68

नफ़्स की कहानी

قصة نفس

शैलियों

ولقد ظهر الفارق بيني وبين الصنوين الآخرين بصورة أجلى في الزواج؛ أما الأحدب فقد جمد عند حبه لسميرة التي أشعلت في قلبه الجذوة عندما كان في مرحلة المراهقة، وكان كلاهما - سميرة والأحدب - في تلك المرحلة من العمر على سذاجة ريفية أو ما يشبهها؛ أما هي فقد عاشت بقية عمرها على تلك البساطة الأولى، لم تدعها ظروف حياتها إلى أن تغير منها شيئا؛ وأما هو فقد ارتفع درجات في السلم الثقافي، ولكنه بالنسبة إلى الجنس الآخر ظل على بساطة الفطرة التي كان عليها عندما أشعلت له سميرة النار.

وأما إبراهيم فليس له قلب يسيره، ولست أدري من أمر زواجه شيئا، ولكنني على يقين من الطريقة التي يواجه بها شئون الحياة كافة - جنسا وغير جنس - فهو إذا ما أراد امرأة تشاركه الطريق، لجأ إلى عقله ليصور له تركيبة ذهنية لامرأة قد لا يكون لها وجود، وعاش مع ذلك الوهم الذهني؛ إنه رجل بضاعته أفكار وتصورات يراعي في تكوينها ما يظن أنه الكمال، ثم يقنع من دنياه بهذا القدر.

وأما أنا فقد أنعم الله علي بكثير جدا من نعم الدنيا ، وكان أجلها زوجة ربط بيني وبينها كل الروابط التي تربط رجلا وامرأة على حب ورحمة ومودة؛ فقد وجدت معها نفسي بكل حروفها، من الألف إلى الياء؛ إذا كنت في إحدى لحظات العقل وجدت معي عقلا يشارك؛ وإذا كنت في نشوة من شعر قرأته أو قطعة فنية شهدتها، وجدت ذوقا فنيا يستجيب؛ وإذا غمرتني موجة من شئون الحياة العملية، وجدت من يحمل معي العبء، أو يحمل عني معظم العبء؛ وإذا أخذني غرور بموقف وقفته أو بشيء كتبته، وجدت من يشبع في نفسي الضعيفة أوهام الغرور؛ إنها تستطيع أن تكون لي مجتمعا بأسره.

وبهذا التكامل النادر بين شخوصنا الثلاثة، اكتملت «نفس» فروى الراوي «قصتها» مجتزئا من بحر الأحداث في حياتها بما يقدم للرائي صورة أو ما يشبه الصورة.

الفصل التاسع

شفق الغروب

كنا نحن الثلاثة الرفقاء؛ أنا (فوزي الراوي) والأحدب (رياض عطا) وإبراهيم الخولي، متقاربين في العمر، فلم يكن الذي يفرق بيننا هو التفاوت في عدد السنين، بل كان اختلافنا في الطبائع؛ أما أنا فقد كنت دونهما معا، أسلك نفسي في قوالب المجتمع بمعظم تقاليده وأعرافه؛ ولذلك كنت أكثر منهما هدوء نفس وراحة بال؛ وأما رياض عطا (الأحدب) باشتعال عواطفه، وإبراهيم الخولي ببرودة عقلانيته، فقد كانا على طرفي نقيض أحدهما من الآخر، ولكنهما كانا معا ينبوان عما يرضى عنه جمهور الناس.

