106

आधुनिक दर्शन की कहानी

قصة الفلسفة الحديثة

शैलियों

وكان مما يميز شخصيته أنه لا يدع برهانا لتأييد حججه إلا أورده، ولكنه كان في الوقت نفسه لا يستمع إلى وجهة نظر سواه، وإن أنصت فلا يفهم، وكان محبا لنفسه شاعرا بعظمتها شعورا أسرف فيه، حتى بلغ حد الغرور، وكان يرفض كل ضروب المداهنة والرياء، ويأبى أن يتقبل من الحكومة ما تمنحه من ألقاب الشرف، وقد لازم عمله المضني أربعين عاما في عزلة من الناس، ومرض ملازم لم يبرحه، ولعل انعزاله وامتناعه عن الزواج وتكوين أسرة كان سببا في إقفار نفسه من العواطف الإنسانية التي تنشأ بالمعاشرة، فكان جافا تعوزه الفكاهة، وجاء أسلوبه بعيدا عن الرقة والسلامة.

ويخيل إلينا أن ما اضطلع به من عبء ثقيل جليل اضطره أن ينظر إلى الحياة نظرة صارمة أكثر مما ينبغي، فقد اشتغل بتحليل الحياة ووصفها حتى لم يبق له من الوقت ما يعيش فيه لنفسه.

ومن أظهر الصفات التي تميز «سبنسر» مقدرة رائعة في المنطق، ولعله أقدر من شهدهم التاريخ الحديث في عرض الموضوعات مهما اشتد تعقيدها، فقد كتب في أعوص المسائل وأعمقها كتابة أخذ العالم كله يقرؤها مدى جيل كامل، وهو مشغوف طروب مقبل على الفلسفة إقبالا لم تعهده الفلسفة في الناس من قبل. وكان «سبنسر» يميل إلى التعميم، ويغرم بالنظام غراما لا حد له، ويظهر أن حبه للنظام تولد من دءوبه على تنظيم الأمثلة واستخراج القاعدة.

ولما كان عام 1858م أخذ «سبنسر» يراجع مقالاته المتناثرة لنشرها في كتاب واحد، فراعه منها وحدة التفكير، ولمعت على الفور في رأسه فكرة، وهي أن نظرية التطور يمكن تطبيقها على كل فروع العلم كما أمكن تطبيقها على علم الحياة، وأنها لا تقتصر على تعليل الأنواع والأجناس، ولكنها أيضا تتناول بالتفسير كل شيء؛ الكواكب والتاريخ والأخلاق والجمال. وما لبث أن اشتعل حماسة لإخراج سلسلة من الكتب يبين فيها تطور المادة والعقل من السديم إلى الإنسان، ومن الوحش الضاري إلى «شكسبير»، ولكنه نظر فرأى عمره قد قارب الأربعين، فيئس من إتمام مشروعه؛ إذ كيف يتسنى لرجل قطع من العمر أربعين عاما أن يجد من الوقت متسعا ليفكر في كل ما وعت الإنسانية من معرفة؟

كان «سبنسر» فقيرا، ولكنه مع ذلك لم يطل التفكير في كسب عيشه، ولبث مدة يحرر في مجلة «الأكونومست»

Economist ، ولكنه استقال من تحريرها حين أوصى له عمه بميراث قدره ألفان وخمسمائة جنيه، غير أن هذا القدر من المال لم يلبث أن تبدد، ففكر في أن يجمع من الناس اشتراكات في كتبه التي اعتزم إصدارها، وفعلا وفق في ذلك بعض التوفيق. فلما نشر عام 1860م أول كتبه أقبل عليه القراء إقبالا حفز الهمة فيه، فاشتدت عزيمته وواصل التأليف.

ولكن لم يكد ينشر كتاب: «المبادئ الأولى» سنة 1862م حتى أعرض الناس عنه، واسترد معظم المشتركين قيم اشتراكهم، وكان سبب هذا النفور والإعراض ما جاء في الجزء الأول من هذا الكتاب، إذ حاول فيه «سبنسر» أن يوفق بين العلم والدين، فهاجم رجال الدين والعلماء على السواء، وبذلك أصبح كتاب «المبادئ الأولى» وكتاب «أصل الأنواع» ميدانا لقتال عنيف بين الكتاب، ونشر للرد عليهما وتفنيدهما سيل دافق من الكتب، وساد الرأي في القوم بأن من يأخذ بنظرية التطور ويشايعها فهو زنديق خارج على قواعد الأخلاق، وهكذا أدبر عن «سبنسر» كل من أقبل عليه في بادئ الأمر، فنفد منه الصبر والمال ولم يعد في مصقدوره مواصلة العمل، فأرسل إلى من بقي له من المشتركين يعلنهم أنه قد عجز عن المضي في تأليف ما أراد تأليفه من الكتب.

ولكن أراد الله ألا يخفق هذا المشروع الجليل، فجاءه العون ممن كان ينتظر منه المحاربة والعداء، وهو ما يسجله تاريخ الفكر بالفخر والتقدير، وذلك أن أرسل إليه «جون ستيورات مل» بالخطاب الآتي، مع أنه كان أعظم منافس «لسبنسر»، وكان يسيطر على ميدان الفلسفة الإنجليزية قبل نشر كتاب «المبادئ الأولى» فلما نشر هذا الكتاب أحس «مل» أن فيلسوف التطور قد غلبه على أمره، فكتب إليه يقول:

صديقي العزيز

لما عدت في الأسبوع الماضي، ألفيت عدد شهر ديسمبر من كتابك في علم الحياة، ولست بحاجة إلى ذكر ما ساءني من رؤية هذا الإعلان الذي أرفقتموه بالكتاب. من رأيي أن تكتب بقية رسالتك، وسأتعهد للناشر بدفع ما قد يتعرض له من الخسارة، أرجو ألا تنظر إلى هذا الرأي بأنه عطف شخصي - وحتى لو كان كذلك لرجوت أن تسمح لي أن أتقدم به - ولكنه ليس كذلك، بل هو اقتراح للتعاون على غاية هامة قومية، تلك الغاية التي من أجلها تعمل وتنفق صحتك.

अज्ञात पृष्ठ