54

नफ़्स की कहानी

قصة نفس

शैलियों

ومات أبوه؛ صحبه إلى المستشفى ولم يطف بباله قط أنه خروج من الدار إلى غير عودة، وكأنما جاءت لحظة موته بمثابة النطق بحكمين في آن واحد؛ حكم ببراءة الراحل وحكم باتهام ابنه. لم تنكشف للأحدب براءة أبيه فيما كان ظنه اعتداء وقسوة، إلا لحظة أن كشف عن جثمانه الغطاء الأبيض في غرفة المستشفى ليقبله قبل الرحيل، فيرى وجهه الميت وكأنه وجهه الحي الذي يعرفه؛ كم ألف ألف مرة يتذكر الأحدب ما قد كان أحسه إزاء أبيه من سوء ظن، فيعض أصابعه عضا من الندم على سوء فهمه، لطالما يقول الأبناء إن آباءهم لا يفهمونهم وينسون أن الآباء كذلك من حقهم أن يقولوا إن الأبناء لا يفهمونهم.

كانت لحظة موت أبيه بداية لضمير الأحدب أن يكيل لنفسه اللائمات لائمة فوق لائمة؛ «من ذا يعيده إلى الحياة ولو شهرا واحدا لأؤدي له واجب الولاء أكثر مما أديت»، هكذا لبث يقول بعد موت أبيه، ويسمعه أصغر الإخوة فيطمئنه بأنه كان يؤدي أكثر مما يؤديه الأبناء لآبائهم، لكن الأحدب قد وجد لنفسه ذريعة كبرى يتهم نفسه على أساسها؛ لأنه يحب اتهام نفسه فيزداد التواء وتعقيدا على تعقيد.

وإنه ليذكر جنازة أبيه في هيبتها وقد تقدمتها كوكبة من الفرسان جاء بها ابن عمه الضابط الشاب المتوقد حيوية ونشاطا، وسار الأحدب في مقدمة المشيعين مطرقا رأسه نحو الأرض لا يرى إلا قدميه وبضع أقدام أخرى على يمين ويسار، وقلما كان يرفع رأسه فيبصر بالنعش محمولا على أعناق حامليه في طمأنينة وهدوء، ثم يعود فيطرق رأسه نحو الأرض مرة أخرى، وكان في إطراقه ذاك كثيرا ما يتنبه لنفسه تنبه المستيقظ من نعاس عميق، ليجد نفسه سارحا في ذكريات عجيبة يستخرجها من ركام السنين، فيخجل أشد الخجل إذ يرى نفسه سابحا في أعماق ماضيه وجثمان أبيه على بعد خطوة واحدة منه، لكن لحظة الخجل لا تلبث أن تتملكه حتى تزول ليغوص في أغوار الماضي مرة أخرى.