لم نكد نحن الثلاثة نعبر الستين من أعمارنا، حتى حدث اختلاف ظاهر في الصورة التي كانت تجمعنا معا قبل ذلك في ثالوث واحد؛ وبيان ذلك أني جمدت على الطريق أسلك في حياتي العملية على نحو ما تسلك الكثرة الغالبة من الناس، داخل البيت وخارج البيت، وفي حدود أسرتي وخارج تلك الحدود؛ وأما زميلاي الآخران، فالأمر معهما مختلف عن ذلك اختلافا بعيدا، وكأني بهما - وا عجباه - يقتربان أحدهما من الآخر، اقترابا أشك أن يكون دمجا لهما معا في هوية واحدة، بعد أن كانا مختلفين اختلاف العاطفة الساخنة والعقل المثلوج؛ وكيف كان ذلك؟ لقد عهدت كلا منهما كاتبا؛ فأما الأحدب فقد عهدته يكتب وكأنه ينفث اللهيب من قلمه؛ وأما إبراهيم فعرفته باسطا لأفكار العقل بمنطق خالص، فلما أدفأته حرارة الوجدان؛ وأما بعد أن بلغا من العمر ما بلغا، فقد صار الأحدب أقل عاطفة وأكثر منطقا، كما صار إبراهيم أقل منطقا وأكثر عاطفة، فتشابه الكاتبان حتى كدت لا أميز بينهما؛ فأقرأ المقالة أو الكتاب لأحدهما فأظنه للآخر، إلا أن أرجع ببصري إلى اسم الكاتب فأعرف لأيهما أقرأ، ولهذا فإني في روايتي هذه عنهما في هذا الفصل الأخير، سأتجاهل أنهما اثنان، وسأتحدث عنهما وكأنهما رجل واحد امتزجت على قلمه العاطفة والفكرة في كيان واحد.

ولكل سيرة نقطة ابتداء، ونقطة البدء في سيرة صاحبنا الجديد - ولنطلق عليه اسم إبراهيم الأحدب إذا شئنا - كانت هي اللحظة التي روى لي عنها إبراهيم عندما كان يلقي على طلابه محاضرة. كان يعلم - وطلابه لا يعلمون - أنها هي المحاضرة الأخيرة في حياته العاملة بالجامعة. كان ذلك في الأيام الأولى من شهر مايو، الذي لم يعد بعده إلا شهر واحد، ثم يحذف اسمه من قائمة هيئة التدريس لبلوغه سن التقاعد، كما جرى العرف أن يسموه. كان إبراهيم في تلك المحاضرة الأخيرة أشبه بالروائي جيمس جويس وهو يكتب رواية يوليسيز، فينظر إلى ما يدور حوله مرة، ويغوص إلى باطن نفسه مرة، حتى اختلط الأمر بين ظاهر وباطن، فهكذا كان إبراهيم عندئذ، يحصر ذهنه في الفكرة التي يعرضها على الطلاب حتى لا يلتاث معه القول وتضطرب العبارة، لكنه لم يستطع برغم ذلك إلا أن يغوص داخل نفسه ليحس الرجفة الخفية التي كانت تسري بين أوصاله، لعلمه بأنه قد أشرف بحياته النشيطة العاملة على نهايتها، وكأنه كان لا يصدق أن ستين عاما من عمره قد انقضت.

نعم إن الجامعة قد سارعت - مشكورة - فأرسلت إليه مع الخطاب الذي تعلنه فيه بانقضاء عهدها معه أستاذا في قائمة الأساتذة، خطابا آخر تنبه فيه بأنها تحرص على بقائه في ساحتها؛ ولذلك فقد عينته أستاذا غير متفرع، لكن هذه الرابطة بكل ما فيها من خير لم تعد هي الرابطة التي كانت؛ فلقد أراد إبراهيم ذات يوم أن يسترد من الجامعة شهادة الدكتوراه لأنها كانت مطلوبة في ظرف ما، فأحالوه إلى مخزن بإدارة الجامعة خزنت فيه ملفات العاملين، وهناك طلب من الموظف المسئول استرداد تلك الوثيقة مؤقتا، فما كان من الموظف إلا أن جاء له بملف أوراقه، وفتحه أمامه وقال: خذ من أوراقك ما شئت، خذها كلها إذا أردت، فلم يعد بين الجامعة وبينك من صلة؛ لم تعد أوراقك هذه مطلوبة لنا، اللهم إلا ورقة واحدة، هي شهادة الميلاد، وقد أخذناها بالفعل وأرسلناها إلى حيث ينبغي لها أن ترسل.

अज्ञात पृष्ठ