65

नफ़्स की कहानी

قصة نفس

शैलियों

وكذلك مما يميز الأحدب من إبراهيم، أن إبراهيم إذا جاءه النقد أو جاءته إهانة أو استهانة من آخرين، فإن المرجح لشخصيته أن ينظر إلى الأمر بينه وبين نفسه بشيء من الإنصاف، ليرى إذا كان الآخرون على حق فيما قالوه أو فعلوه أو كانوا على باطل؛ وأما الأحدب فإذا أوذي كان الأرجح عنده أن يتوجه إلى نفسه باللوم والتقريع؛ اعتبارا منه بأن نفسه تلك لا بد أن تكون معيبة على النحو الذي أوحى للآخرين بما أوحى من ضروب الإيذاء؛ إنه نوع من الرغبة الدفينة في نفس الإنسان يريد أن ينزل على نفسه العذاب والألم، وهي رغبة تتفاوت عند الناس ضعفا وقوة، ويبدو أن للأحدب منها نصيبا موفورا. ... هذه هي نفسي أضعها أمامك عارية؛ لن أستحي مني مكنونها وخبيئها مهما يكن خبيثا، فكل الناس هذا الخبيث، لكن الرياء يستر ويخفي؛ رأيت ظهر اليوم غلاما أمام الدار يلعب «بالنحلة» فيلف طرف الخيط حول نحلته الخشبية، ثم يقذف بها، فتدور النحلة على سنها فوق بلاط الإفريز دورانا شديدا، لكن الغلام يخشى على دورانها الفتور والضعف، فيظل يضربها بعذبة سوطه ضربا متلاحقا، حتى تدور ولا تكف عن الدوران، وعدت إلى مجلسي من الدار، فما هي إلا أن تنزو بنفسي الخواطر المثيرة؛ إذ صورت لنفسي فلانا وقد قذف بي على الأرض قذف الغلام لنحلته، وراح يلهبني بعذابات سياطه حتى أدور ولا أكف عن الدوران لنفعه هو ولا عليه بعد ذلك أن أتعب وأدوخ ... إنني تلك النحلة الدائرة لمتعة اللاعبين، أضرب بالسياط لئلا أكف ... أطلقت خواطري متلاحقة سوداء قاتمة، كأنها أسراب الغربان تحوم في الهواء ... رأيت الناس معذبا بعضهم بعضا؛ كذب ونفاق هذا الذي يكتبونه في الكتب، ويعظون به في المحافل، من أن الإنسان يريد لنفسه ولغيره الراحة والخير ... وخطر لي خاطر عجيب، وهو أن أمزق كتبا عندي تمتلئ صفحاتها بمثل هذا الكذب ...

كان شعور الأحدب بالعزلة موحشا في كثير من الأحيان، حتى ليحس كأنما هو وحده مهما يكن حوله من كثافة الزحام، ومن يلحظ نفوره من الناس - ونفور الناس منه أحيانا تبعا لذلك - ثم من يتعقب كتاباته، يقع على إشارات كثيرة تشير إلى بعض الأسباب التي أدت به إلى ذلك، وهي أسباب يرجع بعضها إلى أيام الطفولة الباكرة، لكن بعضها الآخر يشير إلى أحداث وقعت له على امتداد سيرة حياته، وفيما يلي أسطر مقتبسة من مقالة كتبها، وأرسل نفسه فيها على سجيتها، وتتبع خواطره في مجرى شعوره الباطني كما وردت، لا يربطها إلا الروابط التي تصل الأجزاء المتتابعة في أحلام اليقظة، قال: ... لقد حز في نفسي أن يكلمني «ع» وهو يركب السيارة كأنما هو يخاطب حفنة من هواء ... لماذا لم أحسم الأمر حين ازورت بوجهها أول مرة؟ أقسمت لي أنها لا تضمر السوء، وصدقتها؛ كنت أخشى دائما أن أسيء إليها، فكيلت لي الإساءة لطمات بعد لطمات. كانت غاية في الرشاقة حينما رأيتها، لماذا خفق قلبي لها وما كان ينبغي له أن يفعل؟ يا بني لا تتحدث حديث القلب؛ فهذه لغة الشباب ولم تعد شابا، ألا ما أشد غرورها؛ ليتني أجد الشجاعة عندي فأسيء إلى من يسيئون إلي بمثل ما أساءوا ... كانت نغمة كلامها في التليفون أخاذة، لكنها إبليس في صورة البشر؛ إنها الشر كله في صورة إنسان؛ إني لأعجب كيف يكون هذا الشر كله في هذه الرقة كلها؛ آه لو رددت الإساءة بإساءة مثلها، إذن لما عانيت شيئا من لذع الضمير الذي يؤرقني ويعذبني؛ حسبوني أبله ساذجا، هم مخطئون، لئن أكن قد أمسكت عن الردود الصحيحة في المواقف المختلفة، فما ذاك إلا حياء، لم يكن بلاهة ولا سذاجة، إن الماضي لا يعود، وجرحك سيظل إلى موتك داميا ...