فمن سبحاته تلك أنه تذكر كيف أخذته الرغبة وهو غلام في أن يجمع من الأقفال أكبر عدد يستطيع جمعه، وأن تكون وسيلته إلى ذلك هي السرقة لا الشراء؛ فلجأ إلى طريقة غريبة ولكنها سهلة التنفيذ، وهي أن يشتري قفلا بادئ ذي بدء، ثم يدور على كل مكان تقع عينه فيه على قفل من الصنف نفسه، فيدبر له خطة أن ينفرد وحده بالقفل لحظة ويفتحه بمفتاح القفل الشبيه، ويأخذه ويمضي؛ ومن ذلك أن خزانة الأوراق التي لم يكن يعلم ما كنهها، خزانة الأوراق أمام مكتب الإدارة في مدرسته الابتدائية وهو تلميذ صغير. كانت مقفلة بقفل أراده لنفسه، فبحث حتى وقع على شبيهه في السوق واشتراه، ولكن متى ينفرد بتلك الخزانة والمدرسة مليئة بالتلاميذ والخدم والموظفين؟ إن ذلك لا يكون إلا في ساعة مبكرة من الصباح قبل أن يتنبه أحد، وتسلل إلى الردهة حيث وضعت الخزانة التي ضم مصراعاها بالقفل المنشود، وفي خطفة أسرع من البرق فتح القفل وانتزعه، وأسرع الهبوط على السلم المجاور، فسمع المصراعين ينفتحان ويخبطان على الحائط خبطة مفرقعة؛ فقد كانت الخزانة تميل على قفاها إلى الخلف؛ إذ رفعت قائمتاها الأماميتان على مربعين صغيرين من الخشب، دون قائمتيها الخلفيتين، مما أدى إلى انفراج مصراعيها بهذه السرعة وانقذافهما إلى الخلف وخبطتهما المدوية على الحائط، وكان للص الصغير شعور النصر شجعه على التماس نصر آخر في اليوم نفسه على قفل لمحه بين أقفال التلاميذ شبيه بما عنده، وعاد إلى داره وفي جيبه قفلان أضافهما إلى ما عنده، فأصبحت ثلاثة أقفال من أسرة واحدة، لم يدر ماذا يصنع بها، سوى أن يوزعها على جيرانه الصغار، وعليهم هم أن يجدوا لها المفاتيح.

فلما أشبع في نفسه هواية الأقفال، اشتهى منافيخ الدراجات؛ فللدراجة منفاخ يركب محاذيا للقائمة المعدنية التي عليها يستند المقعد، وما أيسر أن تنتزعه يد السارق من مكانه لو واتته الخلوة التي تنجيه من أعين الناظرين، ودراجات التلاميذ تصطف صفوفا في مكان لها معين يحاذي سور المدرسة من الداخل، فإذا وجد السارق الصغير فرصة يخلو فيها إلى بغيته فأين يخفيها بقية اليوم الدراسي؟ وتفتق ذهنه عن حيلة بسيطة تنجح أحيانا وتخفق أحيانا، وهي أن يقصد إلى مكان الدراجات في اللحظة المناسبة، وينزع أقرب منفاخ إلى يديه، ثم يقذف به خارج سور المدرسة في الطريق - وهو طريق بعيد عن حركة المدينة، فيقل فيه المارة من الناس؛ حتى إذا ما خرج آخر اليوم الدراسي، بحث عن الفريسة، ويغلب أن يجدها ملقاة على الجانب الرملي من الشارع، فيدسها في حقيبة كتبه ويمضي ... وماذا يصنع بهذه المنافيخ التي تجمعت لديه؟ إنه يوزعها على من شاء من الأصدقاء الصغار، ولم يكن له ولا لأحد من هؤلاء الأصدقاء الصغار دراجة حتى يحتاج لها إلى منفاخ!

كانت تلك هي السن نفسها التي يقرأ فيها مع لداته أو يسمع القصص عن «طاقية الإخفاء»، ولكم سرح بخياله بعد أن ألبس نفسه طاقية الإخفاء بوهمه، فيدخل على الناس في بيوتهم ليستمع إلى أسرارهم وهم لا يشعرون، ويستوي على موائدهم فيأكل وهم لا يعلمون ... أي شهوة اشتهاها ذلك السارق المتسلل ولم يحققها بطاقية الإخفاء إذا تعذر تحقيقها في الواقع المحسوس؟ لقد بلغ الحلم واشتعلت شهوته، فماذا يكون السبيل أمامه إلا أن يلبس لهن طاقية الإخفاء ويتسلل إلى مخادعهن ولو كن في حصون محصنة؛ وكبر وقصد ذات يوم إلى متحف الفنون، فإذا هو يقف أمام صورة لفنان معاصر نسي اسمه، لكنها صورة تصور مدخل بيت وجانبا صغيرا من الدرج الخشبي المؤدي من المدخل إلى الطابق الأعلى، على غرار ما نراه في بيوت أوروبا، وعلى بضع الدرجات الخشبية التي ظهرت في الصورة امتد بحذاء الحائط ثعبان ثنى جسده مع زوايا الدرجات، حتى تدرج معها ممتدا من المدخل إلى الدرجة الرابعة أو الخامسة، والصورة رائعة رائعة رائعة بألوانها وبالضوء والظل فيها، هي من الفن الواقعي برغم كونها لفنان حديث، فوقف أمامها صاحبنا طويلا، وفجأة وثبت على ذهنه الأقفال والمنافيخ وأحلام طاقية الإخفاء أيام أن كان غلاما صغيرا فشابا مراهقا، وابتسم للذكريات، وقال: أتكون هناك طرق أخرى للتسلل إلى بيوت الناس وأسرارهم يسلكها المتسللون؟

