ففي الجنوب كانت الدولة الفاطمية بإفريقية تهدد بابتلاع إسبانيا وضمها إلى ملكها، وفي الشمال أخذ أمراء النصارى أهبتهم للزحف على مملكة أجدادهم وطرد العرب من البلاد ، فبين هذه الفوضى الجائحة ومظاهر هذا الدمار الشامل، ظهر عبد الرحمن فبدل بكل هذا الضعف قوة، وبكل هذا الفساد نظاما وفوزا مبينا، وقبل أن يمر النصف الأول من سني حكمه أعاد السلم إلى نصابه، وثبت دعائم حكومة عادلة في طول المملكة الإسلامية وعرضها، وقضى على سلطة الأحزاب، ونشر نفوذه مهيبا مستبدا بين جميع طبقات رعيته.
وفي النصف الثاني من حكمه حاط مملكته بالقوة والمهابة، فأرهب أعداءه في الخارج وأزاح الإفريقيين العتاة عنه بعيدا، وأنشأ حامية بسبتة تقف في وجوههم، وقاسمهم السيطرة على البحر مقاسمة النظير للنظير، وفي الشمال عصف بالقوة النامية لنصارى ليون وقشتالة ونافار، وكانت له اليد العليا عليهم، حتى إنهم كثيرا ما قدموا عليه لحل مشكلاتهم واسترداد حقوقهم.
12
نعم، إن عبد الرحمن أنقذ الأندلس من نفسها ومن أعدائها، ولم يكتف بإنقاذها من الدمار، بل خلق منها دولة عزيزة الجانب، ولم تكن قرطبة في عهد من عهودها أغنى ولا أكثر ازدهارا مما كانت عليه في عهد الناصر، ولم تكن الأندلس قبل أيامه في تلك الحال من الخصب والإمراع والإنتاج وتوالي الخيرات التي نماها ووصل بها إلى الكمال كد أهلها ومهارتهم في الصناعة، ولم يكن الحكم الأندلسي في يوم من أيامه أبهر انتصارا على الفوضى، ولم تكن قوة القانون أكثر نفوذا إلى القلوب وأعظم هيبة مثلما كانت في أيام عبد الرحمن، فقد تسابق إلى أبوابه الرسل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا ليقدموا إليه تحية الإجلال والتمجيد.
وكانت قوته وحكمته وثروة مملكته مضرب المثل في أوربا وإفريقية، وبلغت شهرته أقصى حدود المملكة الإسلامية بآسيا، وكان مصدر كل هذا الانقلاب العجيب رجلا واحدا عانده كل شيء فقهره، ووقف في طريقه كل شيء فحطمه، بعث الأندلس من حضيض البؤس إلى قمة القوة والازدهار، ولم تصل البلاد إلى كل هذا إلا بذكاء الخليفة عبد الرحمن الناصر وصدق عزيمته.
ويلون مؤرخو العرب صورة هذا الرجل الهمام بألوان لا تكاد تتفق مع ما كان له من سياسة عنيفة مسيطرة، على أنهم كانوا أمناء في وصفه «بأنه كان أرحم من حكم مملكة في الأرض، وأكثر الملوك علما، وبأن أحاديث حلمه وكرمه وعدله سارت في الناس مثلا شرودا، وبأنه لم يفقه أحد ممن سبقوه في الشجاعة والغيرة على الدين، وبأنه كان محبا للعلم مكرما لأهله معاشرا لهم».
ويتناقل الناس قصصا كثيرة في صرامته في الحق وبعده عن المجاملة فيه، ويحدثنا ابن خلدون عن هذا الخليفة العظيم فيقول: «وجد بخط الناصر رحمه الله أن أيام السرور التي صفت له دون تكدير كانت يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا، ويوم كذا من شهر كذا من سنة كذا، وعدت تلك الأيام فكانت أربعة عشر يوما، فاعجب أيها العاقل لهذه الدنيا وعدم صفائها، وبخلها بكمال الأحوال لأوليائها، هذا الخليفة الناصر حلف السعود، المضروب به المثل في الارتقاء في الدنيا والصعود، ملكها خمسين سنة وستة أو سبعة أشهر وثلاثة أيام، ولم تصف له إلا أربعة عشر يوما! فسبحان ذي العزة القائمة، والمملكة الدائمة، لا إله إلا هو.»
هوامش
حاضرة الخلافة
يقول أحد مؤرخي العرب: «إن قرطبة عروس الأندلس، بها من الجمال والزينة ما يبهر العين ويسر النفس، فأمراؤها المتعاقبون تاج مجدها، وقلادتها نظمت من درر استخرجها شعراؤها من بحر اللغة الخضم، وحلتها أعلام الآداب والعلوم، وأهداب حلتها أصحاب الفنون والصناعات.»
अज्ञात पृष्ठ