قلت لنفسي وأنا أقرأ للأحدب هذه المقالات: هذان - إذن - عاملان أثارا في المسكين كوامن نفسه، فألحقا به من الإحساس بالصغر ما كانت نشأته قد هيأت له الجو والتربة، فما على الظروف بعدئذ إلى أن تلقي ببذرة فتنمو في نفسه وتورق بين يوم وليلة، وهذه هي الظروف قد ألقت بذرتين لا بذرة واحدة، فلا أرباب القلم الذين قبلوه كاتبا قد أكرموه إنسانا، ولا هذه الفتاة التي يشير إليها والتي قد قبلته إنسانا قد قبلته رجلا ...

لقد راجعت بنفسي كثيرا جدا مما كتبه الأحدب، لعلي أقع على بينات تكشف عما يتعلق به اهتمامه ويحفزه ويثيره، وأحسب أن فكرة «العدل» ربما جاءت عنده في المقام الأول، أو قل إنه لا يسبقها في رأيه إلا «الحرية»؛ فهذا الرجل المنزوي في ركن معتم، والمنطوي على نفسه انطواء يوشك أن يغلق كل نافذة قد تصله بالضوء والهواء، يثور ثورة عارمة إذا ما مسه - أو مس أحدا يقع في دائرة اهتمامه - شيء من الغبن، كأنما هو يتوقع من البشر أن ينصبوا موازين لا يفلت من دقتها مثقال ذرة، ولما كان الإجحاف في حياتنا الجارية أمرا مألوفا وشائبا، حتى لتستطيع أن تعده جزءا من كياننا الاجتماعي؛ فالظالم لا يكاد يحس أنه ظالم، والمظلوم يعلم مقدما أنه سيصبح مظلوما بين كل عشية وضحاها؛ أقول: إنه لما كان هذا يشبه أن يكون جزءا من نسيج حياتنا، رأيت الأحدب يتعرض لانفعالاته الحادة كل يوم، ولا يعرف قلمه كيف يكتب إلا أن يكشف عن هذه الثقوب والعيوب التي لا تغمض العين لحظة إلا لتنفتح على ثقب هنا وعيب هناك.

على أن جانبا معينا من جوانب الظلم الذي يكتنف حياتنا، يشغل باله أكثر من سواه بدرجة ملحوظة، ألا وهو قسمة الحظوظ في دنيا المثقفين عندنا؛ فالمشهد كما يراه الأحدب هو أن الريادة الثقافية تتناسب تناسبا عكسيا مع الإنتاج الثقافي، فإذا كان الإنتاج صفرا عند زيد كان مرجحا أن يكون هو الكاهن الأعلى، وإذا كان الإنتاج متلاحقا وغزيرا عند عمرو، فالأغلب أن يوضع عمرو بين «الأنفار» و«الفعلة» يؤمر ولا يأمر؛ وبين تلك القمة الصفرية العليا، وهذه القاعدة السفلى من الفاعلين العاملين، يتدرج المثقفون درجات على الأساس السابق نفسه. وإني لأبيح لنفسي أن أضع بين يدي القارئ قطعة أدبية كتبها الأحدب في هذا المعنى، وعنوانها «قرصنة في بحر الثقافة» لأني أراها رائعة من روائعه:

لم أكد أصدق سمعي، حين أخذ صديقي عالم الآثار المصرية يقرأ لي نصا قديما من لفائفه البردية، كتبه كاتبه فيما يقرب من القرن الحادي عشر قبل الميلاد، ليصف به حياة الثقافة والمثقفين في عصره، وصفا لو أزلت منه أسماء الأعلام ومعالم الأحداث، لتضع مكانها أسماء المعاصرين وأحداثهم، لظننته قد كتب عن عصرنا الراهن هذا بعلمائه وأدبائه، نعم، لم أكد أصدق سمعي؛ لأنني وقد كنت أعلم أن خصائص الشعوب تخترق حجاب الزمن، فتصل حاضر الشعب بماضيه، لم أكن أعلم، مع ذلك، أن هذه الخصائص العنيدة المكافحة في سبيل بقائها تمتد رقعتها وتتسع لتشمل صفات كنت أحسبها من التوافه التي تظهر وتختفي مرهونة بظروفها؛ فليس عجيبا أن يجيء الأحفاد أشباها لأجدادهم في احتفالات الميلاد وفي شعائر الموت؛ لأن هذه أمور موصولة بشرايين الحياة نفسها؛ أما أن يتشابه أولئك بهؤلاء في الطرق التي يتخاطف بها العلماء والأدباء ثمرات جهودهم، بحيث يكون الحاصدون أناسا غير الزارعين، فذلك حقا هو موضع العجب؛ لأنه من التوافه التي لم يكن ليجدر بالزمن الوقور الجليل أن يخطفها ويصونها لتنتقل على ظهور الأجيال من الجد إلى الحفيد.

