء، لا يجوز مطلقا أن نتساءل عما إذا كنا نصور «علة الكون» على نسق مستمد من ذاتيتنا؛ لأن تصور العلة على نسق الذاتية البشرية أمر لا يمكن أن تنصرف عنه ذات إنسانية فانية. بل الواجب أن نتساءل دائما عما إذا كنا نصورها على نسق مستمد من نظريات سطحية، أم نصورها على نموذج مرجعه السعة في النظر، والألفة التامة الموافقة لنظام العقل الإنساني.
أما وقد أظهرنا أننا لا نستطيع أن ندرك من علة الكون إلا نموذجا يرجع تصويره إلى تجاريبنا الذاتية، فإنه يكون من الجلي أن اعتقادنا في وجود إرادة عاقلة؛ أي علة خالقة، أو عدم اعتقادنا، يرجع إلى ما ندرك من فكرة السببية. وما دام فهمنا للسببية عائدا إلى ما ندرك منها حسب تجاريبنا العلمية؛ أي إنها تنحصر في القياس على السوابق الطبيعية الظاهرة أجلى ظهور، فمن الواضح أننا لا نرضى في عقليتنا فكرة التسلسل السببي إلا بالاعتقاد في أن الأشياء لا بد من أن تكون قد نشأ بعضها عن بعض متدرجة في سلسلة منظومة خلال «الزمان»، وهذا أمر يلزمنا إلزام «الفرض الضروري» بوجود إرادة عاقلة مخبوءة وراء عالم الظواهر الطبيعية، ظلت مؤثرة في الماضي والحاضر، وستظل كذلك في المستقبل.
غير أننا إذا اعتقدنا بأن السببية الحقيقية تشمل في مدلولها فكرة «الإرادة». فمن الظاهر أننا إذا أردنا أن نحتفظ بألفة العقل البشري؛ تلك الألفة الصحيحة التي لا يمكن أن نتخذ غيرها دعامة للبحث وراء الحقيقة، فمن المحتوم علينا أن نعتقد في إرادة عاقلة حرة نتخذها علة للأشياء، أو بعبارة أخرى أن نعتقد في خالق. وعلى ذلك نلزم القول بأنه كما يكون رأينا في السببية، كذلك يكون معتقدنا في الدين.
أما إذا أردنا أن نصل إلى نتيجة جلية واضحة في بحثنا هذا، فيجب أن نظهر أولا أن العلة الوحيدة التي في مستطاعنا أن نتناولها بمعرفة يقينية وبحث اختباري هي إرادتنا الذاتية، وقدرتها على تحريك أعضاء الجسم، والأجسام التي تقع تحت سلطانها. وما فعل الإرادة الإنسانية في الواقع إلا الانتقال من حركة عقلية إلى فعل طبيعي؛ أي الانتقال من العقل إلى المادة. وما دامت معرفتنا للسببية من طريق الاختبار مقصورة على ذلك، فمن الظاهر الجلي إذن أننا إذا تركنا وبداهتنا الفطرية، لزمنا أن نعود بالكون كما فعلت كل الأديان إلى فعل عقل عظيم نعرفه باسم بارئ الأشياء. فإذا ما فعلنا ذلك نكون قد حفظنا على العقل البشري تلك الألفة التي يتطلبها الاعتقاد الصحيح. •••
إن هذه النتيجة على ما فيها من من السذاجة وقربها من أحكام العقل الأولية، لا يتركها العلم من غير أن يتحداها بسلطانه. يتدخل العلم في هذه النتيجة ويهمس في الضمائر والعقول بأن تلك الحركة العقلية التي نسميها الإرادة ليست إذا ما بحثت من أساسها سببية حقيقية، ولا تزيد عن كونها ظاهرة عقلية أو عرضا من أعراض سببية حقيقية. وما تلك السببية الحقيقية لدى العلم إلا تلك الاهتزازات التي تتناول نشاط دقائق المخ ومراكز الحس العصبية. وعلى ذلك يكون مضمون السببية الصحيحة عند العلم ليس الانتقال من الحركة العقلية إلى الفعل الطبيعي، بل الانتقال من سابقة طبيعية إلى لاحقة طبيعية؛ أي من مقدمة طبيعية إلى نتيجة طبيعية، ولا تتعدى مطلقا حكم السنن التي تتصرف فيها وتنتجها.
يقول العلم: إن الحركة العقلية التي ندعوها الإرادة ليست سوى عرض يلازم اهتزازات دقائق المخ المادية، وليس لها من أثر في إحداث الأفعال أكثر من أي عرض آخر.
فإذا كانت نظريتنا في الكون ليست سوى استعراض صرف للنظريات التي تخلقها عقولنا، وإذا كان تكوين عقولنا يدل على أن الإرادة ليست السببية الحقيقية، وأنها ليست إلا عرضا من أعراض السببية الحقيقة، فظاهر أن الاعتقاد في عقل مدبر أو إرادة ترد إليها العلة في وجود الكون، يتحطم على صخور العقل البشري ويتفرق بددا، وتحل محله عندنا تلك النظرة المادية الضيقة التي تسوقنا إلى القول بأنه ليس في العالم إلا سلاسل من السوابق الطبيعية، ونتائج متلاحقة تتبع إحداها الأخرى على توالي الأحقاب وخلال تواتر الزمان، كما كانت وكما هي كائنة وكما ستكون.
