منك العطا، فانعم علي ولا أطيل خطابي (قال صاحب الحديث): فلما فرغ المقداد من شعره قال له الملك: أحسنت فيما نظمت، والله ما قصرت فيما مدحت. ثم إن الملك أمر له بعشرة آلاف دينار من الذهب الأحمر وقال له: يا مقداد، ما حملك على هذا الأمر كله حتى تقطع الطريق، وتخيف السبيل وتعرض نفسك للهلاك؟ فحدثه بحديثه من أوله إلى آخره، والشرط الذي شرطه عليه عمه وما جرى له مع المياسة.
قال فلما سمع الملك كلامه طيب خاطره وأوعده، ثم قال له: يا مقداد إذا أسلمتك هذا المال كله ولاقك في طريقك ألف فارس وطمعوا في المال وأخذوه منك فكيف تخلص المال منهم؟ فقال المقداد: يا ملك الزمان أطعنهم بالرمح طعنا وأجزرهم بالسيف جزرا وآخذ أموالهم . فقال الملك كسرى: يا مقداد إني أحب الشجاعة، وأريد أن أبرز لك ألف فارس لأرى كيف تعمل معهم؟ فقال المقداد: حبا وكرامة، فأريد أن تحضر لي من فرسانك المشهورين ألف فارس ليوثا عوابس. ثم إن الملك أمر أن يحشروا بين يديه عشرة آلاف فارس موصوفين بالشجاعة واليراعة، فحضروا بين يديه فانتخب منهم ألف فارس وكل منهم بالحديد غاطس، وليوث عوابس وأمرهم أن يركبوا الخيول العربية، وكانوا لابسين الدروع متقلدين السيوف الهندية ومعتقلين الرماح الخطية.
فلما لبسوا لأمة حربهم برزوا إلى الميدان وموقف الضرب والطعان، وبرز المقداد إليهم وعرف أنهم غير كفؤ له، فتقدم إلى الملك وقال: يا ملك الزمان فإني لا أبرز لهؤلاء القوم إلا بشرط. فقال كسرى: وما الشرط أيها الفارس؟ قال: إن قتلوني لهم جميع ما وهبتني، وإن قتلتهم فلي جميع سلاحهم وخيلهم وأموالهم. قال فرضي الملك كسرى بذلك الشرط فتبادر إليه الرجال وبرزت نحوه من كل جانب ومكان، ثم إن كسرى خرج من أرباب دولته وجميع عسكره يتفرجون عليهم، وينظرون كيف يعمل معهم المقداد.
قال: فلما نظر المقداد إلى القوم عول على قتلهم، قال: يا ملك الزمان أخاف إذا قتلتهم تغضب علي ويظل خاطرك، وقبيح على مثلي أن أقاتل عسكرك وقد أنعمت علي نعمة تامة تامة. فقال الملك: وما نفعل؟ قال: يا ملك الزمان أحب أن تأمرهم أن يلبسوا فوق دروعهم ثيابا بيضاء، وتأمر لي بطشت فيه خلوق من الزعفران. قال فعند ذلك أمر الملك بإحضار طشت وزعفران فلما حضروه قلع المقداد الحربة من رمحه وركب في موضعها خرقة بيضاء وغطسها في ذلك الخلوق والزعفران، قال: ثم ركب جواده وحمل على القوم حملة منكرة وغاص في أوساطهم وخرج من أعراضهم، فما كان إلا ساعة حتى إنه علم الجميع علامتين ولم يصبه منهم طعنة ولا ضربة، فبقي منهم فارس واحد فنجا، ولا ساعة زمانية، فلما رأى المقداد هذه الحالة رمى الخرقة وركب فيها السنان، فلما رأى ذلك الفارس فعل المقداد قال: يا مقداد، علمني مثل ما علمت أصحابي فها أنا بين يديك. فعلمه المقدام كما علم أصحابه، وأتى المقداد إلى عند الملك وقبل الأرض بين يديه، قال: فلما رأى كسرى عسكره معلمين فقال له: يا مقداد دونك القوم فلا حاجة فيهم. قال: فخلع المقداد الخرقة وركب السنان وحمل على القوم وجعل يطعن فارسا بعد فارس وبطلا بعد بطل، فعند ذلك استغاث القوم بالوزير فقال للمقداد: ارفع سيفك والسنان عنهم. فقبل المقداد ووقف بين يدي الملك وأنشد يقول:
انظر لعظم مهابتي وجراءتي
ليثا كمينا فارسا وثاب
فلئن عفوت فأنت أكرم من عفا
وأجل قوم باذل وهاب
قال فلما سمع الملك شعره التفت إلى الوزير وقال: أعط للمقداد ما طلب منه عمه جابر بن الضحاك لابنته المياسة. قال فأعطاه من الذهب والفضة والجواهر والحلي والخيل والجمال أضعافا مضاعفة ولا يحصيها إلا الله تعالى سبحانه وتعالى.
قال الراوي: فلما أعطاه الوزير المال كله، وقال للمقداد: أنا حاضر لك ما تطلب وتريد. قال المقداد للوزير: جزيت خيرا. ثم إن المقداد ودع الوزير وهم بالرواح إلى أهله، فدخل على الملك كسرى بعض الوزراء وكان محضر سوء (لعن الله كل محضر سوء)، وكان الملك قد ذهب عقله من شدة الغضب على أصحابه، قال: فلما سكن غضبه وثاب إليه عقله قال الوزير: يا ملك الزمان، أترضى أن تتحدث عنا الملوك في مراتبها والعربان في مواكبها والرجال في محافلها والنساء في منازلها، ويقولون رجل بدوي ليس له قدر ولا قيمة قد دخل إلى بلاد الملك كسرى وقتل شجعانه وجندل فرسانه ولم يقدروا عليه وأخذ أموالنا والغنائم وانصرف سالما غانما. قال الراوي: فعند ذلك قال الملك كسرى للوزير: فما تصنع به وقد امتحناه بكل محنة وخلص نفسه منها؟
अज्ञात पृष्ठ