وكاتب البردية التي أخذ صديقي عالم الآثار يفك لي رموزها، هو كاهن من معبد آمون في مدينة طيبة، والظاهر أنه كان ذا مكانة مرموقة بين كهنة المعبد؛ لأنه يتحدث حديث الواثق بنفسه، تسري في كلماته رنة العظماء حيث يتحدثون إلى من يصغرونهم منزلة وقدرا، اسمه - فيما أذكر - حريحور أو ما يجري مجرى هذا الاسم في الوزن والنغمة، وقد بدأ رسالته هذه بذكر المكان الذي خطها فيه، فإذا هو قد كتبها في مركب أقلع به من طيبة إلى مصر السفلى، إذ هو في طريقه إلى البحر الكبير، قاصدا إلى بيبلوس على الشاطئ اللبناني، في مهمة لم يفصح عنها.

أخذ الكاتب يدون تفصيلات من حياته اليومية: ماذا كان يأكل، وأين ترسو به السفينة، وكيف يعترك النوتية آنا ويسمرون في صفاء آنا، ثم انتقل إلى تسجيل ما أراد تسجيله ليروي لنا عن معركة كلامية دارت بينه وبين كاتب قليل الشأن. كان لا يزال من السلم الكهنوتي في أدنى درجاته، ومع ذلك اجترأ هذا الصغير على مجادلة حريحور الذي كان يعلوه في مراتب الكهنة بدرجات كثيرة.

ففي أمسية مقمرة من أماسي طيبة الجميلة في شهر يقع في مستهل الصيف. كان حريحور - وهو كاتب البردية يروي فيها عن نفسه - جالسا في بهو مكشوف من أبهاء المعبد، وإذا بشبح إنساني يقترب منه في سكون خاشع، حتى إذا ما واجهه استأذن في الجلوس لأن عنده أمرا يريد أن ينفضه عن نفسه ليستريح، وما هو إلا أن أشار له الكاهن الشيخ ليأذن بجلوسه، وينحني تجاهه انحناءة خفيفة ليسمع، فطفق الكاهن الشاب - ولم يذكر اسمه من أول البردية إلى آخرها، مكتفيا بالإشارة إليه إشارات لا تخلو من معاني التصغير والتحقير - طفق الكاهن الشاب، في لعثمة أول الأمر وفي طلاقة بعد ذلك؛ طفق يشكو من أن حريحور قد نسب إلى نفسه قصيدة من الشعر، وتلاها على ملأ من الناس وكأنها من صنعه، فلم يشأ الشاب - وهو ناظم القصيدة الأصيل - لم يشأ أن يعترضه أمام الناس، وها هو ذا قد جاء إليه ليطلب منه أن يصحح للناس هذا الخطأ، وهو خطأ لا بد أن يكون قد وقع سهوا من الكاهن العظيم.

ويروي لنا حريحور كيف صعق لهذه الجرأة النادرة من صغير مغمور يواجه بها عظيما مشهورا، وحاول أن يفهمه بأن الملكية في ثمار الفكر هي للجماعة لا للفرد، على أن يظفر بفوائدها أطول الناس ذراعا وأجهرهم صوتا وأرفعهم منبرا؛ فأقل شيء في مجال الفكر هو أن تخلق الفكرة وتبدعها، أما الأهمية كلها فإنما تكون لمن استطاع أن ينشرها ويذيعها، هب أنك يا بني قد تركت لقصيدتك، لا تجد اللسان البليغ الذي ينشدها، فما قيمتك عندئذ، وما قيمة قصيدتك هذه؟! وهنا أراد الكاهن الشاب أن يقول شيئا، لكن الكاهن العظيم قد ضاق به صدرا فنهره وطرده من المعبد.

अज्ञात पृष्ठ