على أننا إذا أردنا أن نرد على القائلين بالسببية العلمية وكفايتها لتعليل كل ما في الكون والحياة، فليس من قصدنا أن ندفع براهينهم برهانا ببرهان. ولكن قصدنا ينحصر في أن نظهر أنهم إنما ينظرون في العالم من بين أقدامهم نظرة ضيقة، يتبدلون معها من ألفة العقل والحقيقة التي في مستطاع العقل أن يدركها، بعماء صرف لا نظير له من شيء في هذا الوجود إلا عماء المادة الجامدة. •••
अज्ञात पृष्ठ
ينصرف الناس في كل ما يتناولونه بالكلام والبحث، وهم على شعور تام بأن كل واحد منهم إنما يملك شيئا يقال له القوة المدركة، وأن لهم شيئا يقال له حس الجمال والموسيقى وما إليهما من الخصائص، كما أنهم يملكون ذلك الشيء المبهم الذي يسمونه الإرادة.
فإذا سقت أبحاثك مقتنعا بأن الإرادة ليس لها من وجود حقيقي، وأنها ليست سوى عرض من أعراض اهتزازات دقائق المخ، لم يبق أمامك من شيء آخر إلا أن تنكر مع إنكارك الإرادة كل وجود حقيقي لكل الخصائص العقلية التي للإنسان، وعلى نفس الحجج التي يستند إليها الماديون في إنكار الإرادة، نستطيع أن نستند في إنكار كل القوى المدركة والملكات الأخرى.
نستطيع أن نقول مثلا بأن القوى المدركة برمتها إنما هي عرض لاهتزازات دقائق ما في مادة المخ، وبذلك لا يكون لها وجود حقيقي البتة. وكذلك الحال إذا نظرت في الجمال؛ يمكنك أن تعتبره كمجرد وهم أو خيال، وليس بحقيقة ثابتة خالدة، تستطيع أن تقول إن الجمال عبارة عن مجرد تنسيق للمادة في صور معينة، لا يلبث أن يزول أثره إذا نظرت فيه من عدسة المجهر. وهكذا الموسيقى؛ في قدرتك أن تدعي أنها عبارة عن مجرد اهتزازات مادية، وليس لها وجود حقيقي. وكذلك إذا نظرت من تلك الناحية في حب العظمة والشجاعة والفضيلة والشرف ومضاداتها من حب الذات والملاذ والسقوط الأدبي، فإنه في مستطاعك أن تعتبرها حركات خلايا خاصة توجه توجيها معينا، لا أقل من هذا ولا أكثر.
فإذا عمدت إلى النظر في العالم كما ينظر فيه الماديون، موليا بوجهك عن خصائص الإنسان العقلية، وأكببت على تقديس ما ترتكز عليه هذه الخصائص من القوى والمواد الطبيعية وحدها، فإنك لا تقتل بذلك الإرادة وحدها كوجود حقيقي، بل إنك تقضي على الشعر والموسيقى والحقيقة وعلى كل المراتب والفروق الكائنة في العقل بين منازل الفكر والعواطف.
وعلى الجملة تقضي على كل قضايا العقل الإنساني. ولا تترك في الكون من شيء إلا كتلة مواتا وصحراء مجدبة من المادة والحركة. ولما كانت المادة والحركة لا يمكن إدراكهما إلا من طريق الحواس، ففي مستطاعك أيضا أن تنكرهما؛ إذ لا يكون لديك من سبب يحملك على أن تعتقد أن العالم مكون على النموذج الذي توحي إليك به الحواس.
إلى هذا الحد من التهوش والفوضى يكون النظام العالمي في نظرك، إذا تطلعت فيه من هذه الوجهة المادية الصرفة. ومن الظاهر الجلي أننا إذا أردنا أن نرد على العالم نظامه وألفته على مقتضى ما في العقل الإنساني من نظام وألفة، فإن من الواجب أن لا ننظر فيما يمكن أن يثبت أو ينفي نظريا، بل ننظر فيما يمكن الاعتقاد به عمليا. هذا مع علمنا بأن هذه الألفة سواء أكانت مبنية على وجهة النظر المادية أم وجهة النظر الروحية، فإنها أقصى ما يمكن أن نبلغ من صلة بالحق في هذه الحياة.
والمثال: إني مضطر لأن أعتقد بوجود عالم خارج عن حيزي؛ لأتخذ اعتقادي هذا دعامة حقة وأساسا ركيزا في سبيل بحثي عن الحقيقة. ذلك على الرغم من أن الفلاسفة قد ينكرون أن للعالم الخارجي وجودا حقيقيا في ذاته. كذلك أعتقد أن هنالك فرقا قائما بين الفضيلة والرذيلة، وبين سمو المدارك الروحية والشهوات، وبين الأنانية والتضحية، وبين الذاتية والغيرية. ولو أن الماديين إذ يرجعون بهذه المعاني بلا تفريق بينها إلى اهتزازات دقائق غير مختلفة أي اختلاف إنما يلزمون أنفسهم الحجة بحكم العقل، بأن هذه المعاني لا يختلف بعضها عن بعض اختلافا حقيقيا.
أراني أعتقد بوجود حقيقي للذكاء والإدراك والجمال والموسيقى والشعر والحقيقة. ولو أن هذه أيضا يمكن ردها إلى مجرد حركة بعض خلايا لا إدراك ولا ذكاء فيها، وإلى قوات لا تعدو تلك الخلايا إدراكا ولا تبزها معرفة وذكاء.
