التقرب من الإنجليز
بعد أن جردت الأمة من سلطتها والحكومة الأهلية من هيبتها، آمن المصريون بأن الإنجليز طامعون لا مصلحون، وأخذ كل موظف يحتمي برئيس إنجليزي، وأخذ العمد والأعيان يستعينون في قضاء أعمالهم غير المتناهية بالتقرب من الإنجليز تقربا وقتيا دعا إليه قضاء المصلحة الشخصية من القادر القاهر، ولكن هذا التقرب من طبيعته أن يزول بانقضاء تلك المصلحة، ثم يتجدد كلما جاءت مصلحة جديدة، فنتج عن سياسة الوفاق هذه فتور عام في فكرة الاستقلال وتراخي مفاصل الوطنية الصحيحة، وانصرفت النفوس طبعا عن التعلق بالخديو الذي كان ينسب كل تصرف سيئ للإنجليز إلى رضاه عنه وإقراره عليه، وكان اللورد كرومر والجرائد الإنجليزية لا تدع فرصة تمر إلا انتهزتها للثناء على الخديو وإطرائه بأبلغ الإطراء.
وقد بقيت سياسة الوفاق في مصر، وزادت وضوحا منذ فشلت معاهدة سنة 1887 لتحديد شروط الجلاء، وكان للإنجليز في هذه السياسة الغنم وعلى مصر الغرم، للإنجليز فيها السؤدد والمنفعة، وللمصريين فيها المذلة والخسارة، وانتهى عهدها الأول بوفاة الخديو توفيق، وابتداء عهد سياسة الخلاف منذ تولية الخديو عباس حلمي الثاني على الأريكة المصرية، ثم تجددت سياسة الوفاق ثانية في عهده عند تنصيب وزارة نوبار باشا سنة 1894، ولكن هذا الوفاق الأخير لم يكن بينه وبين الوفاق الحقيقي المبني على الثقة والمنفعة المتبادلة إلا شبه من الطلاء الظاهري؛ لأنه كان مسببا على الاستسلام للقوة، ثم لم يلبث أن توترت العلاقة بين سمو الأمير واللورد كرومر فانكشفت عن جفاء مستحكم الحلقات، ثم تجددت سياسة الوفاق بعد مبارحة كرومر مصر وتعيين السير الدون غورست مكانه، وكان من نتائج هذه السياسة أن تدخل المعتمد البريطاني لم يقل عما كان عليه من قبل، بل ربما زاد وامتد إلى بعض المصالح الأهلية الصرفة. (5) قانون المطبوعات
في سنة 1909 أرادت الحكومة بعث قانون المطبوعات الذي كان قد صدر إبان الثورة العرابية، وهو قانون بالغ القسوة على حرية الرأي، فحملت أنا وزملائي الصحفيون، على ذلك القانون حملة قوية، ولكننا لم نوفق؛ لأن بعض أعضاء مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية كانوا قد طلبوا شيئا من هذا فيما سبق، وعارض فيه اللورد كرومر، ثم لما أريد إحياء هذا القانون وافق عليه الإنجليز ووافق عليه مجلس الشورى بالأغلبية مع الأسف، وفي صيف ذلك العام سافرت إلى أوربا للاستشفاء، وعزمت على مقابلة «سير إدوارد جراي» وزير الخارجية الإنجليزي لأشكو له تصرف الإنجليز في حرية الصحافة وأعطاني صديقي محمد محمود باشا رحمه الله كتابا لأستاذه المستر سميث عميد كلية «بلبول» بأكسفورد ليقدمني لوزير الخارجية البريطانية الذي كان تلميذا له، فلما سافرت إلى أكسفورد، وكان أخي سعيد وقتها طالبا بها، قابلت المستر سميث فطلب مني أن أكتب مذكرة بما أريد، ثم نسافر في اليوم التالي أنا وهو إلى لندره ليقدمني إلى «السير إدوارد جراي»، وفي اليوم التالي ذهبنا إلى لندره، ثم إلى وزارة الخارجية، فاعتذر الوزير عن استقبالي بسبب مناورة بحرية، وأحالني إلى وكيل الوزارة - وأظنه المستر ماليت - فقدمت له المذكرة، وبينت له وجوه الخطر على الحرية من هذا القانون، فوعدني خيرا. (6) مد امتياز قناة السويس
وفي نفس السنة - 1909 - أرادت شركة قناة السويس أن تمد امتيازها أربعين سنة جديدة مقابل أربعة ملايين من الجنيهات تدفعها إلى الحكومة المصرية، وكان المستشار المالي يميل للأخذ بهذه الفكرة، وكذلك «سير ألدون غورست» وبطرس غالي باشا، فتحدثت في ذلك إلى حسين رشدي، وسعد زغلول باشا، فأحالاني على رئيس الوزارة بطرس باشا وعلى المستشار المالي الإنجليزي، فذهبت إلى المستشار، واعترضت على المضي في هذا الموضوع، وطلبت منه عرضه على الجمعية العمومية، وهي أكبر هيئة نيابية وقتئذ في البلاد، ولكنني لم أوفق لإجابة طلبي، فتركته وذهبت إلى رئيس الوزارة في بيته بالفجالة، فاستقبلني بما كنت أعهده من لطف وأدب، وحادثته في الأمر، وطلبت منه باسم حزب الأمة أن تعرض مسألة امتياز قناة السويس على الجمعية العمومية، فأجابني بقوله: «يا لطفي أما تنزل من السحاب؛ لنكون معا على الأرض؟!»
وأبى أن يقتنع برأيي، فتركته وسرت في حملتي على هذا الموضوع، وبعد ذلك أظن أن شركة القناة اشترطت أخذ رأي الجمعية؛ لما رأت من هياج الرأي العام ضد هذا المشروع. فاستدعاني بالتليفون لأحضر عنده في وزارة الخارجية ليلقي إلي حديثا صحفيا في مسألة القناة، وعلى ظني أنه هو الحديث الوحيد الذي أخذته من وزير أو رئيس وزراء طول مدة اشتغالي بالصحافة.
ولما دخلت على بطرس باشا، وجدت عنده فتحي زغلول باشا وكيل وزارة الحقانية، فبادرني بطرس باشا قائلا: «هأنذا أجيب طلبكم وأحيل الأمر على الجمعية العمومية تقضي فيه بما تشاء.»
وكانت الجريدة هي أول من نشر هذا الخبر، وقد عرض الموضوع على الجمعية، فقررت رفضه.
بعد ذلك في سنة 1910، كنت في منزل صديقي علي شعراوي باشا، ومعنا فتحي زغلول باشا، وإبراهيم الهلباوي بك، فدخل علينا بطرس باشا غالي بلا موعد سابق ولا استئذان؛ لأنه كان صديقا لشعراوي باشا، فقال لنا: «علام تتآمرون؟»
فقال الهلباوي بك: «نتآمر على الحكومة؛ لأننا نريد إثارة البلاد لطلب الدستور.»
अज्ञात पृष्ठ