وصحا من غفوته الطويلة ليدير البصر فيما أمامه وما حوله في جنازة أبيه.

وماتت أمه الحبيبة التي تعلم منها كيف يكون الحب خالصا لوجه الحبيب، والتي عنها أخذ صفاته الخلقية كلها، ماتت من كانت تزيل عنه هموم نفسه، فإذا راكمت له الدنيا من صدماتها ما ينقض ظهره، أزاحت عن ظهره ما استطاعت من أحمال.

وجفت في عينه الحياة، فلا ري ولا نضارة، يرى نفسه في الحلم أنه يعبر نهر النيل ، ويستعد لخوض الماء، لكن وا عجباه، إنه لا ماء، والقاع جاف، عليه علامات تدل على أن كانت هنا مياه تجري! ويمشي على القاع الجاف مشية وئيدة، يمشي خطوة خطوة، ينظر إلى الأرض كأنما يبحث عن شيء ضاع، فلا يرى إلا الحصى وآثار جريان الماء، وفجأة يجد شيئا معدنيا يلمع، إنه مبراة غرزت في التراب إلى نصفها، وبرز نصفها، إنها مبراة أبيه، فيلتقطها، ويضعها في جيبه، ثم يمشي مشية وئيدة، يمشي خطوة خطوة، ينظر إلى الأرض كأنما يبحث عن شيء ضاع، حتى يصل إلى الشاطئ الآخر، فيصعد ما يشبه المرتقي الوعر، يصعد حانيا جسده إلى أمام حتى لا يهوي من خلف، يصعد ليرى أنه في مدينة الموتى، جفاف في جفاف، وهناك يرى عربة، ولكن أي عربة! عربة كلها حجر في حجر، هي أشبه بالصندوق الكبير، انكشف غطاؤه الأعلى، والصندوق من حجر خشن، والعجلات من حجر مصمت، والحصان المشدود إلى العربة من حجر غليظ، ثم ماذا؟ ثم ينظر في الصندوق الحجري فيرى جثمان أمه وقد غطي على نحو ما تلف المومياء عند المصريين القدماء، وبينا هو عالق بحافة الصندوق ينظر، إذا بالعربة الحجرية تسرع جارية بين منازل الموتى، تدور إلى اليمين في هذا المنعطف وإلى اليسار في ذلك المنعطف، فتثير من الغبار وحبات الرمل ما يكتنف العربة كلها، ويملأ خياشيمه وفمه، ويدير وجهه إلى الخلف فلا يرى إلا سحابة كثيفة من الغبار وحبات الرمل، ويشد أنفه فلا يتنفس، فيتنفس من فمه، فيشهق هواء مليئا بالغبار وحبات الرمل، كل هذا وهو عالق بذراعيه على حافة الصندوق، وجسمه مدلى يتأرجح مع سير العربة السريع، فيخبط العجلات الغليظة وهي تدور.

ويصحو من هذا الحلم الفظيع، قائلا: اللهم اجعله خيرا. ولكن أي خير يا ترى يرجى من هذا الجفاف واليباب والموت؟!

अज्ञात पृष्ठ