وعلى هذا النحو أراني مضطرا إلى الاعتقاد بوجود حقيقي لما نسميه «الإرادة». ولو أن الماديين قانعون بأنها ليست سوى عرض يصاحب حركة الدقائق في المراكز العصبية.
فإذا كانت ألفة العقل البشري تتطلب سببا للعالم المرئي، وإذا كل ما في مستطاع اختباري أن يصل من علم بالسبب الأول ينحصر في الفعل العقلي للإرادة التي أشعر وأحس بها، فمن الواضح الجلي أني مقسور بضرورة ألفة عقلي ومقتضياته على الاعتقاد بأن هذا الكون العظيم معلول لإرادة عاقلة؛ أي إلى خالق. وليس من معنى ذلك أنني أعرف أو أعلم أن للخالق وجودا حقيقيا، أكثر مما أعلم أو أعرف أن للعالم الخارجي المحيط به وجودا حقيقيا. إنما كل ما أعلم أو أعرف أني جبلت على أنني لا أستطيع أن أرد على عقلي ألفته وأحتفظ بنظامه، إلا إذا اعتقدت بوجود خالق ذي إرادة حرة عاقلة. وإلا فإن كل معتقداتي الثابتة تنهار وتتحطم ويطمو على سبيل الحيرة والفوضى.
अज्ञात पृष्ठ
ولست أجد من ضرورة تقضي علي بأن أظهر كيف أن عقلا أو إرادة تكون علة للعالم، كما أني لست أعلم كيف أن دقيقة من المادة تجذب أخرى في حين أنها تدفعها. ومع ذلك فإني مقسور على الاعتقاد بسببية الجذب والدفع، كما أنه ليس في مستطاعي أن أعرف كيف يتحد العقل مع مادة المخ ومع نشاط دقائقه وحركتها. وليس لذلك من علاقة لاتصال العلة بمعلولها أو السبب بالمسبب بالمعنى العلمي؛ لأن ذلك يتطلب الموازنة بين الاصطلاحين، ولا يمكن أن نضع موازنة بين ذلك الشيء الغامض المبهم الذي نسميه العقل، وبين القوة ومادة المخ مثلا.
ويكفي لدي أنني يجب أن أعتقد بحقيقة العلاقة الكائنة بينهما، فلست أعرف مثلا كيف أن إرادتي تكون سببا دافعا لي على إحداث حركاتي البدنية. ولكن يكفي عندي أن أعتقد في حقيقة أن إرادتي تدفعني على القيام بحركاتي الجسمانية، وعلى هذا السنن وعلى هذه القاعدة ذاتها: يكفي عندي أن ألزم بالاعتقاد بوجود خالق، من غير أن أجد نفسي مضطرا لأن أظهر كيف أنه السبب في وجود الأشياء، وكيف أنه علتها.
وفضلا عن كل هذا فإن الكون المادي؛ إذ يقتصر وجوده لدينا على تكوين عقولنا، فليس من الضروري أن أجعل المادة موضع اهتمامي في بحثي وراء الحقيقة، بل أوجه كل همي نحو ذلك الشيء الذي لا يكون للمادة عندي من وجود إلا به؛ أي العقل.
على هذا نجد أن الاعتقاد بوجود الله أو خالق أو مصدر للأشياء أو علة لها أو ما شئت فقل، فرض ضروري يقوم على حاجات العقل ومقتضياته. وعلى هذا الفرض الضروري قس كل بقية الفروض التي لا يمكن للعقل أن يحتفظ بألفته من غير أن يسلم بها، ولا يمكن للعلم أن ينفيها، ولو عجز عن إثبات وجودها بأساليبه الموضوعة. (10) ما بعد الفرض الضروري فرض إمكاني
عرفنا الفرض الإمكاني بأنه الفرض الذي يستوي فيه حدا الوجود والعدم، أو الذي يحتمل أن يكون له حقيقة موجودة، كما يحتمل أن لا يكون له أية حقيقة في الخارج. وذكرنا أن معنى هذا أن العقل إذا سلم بالفرض الإمكاني أم لم يسلم، فإنه يظل محتفظا بألفته كاملة، في حين أن العلم يرفض التسليم بالفروض الإمكانية رفضا باتا صريحا، ما لم تثبت صحتها ثبوتا قاطعا بالأساليب العلمية المعروفة. وعلى مقتضى التحديد والشرح الذي حددنا به الفرض الضروري يمكن أن نتخذ هذا التحديد قياسا، نقيس عليه في التفريق بين الفرض الضروري والفرض الإمكاني.
إذا استطعنا أن نعي هذه المبادئ فلا جرم أننا نستطيع أن نحدد المعقولات تحديدا يجعلها أكثر خضوعا لأحكام العقل وكفاياته، وخرجنا من ظلمات الجدل إلى وضح الطريق العقلي الصرف، نمتع بثمراته ونتخذه قاعدة نبني عليها صرح العلم ونشيد من فوقه بناء الفلسفة والآداب.
وبعد: فهذا تصدير رأينا من الضروري أن يستوعبه كل قارئ قبل أن يمضي في قراءة هذا الكتاب.
