واليوم وقد انجابت سحب الماضي البغيض، وأخذنا الأهبة لاستقبال تباشير الفجر الجديد، فجر الحرية الكاملة والاستقلال التام، يجب ألا ننسى، يجب ألا ننسى الماضي مهما كان كريها؛ فالوطن، كما قال بطل الجلاء الرئيس جمال، ماض وحاضر ومستقبل. فنحن في حاضرنا نستقبل عيد الحرية الأكبر ونتطلع إلى مستقبل مزدهر باسم، ومن واجبنا ألا ننسى الماضي، من واجبنا ألا ننسى ما فعله بنا الاستعمار.
لقد ذقنا من هذا الاستعمار مرارة الصاب والعلقم، وأخشى ما أخشاه أن تسري النشوة الحلوة في ألسنتنا فتنسينا طعم هذا الصاب والعلقم، فلا نكون حريصين على نعمة الحرية، ولا نبذل الجهد في الاحتفاظ بها، ولا نستميت في الدفاع عنها.
ولعل أسوأ ما رمانا به الاستعمار هو سعيه الدائب أن يفقدنا الإيمان بالوطن وأن يزعزع ثقتنا بأنفسنا، فقد حرص الاحتلال منذ اللحظة الأولى على أن يشيع في المصريين بعض الأكاذيب التي اتخذ لها ثوبا علميا، من هذه الأكاذيب الشائعة التي ظل يرددها المستعمرون، والتي رددها المصريون - للأسف - بعده ردحا طويلا من الزمن أن مصر منذ عهد الفراعنة لم تكن دولة مستقلة، بل كانت دائما محتلة يتوالى على حكمها الولاة من كل شعب وجنس.
وهذه الأكذوبة لم تتردد في المؤلفات الأوروبية التي كتبت عن تاريخنا، وفي الكتب المدرسية المصرية - إلى عهد قريب - عبثا، بل لقد كان الهدف من ترديدها أن تصبح حقيقة ثابتة وأن تتغلغل في نفوس الشباب المصري حتى يستكين ويذل، وحتى يفقد الثقة في نفسه والإيمان بوطنه، وعلى مصر وعلى هذا الشباب العفاء إن هو فقد هذه الثقة وهذا الإيمان.
والتاريخ السليم، والبحث العلمي الصحيح يثبت خطأ هذه الأكذوبة؛ فمصر حقيقة قد فقدت استقلالها في بعض العصور، شأنها في ذلك شأن غيرها من الدول، ولكن هذه العصور لا تعتبر شيئا مذكورا إذا هي قورنت بالعصور الأخرى الطويلة التي تمتعت فيها بالاستقلال.
فقدت مصر استقلالها منذ عهد الفراعنة إلى الآن ثلاث مرات: في العهد الروماني، وفي العهد العربي الأول، وفي العهد العثماني (والاحتلال البريطاني ما هو إلا امتداد للاحتلال العثماني)، وذلك عدا فترات قصيرة أخرى غزا مصر فيها الغزاة، ولكنهم ما لبثوا أن جلوا عنها سريعا كما حدث في الغزو الفارسي.
وأسوأ العهود التي مرت بمصر في تاريخها الطويل العهدان الروماني والعثماني، فقد اضمحلت في خلالها البلاد اضمحلالا تاما شمل نواحيها المختلفة، أما العهد العربي الأول فرغم أنه عهد تبعية فقد أنقذ مصر من ظلم الرومان وعسفهم، وحمل إلى مصر العدالة والإصلاح والنور والتوحيد عندما حمل إليها الإسلام.
فإذا استثنينا هذه العصور الثلاثة رأينا مصر مستقلة استقلالا يكاد يكون تاما في عهود الطولونيين والإخشيديين والأيوبيين، لا يشوب هذا الاستقلال إلا خيوط واهية تتمثل في الخطبة باسم الخليفة العباسي، وضرب السكة باسمه، وبعض المال الذي كان يرسل من فائض الميزانية إلى عاصمة الخلافة.
وكانت مصر بعد هذا مستقلة استقلالا تاما لا تشوبه شائبة في عهدي الفاطميين والمماليك.
نقول إن البحث العلمي الصحيح يثبت ما قلناه؛ لأننا يجب أن نزن الاستقلال بمقوماته في تلك العصور، لا بالمقومات التي أحدثتها العصور الحديثة؛ ففي تلك العصور كان الحكام يلون الحكم في مصر تبعا لنظم مصرية معترف بها، ولم يكونوا يولون ويعزلون بأوامر صادرة عن دولة أجنبية أخرى، وكانت الجيوش جيوشا مصرية، تدافع إذا دافعت عن مصر، وتفتح إذا فتحت باسم مصر، وكان الاستقلال الاقتصادي متوافرا، فالعملة مصرية لا ينقش عليها غير اسم حاكم مصر، وكانت الاتصالات الخارجية والمعاهدات والسفارات تتبادل باسم مصر لا باسم غيرها من الدول.
अज्ञात पृष्ठ