وبعد أن صدرت «قصة نفس» وأصبحت في أيدي القراء، وتحول كاتبها نفسه إلى قارئ لها، بل إلى قارئ ناقد، لقيت إعجابا من جمهور القراء؛ ربما لما كان فيها من تفرد في البناء والصياغة؛ إلا كاتبها، فقد لمح فيها أوجه نقص، حين طالعها بعين الناقد؛ إذ خيل إليه أن الوحدة الفنية فيها لا تخلو من تفكك، كما خيل إليه كذلك أن انتقالها من خفاء الرموز إلى صراحة العلانية، كثيرا ما جاء انتقالا مفاجئا يحدث ما يشبه الصدمة عند القارئ، ذلك فضلا عن استرسال القصة في ذكر جوانب من تلك النفس لم يكن ينبغي لها أن تجاوز محابسها لتصبح طليقة في الهواء أمام الأبصار.
من أجل هذا، تردد الكاتب في أن يعيد طبع الكتاب، برغم إلحاح الأصدقاء؛ حتى إذا ما أوشكت عشرون عاما أن تنقضي على نشر الطبعة الأولى، وهي فترة لم يكن الكاتب عندما روى قصة تلك النفس أول مرة، يتصور أنها بقيت أمامها لتحياها ولتمتلئ خلالها بخبرات جديدة وخلجات وارتعاشات.
وطلب من الكاتب أن يقدم كتابه للنشر في طبعة ثانية، صادف الطلب - هذه المرة - هوى عنده، إلا أنه هم بما يوشك أن يكون تأليفا جديدا؛ فقد حذفت من الطبعة الأولى فصول، وأضيفت إليها فصول، وأدخلت على ما بقي من فصولها تعديلات كثيرة؛ أملا في أن تجيء صورتها الجديدة خلوا مما بدا لكاتبها أنه عيوب شاهت بها صورتها الأولى.
وكان من أقوى الدوافع التي مالت بالكاتب إلى إخراج قصة تلك النفس في صورة جديدة، أنه كان قد فرغ لتوه من كتابة قصة أخرى يروي بها حياة «عقل ما» كيف سارت وتطورت، وهو يعلم أن بين تلك «النفس» وهذا «العقل» شيئا من صلة القربى، يبرر أن يضعهما معا جنبا إلى جنب بين أيدي القراء.
وبالله التوفيق.
زكي نجيب محمود
ديسمبر 1982
الفصل الأول
أحدب النفس
«الحياة عبئها ثقيل على من أصابه في الحياة خذلان.» هكذا قال لي ذلك الرجل العجيب، الذي رأيته أول ما رأيته في زحمة الطريق عابسا، يلتمس لنفسه مسلكا بين مئات الناس الذين خرجوا لتوهم أفواجا من دار السينما، دون أن يمس أحدا منهم بمنكب أو قدم، يتأرجح في مشيته بعض الشيء، ولا يدق الأرض بعقبيه، نظراته تنحدر نحو الأرض أكثر مما تلتفت إلى أعلى أو أمام، كأنما أراد أن يتثبت قبل الخطو من وضع القدم. تبدو على خطواته السرعة وما هي بسريعة، وتشع من جبهته ومن فمه جهامة تصرف الناظر إلى وجهه عن رؤية ملامح عند النظرة الأولى، حتى إذا ما ثبت الناظر فيه عينيه، وأزال غلالة الجهامة عن صورته، رأى ملامح ثابتة غليظة: حاجبان قويان عريضان أسودان، وأنف طويل مليء، وشفتان مزمومتان، ولحية وشارب كثيفان، شعرهما سميك غليظ اختلط أسوده بأبيضه؛ ملامح تدل كلها على المضاء والحدة والبأس الشديد، لولا أن عينيه تفضحانه فضيحة كبرى؛ إذ تنطقان بأجلى بيان أن الرجل هادئ وادع مستسلم مستكين.
अज्ञात पृष्ठ