قصة الطوفان وتطورها
يعتقد كل الذين درسوا العبرانيات القديمة، وكل من أكب على تحليل سفر التكوين - وهو السفر الأول من توراة موسى
1 - أن القصص التي يتضمنها إنما ترجع في أصلها إلى أسطورتين قديمتين، تخالطتا وتمازجتا مع الزمان وعلى توالي العصور، فتكون منها سفر التكوين الموسوي، الذي يظهر لنا كيف خلق العالم، وكيف خلق آدم، ثم كيف طرد، ثم تكاثر نسله، ثم أغرقه الطوفان في زمان نوح، ثم تكاثر ثانية من بعد ذلك.
अज्ञात पृष्ठ
وإذا قرأت بقية أسفار موسى، وبالأحرى الأسفار المنسوبة إليه - خروج، لاويين، عدد، تثنية - تجد أنها مزيج من أخبار تاريخية تكثر فيها الأقاصيص، ومواعظ هي بين الأخلاقيات والإرشاديات. وفي جماع هذه الأسفار لا تقع على شيء من انسجام الوضع، ولا من دقة التاريخ، ومن كل هذه الأشياء يذهب دارسو العبرانيات والآثار في سلسلة طويلة من الأبحاث، يستنتجون منها في النهاية أن هذه الأقاصيص جمع وتوليف من أقاصيص وروايات أبعد منها زمانا وأعرق قدما.
يقول المستر ديكسون وايت:
من بين مجموعة النقوش الكاتدرائية، التي تعبر عن كثير من حقائق اللاهوت في العصور الوسطى، نقش يمتاز بالتعبير عن مذهب لاهوتي في أصل الكون، ظل موضع الاحترام والإجلال أزمانا طوالا.
الواحد القهار: في صورة بشرية، جالس بوداعة ولين، يصنع الشمس والقمر والكواكب، ويعلقها في القبة الصلبة التي تحمل من فوقها «السماوات العلا»، وتظلل «الأرض السفلى».
أما علائم التفكير الظاهرة في تقطيب جبينه فتنم على أنه أجهد نفسه إمعانا في التدبر والاستبصار، كما يدل انتفاخ عضلات ذراعيه على أنه قد اضطر إلى أن يكد وينصب. ومن الطبيعي أن يكون المثالون والمصورون خلال القرون الوسطى - وفي بدء العصور الحديثة - قد عمدوا إلى تمثيله على مقتضى ما تصوره كتاب ذلك العصر؛ إذ كانوا يقولون بأنه استراح في اليوم السابع، واضطجع في هدأة، مصغيا إلى تراتيل الثناء التي زفتها إليه سكان السماء.
من حول هذه الفكرات العتيقة التي فاضت بها الكاتدرائيات، وفي غيرها من الآراء التي عبرت عنها النقوش والصور وتلوين الزجاج وزخارف الفسيفساء والحفر خلال القرون الوسطى، وقرنين فرطا من بعد تلك العصور؛ تكشفت نواة من الاعتقاد كانت قد أخذت تتكون خلال ألوف من السنين، ومضت محتكمة في كل ما أبرز العقل الإنساني من صور الفكر حتى عصرنا هذا.
أما بدايات ذلك الاعتقاد فترجع إلى أعرق عصور التاريخ قدما، فإننا نجدها في أوليات كل مدنية من المدنيات العظمى. بيد أنها شغلت في كل الكتب المقدسة التي ذاعت في نواحي العالم - على تعددها وكثرتها - مكانا عليا، ففي كل المدنيات تقع على فكرة وجود خالق، ليس الإنسان إلا صورة منه غير كاملة، وأنه خلق الكون المنظور بطريقة مباشرة مستخدما في الخلق يديه وأصابعه.
من بين تلك النظريات عدد غير صغير مضى محتكما في اللاهوت الكلداني. ومن الواجب أن نخصه بشيء من العناية والتقدير؛ فإن النقوش الآشورية التي استكشفت حديثا، ونقلها إلى العالم الإنجليزي أعلام من أمثال لايارد وجورج سميث وسايس وغيرهم، لترينا أنه قد تغلغلت في تضاعيف الأديان الكلدانية والبابلية قصة في حقيقة الخلق من أهم مزاياها وأخطر وقائعها، إنها لا بد من أن تكون النواة التي فرخت منها تلك القصص التي نقع عليها في كتبنا المقدسة. ولقد ظهر بأجلى بيان أن تلك الفكرات التي تشغل أعلى مكانة في أسفار العبرانيين، قد استمدت من ذلك النبع الذي فاض على المدنيات الكلدانية البابلية والآشورية والفينيقية بتلك القصص التي وضعت في حقيقة خلق العالم.
ففي تينك القصتين اللتين تخالطتا في سفر التكوين، وفي تلك الرواية التي يمكن أن يستدل عليها بأشياء في سفر «أيوب»
Job ، يتمثل لك بكل ما يستطاع أن تتخيل من العظمة والقدرة، نفس ذلك التصور في حقيقة الخالق والخلق، وهو تصور خليق بالمدنية؛ إذ هي أبعد في مهد طفولتها وغرارتها، فيبرز لك الخالق في صورة بشرية مكبرة، وهو يكد في العمل بأطرافه ويمثل لك الخلق «مصنوعا بيده». ولقد نشأ - تعقيبا على هذا التصور - اعتقاد في الخالق، على أنه شخص بعد أن «قذف من راحة يده إلى الفضاء بكل السيارات لتجوب أنحاء المكان»، جلس في العلاء فوق العرش المستقر «على فلك السماء»، جادا أبدا في أن يحكم سيرها ويهديها طريقها.
अज्ञात पृष्ठ
وبعد أن يستطرد العلامة «وايت» في وصف كيفية الخلق والمادة التي خلق منها، يعود إلى الكلام في الخلاف على الزمان الذي خلق فيه العالم فيقول:
إن سلسلة الجهود الطويلة التي بذلها رجال خصوا بأوسع المدارك وأرجح الأحلام من إيوسيبيوس إلى يوشر، في سبيل تحديد التاريخ الذي وقع فيه الخلق، قد تركت الكلام فيه لفصل آخر،
2
ويكفي هنا أن نذكر أن النتيجة الأخيرة التي وصلت إليها الأغلبية العظمى ممن يعتبرون من أقدر الذين أكبوا على درس الأقوال التي جاءت في الكتاب المقدس، قد أسلمت إلى القول بأن الخلق قد وقع في زمان تعد سنوه بعدد عشري، ويقع حوالي سنة 4000ق.م.
وفي القرن السابع عشر ذكر الدكتور «جون ليتفوت» - وكيل جامعة كمبردج ومن أشهر من نبغ ممن درسوا العبرانيات - أن نتيجة أبحاثه القصية المستفيضة في التوراة والإنجيل قد أدت به إلى حقيقة أن «السماء والأرض، والمحيط والمركز قد خلقن معا، وفي وقت واحد؛ حيث كان الغمام الكثيف مملوءا بالماء، وأن هذا العمل قد وقع، وأن الإنسان قد خلق بقدرة الثالوث الأقدس، في 23 أكتوبر سنة 4004 قبل الميلاد؛ حيث كانت الساعة التاسعة من الصباح.»
وكان هذا انتصارا لأسلوب «لاكتانتيوس»، وهو نتيجة الدرس العميق في الإنجيل والتوراة مئات من السنين. وغاية لجهد الفكرة اللاهوتية منذ أن ظهر «بيده» في القرن الثامن إلى زمان «فنسنت بوفييه»؛ حيث أعلن في القرن الثالث عشر أن الخلق لا بد من أن يكون قد وقع في فصل الربيع. لكن وا أسفاه! فإنه لم يمض قرنان على ما بذل دكتور «ليتفوت» من جهد في درس العبارات المنزلة ليستخلص منها حقائق يحدد بها ساعة الخلق وتاريخه، حتى استكشف الباحثون أنه في تلك الساعة التي حددها هذا اللاهوتي، كانت أمة من أرقى الأمم مدنية وأمثلهن تهذيبا، رافلة في أبهى حلة خلعتها الحضارات على الأمم في الأزمان القديمة، بل كانت منذ عهد عهيد تجوب أنحاء العواصم المشيدة في مصر على ضفاف النيل، وأن أمما أخرى لا تكاد تقل عن هذه مدنية وعلما، قد بلغن درجة خطيرة من النشوء والارتقاء تحت سماء آسيا.
هذا ملخص أولي من رأي الباحثين في أصل الروايات المقدسة ، على أن علم مقارنة الأديان قد زودنا بالكثير من دقائق الشبه الواقعة بين كثير من الروايات المتناثرة في الكتب الدينية؛ لهذا نعمد إلى المقارنة بين الروايات الثلاث التي نعثر عليها في القرآن والتوراة وألواح بابل وآشور خاصة بسيرة نوح؛ لنستخلص من هذه المقارنة قاعدة نبني عليها حكما صحيحا في أصل هذه الروايات ومنشئها. ويحسن بنا أن ننقل هذه الروايات كما أثبتت في القرآن والتوراة، ونترجم ما يختص بها في ألواح بابل، ثم نمضي بعد ذلك في المقارنة العلمية. (1) الطوفان في القرآن
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين * أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم * فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين * قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون * ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون * ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون * ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين * قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين * ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون * أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون * وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون * واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون * ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم * حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل * وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم * وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين * وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين * ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين * قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين * قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين * قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم * تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين (هود).
إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم * قال يا قوم إني لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون * يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون * قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا * فلم يزدهم دعائي إلا فرارا * وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا * ثم إني دعوتهم جهارا * ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا * فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا * ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطوارا * ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا * والله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا * والله جعل لكم الأرض بساطا * لتسلكوا منها سبلا فجاجا * قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا * ومكروا مكرا كبارا * وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا * وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا * مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا * وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا * رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا (نوح).
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون * فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين (العنكبوت).
अज्ञात पृष्ठ
كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد (ص).
إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية * لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية (الحاقة).
كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر * فدعا ربه أني مغلوب فانتصر * ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر * وحملناه على ذات ألواح ودسر * تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر * ولقد تركناها آية فهل من مدكر * فكيف كان عذابي ونذر (القمر). (2) الطوفان في التوراة عن سفر التكوين
الإصحاح السادس
وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات؛ فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا، فقال الرب: لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد، لزيغانه هو بشر، وتكون أيامه مائة وعشرين سنة. كان في الأرض طغاة في تلك الأيام، وبعد ذلك أيضا إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا، هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم.
ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه، وإنما هو شرير كل يوم، فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف في قلبه. فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء؛ لأني حزنت أني عملتهم، وأما نوح فوجد نعمة في عيني الرب.
هذه مواليد نوح: كان نوح رجلا بارا كاملا في أجياله. وسار نوح مع الله، وولد نوح ثلاثة بنين: سام وحام ويافث. وفسدت الأرض أمام الله وامتلأت الأرض ظلما، ورأى الله الأرض فإذا هي قد فسدت؛ إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه على الأرض.
فقال الله لنوح: نهاية كل بشر قد أتت أمامي؛ لأن الأرض امتلأت ظلما منهم. فها أنا مهلكهم مع الأرض. اصنع لنفسك فلكا من خشب جفر، تجعل الفلك مساكن، وتطليه من داخل ومن خارج بالقار، وهكذا تصنعه. ثلاثمائة ذراع يكون طول الفلك، وخمسين ذراعا عرضه، وثلاثين ذراعا ارتفاعه، وتصنع كوا للفلك وتكمله إلى حد ذراع من فوق، وتصنع باب الفلك في جانبه، مساكن سفلية ومتوسطة وعلوية تجعله. فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء. كل ما في الأرض يموت، ولكن أقيم عهدي معك، فتدخل الفلك أنت وبنوك وامرأتك ونساء بنيك معك، ومن كل حي من كل ذي جسد اثنين من كل تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكرا وأنثى؛ من الطيور كأجناسها، ومن البهائم كأجناسها، ومن كل دبابات الأرض كأجناسها، اثنين من كل تدخل إليك لاستبقائها، وأنت فخذ لنفسك من كل طعام يؤكل واجمعه عندك. فيكون لك ولها طعاما. ففعل نوح حسب كل ما أمره به الله، هكذا فعل.
الإصحاح السابع
وقال الرب لنوح: ادخل أنت وجميع بنيك إلى الفلك؛ لأني إياك رأيت بارا لدي في هذا الجيل. من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرا وأنثى، ومن البهائم التي ليست بطاهرة اثنين: ذكرا وأنثى، ومن طيور السماء أيضا سبعة سبعة: ذكرا وأنثى. لاستبقاء نسل على وجه الأرض؛ لأني بعد سبعة أيام أيضا أمطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة، وأمحو عن وجه الأرض كل قائم عملته؛ ففعل نوح حسب كل ما أمره به الرب.
अज्ञात पृष्ठ
ولما كان نوح ابن ستمائة سنة صار طوفان الماء على الأرض، فدخل نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه إلى الفلك من وجه مياه الطوفان ومن البهائم الطاهرة والبهائم التي ليست بطاهرة، ومن الطيور وكل ما يدب على الأرض دخل اثنان اثنان إلى نوح إلى الفلك، ذكرا وأنثى، كما أمر الله نوحا.
وحدث بعد السبعة الأيام أن مياه الطوفان صارت على الأرض في سنة ستمائة من حياة نوح، في الشهر الثانى، في اليوم السابع عشر من الشهر. في ذلك اليوم انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم، وانفتحت طاقات السماء، وكان المطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة. في ذلك اليوم عينه دخل نوح، وسام وحام ويافث بنو نوح، وامرأة نوح، وثلاث نساء بنيه معهم إلى الفلك، هم وكل الوحوش كأجناسها، وكل البهائم كأجناسها، وكل الدبابات التي تدب على الأرض كأجناسها، وكل الطيور كأجناسها: كل عصفور، كل ذي جناح ودخلت إلى نوح إلى الفلك اثنين اثنين من كل جسد فيه روح حياة، والداخلات دخلت ذكرا وأنثى من كل ذي جسد، كما أمره الله، وأغلق الرب عليه.
وكان الطوفان أربعين يوما على الأرض، وتكاثرت المياه ورفعت الفلك، فارتفع عن الأرض، وتعاظمت المياه وتكاثرت جدا على الأرض، فكان الفلك يسير على وجه المياه، وتعاظمت المياه كثيرا جدا على الأرض، فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل السماء خمس عشرة ذراعا في الارتفاع، تعاظمت المياه فتغطت الجبال؛ فمات كل ذي جسد كان يدب على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش، وكل الزحافات التي كانت تزحف على الأرض، وجميع الناس. كل ما في أنفه نسمة روح حياة من كل ما في اليابسة مات، فمحا الله كل قائم كان على وجه الأرض: الناس، والبهائم، والدبابات، وطيور السماء، فانمحت من الأرض، وتبقى نوح والذين معه في الفلك فقط، وتعاظمت المياه على الأرض مائة وخمسين يوما.
الإصحاح الثامن
ثم ذكر الله نوحا وكل الوحوش وكل البهائم التي معه في الفلك، وأجاز الله ريحا على الأرض؛ فهدأت المياه وانسدت ينابيع الغمر وطاقات السماء، فامتنع المطر من السماء، ورجعت المياه عن الأرض رجوعا متواليا. وبعد مائة وخمسين يوما نقصت المياه، واستقر الفلك في الشهر السابع، في اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أراراط. وكانت المياه تنقص نقصا متواليا إلى الشهر العاشر، وفي العاشر من أول الشهر ظهرت رءوس الجبال.
وحدث بعد أربعين يوما أن نوحا فتح طاقة الفلك التي كان قد عملها وأرسل الغراب، فخرج مترددا حتى نشفت المياه عن الأرض، ثم أرسل الحمامة من عنده ليرى هل قلت المياه عن وجه الأرض فلم تجد الحمامة مقرا لرجلها، فرجعت إليه إلى الفلك، فلبث أيضا سبعة أيام أخر، وعاد فأرسل الحمامة من الفلك فأتت إليه الحمامة عند المساء، وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها، فعلم نوح أن المياه قد قلت عن الأرض، فلبث أيضا سبعة أيام أخر وأرسل الحمامة فلم تعد ترجع إليه أيضا.
وكلم الله نوحا قائلا: اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك وكل الحيوانات التي معك من كل ذي جسد: الطيور، والبهائم، وكل الدبابات التي تدب على الأرض، أخرجها معك، ولتتوالد في الأرض وتثمر وتكثر على الأرض، فخرج نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه وكل الحيوانات، كل الدبابات وكل الطيور، كل ما يدب على الأرض كأنواعها خرجت من الفلك.
وبنى نوح مذبحا للرب، وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور، وأصعد محرقات على المذبح، فتنسم الرب رائحة الرضا. وقال الرب في قلبه: «لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان؛ لأنه تصور قلب الإنسان شريرا منذ حداثته. ولا أعود أيضا أميت كل حي كما فعلت مدة كل على الأرض: زرع وحصاد ، وبرد وحر، وصيف وشتاء، ونهار وليل، لا تزال.»
الإصحاح التاسع
وبارك الله نوحا وبنيه وقال لهم: أثمروا واملئوا الأرض، ولتكن خشيتكم ورهبتكم على كل حيوانات الأرض وكل طيور السماء، مع كل ما يدب على الأرض، وكل أسماك البحر، قد رفعت إلي أيديكم كل دابة حية تكون لكم طعاما، كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع، غير أن لحما بحياته، دمه، لا تأكلوه، وأطلب أنا دمكم لأنفسكم، من يد كل حيوان أطلبه، ومن يد الإنسان أطلب نفس الإنسان، من يد الإنسان أخيه، سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه؛ لأن الله على صورته عمل الإنسان، فأثمروا أنتم وأكثروا وتوالدوا في الأرض وتكاثروا فيها.
अज्ञात पृष्ठ
وكلم الله نوحا وبنيه معه قائلا: وها أنا مقيم ميثاقي معكم ومعه نسلكم من بعدكم، ومع كل ذوات الأنفس الحية التي معكم: الطيور والبهائم وكل وحوش الأرض التي معكم، من جميع الخارجين من الفلك حتى كل حيوان الأرض، أقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كل ذي جسد أيضا بمياه الطوفان، ولا يكون أيضا طوفان ليخرب الأرض. وقال الله: هذه علامة الميثاق الذي أنا واضعه بيني وبينكم، وبين كل ذوات الأنفس الحية التي معكم إلى أجيال الدهر، وضعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض، فيكون متى نشر سحابا على الأرض، وتظهر القوس في السحاب. إني أذكر ميثاقي الذي بيني وبينكم وبين كل نفس حية في كل جسد، فلا تكون أيضا المياه طوفانا لتهلك كل ذي جسد. فمتى كانت القوس في السحاب أبصرها لأذكر ميثاقا أبديا بين الله وبين كل نفس حية في كل جسد على الأرض. وقال الله لنوح: هذه علامة الميثاق الذي أنا أقمته بيني وبين كل ذي جسد على الأرض.
وكان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك ساما وحاما ويافثا، وحام هو أبو كنعان، وهؤلاء الثلاثة هم بنو نوح، ومن هؤلاء تشعبت كل الأرض.
وابتدأ نوح يكون فلاحا، وغرس كرما، وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه؛ فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجا، فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء، وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيهما، فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير، فقال: ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته، وقال: مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبدا لهم ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبدا لهم.
وعاش نوح بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة، فكانت كل أيام نوح تسعمائة وخمسين سنة، ومات. (3) الطوفان في أساطير آشور وبابل
أسطورة الطوفان في ألواح بابل وآشور قسم من قصة حماسية بطلها شخص يدعى «غلغامش»
Gilgamesh ، منقوشة بالخط المسماري في اثني عشر لوحا. وتعتبر قصة «غلغامش» الشعرية في صف واحد مع قصة الخلق البابلية من حيث القيمة الأدبية بين كل ما خلف أهل بابل من الآثار. أما عناصرها المكونة لها فجمع بين كثير من المادة الميثولوجية استمدت من منابع كثيرة. ويجوز أن يكون لها أصل تاريخي تعود إليه نشأتها، ومن مجموع المادة الميثولوجية وتلك الأصول التي يرجح البعض أن القصة ترتكز عليها، نسجت هذه الأسطورة فأصبحت قصة واحدة مؤتلفة الوقائع والحوادث، وكلها تدور حول البطل «غلغامش» أمير «أرك»
Erech . أما المرجع الذي استمد منه الباحثون أصول هذه القصة فهو على الأخص بقايا الألواح المشوهة التي عثر عليها في مكتبة «آشور بانبال»
Assur bani-pal ، غير أن كثيرا من الشواهد والملاحظات التي عثر عليها الأرخيولوجيون تدل على أن بعض تقاليد هذه القصة على الأقل، إن لم تكن كلها إنما ترجع إلى عهد أبعد بكثير من عهد «آشور بانبال»؛ فإنك تجد مثلا أن لوحا يرجع تاريخه إلى 2100 سنة ق.م يحتوي على قصة في الطوفان هي بذاتها التي أدمجت في قصة «غلغامش»، وذكرت في اللوح الحادي عشر من ألواحها. والراجح أن هذه القطعة وغيرها من المقاطع التي تتكون منها هذه الأسطورة قد تنوقلت بالرواية التقليدية أزمانا طويلة قبل أن تنقش على هذه الألواح؛ أي إنها ترجع إلى العهد السومراني
Sumerian Period .
كان «آشور بانبال» من أكثر الملوك عناية بالأدب ومن حماة الثقافة، فقد جمع في مكتبته العظيمة بمدينة «نينوه »
अज्ञात पृष्ठ
Nineveh ، (وهي المكتبة التي نقل نواتها الملك «سنكريب»
Senanchrib
من بلدة كالح
Cala ) خزانة عظيمة من المجلدات والألواح الكلسية وأوراق البردي، نقل معظمها كغنائم حربية من البلاد التي غزاها، واستأجر النساخ لينقلوا له صورا من المتون القديمة، وإلى هذه الطريقة على ما يظهر يرجع السبب في تسطير قصة «غلغامش» الشعرية. ولقد يظهر من القطع والأجزاء المحفوظة الآن في دار العاديات الإنجليزية أن أربع نسخ من هذه القصة على الأقل قد نقلت في عصر «آشور بانبال»، غير أن الحوادث لم تبق على هذه النسخ من غير أن تتناولها بالتبديد والتخريب؛ فإن الإمبراطورية الآشورية كانت آخذة في سبيل الفساد والانحلال بسرعة. ولم يمض زمن طويل حتى سقطت «نينوه» وتبددت مكتبتها الكبرى، في حين أن المغتنمين قد أحرقوا لفائف البردي، ودفنوا الألواح الكلسية مع أنقاض القصر الذي كان يحويها.
وهنالك ظلت هذه الألواح ألفين من السنين حتى أدركها سير أ. ه. لايارد ومستر جورج سميث بتقنياتهما، فأخرجاها إلى الناس مرة أخرى. ولا مراء في أن الألواح الاثني عشر التي تتضمن قصة «غلغامش» (أو أجزاءها الباقية منها والتي استكشفت حتى الآن) مشوهة تشويها كبيرا. فقد تجد أن معنى فقرة برمتها قد غمض وتعذر فهمه بفجوة حادثة في المتن الأصلي. ولا جرم أن مثل هذه الفجوات ليست بالشيء التافه عند الذين يريدون أن يدرسوا الأساطير الميثولوجية درسا وافيا، ويقفوا على تفاصيلها بدقة تفي بأغراض البحث العلمي. غير أنه على الرغم من كل هذا، فإن علم مقارنة الأديان قد تقدم في العهد الأخير إلى درجة أصبحنا معها أقدر على أن ندرك من أهمية هذه القصة الشعرية الميثولوجية، وأن نقرأها بدقة لم يبلغها البابليون أنفسهم؛ لأنهم لم يعرفوا من هذه القصة إلا أنها مجرد رواية للمخاطرات والأفعال العظيمة التي قام بها أحد أبطالها.
إن القصة الشعرية التي تدور حوادثها حول مدينة «أريخ»، قد سيقت في مخاطرات بطل نصف إنسان ونصف إله يدعى «غلغامش»، كان ملكا في تلك المدينة. وفي القصة شخصيتان أخريان هما: شخصية «إيباني »
Eabani ، وهي الشخصية التي تمثل الإنسان البدائي على الأرجح، وشخصية «أوت-نابشتيم»
Ut-napishtim
بطل رواية الطوفان البابلية. ويرجح أن كلا من هؤلاء الأبطال الثلاثة كان محور مجموعة من الأساطير التقليدية، تدامجت بعضها في بعض مع مضي الزمان، بطريقة ما من الطرق، وعلى أسلوب غير بين تماما.
أما أكثر شخصيات هذا الثالوث أهمية وأولهم من حيث القيمة فالبطل «غلغامش»، ولا يبعد أن يكون شخصا حقيقيا عاش خلال عصر من عصور بابل، غير أنه ليس لدينا من التاريخ الثابت ما يؤيد هذا الزعم، كما أنه يحتمل أن تكون مجازفات أحد ملوك مدينة «أرك» في العصور القديمة قد اتخذت نواة بنيت عليها هذه القصة. أما اسمه فقد نطقه الباحثون «غزدبوبار»
अज्ञात पृष्ठ
Gisdbubar
أو «إزدوبار»
Izdubar ، غير أنه قد عرف الآن أنه كان ينطق «غلغامش»
Gilgamesh
كما حقق ذلك العلامة «بنشيز»
. أما الاسم فلا يدل على أنه كان «بابلي» الأصل، بل يرجح أنه كان «عدلامي»
Elamite
أو «قسي»
Kassite
أصلا ودما. ويتضح من بعض الإشارات التي يعثر عليها في الألواح أنه غزا «أرك» (أو أنه أنقذ المدينة من جيش محاصر لها)، عند بدء مخاطراته التي تتكون منها الأسطورة، وزعم البعض أنه بذاته «النمرود» الذي ذكرته الأناجيل، وهو كالآخر بطل من أبطال بابل القديمة. غير أن هذا الزعم لا يقوم على أدلة مقنعة.
अज्ञात पृष्ठ